"يَجب الاعتراف أنَّ استِفزازات الأقليَّة العلمانيَّة الليبراليَّة، وعدوانيَّتها ومكائدَها - لا يَصْبِر عليْها إلا أولو العزْم من الرجال، ولا يُحْجِم عن الانْسِياق في الرَّدِّ الفوْري العنيف عليْها إلا من ثبتَتْ قدماه على مبادئِ العمل البصير، وانْخرط في سلك الدعوة الربَّانيَّة الهادئة.
وإنَّ العاقل ليكاد يفقِد رزانتَه، وهو يرى في كثيرٍ من البلاد الإسلاميَّة أقلِّيَّة متغرِّبة متفسِّخة، تستحْوِذ على الإدارة والاقتِصاد، وتُمسك بمقاليد الإعْلام، تَسخر من دينِنا ولُغتنا، وتتآمر على توجُّهات الشَّعب واختياراته، وتؤجِّج نار الفتنة، وتدق إسفين الفرقة، وتتبجَّح بالمساندة الغربيَّة السَّافرة، وقد أغْرى كلُّ ذلك فئةً من النَّاس، ركبها الحماس، فانبرتْ للمُنازلة، وهي على غير دراية كافية بخيوط المؤامرة، وموازين القوى، وأبْعاد المخطَّط العلماني المحبوك منذ مدَّة غير قريبة، فكان الاستِدْراج للرَّدِّ العنيف على المجموعة الحاكمة سلاحًا إضافيًا في يدِ تلك الأقلِّيَّة، تشوِّه به صورة الإسلام ودعاتَه ومشروعَه الاجتماعيَّ، كما حصل في الجزائر مع الأسف.
أجل، يصعب الصَّبر في هذه المواطن؛ ولذلك ينال الصابرون جزاءً لا نظير له؛ {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10].
وقد مرَّ بمثل هذه المحْنة موكب الأنبِياء الكرام، فتحلَّوا بالصَّبر بِمعناه الإيجابي المشتَمِل على عنصُرَي التَّحمُّل والسعْي من أجل التَّغْيير، فتحمَّلوا الأذى الماديَّ والنفسيَّ من الفئات التي أعْماها الصَّلف والرِّئاسة، والمكاسب الدنيويَّة، وواجهوا ذلك بالشِّعار الربَّاني المتألِّق: {وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُتَوَكِّلُونَ} [إبراهيم: 12].
ولم يكن الصبر ذلَّة وانْهزامًا، وإنَّما كان زادًا لعمل تغْييريٍّ دؤوبٍ عميقٍ شامل، من شأنِه اجتِثاث الدَّاء من أصله، فلمَّا صدق الربَّانيُّون في الصَّبر وفي السعْي، لم يعُدْ يَعنيهم تَهديد البغاة ووعيدُهم، بل كان ذلك آخِر تَخطيط لهؤلاء قبل البوار؛ {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [إبراهيم: 13]، بِهذه الوقاحة وهذا الصلف تُخيِّر الشرذمة الزَّائغة المعادنَ الأصيلة، بين التنازُل عن المبادئ والنَّفي، فما أشبهَ اللَّيلة بالبارحة!
لكن عند هذا الحدِّ من الطُّغيان والغطرسة تأخذ السنَّة الإلهيَّة مداها: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم: 13، 14].
جاء النصر إذًا وانقلبتِ الموازين لتأخُذَ وضعَها الطبيعيَّ، بعد مصابرة ومثابرة كان للدُّعاة فيها - كما هو مبيَّن في آيِ الذِّكْر الحكيم - استِمْساك وثيقٌ بِحبْل الله، وعملٌ واعٍ بصير على هدى من سُنن الله في الأنفُس والمجتمعات، وإعْراض واضح عن ردود الفعْل الآنيَّة، التي كثيرًا ما تُخالطُها حظوظُ النَّفس فتكون غيْر ذات جدْوى، أو تُفْضي إلى عواقبَ وخيمة، تُصيبُ الدَّعوة ورجالَها ورموزَها وجماهيرَها، واللَّبيب لا يعمِد إلى الصَّخرة الضَّخمة المتجذِّرة، يَضْرِب بالمِعْول لكسْرِها، ولا يستطيع، وإنَّما يجنح إلى إحاطتِها بالحفر العميق الكبير، فتَتَزحزح بعد ذلك بعناء قليل.
إنَّه عمل هادئ متواصل، وصبر ساعةٍ، ثمَّ يفرح المؤمنون بنصر الله، وتتجرَّع الحثالة الباغية غصص الخِزْي والنَّدم، وها هو ذا القرآن الكريم يصِف كيْد بطانة السوء، ثم يوجِّه المؤمنين بهذا الهدْي الرفيع: {وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران: 120].
نتعلَّم من سير موكب الأنبياء الكرام، الذي بيَّنه الله - تعالى - في كتابِه: أنَّ عواطف الإيمان ضروريَّة من غير شكٍّ، لكنها لا تنفع إلا إذا صُبَّت في إناء التَّربية الرَّبَّانيَّة، وأَبْردها العقل الحصيف المهتدي بِمعالم الكتاب والسنَّة، فذلك يحصِّن دعاة الإسلام من ردود الأفْعال، التي كثيرًا ما يستدْرِجُهم إليْها خصومُهم لينهكوا قواهم، ويشغلوهم بِمخططٍ، هم الذين وضعوه أساسًا لبلْبلةِ الصف المؤمن والإجهاز عليه، من خلال تصيُّد الأخطاء وتضخيم الهفوات وبثِّ الإشاعات، والعاقبة للمتَّقين بلا ريب، لكن من التَّقوى العمل وفْق سنن التَّغيير؛ {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [الأحزاب: 62].
وهذا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلَّم - يصبر في مكَّة على عداوة المُشْركين، وفي المدينة على كيْد المنافقين واليهود، ويرفُض الاسْتِدراجَ: ((لا أُريد أن يتحدَّث النَّاس أنَّ محمَّدًا يقتُل أصحابه))، والاستعجالَ: ((لقد كان فيمَنْ قبلكم يمشَّط بالأمشاط، ما بين لحمِه وعظمِه، لا يردُّه ذلك عن دينِه، ولكنَّكم تستعْجِلون))، ويضبط سير أصحابِه الكِرام بضوابط الشرع، فلا يجنحون إلى العمليَّات القيصرية، وإنَّما يصبِرون ويثبتون، ويضحُّون بالوقْت والمال والأهْل والأنفُس، حتَّى يتكوَّن جيلٌ ربَّاني يتولَّى بنفسِه هدْمَ الأصنام التي كان يعبُدها، مردِّدًا مع النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قولَ الله تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء: 81]، ولو بدؤوا بتكْسيرِ الأصْنام، كردِّ فعلٍ على تعْظيم المشركين لها، لما قامت للإسلام قائمة؛ قال الله تعالى: {وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [آل عمران: 120].
فهل من فِقْه عميق لِمعاني الصَّبر والتقوى؟
"
وإنَّ العاقل ليكاد يفقِد رزانتَه، وهو يرى في كثيرٍ من البلاد الإسلاميَّة أقلِّيَّة متغرِّبة متفسِّخة، تستحْوِذ على الإدارة والاقتِصاد، وتُمسك بمقاليد الإعْلام، تَسخر من دينِنا ولُغتنا، وتتآمر على توجُّهات الشَّعب واختياراته، وتؤجِّج نار الفتنة، وتدق إسفين الفرقة، وتتبجَّح بالمساندة الغربيَّة السَّافرة، وقد أغْرى كلُّ ذلك فئةً من النَّاس، ركبها الحماس، فانبرتْ للمُنازلة، وهي على غير دراية كافية بخيوط المؤامرة، وموازين القوى، وأبْعاد المخطَّط العلماني المحبوك منذ مدَّة غير قريبة، فكان الاستِدْراج للرَّدِّ العنيف على المجموعة الحاكمة سلاحًا إضافيًا في يدِ تلك الأقلِّيَّة، تشوِّه به صورة الإسلام ودعاتَه ومشروعَه الاجتماعيَّ، كما حصل في الجزائر مع الأسف.
أجل، يصعب الصَّبر في هذه المواطن؛ ولذلك ينال الصابرون جزاءً لا نظير له؛ {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10].
وقد مرَّ بمثل هذه المحْنة موكب الأنبِياء الكرام، فتحلَّوا بالصَّبر بِمعناه الإيجابي المشتَمِل على عنصُرَي التَّحمُّل والسعْي من أجل التَّغْيير، فتحمَّلوا الأذى الماديَّ والنفسيَّ من الفئات التي أعْماها الصَّلف والرِّئاسة، والمكاسب الدنيويَّة، وواجهوا ذلك بالشِّعار الربَّاني المتألِّق: {وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُتَوَكِّلُونَ} [إبراهيم: 12].
ولم يكن الصبر ذلَّة وانْهزامًا، وإنَّما كان زادًا لعمل تغْييريٍّ دؤوبٍ عميقٍ شامل، من شأنِه اجتِثاث الدَّاء من أصله، فلمَّا صدق الربَّانيُّون في الصَّبر وفي السعْي، لم يعُدْ يَعنيهم تَهديد البغاة ووعيدُهم، بل كان ذلك آخِر تَخطيط لهؤلاء قبل البوار؛ {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [إبراهيم: 13]، بِهذه الوقاحة وهذا الصلف تُخيِّر الشرذمة الزَّائغة المعادنَ الأصيلة، بين التنازُل عن المبادئ والنَّفي، فما أشبهَ اللَّيلة بالبارحة!
لكن عند هذا الحدِّ من الطُّغيان والغطرسة تأخذ السنَّة الإلهيَّة مداها: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم: 13، 14].
جاء النصر إذًا وانقلبتِ الموازين لتأخُذَ وضعَها الطبيعيَّ، بعد مصابرة ومثابرة كان للدُّعاة فيها - كما هو مبيَّن في آيِ الذِّكْر الحكيم - استِمْساك وثيقٌ بِحبْل الله، وعملٌ واعٍ بصير على هدى من سُنن الله في الأنفُس والمجتمعات، وإعْراض واضح عن ردود الفعْل الآنيَّة، التي كثيرًا ما تُخالطُها حظوظُ النَّفس فتكون غيْر ذات جدْوى، أو تُفْضي إلى عواقبَ وخيمة، تُصيبُ الدَّعوة ورجالَها ورموزَها وجماهيرَها، واللَّبيب لا يعمِد إلى الصَّخرة الضَّخمة المتجذِّرة، يَضْرِب بالمِعْول لكسْرِها، ولا يستطيع، وإنَّما يجنح إلى إحاطتِها بالحفر العميق الكبير، فتَتَزحزح بعد ذلك بعناء قليل.
إنَّه عمل هادئ متواصل، وصبر ساعةٍ، ثمَّ يفرح المؤمنون بنصر الله، وتتجرَّع الحثالة الباغية غصص الخِزْي والنَّدم، وها هو ذا القرآن الكريم يصِف كيْد بطانة السوء، ثم يوجِّه المؤمنين بهذا الهدْي الرفيع: {وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران: 120].
نتعلَّم من سير موكب الأنبياء الكرام، الذي بيَّنه الله - تعالى - في كتابِه: أنَّ عواطف الإيمان ضروريَّة من غير شكٍّ، لكنها لا تنفع إلا إذا صُبَّت في إناء التَّربية الرَّبَّانيَّة، وأَبْردها العقل الحصيف المهتدي بِمعالم الكتاب والسنَّة، فذلك يحصِّن دعاة الإسلام من ردود الأفْعال، التي كثيرًا ما يستدْرِجُهم إليْها خصومُهم لينهكوا قواهم، ويشغلوهم بِمخططٍ، هم الذين وضعوه أساسًا لبلْبلةِ الصف المؤمن والإجهاز عليه، من خلال تصيُّد الأخطاء وتضخيم الهفوات وبثِّ الإشاعات، والعاقبة للمتَّقين بلا ريب، لكن من التَّقوى العمل وفْق سنن التَّغيير؛ {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [الأحزاب: 62].
وهذا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلَّم - يصبر في مكَّة على عداوة المُشْركين، وفي المدينة على كيْد المنافقين واليهود، ويرفُض الاسْتِدراجَ: ((لا أُريد أن يتحدَّث النَّاس أنَّ محمَّدًا يقتُل أصحابه))، والاستعجالَ: ((لقد كان فيمَنْ قبلكم يمشَّط بالأمشاط، ما بين لحمِه وعظمِه، لا يردُّه ذلك عن دينِه، ولكنَّكم تستعْجِلون))، ويضبط سير أصحابِه الكِرام بضوابط الشرع، فلا يجنحون إلى العمليَّات القيصرية، وإنَّما يصبِرون ويثبتون، ويضحُّون بالوقْت والمال والأهْل والأنفُس، حتَّى يتكوَّن جيلٌ ربَّاني يتولَّى بنفسِه هدْمَ الأصنام التي كان يعبُدها، مردِّدًا مع النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قولَ الله تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء: 81]، ولو بدؤوا بتكْسيرِ الأصْنام، كردِّ فعلٍ على تعْظيم المشركين لها، لما قامت للإسلام قائمة؛ قال الله تعالى: {وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [آل عمران: 120].
فهل من فِقْه عميق لِمعاني الصَّبر والتقوى؟
"
الأقسام الرئيسية
الأكثر مشاهدة من نفس التصنيف
الأحاديث القصار 200 حديث من الصحيحين
2022-06-20
بين الرأي والشرع
7/18/2022
روعة الانتصار سرها (الآن)
7/18/2022
اقتضاء الصلاح الإصلاح
7/18/2022
الرأي الأخر
0