"مؤهلات الإبداع الدعوي
ومقوماته
الإبداع من شأنه الرُّقي إلى المعالي، وتحقيق السبق المتميِّز والتفوُّق، وتغليب الإرادة القوية، والعزيمة الصادقة، والإبداع الدعوي له خصوصية ثقافية وكونية؛ باعتباره إبداعًا يعمل في أهم القضايا المصيرية للإنسان، من القيام بالدين، عملًا به، ودعوة إليه، وتمكينًا له، ودفاعًا عنه، وإصلاح أحوال الناس، من خلال الجَمْع بَيْن المتخَصِّصين في الدعوة، والتقنيات المتطوِّرة، والأَخْذ برَأْي المتخصِّصين.
الإبداع الدعوي هو:
أن نُعمِل أفكارنا الدَّعوية في كلِّ مجالات الدَّعْوة، التي تَهُمُّ الواقع الإسلامي، ونؤهل الدُّعاة المتمَيِّزين فقهيًّا، وإعلاميًّا، وحضاريًّا؛ لنتَقَدَّم وننبغ في كلِّ الميادين، ونحسن الاستفادة من المنْبع الروحي والأخلاقي الذي وفَّرَهُ الإسلام، كمنْهج لوِقَاية الحياة من الفِتَن والاضطرابات، وهو عَمَل ينال به الدُّعاة شرَف الدُّنيا، وعز الدُّنيا والآخرة.
وفي بيئاتنا الدعوية المعاصِرة يلزم الداعي المبدِع تحديد أَوْلَوياته الدعوية بدقَّة؛ للتقَدُّم بدَعْوَتِه إلى الأمام، في مسيرة متوازِنة، لا تَنْحَرِف عنْ مُنطلقاتها الثابتة، مهما اشتَدَّتِ الضغوط، وزاد حجم الأزمات، التي تُحاول أن تُعَرْقِل منطلقاتنا الدعوية في عالَم اليوم والغد، فأساسُ بناء الداعية إعداد قلبه لِحَمْل الهَمِّ الإسلامي على الدوام، وعقله للتفكير في جذْب الناس إلى نور الحق والهداية.
والمطلوب منَ الدعاة أن يُحسِنوا اختيار الموضوعات، ويبْتَعِدوا قدْر الإمكان عن صراعات المعارِك الفكرية التي تلْهيهم عن البناء، والحركة والانطلاق، وأن يتفَقَّهوا في حسْن المعالَجة الموضوعية لقضايا المجتمع والتنمية، والتحديات الحضارية، التي تواجِه مُجْتَمَعاتهم.
ولكي يُبدِع الدُّعاة في دَعْوَتِهم؛ ينبغي أن يكونَ الحرْصُ الأكْبَر في خطتهم ومنهجهم حماية المجتمع من الزيْغ، والضلال، والضياع، وتحقيق الخير لهم، وأخْذهم للنجاة والسلامة؛ من خلال نشْر الوسَطية، والعدْل، والقِسْط، واحترام الكرامة الإنسانية؛ يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما مثلي ومثلكم، كمَثَل رجلٍ استَوْقد نارًا، فلمَّا أضاءَتْ ما حوله جَعَل الفراش وهذه الدواب التي يقعْن في النار يقعْن فيها، فجعل يحجزهن ويغلبنه فيقتحمْن فيها، فأنا آخذ بحُجزكم وأنتم تقتحمون فيها))؛ أخرجه البخاري في صَحِيحه (6483).
إنَّ الدَّعْوة إلى الله وظيفةُ الأنبياء، وطريق العُظماء، وخطة المصْلحين، الذين ينْشَغِلون بإصلاح أحوال الخلْق، وردهم إلى الفطرة السويَّة، والإبداع المتوازِن الذي يحفظ الشخصية المسلمة، ولقد انْطَلَقَ الإبداعُ الإسلامي في عُصُوره المزدَهرة لفتْح العالَم كله وتغْييره؛ ليكونَ عالَمًا إيجابيًّا متحرِّرًا مِن كافَّة أشكال الظلْم، والعدوان، والضياع، والهوان، وكان روادُ حضارتِنا مبْدِعين في كلِّ جوانب الحياة، ومَن كان منهم كافرًا ثم أسلم أبدع، واشتغل بالعلم والتفكير، وتنقل في البلدان؛ يربِّي الناس على الإسلام، ويقودهم إلى الحق.
ولقد تنوَّعَت الخِطابات الدعوية في بداية عهد الإسلام، فكانت مضامين الخطاب الدعوي تَتَنَوَّع لِتُناسِبَ كلَّ بيئة وعصر، فهناك تطوُّرات طبيعية فطريَّة في الخطابات الدعوية، تلائِم واقع كل بيئة، وواقع كل ما يجتمع بما يصلحه ويهذبه ويطوِّره.
كما أنَّ هناك علاقةً واسعة تربط الدعوة بالإبداع؛ فالدعْوة إلى الله ليست كلمات، أو شعارات، أو خطبًا، أو مؤلفات، وندوات تُقال هنا وهناك، بل هي رسالة إصلاح شامل، يوظف الدين والدنيا وثورات الحياة وتقلُّباتها في العمل للآخرة؛ كي يحظَى الإنسانُ بالخُلُود في النعيم الأَبَدي، ويسعد في الدُّنيا والآخرة، فالسعادةُ الأُخْرويَّة تُهَوِّن كلَّ مصاعب الحياة لِمَن عاشوا في الدُّنيا غرباء.
فالدعوة في سياقِها المعاصر تحتاج إلى دعاةٍ مبدعين، يُعمِلون الفِكْر الصحيح في الموضِع الصحيح، مع مُراعاة ضابط المرجعيَّة الشرعيَّة، ومُراعاة الأهداف ووضوحها، والمقاصِد وسعتها، وتوفير وسائل تجْذب الجمهور، وتؤثِّر عليهم.
الإبداعُ الدعوي:
تتَّسِع مساحته ليشملَ القوالب والقلوب، ويتناوَل الإبداع داخل أرض الإسلام وخارجها، كما يتناوَل الإبداع في السِّلْم والحرب، والغنى والفقر، وركيزة نجاحه الإخلاص، فمهما جاء الدعاة بإبداعات فارغة من روح الإخلاص، فلن يَتَقَدَّموا بدعوة بلا إخلاص، كما أن عمادَه العقلانية والذكاء في طريقة الوصول للهدف، ولنا في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأُسْوة الحسنة؛ فقد عالَجَ النبي - صلى الله عليه وسلم - الأخطاء بطريقة ذكيَّة، وثقَّف الأمة بطُرُق معرفية، بالغة الدقة والذكاء، انطلاقًا من أنَّ الإسلام خاطَبَ العقل والقلب والجوارح.
يحتاج الإبداع الدعوي إلى انتقاء الموضوعات التي تيسِّر للناس طريق الإسلام، وإلى عرْض البرامج بِشَكْل حِوارِيٍّ، تثْقيفي، جذَّابٍ، ومؤثِّر.
إنَّ التقصير الدعوي الذي نراه على الساحة الآن لا ينبغي أن يعطِّل قافلة الدَّعوة المعاصِرة في سَيْرها وتحرُّكاتها، فالداعيةُ يأخذ بكلِّ الأسباب التي توصِّل دعوته - مضمونًا وجوهرًا - للناس، ويعالج أخطاءَه؛ ليُجَدِّد معالِم رسالته نحو الإبداع، ويكون قويًّا في عطائه، ويأخذ بالأَوْلَويات في الممارَسة الدَّعوية، ودعوة الجماهير إلى إصلاح شؤون الحياة.
يحتاج الإبداع الدعوي إلى شخصيَّة قويَّة مُخْلصة ومؤثِّرة، لها مَلَكات فنيَّة وثقافية، وخبرات وتجارب طويلة، وأَمَل واسع، ورغبة قويَّة في الإصلاح والبناء، ولا ينبغي أن نَيْئَس من الواقع الدعوي للدعاة؛ فهناك دعاةٌ أُعيد تأهيلُهم على أُسُسٍ صحيحة وقوية وراسخة، بعد أن ظهر عجْزهم، فقدَّموا الكثير، وتحوَّلوا إلى شُعلة مضيئة، وأثَّروا تأثيرًا كبيرًا في المجتمع من حولهم.
فالشخصيةُ المبْدِعة لا تنفَصِل بإبداعاتها عن رُوح الإيجابية، والإبداعُ السويُّ يخْلُق الشخصية السوية التي تشارِك المجتمعَ هُمُومه ومشكلاته، وتحمل مسؤولياته، فالدعوة الناجحة تُمَثِّل إشعاعًا روحيًّا وتنْمويًّا للانطلاق نحو هذه النماذج الصالحة، والمبادِئ الثقافية الراشدة والإعلامية.
إنَّ الدِّين المعامَلة، والمبدع المخْلِص يُريد الوُصُول بالمجتمع إلى أفضل معامَلة، تَتَمَكَّن منَ التقريب بين الناس، ومراعاة المصالح الإنسانية، وتقوية الوحدة الإسلامية، والترابُط الحضاري بين المسلمين، والقضاء على الضَّعْف الاجتماعي والتنموي؛ لأنَّ الإصرار على الضعْف ضعفٌ أشد، والبقاء على الضعف تراجُع، وتأخُّر يزداد يوميًّا، ما لَم نَتَقَدَّم بدَعْوَتنا إلى الأمام، ونصنع شيئًا يجعل وُجُودنا الدولي مذكورًا ومقدَّرًا في أذْهان الناس.
الإبداع الدعوي فقير إلى المواقِع الإلكترونيَّة التي توضِّح المفاهيم الإسلامية، وتقدِّم القادرين على رد الشبُهات، وتقدِّم الاستفسارات المتعلِّقة بالقضايا الإسلامية؛ إذ الغالب فيها القول بأن فيها آراء متباينة، مما يترك المستفسر في حَيْرة وتِيهٍ، يُبْعِدُه عن الوصول لعلاج مشكلاته، والوقوف على الطريق الصحيح.
والمطلوبُ إعلامٌ ذُو ثقافةٍ إسلامية واسعة، ولغة عربية سليمة، وروح متَسامِحة، تقْبَل الاختلاف مع الآخر؛ ليبرزَ جَوْهَرُ الإسلام العالمي، ويساير روح العصر، من خلال ذاتية متفرِّدة؛ ليكون هذا العصر كما أراد الله له أن يكونَ.
إن دواعي الإبداع الدعوي هي دواعي الاجتهاد في الشريعة الإسلامية، من خلود الشريعة وعمومها، وحاجة الناس إليها، وخصوصًا في عصر جُمُود الإبداع الدعوي، وعجزه عن تلْبية حاجتنا المعاصِرة، وانتشار البِدَع الطارئة على أحْكام الشريعة الإسلامية، وصُعُوبة إبراز الوجه الحقيقي لأحكام الشريعة الإسلامية.
ويكفينا افتقارًا وحاجة لهذا الإبداع امتلاء حياتنا بالمشكلات المعقَّدة، مع أننا نُدرك تمامًا احتياجاتنا التطوريَّة في مختلف ميادِين الحياة، والمطلوب منْظومة إبداع دعويٍّ تُقَدِّر الضرورات المعرفية لحياتنا المعاصِرة، وتسعى إلى البذْل والعطاء؛ من أجل رغبة جادَّة في التغيير، وإصلاح ما أصابَنا مِنَ اضطرابات، وتمتلك المفاتيح الإِقْناعيَّة التي يصل الداعي من خلالها إلى القلوب.
فالداعية إذا أحْسَن تقديم المعرفة الصادقة إلى الناس، استعْبَدَ قلوبَهم، وحرَّكَها نحو الحق، وبغَّضَها في الغفْلة والكَسَل والتراجُع.
لابدَّ مِن بناء الجسور بين عمل الداعي، وإبداع الشخصية الإسلامية؛ لنصبغ بالإسلام أحوالنا العامة والخاصة، ونستلهم رُوح مسيرتنا الحضارية، فهناك فُرَص واسعة لتأكيد ذاتنا الحضارية، ورفض الاستسلام والهزيمة الحضارية، وذلك يُحَقِّق - بصِدْق النية في توجُّهاتنا الإسلامية - التخطيط الراشد، والفقه الواعي، والتطبيق الإبداعي السليم.
بناء الإنسان هو أكبر مشروع تخطيطي معرفيٍّ لبناء القدرات الذاتية للمجتمع، وهو الهدَف الدعوي الأسْمَى، الذي ينبغي أن يتعبَ من أجله الدعاة، ويَمْلَؤوا أوقاتهم بتَزْويد الشباب بالعلم والمعرفة؛ لأنهما السِّلاح الوحيد والأقوى في مُوَاجهة تحديات الحياة، فالعلم والمعرفة من أعظم دعائم المستقبل، بشَرْط عناية المؤسِّسين وإيمانهم بالمستقبَل الذي يترتَّب عليه بناء أُسُس دعوية سليمة وثابتة، تنهض عليها أوطاننا ومجتمعاتنا.
فالمعرفةُ تُغَيِّر وجْه الحياة، وهي مفتاح حضارة متجدِّدة ومرتفعة ومزدَهرة؛ قال تعالى: ? يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ? [المجادلة: 11].
فينبغي أن يكون على رأس أولوياتنا الدعوية المعاصرة صناعة جيل العلْم والمعرفة؛ لأنَّ الابتعاد عن المعرفة ابتعادٌ عن رُوح حضارة العصْر، مما يَقُود إلى الموت.
لا ريب أنَّ هناك كتابات إبداعيَّة، تجذب وتكشف المعالِم الواضحة، وتُقَدِّم الردَّ الجميل على كل ما يُسِيء إلى الإسلام، وتؤمن بأن الإعجاب بالمثال طريق الاقتداء، فتصنع من نفسها القدوة الحسنة، وتؤمن بمبدأ السبق إلى الخيرات، وضرورة الدقة والبرهان في المسيرة الدعوية لضمان النجاح، وأولئك لهم الخيرات، وأولئك هم المفلحون، وعلى العكس هناك كتابات تصَنِّف نفسها على أنها إبداعية، وهي لا تحمل فائدة يمكن الخروج بها، أو ابتكارًا يلفت أنظار الناس إليه.
تتَّسِع مُنافسات الإبداع الدعوي باتِّساع دائرة الأَمَل في الخروج بالعالَم الإسلامي من أزماته المعاصرة، ومخالفاته الشرعية التي تُضعف بنيانه من الداخل، وتُعَرْقِل مسيرته في الخارج، والمستقبل لِمن أخلص وأبدع وسبق في هذا الميدان سباقًا يُغْنِينا عن الانبهار بإنجازات الآخرين، الذين أحكموا قبْضَتهم على العالَم الإسلامي؛ ليَقُودُوه إلى أخْلاقهم وسُلُوكياتهم، فالجهادُ بالإبداع ماضٍ إلى يوم القيامة.
"
ومقوماته
الإبداع من شأنه الرُّقي إلى المعالي، وتحقيق السبق المتميِّز والتفوُّق، وتغليب الإرادة القوية، والعزيمة الصادقة، والإبداع الدعوي له خصوصية ثقافية وكونية؛ باعتباره إبداعًا يعمل في أهم القضايا المصيرية للإنسان، من القيام بالدين، عملًا به، ودعوة إليه، وتمكينًا له، ودفاعًا عنه، وإصلاح أحوال الناس، من خلال الجَمْع بَيْن المتخَصِّصين في الدعوة، والتقنيات المتطوِّرة، والأَخْذ برَأْي المتخصِّصين.
الإبداع الدعوي هو:
أن نُعمِل أفكارنا الدَّعوية في كلِّ مجالات الدَّعْوة، التي تَهُمُّ الواقع الإسلامي، ونؤهل الدُّعاة المتمَيِّزين فقهيًّا، وإعلاميًّا، وحضاريًّا؛ لنتَقَدَّم وننبغ في كلِّ الميادين، ونحسن الاستفادة من المنْبع الروحي والأخلاقي الذي وفَّرَهُ الإسلام، كمنْهج لوِقَاية الحياة من الفِتَن والاضطرابات، وهو عَمَل ينال به الدُّعاة شرَف الدُّنيا، وعز الدُّنيا والآخرة.
وفي بيئاتنا الدعوية المعاصِرة يلزم الداعي المبدِع تحديد أَوْلَوياته الدعوية بدقَّة؛ للتقَدُّم بدَعْوَتِه إلى الأمام، في مسيرة متوازِنة، لا تَنْحَرِف عنْ مُنطلقاتها الثابتة، مهما اشتَدَّتِ الضغوط، وزاد حجم الأزمات، التي تُحاول أن تُعَرْقِل منطلقاتنا الدعوية في عالَم اليوم والغد، فأساسُ بناء الداعية إعداد قلبه لِحَمْل الهَمِّ الإسلامي على الدوام، وعقله للتفكير في جذْب الناس إلى نور الحق والهداية.
والمطلوب منَ الدعاة أن يُحسِنوا اختيار الموضوعات، ويبْتَعِدوا قدْر الإمكان عن صراعات المعارِك الفكرية التي تلْهيهم عن البناء، والحركة والانطلاق، وأن يتفَقَّهوا في حسْن المعالَجة الموضوعية لقضايا المجتمع والتنمية، والتحديات الحضارية، التي تواجِه مُجْتَمَعاتهم.
ولكي يُبدِع الدُّعاة في دَعْوَتِهم؛ ينبغي أن يكونَ الحرْصُ الأكْبَر في خطتهم ومنهجهم حماية المجتمع من الزيْغ، والضلال، والضياع، وتحقيق الخير لهم، وأخْذهم للنجاة والسلامة؛ من خلال نشْر الوسَطية، والعدْل، والقِسْط، واحترام الكرامة الإنسانية؛ يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما مثلي ومثلكم، كمَثَل رجلٍ استَوْقد نارًا، فلمَّا أضاءَتْ ما حوله جَعَل الفراش وهذه الدواب التي يقعْن في النار يقعْن فيها، فجعل يحجزهن ويغلبنه فيقتحمْن فيها، فأنا آخذ بحُجزكم وأنتم تقتحمون فيها))؛ أخرجه البخاري في صَحِيحه (6483).
إنَّ الدَّعْوة إلى الله وظيفةُ الأنبياء، وطريق العُظماء، وخطة المصْلحين، الذين ينْشَغِلون بإصلاح أحوال الخلْق، وردهم إلى الفطرة السويَّة، والإبداع المتوازِن الذي يحفظ الشخصية المسلمة، ولقد انْطَلَقَ الإبداعُ الإسلامي في عُصُوره المزدَهرة لفتْح العالَم كله وتغْييره؛ ليكونَ عالَمًا إيجابيًّا متحرِّرًا مِن كافَّة أشكال الظلْم، والعدوان، والضياع، والهوان، وكان روادُ حضارتِنا مبْدِعين في كلِّ جوانب الحياة، ومَن كان منهم كافرًا ثم أسلم أبدع، واشتغل بالعلم والتفكير، وتنقل في البلدان؛ يربِّي الناس على الإسلام، ويقودهم إلى الحق.
ولقد تنوَّعَت الخِطابات الدعوية في بداية عهد الإسلام، فكانت مضامين الخطاب الدعوي تَتَنَوَّع لِتُناسِبَ كلَّ بيئة وعصر، فهناك تطوُّرات طبيعية فطريَّة في الخطابات الدعوية، تلائِم واقع كل بيئة، وواقع كل ما يجتمع بما يصلحه ويهذبه ويطوِّره.
كما أنَّ هناك علاقةً واسعة تربط الدعوة بالإبداع؛ فالدعْوة إلى الله ليست كلمات، أو شعارات، أو خطبًا، أو مؤلفات، وندوات تُقال هنا وهناك، بل هي رسالة إصلاح شامل، يوظف الدين والدنيا وثورات الحياة وتقلُّباتها في العمل للآخرة؛ كي يحظَى الإنسانُ بالخُلُود في النعيم الأَبَدي، ويسعد في الدُّنيا والآخرة، فالسعادةُ الأُخْرويَّة تُهَوِّن كلَّ مصاعب الحياة لِمَن عاشوا في الدُّنيا غرباء.
فالدعوة في سياقِها المعاصر تحتاج إلى دعاةٍ مبدعين، يُعمِلون الفِكْر الصحيح في الموضِع الصحيح، مع مُراعاة ضابط المرجعيَّة الشرعيَّة، ومُراعاة الأهداف ووضوحها، والمقاصِد وسعتها، وتوفير وسائل تجْذب الجمهور، وتؤثِّر عليهم.
الإبداعُ الدعوي:
تتَّسِع مساحته ليشملَ القوالب والقلوب، ويتناوَل الإبداع داخل أرض الإسلام وخارجها، كما يتناوَل الإبداع في السِّلْم والحرب، والغنى والفقر، وركيزة نجاحه الإخلاص، فمهما جاء الدعاة بإبداعات فارغة من روح الإخلاص، فلن يَتَقَدَّموا بدعوة بلا إخلاص، كما أن عمادَه العقلانية والذكاء في طريقة الوصول للهدف، ولنا في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأُسْوة الحسنة؛ فقد عالَجَ النبي - صلى الله عليه وسلم - الأخطاء بطريقة ذكيَّة، وثقَّف الأمة بطُرُق معرفية، بالغة الدقة والذكاء، انطلاقًا من أنَّ الإسلام خاطَبَ العقل والقلب والجوارح.
يحتاج الإبداع الدعوي إلى انتقاء الموضوعات التي تيسِّر للناس طريق الإسلام، وإلى عرْض البرامج بِشَكْل حِوارِيٍّ، تثْقيفي، جذَّابٍ، ومؤثِّر.
إنَّ التقصير الدعوي الذي نراه على الساحة الآن لا ينبغي أن يعطِّل قافلة الدَّعوة المعاصِرة في سَيْرها وتحرُّكاتها، فالداعيةُ يأخذ بكلِّ الأسباب التي توصِّل دعوته - مضمونًا وجوهرًا - للناس، ويعالج أخطاءَه؛ ليُجَدِّد معالِم رسالته نحو الإبداع، ويكون قويًّا في عطائه، ويأخذ بالأَوْلَويات في الممارَسة الدَّعوية، ودعوة الجماهير إلى إصلاح شؤون الحياة.
يحتاج الإبداع الدعوي إلى شخصيَّة قويَّة مُخْلصة ومؤثِّرة، لها مَلَكات فنيَّة وثقافية، وخبرات وتجارب طويلة، وأَمَل واسع، ورغبة قويَّة في الإصلاح والبناء، ولا ينبغي أن نَيْئَس من الواقع الدعوي للدعاة؛ فهناك دعاةٌ أُعيد تأهيلُهم على أُسُسٍ صحيحة وقوية وراسخة، بعد أن ظهر عجْزهم، فقدَّموا الكثير، وتحوَّلوا إلى شُعلة مضيئة، وأثَّروا تأثيرًا كبيرًا في المجتمع من حولهم.
فالشخصيةُ المبْدِعة لا تنفَصِل بإبداعاتها عن رُوح الإيجابية، والإبداعُ السويُّ يخْلُق الشخصية السوية التي تشارِك المجتمعَ هُمُومه ومشكلاته، وتحمل مسؤولياته، فالدعوة الناجحة تُمَثِّل إشعاعًا روحيًّا وتنْمويًّا للانطلاق نحو هذه النماذج الصالحة، والمبادِئ الثقافية الراشدة والإعلامية.
إنَّ الدِّين المعامَلة، والمبدع المخْلِص يُريد الوُصُول بالمجتمع إلى أفضل معامَلة، تَتَمَكَّن منَ التقريب بين الناس، ومراعاة المصالح الإنسانية، وتقوية الوحدة الإسلامية، والترابُط الحضاري بين المسلمين، والقضاء على الضَّعْف الاجتماعي والتنموي؛ لأنَّ الإصرار على الضعْف ضعفٌ أشد، والبقاء على الضعف تراجُع، وتأخُّر يزداد يوميًّا، ما لَم نَتَقَدَّم بدَعْوَتنا إلى الأمام، ونصنع شيئًا يجعل وُجُودنا الدولي مذكورًا ومقدَّرًا في أذْهان الناس.
الإبداع الدعوي فقير إلى المواقِع الإلكترونيَّة التي توضِّح المفاهيم الإسلامية، وتقدِّم القادرين على رد الشبُهات، وتقدِّم الاستفسارات المتعلِّقة بالقضايا الإسلامية؛ إذ الغالب فيها القول بأن فيها آراء متباينة، مما يترك المستفسر في حَيْرة وتِيهٍ، يُبْعِدُه عن الوصول لعلاج مشكلاته، والوقوف على الطريق الصحيح.
والمطلوبُ إعلامٌ ذُو ثقافةٍ إسلامية واسعة، ولغة عربية سليمة، وروح متَسامِحة، تقْبَل الاختلاف مع الآخر؛ ليبرزَ جَوْهَرُ الإسلام العالمي، ويساير روح العصر، من خلال ذاتية متفرِّدة؛ ليكون هذا العصر كما أراد الله له أن يكونَ.
إن دواعي الإبداع الدعوي هي دواعي الاجتهاد في الشريعة الإسلامية، من خلود الشريعة وعمومها، وحاجة الناس إليها، وخصوصًا في عصر جُمُود الإبداع الدعوي، وعجزه عن تلْبية حاجتنا المعاصِرة، وانتشار البِدَع الطارئة على أحْكام الشريعة الإسلامية، وصُعُوبة إبراز الوجه الحقيقي لأحكام الشريعة الإسلامية.
ويكفينا افتقارًا وحاجة لهذا الإبداع امتلاء حياتنا بالمشكلات المعقَّدة، مع أننا نُدرك تمامًا احتياجاتنا التطوريَّة في مختلف ميادِين الحياة، والمطلوب منْظومة إبداع دعويٍّ تُقَدِّر الضرورات المعرفية لحياتنا المعاصِرة، وتسعى إلى البذْل والعطاء؛ من أجل رغبة جادَّة في التغيير، وإصلاح ما أصابَنا مِنَ اضطرابات، وتمتلك المفاتيح الإِقْناعيَّة التي يصل الداعي من خلالها إلى القلوب.
فالداعية إذا أحْسَن تقديم المعرفة الصادقة إلى الناس، استعْبَدَ قلوبَهم، وحرَّكَها نحو الحق، وبغَّضَها في الغفْلة والكَسَل والتراجُع.
لابدَّ مِن بناء الجسور بين عمل الداعي، وإبداع الشخصية الإسلامية؛ لنصبغ بالإسلام أحوالنا العامة والخاصة، ونستلهم رُوح مسيرتنا الحضارية، فهناك فُرَص واسعة لتأكيد ذاتنا الحضارية، ورفض الاستسلام والهزيمة الحضارية، وذلك يُحَقِّق - بصِدْق النية في توجُّهاتنا الإسلامية - التخطيط الراشد، والفقه الواعي، والتطبيق الإبداعي السليم.
بناء الإنسان هو أكبر مشروع تخطيطي معرفيٍّ لبناء القدرات الذاتية للمجتمع، وهو الهدَف الدعوي الأسْمَى، الذي ينبغي أن يتعبَ من أجله الدعاة، ويَمْلَؤوا أوقاتهم بتَزْويد الشباب بالعلم والمعرفة؛ لأنهما السِّلاح الوحيد والأقوى في مُوَاجهة تحديات الحياة، فالعلم والمعرفة من أعظم دعائم المستقبل، بشَرْط عناية المؤسِّسين وإيمانهم بالمستقبَل الذي يترتَّب عليه بناء أُسُس دعوية سليمة وثابتة، تنهض عليها أوطاننا ومجتمعاتنا.
فالمعرفةُ تُغَيِّر وجْه الحياة، وهي مفتاح حضارة متجدِّدة ومرتفعة ومزدَهرة؛ قال تعالى: ? يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ? [المجادلة: 11].
فينبغي أن يكون على رأس أولوياتنا الدعوية المعاصرة صناعة جيل العلْم والمعرفة؛ لأنَّ الابتعاد عن المعرفة ابتعادٌ عن رُوح حضارة العصْر، مما يَقُود إلى الموت.
لا ريب أنَّ هناك كتابات إبداعيَّة، تجذب وتكشف المعالِم الواضحة، وتُقَدِّم الردَّ الجميل على كل ما يُسِيء إلى الإسلام، وتؤمن بأن الإعجاب بالمثال طريق الاقتداء، فتصنع من نفسها القدوة الحسنة، وتؤمن بمبدأ السبق إلى الخيرات، وضرورة الدقة والبرهان في المسيرة الدعوية لضمان النجاح، وأولئك لهم الخيرات، وأولئك هم المفلحون، وعلى العكس هناك كتابات تصَنِّف نفسها على أنها إبداعية، وهي لا تحمل فائدة يمكن الخروج بها، أو ابتكارًا يلفت أنظار الناس إليه.
تتَّسِع مُنافسات الإبداع الدعوي باتِّساع دائرة الأَمَل في الخروج بالعالَم الإسلامي من أزماته المعاصرة، ومخالفاته الشرعية التي تُضعف بنيانه من الداخل، وتُعَرْقِل مسيرته في الخارج، والمستقبل لِمن أخلص وأبدع وسبق في هذا الميدان سباقًا يُغْنِينا عن الانبهار بإنجازات الآخرين، الذين أحكموا قبْضَتهم على العالَم الإسلامي؛ ليَقُودُوه إلى أخْلاقهم وسُلُوكياتهم، فالجهادُ بالإبداع ماضٍ إلى يوم القيامة.
"
الأقسام الرئيسية
الأكثر مشاهدة من نفس التصنيف
الأحاديث القصار 200 حديث من الصحيحين
2022-06-20
بين الرأي والشرع
7/18/2022
روعة الانتصار سرها (الآن)
7/18/2022
اقتضاء الصلاح الإصلاح
7/18/2022
الرأي الأخر
0