"رحلتي مع الكتب
ارتبط الكتابُ بالإنسان منذ القدم؛ حيث كان مصدرًا للتنوير والتثقيف، والتهذيب والتعليم.
والمتتبع للشأن الثقافيِّ اليوم يجد حفاوةً كبيرة بالكتاب من قِبل فِئام المجتمع على اختلاف مشاربهم وأعمارهم، في ظل الهجمة التقنية العالمية الكبيرة في هذا العصر، وهي التي جعلت من المهتمين بها يسخرونها في خِدمة الكتاب إلكترونيًّا خِدمة عظيمة.
وبالعودة إلى ماضي العمر أتذكَّر قصتي مع الكتاب التي بدأتها في الصف الخامس الابتدائي؛ حيث كانت المدرسة تنظِّم لنا زياراتٍ منتظمة للمكتبة العامة الموجودة في مدينتي؛ حيث كان معلمنا يطلب إلينا أن نُحضِرَ قلمًا أزرق، وورقًا مسطرًا كان يسمى (الفرخ)، والوجود بعد صلاة العصر مباشرة عند مبنى المكتبة، وحين يحضر لا ندخل حتى نستمع لسيل من النصائح والتعليمات بالمحافظة على الكتب، وقراءتها بشكل جيد، ثم كتابة ملخص عمَّا قرأناه، وترتيبه؛ حتى نقرأه عليه في صباح اليوم التالي في حجرة الدرس، كما كان يحثنا على الالتزام بالهدوء، ومراعاة جمال المكان ورُقيَّه.
وحين انتقلت للمرحلة المتوسطة كان مبنى المدرسة حكوميًّا مجهزًا بمكتبة كبيرة مرتبة، وكان معلم اللغة العربية يسمح لنا بزيارتها زيارات متكررة؛ لنقرأ، ونطلع.
كان جُلُّ الطلاب في تلك المرحلة العمرية ذوي ميول غرائزية، وكانوا يتسابقون إلى قصص فيها عبارات عادية، لكنها كانت تمثِّل لهم قمة الإثارة والمتعة!
كانوا يتهافتون لقراءة قصص تحمل عناوين (جحا في السينما)، و(جحا في الشاطئ) وغيرهما، وكانوا يطلبون إليَّ قراءتها، لكنني كنت في حيرة من تلك القصص، فأي سينما كانت في عهد جحا؟ وأي متعة وجدها أترابي في تلك القصص الساذجة التي لا تليق رفوف مكتبة مدرسية بحملها؟
وحين درست المرحلة الثانوية ساقتني الأقدار إلى ذلكم المعلم العملاق (موسى علي سليمان)؛ معلم اللغة العربية الهادئ المثقف، الأنيق المؤثِّر.
كان ذلكم المعلم لا يكتفي بالمنهج المقرر في الكتب المدرسية، بل كان يُبحر بنا عبر الشعر والأدب، والبلاغة والنقد.
كنتُ مندهشًا من ذلك المخزون الثقافي الكبير لديه الذي صاحَبَهُ أسلوبٌ بديع في الطرح، وجمال في الحضور، ورقيٌّ في التعامل.
بدأت أتعرف من خلاله على شخصيات شعراء المعلقات، وجرير، والفرزدق، والجاحظ، وأبي تمام، والبحتري، وشوقي، وحافظ، والرصافي، ومطران، والعقاد، وطه حسين، وجبران، وغيرهم.
ترَك ذلك المعلم في نفسي أثرًا عميقًا، وغرس في قلبي حُبَّ اللغة العربية بعلومها وفنونها وأدبها، وسحرها الأخَّاذ.
في هذه المرحلة وضعتُ نواةَ مكتبتي المنزلية الخاصة، جمعتُ فيها كتب اللغة العربية، وبعض العلوم الأخرى.
وبعد دخولي الجامعة، وتخصصي في اللغة العربية على أيدي أساتذة كبار زادوا من حبي للتخصص، وتعلقي بالكتب التي أقبلت على شرائها، وجمعها في مكتبتي حتى نهاية السنة الثانية من الجامعة؛ حيث تعرضت لحادث مروري دخلت على إثره المستشفى لإجراء عملية تجميل في عيني اليسرى، وكان الحادث سببًا في عدم دخولي اختبارات المواد الشفوية في الجامعة.
وأثناء تنويمي في المستشفى سمعت بكاء أبي الغالي، ورأيت دموع أمي الثمينة وهما يقفان أمام سريري، وأنا طريح الفراش، الألم يعتصِرُني، وخوف الاختبارات يخنُقُني.
وإلى جانب سَريري كان سرير أخٍ من السودان قد أُصيب بصعق كهربائي أفقده يده اليسرى، وملأ جسده حروقًا وقروحًا، كنت أفزع من نومي بسبب صراخه من الألم، وانتفاضاته التي لا أنساها.
زاد الألم في داخلي، وقبل الخروج ذهبت لأرى وجهي في المرآة؛ فأُصبت بصدمة كبيرة جراء الجروح الكثيرة، وآثار العمليات التي لم تبرأ بعدُ.
خرجت من المستشفى بجسد مُنهَكٍ، ونفس مشبَّعة بالألم؛ فقصدت مكتب عميد الكلية طالبًا منه النظر في موضوعي؛ لإعادة ما فاتني من اختبارات؛ فرفض عذري، وطردني من مكتبه، ولولا موقف وكيل الكلية الذي وجَّه بإعادة الاختبارات، لَما كنت أعرف ما الذي سيحدث لي.
زاد الألم في جسمي، وصُبَّ الاحتقان في نفسي، وأكملت الاختبارات على مَضَضٍ، وبعد نهايتها، وبدء إجازة نهاية العام؛ قمت بجمع كتبي التي في مكتبتي، وحرقها جميعًا في برميل فوق سطح منزلنا؛ أسوة بأبي حيان التوحيدي الذي أحرق كتبه في لحظة ضعف، وضيق، وألم!
انتهت الإجازة، وبدأت السنة الجامعية الثالثة، ودرست الأدب الأندلسي على يد الشيخ الدكتور (عبدالله الحميد) الذي كان أستاذًا أديبًا خطيبًا شاعرًا، أحببتُه فأهديته نسخة من ديوان (البارودي)، فردَّ الهدية بكتاب (الأغاني) لأبي الفرج الأصفهاني، فعاودني الحنين للكتب، وبدأت مرحلة جديدة من جمعها، والعناية بها، ودأبت على ذلك حتى بعد تخرُّجي وعملي، والإفادة منها في البحث عن المعلومات والمعارف، فتكونت لديَّ قاعدة ثقافية جعلتني أطلب المزيد من عطاء الكتاب الذي طالما وجدت فيه منائرَ النور، وكنوز المعرفة.
وبعد كل هذا، فما يزال الكتاب يمدني بما أريده منه، وما يزال الكتاب يبهرني في كل مرة أقرأ جديده، أو أقع على معلومة، أو حكمة فيه!
وهأنذا أكتب هذه السطور عارضًا فيها رحلتي مع الكتاب، وقصتي الجميلة الممزوجة ببعض الحزن معه؛ كطبيعة الحياة تمامًا؛ أكتبها لعل من يقرؤها يجد فيها ما يحفِّزه للاهتمام بالكتاب قراءة، وبحثًا، وتدوينًا، ونقلًا، ولا سيما وأن أول كلمة رسمت ملامح هذه الأمة العظيمة هي كلمة (اقرأ)؛ فبالقراءة تنتعش الأمم وتحيا، وبالكتاب يتمدد الضياء، ويتسرب إلى النفوس، وتتشرب به العقول.
"
ارتبط الكتابُ بالإنسان منذ القدم؛ حيث كان مصدرًا للتنوير والتثقيف، والتهذيب والتعليم.
والمتتبع للشأن الثقافيِّ اليوم يجد حفاوةً كبيرة بالكتاب من قِبل فِئام المجتمع على اختلاف مشاربهم وأعمارهم، في ظل الهجمة التقنية العالمية الكبيرة في هذا العصر، وهي التي جعلت من المهتمين بها يسخرونها في خِدمة الكتاب إلكترونيًّا خِدمة عظيمة.
وبالعودة إلى ماضي العمر أتذكَّر قصتي مع الكتاب التي بدأتها في الصف الخامس الابتدائي؛ حيث كانت المدرسة تنظِّم لنا زياراتٍ منتظمة للمكتبة العامة الموجودة في مدينتي؛ حيث كان معلمنا يطلب إلينا أن نُحضِرَ قلمًا أزرق، وورقًا مسطرًا كان يسمى (الفرخ)، والوجود بعد صلاة العصر مباشرة عند مبنى المكتبة، وحين يحضر لا ندخل حتى نستمع لسيل من النصائح والتعليمات بالمحافظة على الكتب، وقراءتها بشكل جيد، ثم كتابة ملخص عمَّا قرأناه، وترتيبه؛ حتى نقرأه عليه في صباح اليوم التالي في حجرة الدرس، كما كان يحثنا على الالتزام بالهدوء، ومراعاة جمال المكان ورُقيَّه.
وحين انتقلت للمرحلة المتوسطة كان مبنى المدرسة حكوميًّا مجهزًا بمكتبة كبيرة مرتبة، وكان معلم اللغة العربية يسمح لنا بزيارتها زيارات متكررة؛ لنقرأ، ونطلع.
كان جُلُّ الطلاب في تلك المرحلة العمرية ذوي ميول غرائزية، وكانوا يتسابقون إلى قصص فيها عبارات عادية، لكنها كانت تمثِّل لهم قمة الإثارة والمتعة!
كانوا يتهافتون لقراءة قصص تحمل عناوين (جحا في السينما)، و(جحا في الشاطئ) وغيرهما، وكانوا يطلبون إليَّ قراءتها، لكنني كنت في حيرة من تلك القصص، فأي سينما كانت في عهد جحا؟ وأي متعة وجدها أترابي في تلك القصص الساذجة التي لا تليق رفوف مكتبة مدرسية بحملها؟
وحين درست المرحلة الثانوية ساقتني الأقدار إلى ذلكم المعلم العملاق (موسى علي سليمان)؛ معلم اللغة العربية الهادئ المثقف، الأنيق المؤثِّر.
كان ذلكم المعلم لا يكتفي بالمنهج المقرر في الكتب المدرسية، بل كان يُبحر بنا عبر الشعر والأدب، والبلاغة والنقد.
كنتُ مندهشًا من ذلك المخزون الثقافي الكبير لديه الذي صاحَبَهُ أسلوبٌ بديع في الطرح، وجمال في الحضور، ورقيٌّ في التعامل.
بدأت أتعرف من خلاله على شخصيات شعراء المعلقات، وجرير، والفرزدق، والجاحظ، وأبي تمام، والبحتري، وشوقي، وحافظ، والرصافي، ومطران، والعقاد، وطه حسين، وجبران، وغيرهم.
ترَك ذلك المعلم في نفسي أثرًا عميقًا، وغرس في قلبي حُبَّ اللغة العربية بعلومها وفنونها وأدبها، وسحرها الأخَّاذ.
في هذه المرحلة وضعتُ نواةَ مكتبتي المنزلية الخاصة، جمعتُ فيها كتب اللغة العربية، وبعض العلوم الأخرى.
وبعد دخولي الجامعة، وتخصصي في اللغة العربية على أيدي أساتذة كبار زادوا من حبي للتخصص، وتعلقي بالكتب التي أقبلت على شرائها، وجمعها في مكتبتي حتى نهاية السنة الثانية من الجامعة؛ حيث تعرضت لحادث مروري دخلت على إثره المستشفى لإجراء عملية تجميل في عيني اليسرى، وكان الحادث سببًا في عدم دخولي اختبارات المواد الشفوية في الجامعة.
وأثناء تنويمي في المستشفى سمعت بكاء أبي الغالي، ورأيت دموع أمي الثمينة وهما يقفان أمام سريري، وأنا طريح الفراش، الألم يعتصِرُني، وخوف الاختبارات يخنُقُني.
وإلى جانب سَريري كان سرير أخٍ من السودان قد أُصيب بصعق كهربائي أفقده يده اليسرى، وملأ جسده حروقًا وقروحًا، كنت أفزع من نومي بسبب صراخه من الألم، وانتفاضاته التي لا أنساها.
زاد الألم في داخلي، وقبل الخروج ذهبت لأرى وجهي في المرآة؛ فأُصبت بصدمة كبيرة جراء الجروح الكثيرة، وآثار العمليات التي لم تبرأ بعدُ.
خرجت من المستشفى بجسد مُنهَكٍ، ونفس مشبَّعة بالألم؛ فقصدت مكتب عميد الكلية طالبًا منه النظر في موضوعي؛ لإعادة ما فاتني من اختبارات؛ فرفض عذري، وطردني من مكتبه، ولولا موقف وكيل الكلية الذي وجَّه بإعادة الاختبارات، لَما كنت أعرف ما الذي سيحدث لي.
زاد الألم في جسمي، وصُبَّ الاحتقان في نفسي، وأكملت الاختبارات على مَضَضٍ، وبعد نهايتها، وبدء إجازة نهاية العام؛ قمت بجمع كتبي التي في مكتبتي، وحرقها جميعًا في برميل فوق سطح منزلنا؛ أسوة بأبي حيان التوحيدي الذي أحرق كتبه في لحظة ضعف، وضيق، وألم!
انتهت الإجازة، وبدأت السنة الجامعية الثالثة، ودرست الأدب الأندلسي على يد الشيخ الدكتور (عبدالله الحميد) الذي كان أستاذًا أديبًا خطيبًا شاعرًا، أحببتُه فأهديته نسخة من ديوان (البارودي)، فردَّ الهدية بكتاب (الأغاني) لأبي الفرج الأصفهاني، فعاودني الحنين للكتب، وبدأت مرحلة جديدة من جمعها، والعناية بها، ودأبت على ذلك حتى بعد تخرُّجي وعملي، والإفادة منها في البحث عن المعلومات والمعارف، فتكونت لديَّ قاعدة ثقافية جعلتني أطلب المزيد من عطاء الكتاب الذي طالما وجدت فيه منائرَ النور، وكنوز المعرفة.
وبعد كل هذا، فما يزال الكتاب يمدني بما أريده منه، وما يزال الكتاب يبهرني في كل مرة أقرأ جديده، أو أقع على معلومة، أو حكمة فيه!
وهأنذا أكتب هذه السطور عارضًا فيها رحلتي مع الكتاب، وقصتي الجميلة الممزوجة ببعض الحزن معه؛ كطبيعة الحياة تمامًا؛ أكتبها لعل من يقرؤها يجد فيها ما يحفِّزه للاهتمام بالكتاب قراءة، وبحثًا، وتدوينًا، ونقلًا، ولا سيما وأن أول كلمة رسمت ملامح هذه الأمة العظيمة هي كلمة (اقرأ)؛ فبالقراءة تنتعش الأمم وتحيا، وبالكتاب يتمدد الضياء، ويتسرب إلى النفوس، وتتشرب به العقول.
"
الأقسام الرئيسية
الأكثر مشاهدة من نفس التصنيف
الأحاديث القصار 200 حديث من الصحيحين
2022-06-20
بين الرأي والشرع
7/18/2022
روعة الانتصار سرها (الآن)
7/18/2022
اقتضاء الصلاح الإصلاح
7/18/2022
الرأي الأخر
0