"مَن تحدَّث في غير فنِّه أتى بالعجائب
(حديث إلى ممدوح وغير ممدوح)
يُطالِعنا بين الحينِ والآخر كَتَبَةٌ مستصحفون بكتاباتٍ فجَّة، فيها الكثيرُ مِن الاستعلاء والغطرسة، المُنْبِئَة عن ضعفٍ في العلمِ والثَّقافة، وسقمٍ في العقل، وضحالةٍ في التفكير، وقد غَرَّهم أنَّ صحافةَ اليومِ المختطَفة، المُمْسِك بزِمامِها المتخرِّجون من الأقسام الرِّياضيَّة بشهادات دُنيا، قد فَتَحَتْ لهم أبوابَها، وهَيَّأَتْ لهم صفحاتِها وأعمدتِها؛ ليُشخبطوا فيها، ويملؤوها بشخبطاتهم، تلك التي يُرَدِّدُونها فيها ببغائيَّةٍ مَقِيتَةٍ، مصطلحاتٌ لا يفهمون معانيَها، ولا يُدرِكون كُنْهَها؛ كالإقصاء، والأدلجة، والتَّشدُّد، والتَّطرُّف، وهلُمَّ جرًّا.
مصطلحاتٌ سمعوا بها من أساتِذتِهم الذين سَبَقوهم إلى مَيْدان العداء لكل ما هو دينيٌّ، فأخذوا على أنفسِهم عهدًا بأنْ يقفوا في وجهِ كلِّ داعٍ إلى هدًى ومعروفٍ وخيرٍ، وصلاحٍ ورشاد، أو نَاهٍ عن منكرٍ وشرٍّ، وضلالٍ وفسادٍ، فَتَراهم يَتَنادَون للقيام بهذه المُهمَّة الشَّيْطانيَّة، ويتواصَون بالعمل في هذا السبيل، بلا كَلَلٍ ولا مَلَلٍ، يكتبون بأسلوبٍ ركيكٍ، ولُغةٍ سَمِجة، كتاباتٍ هشَّةً ضَحْلة، قبيحةَ العبارة والمعنى معًا، ثم لا يَلبَثُ أحدُهم - وقد تَقَيَّأ ما كَتَب - أن تَنْتَفِخَ أوداجُه، ويَتَثَنَّى عِطفاه؛ إعجابًا بما كَتَب، وانتفاخًا وزَهْوًا بما سطَّرتْهُ أنامِلُه في هذه الصحيفة أو تلك، ولَعَمْرُ الحقِّ إنَّ ما كَتَبَه لَشَيءٌ يستحيي منه العقلاءُ، ويَخجلُ منه الأسوياء.
ولكن هؤلاءِ الأُغَيْلِمَةَ المساكينَ يَنقُصُهم الكثيرُ من الأدب: أدب النفس، وأدب الخطاب، وأدب إنزال الناس منازلَهم، ترى الواحدَ منهم يُخاطِبُ شيخًا جليلًا، قد شاب فؤادُه في الإسلام، عُضوًا في هيئة كبار العلماء، وكأنَّه يُخاطِبُ حمَّالًا في سوق الخضار، أو فحَّامًا في سوق الفحم والحطب، يُخاطِبُه بعنجهية وكبرٍ، وانتفاخِ أوداجٍ، غيرِ مقِيمٍ لعلمِه، أو كِبَر سنِّه، أو فضله، أو مكانته الاجتماعية - وزنًا، فهلَّا تعلَّم أولئك الكَتَبَةُ من غِلمان بلادنا الأدبَ قبل أن يكتبوا حرفًا واحدًا! وكيف تسمح هذه (الجرائد) بإشاعة قلَّة الأدب في مجتمعنا؟! بل كيف تُسهِمُ هي ذاتُها في صناعة قلَّة الأدب تلك، وتعميقها وتجذيرها عن طريق فتح الباب على مصراعيه لهؤلاء الصبية الأحداث؛ ليشخبطوا بها، ويُسوِّدوا صفحاتِها وأعمدتِها بترهاتهم وخزعبلاتهم، وما شئتَ بعدُ من تسميات؟!
لا يكادُ المرءُ يُصدِّقُ ما يَحدُثُ في بلادنا من تَنَكُّر فئةٍ من شبابنا لدينِهم ووطنِهم عبرَ كتاباتٍ مسمومة، لا تَخدمُ إلا أعداءَ دينِنا وبلادِنا، ولا يكادُ المرءُ يُصدِّقُ كذلك ما تنتَهِجُه بعضُ صُحُفِنا وجرائدنا من فكرٍ مناهضٍ لشريعة ربِّنا، ومناقضٍ لهُويَّتِنا، وضاربٍ عُرْضَ الحائط بكل قِيَمِنا وأخلاقِنا الإسلامية العظيمة.
إذ كيف يَحدُثُ هذا في موئل الإسلام ومنبعِه ومشرق نوره؟!
كيف يَحدُثُ هذا في مَعْقِلِ التَّوحيدِ، وبلاد الحرمين، وأرض القداسات؟!
بل إنَّ السؤالَ الأهمَّ هو الذي يقول: كيف يَحدُثُ هذا كلُّه؛ أعنِي: هذا الهزء والسخرية بشعائر الله - تعالى - ومعالم دينه، والصالحين من عبادِه وأوليائه، والدعوة لكلِّ ما لا يَتَّفِقُ مع شريعة الله الغرَّاء، ومَحَجَّتِه البيضاء التي تَرَكَنا عليها رسولُ الله - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - وإظهار الامتعاض والتَّذمُّر من كلِّ خيرٍ ودعوةٍ إليه، ومِن كلِّ معروفٍ وأمْرٍ به، ومِن إبداءِ الإعجابِ بكلِّ مُلحِدٍ صفيقٍ، وعلمانيٍّ مُتَنَكرٍ للدِّين والملة، من أدباءَ وشعراء وَروائِيِّين، وغيرهم، في الوقت الذي يُسَبُّ فيه الأخيارُ والصالحون، المنافحون عن دينهم، المحتسِبون بالدفاع عن شريعتِهم وأخلاقِ مجتمعِهم، الخائفون من غَرَقِ السفينة بِمَن فيها إذا كَثُرَ الخَبَثُ، وقد كَثُر؟!
أَجَل، كيف يَحدُثُ هذا كلُّه في صحافَتِنا، ثم لا يَجِدُ مِن أهلِ الحلِّ والعَقد نكيرًا ولا اعتراضًا؟! إلَّا ما يكون بين الحينِ والحينِ من نُصحٍ خافِتٍ، وتوجيهٍ غايةٍ في الرِّقَّة؛ خوفًا على أولئك المستصحفين والمُمْسِكِين بزِمامِ (جرائدنا) من أنْ تَنْكَسِرَ قوارِيرُهم، أو تُخْدَشَ نعومتُهم، أو تَتَأثَّر نفسيَّاتُهم.
إنَّ الأمرَ قد بَلَغَ مَدَاه، وهذا التَّنكُّر من صحافَتِنا لقيمِ المجتمع، ومحاولة زجِّه في أتُّون الضَّلال والانحرافِ، والسُّقوط في البُؤَر التي سَقَطَ فيها مَن قَبلَنَا، وذاقوا ويلاتِها، ونَدِموا على السُّقوط فيها - وَلاتَ ساعةَ مندمٍ - مِن اختلاطٍ وسُفورٍ وتبرُّجٍ، وقيادةٍ للسيارةِ من قِبَلِ المرأة، وسينما ومسرحٍ، وما إلى ذلك مِمَّا يَرفُضُه الشَّرعُ الحكيمُ، والعقلُ القويمُ، والنظرُ المستقيمُ - سيؤدي بنا إلى ما لا تُحمَدُ عُقباهُ، من غضب ربِّنا، وسوءِ مُنْقَلَبِنا، وشقاءِ حالنا ومآلنا.
هذه مقدمةٌ لِمَا أُريدُ أنْ أتحدَّثَ عنه هنا بصفةٍ خاصَّةٍ، مما يَدخلُ في باب قلَّة الأدبِ التي أشرتُ إليها في الأسطر السابقة، وهو عبارةٌ عن مقالٍ من العيِّنَة نفسِها المليئة بقلَّة الأدبِ مع عالِمٍ عَلَمٍ، وشيخٍ فاضلٍ، عضوٍ بهيئة كبار العلماء، أَخَذَ ثُلَّةٌ من أُغَيْلِمَةِ صحافتِنَا يُسِيئون الأدبَ معه، ويَسخَرون منه؛ لأنَّه وَقَفَ لإساءَتِهم للدِّين بالمرصاد؛ يَرُدُّ عليهم، ويُفَنِّدُ أضالِيلَهم وضلالاتِهم، ويَرُدُّهُم إلى حِيَاض شريعَتِهم التي تَنَكَّرُوا لها، وجَعَلُوا يُسِيئُون إليها، ومِن هؤلاءِ (ممدوح المهيني) الذي ردَّ على هذا الشيخ الجليل بأسطرٍ ليس فيها شيءٌ من العلم، أو الأدب على الأقلِّ، في جريدة الرياض ص 28، من العدد (14961)، الصادر يوم الأربعاء 17/ 6/ 1430.
وقد صدَّرَ (المهيني) ما سمَّاه - وسمَّتْه الجريدةُ معه - ردًّا على فضيلة الشيخ صالح الفوزان، بعبارةٍ مليئةٍ بسوءِ الأدبِ مع هذا الشيخ الفاضل، الذي هو في مَقَام والِدِه؛ حيثُ قال: ردُّ الشيخ صالح الفوزان عضو هيئة كبار العلماء، الذي جاء بعنوان: الولاء والبراء من أصول عقيدتنا، على مقالي: كن فأر تجارب، كان عبارةً عن رسالة مليئةٍ بالاتهامات، والإقصاء، وسوءِ الفهم، وكلُّ ذلك كان قائمًا على أساسٍ غيرِ صحيح.
ومع ما في هذه العبارات من قلَّة الأدب مع أحد علمائنا الكبار، حيثُ يَصِفُهُ هذا المستصحفُ بسوء الفَهم، إلا أنني سأتجاوزُها إلى ما هو أخطرُ، حيثُ يقولُ: من المؤسفِ أنْ يَستخدمَ الشيخُ الفوزان ذات الآيات التي يَستخدمُها المتطرفون من أديانٍ أخرى، الذين يصفون الإسلام بدين العنف والكراهية، إلى أن يقول: ولكن هناك آيات أكثر بكثير من آيات العداء موجودة في هذه الكتب - وفي القرآن تحديدًا - التي تَحُثُّ على التَّعايُشِ والتَّسامح، والسلامِ وعدم الإكراه، ولكنَّ الشيخَ الفوزان - ولا حتى (جيري فالويل) وغيره - يذكرونها أبدًا.
القراءة التاريخية للآيات القرآنية، تقرأ النصوص الدينية اعتمادًا على وقتها وظرفها، عندما كان هناك عداءٌ بين أصحاب الأديان المختلفة، ولكنَّ كلَّ ذلك انتهى الآن، فالمسلمون يتعايشون مع غيرهم في كلِّ مكانٍ بسلامٍ وأمان.
فهذا (المهيني) يجعلُ الشيخَ الفوزان مع (جيري فالويل، وبوب جونز) في مرتبةٍ واحدة، ويُشبِّهُهُ بهما، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنه يتَقَمَّصُ دورَ العالِم الجهبذ، المفسِّر الفقيه، فيُقَرِّرُ - أصْلَحَه اللهُ - أنَّ للقرآن الكريم عدةَ قراءاتٍ، ومنها القراءةُ التاريخيَّةُ للآيات القرآنيَّةِ، تقرأ النصوص الدينية اعتمادًا على وقتها وظرفها.
ويَستخلِصُ بناءً على قراءته التاريخيَّةِ تلك: أنَّه لا عداءَ الآن بين أصحاب الأديان المختلفة، فكلُّ ذلك العداءِ انتهى الآن، هكذا بِجرَّة قَلَمٍ أنْهَى (ممدوح المهيني) كلَّ عداءٍ بين الأديانِ المختلفة، وقرَّر أنَّ المسلمين أصبحوا يَتَعايَشُون مع غيرِهم في كلِّ مكانٍ بسلامٍ وأمانٍ، وأنَّ عددَ المسلمين في أوربا - فقط - يقاربُ خمسةَ عَشَرَ مليونًا، وأَوَدُّ أنْ أسألَ هذا (المهيني) عدةَ أسئلةٍ تتعلَّقُ بما قرَّره من انتهاء العداءِ بين المسلمين وغيرِهم؛ عَلَّهُ يتراجعُ عن هذه الأغلوطة الكبرى، التي تدلُّ على أحد شيئين، كلُّ واحدٍ منهما أقبحُ من الآخر: إمَّا الجهلُ المُطبقُ بواقع الحال، بعد الجهل الأكثر إطباقًا بنصوصِ الكتاب العزيز والسُّنَّة المطهَّرة، وإمَّا الانخداعُ بالمكرِ الكُفْرِيِّ المتعاظِمِ، الذي يقلبُ الحقائقَ، ويُزورُ التاريخ، ويُريدُ أن يُحوِّلَنا - نحن المسلمين - إلى قطيعٍ من الأنعام لا نَفْقَهُ كتابًا ولا سُنَّةً، ويَخدَعنا بهذه المسمَّيَات الحمقاءِ الكاذبةِ، كالتَّعايُشِ والتَّسامُحِ، والسلام والمحبة... إلخ.
وإلا فما هي الإجابةُ عن مثلِ هذه الأسئلة؟
هل يدل ما يُمارِسُه الغربُ الكافرُ من التَّقتيل، والاحتلال، والبطش، ونهب الثروات بكثير من الدول الإسلامية؛ كأفغانستان، والعراق، والسودان، والصومال، وغيرِها - على انتهاء العدوان بين المسلمين وأعدائهم؟!
هل يدلُّ ما يُمارِسُه اليهودُ في فِلسطِينَ المحتلةِ بحقِّ إخوتنا الفلسطينيين من قتلٍ، وتدميرٍ، وتجريفٍ، وهدمٍ للمنازل على رؤوسهم صباحَ مساءَ، وتهجيرٍ، وبطش، وتنكيلٍ، يُعِينُهُم الغربُ الكافرُ المتآمرُ بأسلحتِه وقراراتِه، وصمْتِه وسكوتِه على جرائمهم في أقل الأحوال - على انتهاء العدوان بين المسلمين وأعدائهم؟!
هل يدلُّ ما يُمارِسُه الهنادكة في الهند، وكشمير، ونيبال، وغيرِها، ضدَّ إخواننا المسلمين هناك - على انتهاء العدوان بين المسلمين وأعدائهم؟!
هل يدلُّ ما جَرَى لإخوتنا المسلمين في البُوسْنَة والهرسك، وإقليم كوسوفا في وسط أوربا الديمقراطية، من قِبَلِ الصِّرب وحلفائهم الأوربيين النصارى الحاقدين - على انتهاء العدوان بين المسلمين وأعدائهم؟!
ماذا أُعدِّدُ لَكَ أيُّها العبقريُّ الذي أنْهَيتَ العدوانَ بين المسلمين وغيرِهم بِجرَّة قَلَم منك، متجاهلًا هذا السيل الدَّفَّاق من دماء المسلمين، التي تسيلُ ليلًا ونهارًا، وتَجري صباحًا ومساءً على أيدي أعدائِهم من كلِّ مِلَّةٍ ودينٍ، بلا رحمةٍ ولا شفقةٍ؟! وصَدَقَ اللهُ العظيمُ الذي وَصَفَهم بقولِه: ? لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً ? [التوبة: 10].
لكنَّ مصيبَتَنا فيكم أيُّها المستصحفون المُتعالِمُون، الذين تُدْخِلُون أنفسَكم فيما لا علمَ لكم به، أو أنَّكم تَتَعَامَونَ عن هذه الحقائقِ الكبرى الواضحة للعيان؛ إرضاءً لأسيادِكم الذين يَطعنوننا باليَدِ اليمنى، ويَمُدُّون لنا اليدَ اليسرى، من قبيل الضَّحك علينا، والاستغفال لنا.
وهل نسيتَ ذاك الثورَ الهائج الذي سَكَنَ (البيت الأسود) ثماني سنوات، حين كذَّبك وأمثالَك ممن يدَّعِي انتهاءَ العداءِ بين المسلمين وغيرِهم؟! فَقَالهَا صريحةً مُدَوِّيةً في خطابٍ سمِعَهُ الملايينُ بأنها (حربٌ صليبيَّةٌ)، فأين كان سمعُك وقتَذَاك؟! هو يقول: حربٌ صَليبيَّةٌ، وأنت تقول: انتهى العداء بين المسلمين وغيرهم.
إنَّ عجبي لا ينتهي ممن يريدُ أنْ يكونَ غربيًّا أكثرَ من الغربيِّين أنفسِهم، وقبل ذلك كله فإنَّ استمرارَ ذلك العداءِ ثابتٌّ بنصٍّ قرآنيٍّ، هو قولُه تعالى: ? وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا ? [البقرة: 217].
وأخطرُ من ذلك أيضًا ما تَفَوَّهَ به هذا المستصحفُ من قولِه: المؤسفُ أنَّ الشيخَ الفوزان ينطلقُ من هذه الرؤية القديمة، التي تَجَاوزها التاريخُ منذُ مدةٍ طويلةٍ، ويريدُ أن يفرضَها علينا، على الرغم من أنَّنا نعيشُ واقعًا مختلفًا جدًّا، وهو لا يتعارضُ مع القراءة الواقعية العقلانيَّة التي نعتمدُها، يا الله! هل يعِي هذا المسكينُ ما يقول؟! وهل يَفهمُ معنى ما يَتفوَّه به؟! إنه يقولُ كلامًا خطيرًا؛ بل خطيرًا جدًّا؛ لأنه يجعلُ الرؤيةَ التي يَنطلقُ منها الشيخُ الفوزان رؤيةً قديمةً تجاوَزَها الزمنُ، وهل الرؤية التي يَنطلقُ منها الشيخ الفوزان إلا الإسلام؟! إلا الكتاب والسنة؟! هل جاء بشيءٍ من عنده؟! فهل هذه الرؤيةُ المُنطلِقَةُ من الوحيَيْنِ رؤيةٌ قديمةٌ تجاوزها التاريخ؟!
اتَّقِ اللهَ أيُّها الكاتبُ المتعالِمُ المسكينُ، وفكِّرْ جيِّدًا في خطورة ما تقول، واستغفرِ اللهَ منه، وعُدْ إلى رشدِك، ولا يأخُذَنَّك الحماسُ إلى مَهَاوِي الرَّدى، ولا يستجرنَّك الشيطانُ إلى أنْ تقعَ تحتَ طائلةِ ما يَنهَى عنه الرسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بقوله: ((إنَّ الرجلَ لَيَتَكَلَّمُ بالكلمة مِن سَخَطِ الله لا يُلْقِي لها بالًا - وفي روايةٍ: لا يظن أن تبلغَ ما بلغتْ - يَهْوِي بها في النار سبعين خريفًا))، وفي روايةٍ: ((أبعد مما بين المشرق والمغرب))، أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
ثم مَن قال: إنه يُريدُ أنْ يَفرضَها عليك؟ إنه حفظه الله يُبَيِّنُ وجهَ الخطأ في كتابَتِك، ويُوَجِّهُكَ إلى الفهمِ الصحيح لِدِينِك؛ فإن أخذتَ بتوجيهاتِه ونُصحِه، فَبِهَا ونِعْمَتْ، وأنتَ المستفيدُ والمنتفع، وإنْ لم تأخذْ به فلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى، وقد أدَّى فضيلتُه ما عليه من واجبِ النصح والبيان.
ثمَّ تقرر أنَّكم تعيشون واقعًا مختلفًا جدًّا، وأنَّ هذا الواقعَ لا يتعارضُ مع القراءة الواقعيَّة العقلانيَّة التي تعتمدونها.
ولي أنْ أسألَ أوَّلًا: واقعكم هذا الذي تعيشونَه مختلفًا جدًّا، مع ماذا؟
هل هو مختلفٌ جدًّا مع تلك الرؤية التي ينطلقُ منها الشيخُ الفوزان؟ إنْ كان كذلك، فيا لخسارَتِكم! ويا لسُوءِ واقعِكم! لأنَّه حِينَئِذٍ يختلفُ مع الإسلامِ، باعتبارِ أنَّه هو الذي ينطلقُ منه الشيخُ الفوزان، وكلُّ مسلمٍ مثل الشيخِ الفوزان، وأُعِيذُكَ بالله أنْ تقصدَ ذلك أو ترمِي إليه.
وإنْ كان مختلِفًا جدًّا مع شيءٍ آخرَ غيرِ ذلك، فقد كان الواجبُ عليك أنْ تُوضِّحَه وتُبَيِّنَه؛ لتُبْعِدَ عن نفسِك تلك التهمةَ الخطيرة.
أما ما قَرَّرْتَه أيُّها الفَتى النِّحْرِيرُ من أنَّ التعايُشَ والتسامُحَ لا يَعنِيان أنْ نَتَخلَّى عن شيءٍ من ديننا، فََلَيْتَ الأمرَ كان كذلك، وهذا هو الواجبُ والأصلُ، لكنَّ الواقعَ بخلاف ذلك، فقد أدَّيَا - أعني: التعايشَ والتسامحَ - إلى أنْ يَتَخَلَّى كثيرٌ منَّا عن دينِهم، ويَتَنَكَّروا له، ويَنسَاقوا - بوعيٍّ حينًا، وبلا وعيٍّ أحيانًا - في ركاب أعدائهم؛ محبةً لهم، وتقليدًا لطرائقِ عيشِهم وأوجُهِ حياتِهم، حتى في تربية الكلاب والعناية بها؛ بل ما هو أهمُّ وأعظمُ وأخطرُ من ذلك.
ولا تَنخَدِعْ بالمظاهر السَّطحيَّة مما تراه من بعضِ القومِ من مُجاملاتٍ لا تَتَعَدَّى الشَّكلَ الخارجيَّ، بل غُصْ إلى الأعماقِ؛ لترَى حقدًا دفينًا على الإسلام والمسلمين، وعداءً مُتَوَارَثًا من أتباع كلِّ الأديانِ الباطلةِ تقريبًا، من يهود، ونصارى، ووثَنِيِّين، للإسلام وأهلِه.
إنَّ هذا العداءَ الذي تُنكِرُه أنت وأمثالُك حقيقةٌ قرآنيَّةٌ لا تَقبلُ الجدل، لقد قرَّرَها القرآنُ؛ فلا مجالَ للأخذ والرَّدِّ فيها، وها هي آياتُ الله الغضَّةُ الطَّريَّةُ، التي كأنَّما أُنزِلَت البارحة، تُقَرِّرُ ذلك في وضوحٍ وجلاءٍ، فارجعوا إليها وتدبَّرُوها، وافهموا مرامِيَها وما تدلُّ عليه بفَهمِ السَّلف الصالح - رضي اللهُ عنهم - لا بِفَهمِ (العصرانِيِّين) و(التَّنوِيرِيِّين) و(العقلانِيِّين)، وما شئتَ بعدُ من تسميات.
كيف تَنْفُون ما أثْبَتَه اللهُ؟! وكيف تُنْكِرون ما قرَّرَه اللهُ؟! وكيف تُرِيدون هدمَ الجدار الذي أقَامَه اللهُ بين الكفرِ والإسلام إن كنتم تعقلون؟!
ثم يُضيفُ الكاتبُ: يَتَحَكَّمُ بتفكِيرِ الشيخِ الفوزان قيمةُ العداءِ والبغضاء، فكرَّر كلمةَ كافرٍ ? مرات في ردِّه القصير، الأمرُ الذي يَجعَلُه يَرى العالَمَ منقسِمًا بين المسلمين والكفار.
ويَكفِيني في نقدِ عبارتهِ تلك والردِّ عليها:
أنَّ ما يأخذُهُ هذا الكاتبُ على فضيلة الشيخ الفوزان من كونِه يتحكَّمُ بتفكيره قيمةُ العداء والبغضاء لكلِّ ما هو عدوٌّ لله ورسولِه والمؤمنين، وأنَّه لا يرى العالَمَ إلا مسلمين وكافرين - هو ما يُقَرِّرُه الله في كتابه الكريمِ في وضوحٍ وجلاءٍ، من أنَّ الناسَ كلَّهم حزبان لا ثالثَ لهما؛ ? أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ? [المجادلة: 22]، ? أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ ? [المجادلة: 19]؛ فهما حزبان لا ثالثَ لهما، ومعلومٌ أنَّ الحزبَ الأوَّلَ، الذي عبَّر عنه القرآنُ الكريمُ بأنَّه حزبُ الله، يُمثِّلُ المسلمين، وأنَّ الحزبَ الثاني، الذي عبَّر عنه القرآنُ الكريمُ بأنَّه حزبُ الشيطان، يُمثِّلُ الكافرين من كلِّ لونٍ وجنسٍ ودينٍ، وهذان الحزبان هما اللذان سَيَؤُولان يومَ القيامة إلى فريقين: فريقٌ في الجنة، وفريقٌ في السعير.
فكيف تأخُذُ على الشيخ أَخْذَهَ بما قرَّره القرآنُ؟! وكيف تُنكِرُ عليه انطلاقَه من القرآن أيُّها الكاتبُ المسكين؟!
إنَّ مشكلَتَكم الكبرى أنتَ وأمثالك من هذه النَّاشئة من شبابِنا الذين فَتَحَتْ لهم الجرائدُ أبوابَها، لتكتُبوا فيها بهذه الغُثَائيَّة والضَّحالة - هي أنَّكم ضعيفون إلى حَدِّ العوزِ والفاقةِ في العلم الشرعيِّ، والثقافةِ الدينيَّة، فتُدخِلُون أنفسَكم في بحرٍ خِضَمٍّ لا تُجِيدون السباحةَ فيه، ولا الغوصَ في أعماقِه، وهي مشكلةُ زمنِنا هذا، الذي صار كلُّ مَن قرأ روايةً، أو ديوانًا، أو كتابًا هَشًّا - كاتبًا كبيرًا، وعالِمًا نِحْرِيرًا، فغرَّتْه نفسُه، وخَدَعَه مستخدِمُوه، وجَعَلَوه مَطِيَّةً لبلوغِ أهدافٍ يَرمُون للوصول إليها، فَفَتَحوا له أبوابَ جرائدِهم ومجلاتِهم، يَدْلِفُ إليها بلا استئذانٍ، ويكتبُ فيها ما يفهمُ وما لا يفهم، المهمُّ أنْ يُصادِمَ نصوصَ الوَحْيَيْنِ، وأنْ يُهَاجِمَ تعاليمَ الكتابِ والسُّنَّةِ، ورموزَ العلم والصلاح والإصلاح من العلماء وأهلِ الفضلِ، فتلك مؤهلاتُ الكاتبِ ليتقدَّمَ ويعلوَ شأنُه في صحافة هذا الزمن الرديء.
وها هو الكاتبُ الفَذُّ يمضي في جهله بنصوص الشَّريعةِ، فيقولُ مستنكرًا: وحتى داخل الطائفة الواحدة هناك انقسامٌ بين الفِرَق؛ فهناك فِرقةٌ صحيحةٌ واحدةٌ، ومئاتُ الفِرَق الخاطئة، أليس بهذا يَرُدُّ الحديثَ الصحيحَ الذي يُخبرُ فيه الرسولُ - عليه الصلاة والسلام - عن افتراق اليهود إلى إحدى وسبعين فِرقةً، وافتراقِ النصارى إلى اثنتين وسبعين فرقةً، وأنَّ هذه الأمةَ سَتَفْتَرِقُ إلى ثلاثٍ وسبعين فرقةً، كلُّها في النار إلا واحدةً، فلمَّا سُئِل عنها صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أَخبرَ أنَّها: ((مَن كان على مثلِ ما أنا عليه اليومَ وأصحابي))؛ أي: إن هناك فرقةً واحدةً صحيحة، وفِرقًا كثيرةً خاطئة؟!
ثُمَّ يُعقِّبُ الكاتبُ بكلامٍ خطيرٍ كالذي سَبَقَه، فيقول: مثلُ هذه الثقافةِ - بالإضافة إلى معارضتِها للتَّطوُّر العقليِّ - هي أيضًا سببٌ - كما يُثْبِتُ التاريخُ والواقعُ - في تمزيقِ الأوطان، ولا معنى لهذا الكلام حَسْبَمَا يفهَمُهُ العقلاءُ إلا أنَّ الثقافةَ التي تقولُ وتُقَرِّرُ أنَّ البشرَ نوعان لا ثالثَ لهما: مؤمنٌ مسلمٌ، وكافرٌ، وأنَّ الفِرقةَ الناجيةَ ذاتَ المنهج الصحيحِ واحدةٌ فقط، وهي هنا ثقافةُ الإسلام، ونصوصُ الوَحْيَيْنِ - ثقافةٌ تُعارِضُ التطورَ العقليَّ، وتسبِّبُ تمزُّقَ الأوطان، فأيُّ إساءةٍ للإسلام أعظمُ من هذه الإساءة؟! وأيُّ اتِّهامٍ للإسلام وثقافتِه وتعاليمِه بما هو منه براءٌ أعظمُ من هذا الاتهام؟! ومِمَّن؟! مِن مسلم ينتمي إلى وطنِ الإسلام، وأهلِ الإسلام، فلا حولَ ولا قوةَ إلا بالله العليِّ العظيم!
ولا يكادُ ينتهي عُجَرُ (المهيني) وبُجَرُه، فها هو يقولُ: يتجاهلُ الشيخ الفوزان أيضًا مثلَ هذه الدعواتِ التي انتقدَها في المقال، كانت هي التي رسخَّتْ ثقافةَ التطرُّف، وكانت الوَقودَ الذي أشعلَ نارَ الإرهابِ بشبابنا في كلِّ مكانٍ، وتحديدًا في بلادنا.
وغايةُ ما يُرَدُّ به على هذه العبارات الركيكة وغيرِ المتراكبة أنْ يقالَ: إنَّ الذي رسَّخ ثقافةَ التطرُّف، والوَقودَ الذي أشعلَ نارَ الإرهاب، هو هذا التطاولُ منكم على نصوص الوحيين، ومصادمتها وتفسيرها حسب أهوائِكم، حيثُ يُشعِلُ ذلك نارَ الحماسة في صدورِ شبابِكم المؤمنِ، الذي يفتدِي دينَه بنفسه وبكلِّ ما يملِكُ من غالٍ ونفيس، ومن هنا؛ تدفعونهم بما تفعلون من تلك المصادمةِ، والتَّنكُّر، والمواجهةِ للدين ونصوصِه وعلمائه دفعًا لأنْ يَشتدُّوا عليكم، ويتطرَّفوا في مواجهتِكم، فلا تلومُوهم ولُومُوا أنفسَكم؛ لأنَّكم أنتم البادئون، والبادئُ أظلم، ولا ترموا غيركم بدائكم، فينطبق عليكم المثل القائل: رمتني بدائها وانسلَّت.
وأخيرًا:
يقولُ كاتبُنا - أصلحه الله -: إنَّ اختزالَ علماءِ المسلمين بشخصٍ واحدٍ، أو رأْي واحد، هو أمرٌ لا يَنسجِمُ مع المنطقِ العقليِّ فحسب، ولكنَّه يقدِّم نفسَه المفسِّرَ الوحيدَ لكلام الله - تعالى - وهذا الاحتكارُ النهائيُّ بات أمرًا غيرَ مقبولٍ على الإطلاق.
ولا شكَّ أن الاختزالَ الذي ذَكَرَه غيرُ صحيحٍ، ونحن معه في تقرير أنَّه لا وصايةَ لأحدٍ على الإسلام، ولا يمكنُ أنْ ينحصرَ الأمرُ في عالِمٍ واحدٍ؛ إذْ كلٌّ يُؤخذُ مِن قولِه ويُرَدُّ، إلَّا رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولا يمكنُ أنْ يُقَرَّ أحدٌ على احتكار العلم بالشريعة ونصوصِها، لكن ليس معنى ذلك أنْ يُفتحَ البابُ على مصراعَيْه لكلِّ مَن هَبَّ ودَبَّ ليتكلمَ في الشريعة ونصوصِها، فلا يلزمُ من تقرير الأول، تقرير الثاني أبدًا، وإنما الشريعةُ ونصوصُها سياجٌ لا يجوز أن يقتحمَه إلا أربابُ العلم الشرعيِّ، المتمكِّنون من فهمِ قواعد الشريعة ومرامِيها، وأهلُ الفَهم الصحيح لمراد الله - تعالى - ممن نوَّرَ اللهُ بصائرَهم ورزقَهم الفهمَ السليمَ، والدراية التامة بالكتاب والسنة، بعد جثو على الركب، وإمضاء للأعمار المباركة في حلق العلم، والتعلم على الأشياخ والأئمة الموقِّعين عن رب العالمين جلَّ جلالُه.
إنَّ مثلَ هذه العباراتِ التي يُطلِقُها بعضُ الكُتَّابِ المستصحفين عباراتٌ فَضفاضةٌ، وهي أشبهُ بكلمةِ الحقِّ التي يُرادُ بها الباطلُ، فلا ينبغي أن تنطلي على القارئ الفَطِنِ، فهم يقولون: إنَّه لا وِصاية لأحد على الإسلام، ولا يجوزُ أن يحتكرَ الكلامَ في الدين أحدٌ؛ لأنَّ الدينَ للجميع، وهم يَقصدون بذلك أنْ يُفتحَ البابُ لكلِّ واحدٍ ليُقرِّرَ ما يراه هو، لا ما تراه الشريعةُ، وما يُريدُه هو، لا ما يُريده الدين، ومِن أعجبِ العجب أنَّ الدين فقط هو الذي يُجوِّزون استباحتَه مِن كلِّ أحدٍ، والحديثَ فيه وفي نصوصِه مِن قِبَلِ مَن عَلِم ومَن جَهِل، ومَن عَرَف ومَن لم يعرفْ، بينما التَّخصصاتُ الأخرى يَستنكِرون أشدَّ الاستنكارِ الخوضَ فيها ممن لا يُتقِنُها ولا يَعلمُ تفاصيلَها، كالطِّبِّ، والهندسة، والاقتصاد، وغيرِها، فأيُّ الأمرين أخطرُ وأعظمُ أثرًا: الكلام في الدين وأصولِه وفروعِه ممن يَجهلُها، أم الكلام في أمور الدنيا الأخرى؟!
وختامًا:
لمقالِه الذي رَدَّ به على فضيلة الشيخ الفوزان يقول (ممدوح المهيني): مِن حقِّ الشيخ صالح الفوزان أنْ يؤمنَ بالأفكار التي يُريدُها ويدعو لها، كما مِن حقِّ أيِّ أحدٍ أنْ يَنتَقِدَها ويدعو للأفكار التي يراها صائبةً، لكنْ ليس من حق الشيخ الفوزان أن يهدد بعصا الله بأن يَطرُدَنا من رحمته؛ لأنَّه لا أحدَ يُمكِنُه الآن - بعد أن سقطت فكرةُ الوصاية - أن يلعبَ دورَ المفوض من الله.
ولستُ أدري: لِمَ يفترضُ هذا الكاتبُ وأمثالُه معركةً بينهم وبين العلماء الفضلاء، الذين يُريدُون لهم الخيرَ، فيُوجِّهون لهم النصيحةَ؛ إعمالًا لأمر نبيِّهم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في قولِه: ((الدينُ النصيحةُ))، قلنا: لمن يا رسولَ الله؟ قال: ((لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم))؟!
لماذا تفترضون أنَّ العلماءَ يُرِيدُون الوِصاية عليكم، وهم لم يدَّعوها؟! ومَن مِن علمائِنا قديمًا أو حديثًا قال: إنه مفوَّضٌ من الله، ويَملِكُ أن يطردَ الناسَ من رحمة الله؟!? كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا ? [الكهف: 5]، ومع اعتراضي على عبارة عصا الله - تعالى اللهُ وتقدَّس - إلا أنَّني أُطَمْئِنُك وأمثالك بأنَّ الشيخ الفوزان وسائرَ علمائنا لا يُهدِّدون أحدًا، ولا يَطرُدون أحدًا، وليسوا في معركة مع أحدٍ.
وإنما هم قومٌ قد فهموا دينَهم وفَقِهُوه وأدركوا مراميَه، فَهُم يعملون بنصوصه؛ دعوةً إليه، وبيانًا لأحكامه، ونصحًا للأمة، وتذكيرًا للناس، وتنبيهًا للغافل، وتعاونًا على البرِّ والتقوى، فَمَن استَمَعَ وأصاخَ، وقَبِلَ وأذعَنَ للحقِّ، فهو على نورٍ من ربِّه، وما نَفَعَ إلا نفسَه، ومَن ردَّ الحقَّ، واستَكبَرَ عنه، ولم ينتفعْ بنصحهم، ولم يسمعْ لقولِهم، فإنما يَجنِي على نفسِه، وهم بُرَآءُ مما أوقع نفسَه فيه من المخالفة، بعد أن دَعَوا وبيَّنُوا، وأمرُوا ونهَوا، ومَن عادَاهم، ووقع في أعراضِهم، وأساء إليهم، وتَهَجَّم عليهم، فهو على خطرٍ عظيمٍ، وقد عرَّضَ نفسَه لِمَا لا قِبَلَ لها به؛ فالعلماءُ أهلُ خشيةِ الله؛ ? إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ? [فاطر: 28]، وهم أهلُ رضوان الله، حتى إنَّ الله قد أخضعَ لهم ملائكَتَه، التي تضعُ أجنحَتَها لطالب العالم؛ رِضًا بما يصنعُ، وهم الذين يَستغفرُ لهم كلُّ شيءٍ، حتى الحِيتانُ في الماء، وهذا كلُّه ثابتٌ بنصوصٍ صحيحةٍ من أحاديث المصطفى - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
فاحْتَرمُوهم - معاشرَ الكُتَّاب - ووقِّرُوهم، واطلبوا العلمَ على أيدِيهم، واقبلوا نصائِحَهم، واعمَلُوا بتوجيهاتهم، ولا يَغُرَّنَّكم قريبٌ أو بعيدٌ يُحَسِّنُ لكم الوقوفَ في وجوهِهم، والتعالُمَ أمامهم، وردَّ ما يقولون لكم من الحقِّ؛ فإنَّ عاقبة ذلك الخسرانُ في الدنيا والآخرة، وويلٌ لأمةٍ يَتَنَكَّر دهماؤها لعلمائِها، ويَسخرُ شبابُها بشيبِها، واللهُ يقولُ الحقَّ وهو يهدي السبيل.
"
(حديث إلى ممدوح وغير ممدوح)
يُطالِعنا بين الحينِ والآخر كَتَبَةٌ مستصحفون بكتاباتٍ فجَّة، فيها الكثيرُ مِن الاستعلاء والغطرسة، المُنْبِئَة عن ضعفٍ في العلمِ والثَّقافة، وسقمٍ في العقل، وضحالةٍ في التفكير، وقد غَرَّهم أنَّ صحافةَ اليومِ المختطَفة، المُمْسِك بزِمامِها المتخرِّجون من الأقسام الرِّياضيَّة بشهادات دُنيا، قد فَتَحَتْ لهم أبوابَها، وهَيَّأَتْ لهم صفحاتِها وأعمدتِها؛ ليُشخبطوا فيها، ويملؤوها بشخبطاتهم، تلك التي يُرَدِّدُونها فيها ببغائيَّةٍ مَقِيتَةٍ، مصطلحاتٌ لا يفهمون معانيَها، ولا يُدرِكون كُنْهَها؛ كالإقصاء، والأدلجة، والتَّشدُّد، والتَّطرُّف، وهلُمَّ جرًّا.
مصطلحاتٌ سمعوا بها من أساتِذتِهم الذين سَبَقوهم إلى مَيْدان العداء لكل ما هو دينيٌّ، فأخذوا على أنفسِهم عهدًا بأنْ يقفوا في وجهِ كلِّ داعٍ إلى هدًى ومعروفٍ وخيرٍ، وصلاحٍ ورشاد، أو نَاهٍ عن منكرٍ وشرٍّ، وضلالٍ وفسادٍ، فَتَراهم يَتَنادَون للقيام بهذه المُهمَّة الشَّيْطانيَّة، ويتواصَون بالعمل في هذا السبيل، بلا كَلَلٍ ولا مَلَلٍ، يكتبون بأسلوبٍ ركيكٍ، ولُغةٍ سَمِجة، كتاباتٍ هشَّةً ضَحْلة، قبيحةَ العبارة والمعنى معًا، ثم لا يَلبَثُ أحدُهم - وقد تَقَيَّأ ما كَتَب - أن تَنْتَفِخَ أوداجُه، ويَتَثَنَّى عِطفاه؛ إعجابًا بما كَتَب، وانتفاخًا وزَهْوًا بما سطَّرتْهُ أنامِلُه في هذه الصحيفة أو تلك، ولَعَمْرُ الحقِّ إنَّ ما كَتَبَه لَشَيءٌ يستحيي منه العقلاءُ، ويَخجلُ منه الأسوياء.
ولكن هؤلاءِ الأُغَيْلِمَةَ المساكينَ يَنقُصُهم الكثيرُ من الأدب: أدب النفس، وأدب الخطاب، وأدب إنزال الناس منازلَهم، ترى الواحدَ منهم يُخاطِبُ شيخًا جليلًا، قد شاب فؤادُه في الإسلام، عُضوًا في هيئة كبار العلماء، وكأنَّه يُخاطِبُ حمَّالًا في سوق الخضار، أو فحَّامًا في سوق الفحم والحطب، يُخاطِبُه بعنجهية وكبرٍ، وانتفاخِ أوداجٍ، غيرِ مقِيمٍ لعلمِه، أو كِبَر سنِّه، أو فضله، أو مكانته الاجتماعية - وزنًا، فهلَّا تعلَّم أولئك الكَتَبَةُ من غِلمان بلادنا الأدبَ قبل أن يكتبوا حرفًا واحدًا! وكيف تسمح هذه (الجرائد) بإشاعة قلَّة الأدب في مجتمعنا؟! بل كيف تُسهِمُ هي ذاتُها في صناعة قلَّة الأدب تلك، وتعميقها وتجذيرها عن طريق فتح الباب على مصراعيه لهؤلاء الصبية الأحداث؛ ليشخبطوا بها، ويُسوِّدوا صفحاتِها وأعمدتِها بترهاتهم وخزعبلاتهم، وما شئتَ بعدُ من تسميات؟!
لا يكادُ المرءُ يُصدِّقُ ما يَحدُثُ في بلادنا من تَنَكُّر فئةٍ من شبابنا لدينِهم ووطنِهم عبرَ كتاباتٍ مسمومة، لا تَخدمُ إلا أعداءَ دينِنا وبلادِنا، ولا يكادُ المرءُ يُصدِّقُ كذلك ما تنتَهِجُه بعضُ صُحُفِنا وجرائدنا من فكرٍ مناهضٍ لشريعة ربِّنا، ومناقضٍ لهُويَّتِنا، وضاربٍ عُرْضَ الحائط بكل قِيَمِنا وأخلاقِنا الإسلامية العظيمة.
إذ كيف يَحدُثُ هذا في موئل الإسلام ومنبعِه ومشرق نوره؟!
كيف يَحدُثُ هذا في مَعْقِلِ التَّوحيدِ، وبلاد الحرمين، وأرض القداسات؟!
بل إنَّ السؤالَ الأهمَّ هو الذي يقول: كيف يَحدُثُ هذا كلُّه؛ أعنِي: هذا الهزء والسخرية بشعائر الله - تعالى - ومعالم دينه، والصالحين من عبادِه وأوليائه، والدعوة لكلِّ ما لا يَتَّفِقُ مع شريعة الله الغرَّاء، ومَحَجَّتِه البيضاء التي تَرَكَنا عليها رسولُ الله - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - وإظهار الامتعاض والتَّذمُّر من كلِّ خيرٍ ودعوةٍ إليه، ومِن كلِّ معروفٍ وأمْرٍ به، ومِن إبداءِ الإعجابِ بكلِّ مُلحِدٍ صفيقٍ، وعلمانيٍّ مُتَنَكرٍ للدِّين والملة، من أدباءَ وشعراء وَروائِيِّين، وغيرهم، في الوقت الذي يُسَبُّ فيه الأخيارُ والصالحون، المنافحون عن دينهم، المحتسِبون بالدفاع عن شريعتِهم وأخلاقِ مجتمعِهم، الخائفون من غَرَقِ السفينة بِمَن فيها إذا كَثُرَ الخَبَثُ، وقد كَثُر؟!
أَجَل، كيف يَحدُثُ هذا كلُّه في صحافَتِنا، ثم لا يَجِدُ مِن أهلِ الحلِّ والعَقد نكيرًا ولا اعتراضًا؟! إلَّا ما يكون بين الحينِ والحينِ من نُصحٍ خافِتٍ، وتوجيهٍ غايةٍ في الرِّقَّة؛ خوفًا على أولئك المستصحفين والمُمْسِكِين بزِمامِ (جرائدنا) من أنْ تَنْكَسِرَ قوارِيرُهم، أو تُخْدَشَ نعومتُهم، أو تَتَأثَّر نفسيَّاتُهم.
إنَّ الأمرَ قد بَلَغَ مَدَاه، وهذا التَّنكُّر من صحافَتِنا لقيمِ المجتمع، ومحاولة زجِّه في أتُّون الضَّلال والانحرافِ، والسُّقوط في البُؤَر التي سَقَطَ فيها مَن قَبلَنَا، وذاقوا ويلاتِها، ونَدِموا على السُّقوط فيها - وَلاتَ ساعةَ مندمٍ - مِن اختلاطٍ وسُفورٍ وتبرُّجٍ، وقيادةٍ للسيارةِ من قِبَلِ المرأة، وسينما ومسرحٍ، وما إلى ذلك مِمَّا يَرفُضُه الشَّرعُ الحكيمُ، والعقلُ القويمُ، والنظرُ المستقيمُ - سيؤدي بنا إلى ما لا تُحمَدُ عُقباهُ، من غضب ربِّنا، وسوءِ مُنْقَلَبِنا، وشقاءِ حالنا ومآلنا.
هذه مقدمةٌ لِمَا أُريدُ أنْ أتحدَّثَ عنه هنا بصفةٍ خاصَّةٍ، مما يَدخلُ في باب قلَّة الأدبِ التي أشرتُ إليها في الأسطر السابقة، وهو عبارةٌ عن مقالٍ من العيِّنَة نفسِها المليئة بقلَّة الأدبِ مع عالِمٍ عَلَمٍ، وشيخٍ فاضلٍ، عضوٍ بهيئة كبار العلماء، أَخَذَ ثُلَّةٌ من أُغَيْلِمَةِ صحافتِنَا يُسِيئون الأدبَ معه، ويَسخَرون منه؛ لأنَّه وَقَفَ لإساءَتِهم للدِّين بالمرصاد؛ يَرُدُّ عليهم، ويُفَنِّدُ أضالِيلَهم وضلالاتِهم، ويَرُدُّهُم إلى حِيَاض شريعَتِهم التي تَنَكَّرُوا لها، وجَعَلُوا يُسِيئُون إليها، ومِن هؤلاءِ (ممدوح المهيني) الذي ردَّ على هذا الشيخ الجليل بأسطرٍ ليس فيها شيءٌ من العلم، أو الأدب على الأقلِّ، في جريدة الرياض ص 28، من العدد (14961)، الصادر يوم الأربعاء 17/ 6/ 1430.
وقد صدَّرَ (المهيني) ما سمَّاه - وسمَّتْه الجريدةُ معه - ردًّا على فضيلة الشيخ صالح الفوزان، بعبارةٍ مليئةٍ بسوءِ الأدبِ مع هذا الشيخ الفاضل، الذي هو في مَقَام والِدِه؛ حيثُ قال: ردُّ الشيخ صالح الفوزان عضو هيئة كبار العلماء، الذي جاء بعنوان: الولاء والبراء من أصول عقيدتنا، على مقالي: كن فأر تجارب، كان عبارةً عن رسالة مليئةٍ بالاتهامات، والإقصاء، وسوءِ الفهم، وكلُّ ذلك كان قائمًا على أساسٍ غيرِ صحيح.
ومع ما في هذه العبارات من قلَّة الأدب مع أحد علمائنا الكبار، حيثُ يَصِفُهُ هذا المستصحفُ بسوء الفَهم، إلا أنني سأتجاوزُها إلى ما هو أخطرُ، حيثُ يقولُ: من المؤسفِ أنْ يَستخدمَ الشيخُ الفوزان ذات الآيات التي يَستخدمُها المتطرفون من أديانٍ أخرى، الذين يصفون الإسلام بدين العنف والكراهية، إلى أن يقول: ولكن هناك آيات أكثر بكثير من آيات العداء موجودة في هذه الكتب - وفي القرآن تحديدًا - التي تَحُثُّ على التَّعايُشِ والتَّسامح، والسلامِ وعدم الإكراه، ولكنَّ الشيخَ الفوزان - ولا حتى (جيري فالويل) وغيره - يذكرونها أبدًا.
القراءة التاريخية للآيات القرآنية، تقرأ النصوص الدينية اعتمادًا على وقتها وظرفها، عندما كان هناك عداءٌ بين أصحاب الأديان المختلفة، ولكنَّ كلَّ ذلك انتهى الآن، فالمسلمون يتعايشون مع غيرهم في كلِّ مكانٍ بسلامٍ وأمان.
فهذا (المهيني) يجعلُ الشيخَ الفوزان مع (جيري فالويل، وبوب جونز) في مرتبةٍ واحدة، ويُشبِّهُهُ بهما، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنه يتَقَمَّصُ دورَ العالِم الجهبذ، المفسِّر الفقيه، فيُقَرِّرُ - أصْلَحَه اللهُ - أنَّ للقرآن الكريم عدةَ قراءاتٍ، ومنها القراءةُ التاريخيَّةُ للآيات القرآنيَّةِ، تقرأ النصوص الدينية اعتمادًا على وقتها وظرفها.
ويَستخلِصُ بناءً على قراءته التاريخيَّةِ تلك: أنَّه لا عداءَ الآن بين أصحاب الأديان المختلفة، فكلُّ ذلك العداءِ انتهى الآن، هكذا بِجرَّة قَلَمٍ أنْهَى (ممدوح المهيني) كلَّ عداءٍ بين الأديانِ المختلفة، وقرَّر أنَّ المسلمين أصبحوا يَتَعايَشُون مع غيرِهم في كلِّ مكانٍ بسلامٍ وأمانٍ، وأنَّ عددَ المسلمين في أوربا - فقط - يقاربُ خمسةَ عَشَرَ مليونًا، وأَوَدُّ أنْ أسألَ هذا (المهيني) عدةَ أسئلةٍ تتعلَّقُ بما قرَّره من انتهاء العداءِ بين المسلمين وغيرِهم؛ عَلَّهُ يتراجعُ عن هذه الأغلوطة الكبرى، التي تدلُّ على أحد شيئين، كلُّ واحدٍ منهما أقبحُ من الآخر: إمَّا الجهلُ المُطبقُ بواقع الحال، بعد الجهل الأكثر إطباقًا بنصوصِ الكتاب العزيز والسُّنَّة المطهَّرة، وإمَّا الانخداعُ بالمكرِ الكُفْرِيِّ المتعاظِمِ، الذي يقلبُ الحقائقَ، ويُزورُ التاريخ، ويُريدُ أن يُحوِّلَنا - نحن المسلمين - إلى قطيعٍ من الأنعام لا نَفْقَهُ كتابًا ولا سُنَّةً، ويَخدَعنا بهذه المسمَّيَات الحمقاءِ الكاذبةِ، كالتَّعايُشِ والتَّسامُحِ، والسلام والمحبة... إلخ.
وإلا فما هي الإجابةُ عن مثلِ هذه الأسئلة؟
هل يدل ما يُمارِسُه الغربُ الكافرُ من التَّقتيل، والاحتلال، والبطش، ونهب الثروات بكثير من الدول الإسلامية؛ كأفغانستان، والعراق، والسودان، والصومال، وغيرِها - على انتهاء العدوان بين المسلمين وأعدائهم؟!
هل يدلُّ ما يُمارِسُه اليهودُ في فِلسطِينَ المحتلةِ بحقِّ إخوتنا الفلسطينيين من قتلٍ، وتدميرٍ، وتجريفٍ، وهدمٍ للمنازل على رؤوسهم صباحَ مساءَ، وتهجيرٍ، وبطش، وتنكيلٍ، يُعِينُهُم الغربُ الكافرُ المتآمرُ بأسلحتِه وقراراتِه، وصمْتِه وسكوتِه على جرائمهم في أقل الأحوال - على انتهاء العدوان بين المسلمين وأعدائهم؟!
هل يدلُّ ما يُمارِسُه الهنادكة في الهند، وكشمير، ونيبال، وغيرِها، ضدَّ إخواننا المسلمين هناك - على انتهاء العدوان بين المسلمين وأعدائهم؟!
هل يدلُّ ما جَرَى لإخوتنا المسلمين في البُوسْنَة والهرسك، وإقليم كوسوفا في وسط أوربا الديمقراطية، من قِبَلِ الصِّرب وحلفائهم الأوربيين النصارى الحاقدين - على انتهاء العدوان بين المسلمين وأعدائهم؟!
ماذا أُعدِّدُ لَكَ أيُّها العبقريُّ الذي أنْهَيتَ العدوانَ بين المسلمين وغيرِهم بِجرَّة قَلَم منك، متجاهلًا هذا السيل الدَّفَّاق من دماء المسلمين، التي تسيلُ ليلًا ونهارًا، وتَجري صباحًا ومساءً على أيدي أعدائِهم من كلِّ مِلَّةٍ ودينٍ، بلا رحمةٍ ولا شفقةٍ؟! وصَدَقَ اللهُ العظيمُ الذي وَصَفَهم بقولِه: ? لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً ? [التوبة: 10].
لكنَّ مصيبَتَنا فيكم أيُّها المستصحفون المُتعالِمُون، الذين تُدْخِلُون أنفسَكم فيما لا علمَ لكم به، أو أنَّكم تَتَعَامَونَ عن هذه الحقائقِ الكبرى الواضحة للعيان؛ إرضاءً لأسيادِكم الذين يَطعنوننا باليَدِ اليمنى، ويَمُدُّون لنا اليدَ اليسرى، من قبيل الضَّحك علينا، والاستغفال لنا.
وهل نسيتَ ذاك الثورَ الهائج الذي سَكَنَ (البيت الأسود) ثماني سنوات، حين كذَّبك وأمثالَك ممن يدَّعِي انتهاءَ العداءِ بين المسلمين وغيرِهم؟! فَقَالهَا صريحةً مُدَوِّيةً في خطابٍ سمِعَهُ الملايينُ بأنها (حربٌ صليبيَّةٌ)، فأين كان سمعُك وقتَذَاك؟! هو يقول: حربٌ صَليبيَّةٌ، وأنت تقول: انتهى العداء بين المسلمين وغيرهم.
إنَّ عجبي لا ينتهي ممن يريدُ أنْ يكونَ غربيًّا أكثرَ من الغربيِّين أنفسِهم، وقبل ذلك كله فإنَّ استمرارَ ذلك العداءِ ثابتٌّ بنصٍّ قرآنيٍّ، هو قولُه تعالى: ? وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا ? [البقرة: 217].
وأخطرُ من ذلك أيضًا ما تَفَوَّهَ به هذا المستصحفُ من قولِه: المؤسفُ أنَّ الشيخَ الفوزان ينطلقُ من هذه الرؤية القديمة، التي تَجَاوزها التاريخُ منذُ مدةٍ طويلةٍ، ويريدُ أن يفرضَها علينا، على الرغم من أنَّنا نعيشُ واقعًا مختلفًا جدًّا، وهو لا يتعارضُ مع القراءة الواقعية العقلانيَّة التي نعتمدُها، يا الله! هل يعِي هذا المسكينُ ما يقول؟! وهل يَفهمُ معنى ما يَتفوَّه به؟! إنه يقولُ كلامًا خطيرًا؛ بل خطيرًا جدًّا؛ لأنه يجعلُ الرؤيةَ التي يَنطلقُ منها الشيخُ الفوزان رؤيةً قديمةً تجاوَزَها الزمنُ، وهل الرؤية التي يَنطلقُ منها الشيخ الفوزان إلا الإسلام؟! إلا الكتاب والسنة؟! هل جاء بشيءٍ من عنده؟! فهل هذه الرؤيةُ المُنطلِقَةُ من الوحيَيْنِ رؤيةٌ قديمةٌ تجاوزها التاريخ؟!
اتَّقِ اللهَ أيُّها الكاتبُ المتعالِمُ المسكينُ، وفكِّرْ جيِّدًا في خطورة ما تقول، واستغفرِ اللهَ منه، وعُدْ إلى رشدِك، ولا يأخُذَنَّك الحماسُ إلى مَهَاوِي الرَّدى، ولا يستجرنَّك الشيطانُ إلى أنْ تقعَ تحتَ طائلةِ ما يَنهَى عنه الرسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بقوله: ((إنَّ الرجلَ لَيَتَكَلَّمُ بالكلمة مِن سَخَطِ الله لا يُلْقِي لها بالًا - وفي روايةٍ: لا يظن أن تبلغَ ما بلغتْ - يَهْوِي بها في النار سبعين خريفًا))، وفي روايةٍ: ((أبعد مما بين المشرق والمغرب))، أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
ثم مَن قال: إنه يُريدُ أنْ يَفرضَها عليك؟ إنه حفظه الله يُبَيِّنُ وجهَ الخطأ في كتابَتِك، ويُوَجِّهُكَ إلى الفهمِ الصحيح لِدِينِك؛ فإن أخذتَ بتوجيهاتِه ونُصحِه، فَبِهَا ونِعْمَتْ، وأنتَ المستفيدُ والمنتفع، وإنْ لم تأخذْ به فلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى، وقد أدَّى فضيلتُه ما عليه من واجبِ النصح والبيان.
ثمَّ تقرر أنَّكم تعيشون واقعًا مختلفًا جدًّا، وأنَّ هذا الواقعَ لا يتعارضُ مع القراءة الواقعيَّة العقلانيَّة التي تعتمدونها.
ولي أنْ أسألَ أوَّلًا: واقعكم هذا الذي تعيشونَه مختلفًا جدًّا، مع ماذا؟
هل هو مختلفٌ جدًّا مع تلك الرؤية التي ينطلقُ منها الشيخُ الفوزان؟ إنْ كان كذلك، فيا لخسارَتِكم! ويا لسُوءِ واقعِكم! لأنَّه حِينَئِذٍ يختلفُ مع الإسلامِ، باعتبارِ أنَّه هو الذي ينطلقُ منه الشيخُ الفوزان، وكلُّ مسلمٍ مثل الشيخِ الفوزان، وأُعِيذُكَ بالله أنْ تقصدَ ذلك أو ترمِي إليه.
وإنْ كان مختلِفًا جدًّا مع شيءٍ آخرَ غيرِ ذلك، فقد كان الواجبُ عليك أنْ تُوضِّحَه وتُبَيِّنَه؛ لتُبْعِدَ عن نفسِك تلك التهمةَ الخطيرة.
أما ما قَرَّرْتَه أيُّها الفَتى النِّحْرِيرُ من أنَّ التعايُشَ والتسامُحَ لا يَعنِيان أنْ نَتَخلَّى عن شيءٍ من ديننا، فََلَيْتَ الأمرَ كان كذلك، وهذا هو الواجبُ والأصلُ، لكنَّ الواقعَ بخلاف ذلك، فقد أدَّيَا - أعني: التعايشَ والتسامحَ - إلى أنْ يَتَخَلَّى كثيرٌ منَّا عن دينِهم، ويَتَنَكَّروا له، ويَنسَاقوا - بوعيٍّ حينًا، وبلا وعيٍّ أحيانًا - في ركاب أعدائهم؛ محبةً لهم، وتقليدًا لطرائقِ عيشِهم وأوجُهِ حياتِهم، حتى في تربية الكلاب والعناية بها؛ بل ما هو أهمُّ وأعظمُ وأخطرُ من ذلك.
ولا تَنخَدِعْ بالمظاهر السَّطحيَّة مما تراه من بعضِ القومِ من مُجاملاتٍ لا تَتَعَدَّى الشَّكلَ الخارجيَّ، بل غُصْ إلى الأعماقِ؛ لترَى حقدًا دفينًا على الإسلام والمسلمين، وعداءً مُتَوَارَثًا من أتباع كلِّ الأديانِ الباطلةِ تقريبًا، من يهود، ونصارى، ووثَنِيِّين، للإسلام وأهلِه.
إنَّ هذا العداءَ الذي تُنكِرُه أنت وأمثالُك حقيقةٌ قرآنيَّةٌ لا تَقبلُ الجدل، لقد قرَّرَها القرآنُ؛ فلا مجالَ للأخذ والرَّدِّ فيها، وها هي آياتُ الله الغضَّةُ الطَّريَّةُ، التي كأنَّما أُنزِلَت البارحة، تُقَرِّرُ ذلك في وضوحٍ وجلاءٍ، فارجعوا إليها وتدبَّرُوها، وافهموا مرامِيَها وما تدلُّ عليه بفَهمِ السَّلف الصالح - رضي اللهُ عنهم - لا بِفَهمِ (العصرانِيِّين) و(التَّنوِيرِيِّين) و(العقلانِيِّين)، وما شئتَ بعدُ من تسميات.
كيف تَنْفُون ما أثْبَتَه اللهُ؟! وكيف تُنْكِرون ما قرَّرَه اللهُ؟! وكيف تُرِيدون هدمَ الجدار الذي أقَامَه اللهُ بين الكفرِ والإسلام إن كنتم تعقلون؟!
ثم يُضيفُ الكاتبُ: يَتَحَكَّمُ بتفكِيرِ الشيخِ الفوزان قيمةُ العداءِ والبغضاء، فكرَّر كلمةَ كافرٍ ? مرات في ردِّه القصير، الأمرُ الذي يَجعَلُه يَرى العالَمَ منقسِمًا بين المسلمين والكفار.
ويَكفِيني في نقدِ عبارتهِ تلك والردِّ عليها:
أنَّ ما يأخذُهُ هذا الكاتبُ على فضيلة الشيخ الفوزان من كونِه يتحكَّمُ بتفكيره قيمةُ العداء والبغضاء لكلِّ ما هو عدوٌّ لله ورسولِه والمؤمنين، وأنَّه لا يرى العالَمَ إلا مسلمين وكافرين - هو ما يُقَرِّرُه الله في كتابه الكريمِ في وضوحٍ وجلاءٍ، من أنَّ الناسَ كلَّهم حزبان لا ثالثَ لهما؛ ? أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ? [المجادلة: 22]، ? أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ ? [المجادلة: 19]؛ فهما حزبان لا ثالثَ لهما، ومعلومٌ أنَّ الحزبَ الأوَّلَ، الذي عبَّر عنه القرآنُ الكريمُ بأنَّه حزبُ الله، يُمثِّلُ المسلمين، وأنَّ الحزبَ الثاني، الذي عبَّر عنه القرآنُ الكريمُ بأنَّه حزبُ الشيطان، يُمثِّلُ الكافرين من كلِّ لونٍ وجنسٍ ودينٍ، وهذان الحزبان هما اللذان سَيَؤُولان يومَ القيامة إلى فريقين: فريقٌ في الجنة، وفريقٌ في السعير.
فكيف تأخُذُ على الشيخ أَخْذَهَ بما قرَّره القرآنُ؟! وكيف تُنكِرُ عليه انطلاقَه من القرآن أيُّها الكاتبُ المسكين؟!
إنَّ مشكلَتَكم الكبرى أنتَ وأمثالك من هذه النَّاشئة من شبابِنا الذين فَتَحَتْ لهم الجرائدُ أبوابَها، لتكتُبوا فيها بهذه الغُثَائيَّة والضَّحالة - هي أنَّكم ضعيفون إلى حَدِّ العوزِ والفاقةِ في العلم الشرعيِّ، والثقافةِ الدينيَّة، فتُدخِلُون أنفسَكم في بحرٍ خِضَمٍّ لا تُجِيدون السباحةَ فيه، ولا الغوصَ في أعماقِه، وهي مشكلةُ زمنِنا هذا، الذي صار كلُّ مَن قرأ روايةً، أو ديوانًا، أو كتابًا هَشًّا - كاتبًا كبيرًا، وعالِمًا نِحْرِيرًا، فغرَّتْه نفسُه، وخَدَعَه مستخدِمُوه، وجَعَلَوه مَطِيَّةً لبلوغِ أهدافٍ يَرمُون للوصول إليها، فَفَتَحوا له أبوابَ جرائدِهم ومجلاتِهم، يَدْلِفُ إليها بلا استئذانٍ، ويكتبُ فيها ما يفهمُ وما لا يفهم، المهمُّ أنْ يُصادِمَ نصوصَ الوَحْيَيْنِ، وأنْ يُهَاجِمَ تعاليمَ الكتابِ والسُّنَّةِ، ورموزَ العلم والصلاح والإصلاح من العلماء وأهلِ الفضلِ، فتلك مؤهلاتُ الكاتبِ ليتقدَّمَ ويعلوَ شأنُه في صحافة هذا الزمن الرديء.
وها هو الكاتبُ الفَذُّ يمضي في جهله بنصوص الشَّريعةِ، فيقولُ مستنكرًا: وحتى داخل الطائفة الواحدة هناك انقسامٌ بين الفِرَق؛ فهناك فِرقةٌ صحيحةٌ واحدةٌ، ومئاتُ الفِرَق الخاطئة، أليس بهذا يَرُدُّ الحديثَ الصحيحَ الذي يُخبرُ فيه الرسولُ - عليه الصلاة والسلام - عن افتراق اليهود إلى إحدى وسبعين فِرقةً، وافتراقِ النصارى إلى اثنتين وسبعين فرقةً، وأنَّ هذه الأمةَ سَتَفْتَرِقُ إلى ثلاثٍ وسبعين فرقةً، كلُّها في النار إلا واحدةً، فلمَّا سُئِل عنها صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أَخبرَ أنَّها: ((مَن كان على مثلِ ما أنا عليه اليومَ وأصحابي))؛ أي: إن هناك فرقةً واحدةً صحيحة، وفِرقًا كثيرةً خاطئة؟!
ثُمَّ يُعقِّبُ الكاتبُ بكلامٍ خطيرٍ كالذي سَبَقَه، فيقول: مثلُ هذه الثقافةِ - بالإضافة إلى معارضتِها للتَّطوُّر العقليِّ - هي أيضًا سببٌ - كما يُثْبِتُ التاريخُ والواقعُ - في تمزيقِ الأوطان، ولا معنى لهذا الكلام حَسْبَمَا يفهَمُهُ العقلاءُ إلا أنَّ الثقافةَ التي تقولُ وتُقَرِّرُ أنَّ البشرَ نوعان لا ثالثَ لهما: مؤمنٌ مسلمٌ، وكافرٌ، وأنَّ الفِرقةَ الناجيةَ ذاتَ المنهج الصحيحِ واحدةٌ فقط، وهي هنا ثقافةُ الإسلام، ونصوصُ الوَحْيَيْنِ - ثقافةٌ تُعارِضُ التطورَ العقليَّ، وتسبِّبُ تمزُّقَ الأوطان، فأيُّ إساءةٍ للإسلام أعظمُ من هذه الإساءة؟! وأيُّ اتِّهامٍ للإسلام وثقافتِه وتعاليمِه بما هو منه براءٌ أعظمُ من هذا الاتهام؟! ومِمَّن؟! مِن مسلم ينتمي إلى وطنِ الإسلام، وأهلِ الإسلام، فلا حولَ ولا قوةَ إلا بالله العليِّ العظيم!
ولا يكادُ ينتهي عُجَرُ (المهيني) وبُجَرُه، فها هو يقولُ: يتجاهلُ الشيخ الفوزان أيضًا مثلَ هذه الدعواتِ التي انتقدَها في المقال، كانت هي التي رسخَّتْ ثقافةَ التطرُّف، وكانت الوَقودَ الذي أشعلَ نارَ الإرهابِ بشبابنا في كلِّ مكانٍ، وتحديدًا في بلادنا.
وغايةُ ما يُرَدُّ به على هذه العبارات الركيكة وغيرِ المتراكبة أنْ يقالَ: إنَّ الذي رسَّخ ثقافةَ التطرُّف، والوَقودَ الذي أشعلَ نارَ الإرهاب، هو هذا التطاولُ منكم على نصوص الوحيين، ومصادمتها وتفسيرها حسب أهوائِكم، حيثُ يُشعِلُ ذلك نارَ الحماسة في صدورِ شبابِكم المؤمنِ، الذي يفتدِي دينَه بنفسه وبكلِّ ما يملِكُ من غالٍ ونفيس، ومن هنا؛ تدفعونهم بما تفعلون من تلك المصادمةِ، والتَّنكُّر، والمواجهةِ للدين ونصوصِه وعلمائه دفعًا لأنْ يَشتدُّوا عليكم، ويتطرَّفوا في مواجهتِكم، فلا تلومُوهم ولُومُوا أنفسَكم؛ لأنَّكم أنتم البادئون، والبادئُ أظلم، ولا ترموا غيركم بدائكم، فينطبق عليكم المثل القائل: رمتني بدائها وانسلَّت.
وأخيرًا:
يقولُ كاتبُنا - أصلحه الله -: إنَّ اختزالَ علماءِ المسلمين بشخصٍ واحدٍ، أو رأْي واحد، هو أمرٌ لا يَنسجِمُ مع المنطقِ العقليِّ فحسب، ولكنَّه يقدِّم نفسَه المفسِّرَ الوحيدَ لكلام الله - تعالى - وهذا الاحتكارُ النهائيُّ بات أمرًا غيرَ مقبولٍ على الإطلاق.
ولا شكَّ أن الاختزالَ الذي ذَكَرَه غيرُ صحيحٍ، ونحن معه في تقرير أنَّه لا وصايةَ لأحدٍ على الإسلام، ولا يمكنُ أنْ ينحصرَ الأمرُ في عالِمٍ واحدٍ؛ إذْ كلٌّ يُؤخذُ مِن قولِه ويُرَدُّ، إلَّا رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولا يمكنُ أنْ يُقَرَّ أحدٌ على احتكار العلم بالشريعة ونصوصِها، لكن ليس معنى ذلك أنْ يُفتحَ البابُ على مصراعَيْه لكلِّ مَن هَبَّ ودَبَّ ليتكلمَ في الشريعة ونصوصِها، فلا يلزمُ من تقرير الأول، تقرير الثاني أبدًا، وإنما الشريعةُ ونصوصُها سياجٌ لا يجوز أن يقتحمَه إلا أربابُ العلم الشرعيِّ، المتمكِّنون من فهمِ قواعد الشريعة ومرامِيها، وأهلُ الفَهم الصحيح لمراد الله - تعالى - ممن نوَّرَ اللهُ بصائرَهم ورزقَهم الفهمَ السليمَ، والدراية التامة بالكتاب والسنة، بعد جثو على الركب، وإمضاء للأعمار المباركة في حلق العلم، والتعلم على الأشياخ والأئمة الموقِّعين عن رب العالمين جلَّ جلالُه.
إنَّ مثلَ هذه العباراتِ التي يُطلِقُها بعضُ الكُتَّابِ المستصحفين عباراتٌ فَضفاضةٌ، وهي أشبهُ بكلمةِ الحقِّ التي يُرادُ بها الباطلُ، فلا ينبغي أن تنطلي على القارئ الفَطِنِ، فهم يقولون: إنَّه لا وِصاية لأحد على الإسلام، ولا يجوزُ أن يحتكرَ الكلامَ في الدين أحدٌ؛ لأنَّ الدينَ للجميع، وهم يَقصدون بذلك أنْ يُفتحَ البابُ لكلِّ واحدٍ ليُقرِّرَ ما يراه هو، لا ما تراه الشريعةُ، وما يُريدُه هو، لا ما يُريده الدين، ومِن أعجبِ العجب أنَّ الدين فقط هو الذي يُجوِّزون استباحتَه مِن كلِّ أحدٍ، والحديثَ فيه وفي نصوصِه مِن قِبَلِ مَن عَلِم ومَن جَهِل، ومَن عَرَف ومَن لم يعرفْ، بينما التَّخصصاتُ الأخرى يَستنكِرون أشدَّ الاستنكارِ الخوضَ فيها ممن لا يُتقِنُها ولا يَعلمُ تفاصيلَها، كالطِّبِّ، والهندسة، والاقتصاد، وغيرِها، فأيُّ الأمرين أخطرُ وأعظمُ أثرًا: الكلام في الدين وأصولِه وفروعِه ممن يَجهلُها، أم الكلام في أمور الدنيا الأخرى؟!
وختامًا:
لمقالِه الذي رَدَّ به على فضيلة الشيخ الفوزان يقول (ممدوح المهيني): مِن حقِّ الشيخ صالح الفوزان أنْ يؤمنَ بالأفكار التي يُريدُها ويدعو لها، كما مِن حقِّ أيِّ أحدٍ أنْ يَنتَقِدَها ويدعو للأفكار التي يراها صائبةً، لكنْ ليس من حق الشيخ الفوزان أن يهدد بعصا الله بأن يَطرُدَنا من رحمته؛ لأنَّه لا أحدَ يُمكِنُه الآن - بعد أن سقطت فكرةُ الوصاية - أن يلعبَ دورَ المفوض من الله.
ولستُ أدري: لِمَ يفترضُ هذا الكاتبُ وأمثالُه معركةً بينهم وبين العلماء الفضلاء، الذين يُريدُون لهم الخيرَ، فيُوجِّهون لهم النصيحةَ؛ إعمالًا لأمر نبيِّهم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في قولِه: ((الدينُ النصيحةُ))، قلنا: لمن يا رسولَ الله؟ قال: ((لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم))؟!
لماذا تفترضون أنَّ العلماءَ يُرِيدُون الوِصاية عليكم، وهم لم يدَّعوها؟! ومَن مِن علمائِنا قديمًا أو حديثًا قال: إنه مفوَّضٌ من الله، ويَملِكُ أن يطردَ الناسَ من رحمة الله؟!? كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا ? [الكهف: 5]، ومع اعتراضي على عبارة عصا الله - تعالى اللهُ وتقدَّس - إلا أنَّني أُطَمْئِنُك وأمثالك بأنَّ الشيخ الفوزان وسائرَ علمائنا لا يُهدِّدون أحدًا، ولا يَطرُدون أحدًا، وليسوا في معركة مع أحدٍ.
وإنما هم قومٌ قد فهموا دينَهم وفَقِهُوه وأدركوا مراميَه، فَهُم يعملون بنصوصه؛ دعوةً إليه، وبيانًا لأحكامه، ونصحًا للأمة، وتذكيرًا للناس، وتنبيهًا للغافل، وتعاونًا على البرِّ والتقوى، فَمَن استَمَعَ وأصاخَ، وقَبِلَ وأذعَنَ للحقِّ، فهو على نورٍ من ربِّه، وما نَفَعَ إلا نفسَه، ومَن ردَّ الحقَّ، واستَكبَرَ عنه، ولم ينتفعْ بنصحهم، ولم يسمعْ لقولِهم، فإنما يَجنِي على نفسِه، وهم بُرَآءُ مما أوقع نفسَه فيه من المخالفة، بعد أن دَعَوا وبيَّنُوا، وأمرُوا ونهَوا، ومَن عادَاهم، ووقع في أعراضِهم، وأساء إليهم، وتَهَجَّم عليهم، فهو على خطرٍ عظيمٍ، وقد عرَّضَ نفسَه لِمَا لا قِبَلَ لها به؛ فالعلماءُ أهلُ خشيةِ الله؛ ? إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ? [فاطر: 28]، وهم أهلُ رضوان الله، حتى إنَّ الله قد أخضعَ لهم ملائكَتَه، التي تضعُ أجنحَتَها لطالب العالم؛ رِضًا بما يصنعُ، وهم الذين يَستغفرُ لهم كلُّ شيءٍ، حتى الحِيتانُ في الماء، وهذا كلُّه ثابتٌ بنصوصٍ صحيحةٍ من أحاديث المصطفى - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
فاحْتَرمُوهم - معاشرَ الكُتَّاب - ووقِّرُوهم، واطلبوا العلمَ على أيدِيهم، واقبلوا نصائِحَهم، واعمَلُوا بتوجيهاتهم، ولا يَغُرَّنَّكم قريبٌ أو بعيدٌ يُحَسِّنُ لكم الوقوفَ في وجوهِهم، والتعالُمَ أمامهم، وردَّ ما يقولون لكم من الحقِّ؛ فإنَّ عاقبة ذلك الخسرانُ في الدنيا والآخرة، وويلٌ لأمةٍ يَتَنَكَّر دهماؤها لعلمائِها، ويَسخرُ شبابُها بشيبِها، واللهُ يقولُ الحقَّ وهو يهدي السبيل.
"
الأقسام الرئيسية
الأكثر مشاهدة من نفس التصنيف
الأحاديث القصار 200 حديث من الصحيحين
2022-06-20
بين الرأي والشرع
7/18/2022
روعة الانتصار سرها (الآن)
7/18/2022
اقتضاء الصلاح الإصلاح
7/18/2022
الرأي الأخر
0