آلبتول
أدميرال
- إنضم
- Jul 5, 2008
- المشاركات
- 10,067
- مستوى التفاعل
- 172
- المطرح
- من جزيرة العرب وبقايا بخور فرنسي !!
يُحَاولُ جَاهداً أن يُنهي علاقة الغربة معه ..؛
فمنذ نُعومة أظفاره لم يَجد أمًا تحتضنه كباقي الأطفال ، ولا خليلاً يُظهر له ما يُخفيه من خبايا ككل البشر ، ولا حتى مَظهراً يحتفي بتقلده .. لكنه كان يجيد التمني ،، فلطالما تمنى أن يكون جميلاً ككل الأشياء الجميلة !
لا أدري إن كان يريد استمراراً لخفقان قلبه ..؟!
الذي أجيد فهمه أنه كلما بقي يخفق زاد توغل الجرح !
وحده يسير .. - تاركاً خلفه أجساداً شردتها مدافع الحرب وبددت أحلامها -
جاراً قدميه المثقلتين .. وبعضاً من أجزاء روحه المبعثرة ، متأبّطــاً معطفاً أسوداً ممزقاً .
وجهُه الذي يُبدي ما يُكنه جوفه يحكي قصة نسجت خيوطها من خوف ، ودبجت ببعض مراسم الخيانة . يداه الهالكتان تُعْطي إيضاحاً لمعنى الرعب ، وأما عيناه الزرقاوان فإنها تجلي لنا عظيم مُصابه .
المَسير لا يَنزعُ ما ألم به من ألم ، لكنه بمضيه هذا - من حيث يعلم أو لا يعلم - يحاول معرفة جواب سؤاله : متى تنقشع عني سحائب الشقاء ؟
هنا ..
ظلام حالك ، وسكون يلف المكان ، وهبات نسيم مَكْسُوةٌ ببرد قارس تلفح جسده ..
لا نور يحاول الاختراق ، ولا صخب يحاول العبور ..
ولا أنسام تجلب معها شقائق السعادة ..
إلا .. نوعاً من جلبة روح فقط ، تتمتم بألحان التعاسة !
خطواته تتوقف ..
تُعلن تَمرداً على مسير أقدامه المنهكة ؛ فلقد توجعت من شدة البرد القارس و لهيب الوجع الدفين .."
يستجدي قدميه أن تواصل المسير ، وأن تستحث الخطى ؛ إلا أن تنهيدةً من صدره المكلوم أوحت ألا طريق !
وأنه هنا ماكث ... حتى يأتي داعي الموت لينتزع روحه .."
يَجُوب بناظريه المكان ؛ باحثاً عن بقعةٍ تَصلُح لأن تكون قبرًا ، تَحمل جسده المُنهك ، وتَزُف روحه إلى مثواها ، شريطة أنها لا تزال بعيدةً عن صفة انتهاء الصلاحية ، فلا يجتمع الأموات في حفرة .."
واهناً يفترشُ الأرض ويلتحف السماء ؛ فثيابه البالية لا تتسع لأن تكون غطاءً لجسدٍ وروحٍ قد تمزقا كحالتها .
حينما ارتمى على الأرض- كما يرتمي الصغير في حضن أمه داعياً لحنان مسلوب أو رحمة موؤدة - أصدرت نفسه القانطة صيحات قلبه الواجف ، الذي قد أََسَرهُ جَور الظلم وكبلته قيود المأساة ، و مهيض عظام رجليه المتجمدة أبدت شعوراً بتوقف أنفاسه ..
وديمومة صدى أنين كفيه .. حتمت قرب النهاية .."
انتشر الخوف في أرجائه ، وبدا مَشرفيُّ الجزع على أديم ناديه ، وازورت نفحات الأمل إلى مدينة الفناء.
تنهد بعمق ..
حاول أن يجمع شتات جروح روحه ..
رتبها ..
أعادت التبعثر ..
رتبها .. ليكتشف أنها تعود لنفس ترتيبها الأسبق و كأنها تلكم الأنفاس التي يستنشقها ويخرجها تارة أخرى .
ما أصعب حياته ..!
كيف لفؤادٍ اعتنق القسوة أن ينبض ؟
وكيف لروح بعثرها الحقد أن تبقى ؟
سعى إلى طلب الهدوء والسكينة ، فلم يجد بُدّاً إلا أن يعلي ناظريه إلى تلكم الأنجم المبعثرة في السماء كتبعثر روحه ، ويرقب ذلك النور الذي تشعه أنجم السماء الطاهرة لعله يخفف آلامه .
حينها خاطب نفسه يمنيها بعودة عجلة الزمان :
آه ما أبهى هذا المنظر !
ما أبدع أيام قريتنا الحالمة !
وما أطيب ليالي الأنس والفرح !
كم تتوق نفسي لعودة تلك اللحظات ؛ حتى لو كانت مشوبة بفقر وعوز ، إلا أنك هناك تعرف على الأقل - جيداً من أنت !
هناك .. كنا لا نعرف إلا حقيقةً واحده ، أما اليوم فلا أدري أين أجد الحقيقة التي أحب أن تكون قدري : صدق حكيم القرية حين قال ذات مرة : [ يوم كنا صغاراً كنا نرى الأبيض أبيض والأسود أسود ، أما اليوم فقد أصابنا عمى الألوان وصرنا نخاف من الظل ونعطش من الماء ] .
وبينما هو غارقُ في حديث نفسه ؛ إذ بطيور الغربان تغزو المكان وتعلن النعيق وتجدد بث الحياة في البقعة ..
شده منظر الغربان هذا والتي تطوف وتطوف لكنها تطلب العزلة ، فلكل واحد منها حياته الخاصة ، هذا المنظر يجعله متعجباً من حياة البشر والذين غزى الطمع قلوبهم ، وأعمى الجشع أبصارهم : غرهم طول البقاء فنسوا أن السماء يوماً سوف تطوى كطي السجل !
ثمة أمر يجب علي أن أفعله قبل أن أموت .. وهو أن أحيا ..! تمتم بهذه الكلمات ثم تذكر والده ومصيره .. وبقي يناجيه :
أين أنت يا أبي ؟
أتتركني وحيداً تروعني صروف الدهر ؟ وتجرعني كؤوس المذلة ؟
فقد أعياني العنا وأرهقني الضنى ..
مالي أراك لا تجيب قلاقل روحي ؟ ولا تدرك صدى ضجيجها في خلدي ؟
... آهٍ ما أقسى الأيام ..!
توقف قليلاً عن التفكير ؛ فهو بحاجة إلى أن يشعر بالصفاء قليلاً ، لكن أنّ له هذا ؛ فكتابه المليء بالصفحات - والتي خط الأسى فيها كل حروفه - يحمل في طياته ما يبعثر النقاط ، ويجعل نهاية الكلم هو بدياته !
عبثاً حاول أن يغوص في بنيات ذاكرته ليخرج ما تخبئه من فصول مشرقة .. لكن ما يخنقه من همّ حال بين ما يتمناه وما يريد أن يصل إليه .. إلا أن ثمة مشاهد لا تملك ذاكرته أن تخفيها :
كلمات أخته فاطمة والتي كانت ترددها دوما : [ لم أرَ على أديم السماء أجمل من طير المحبة ] .
كانت تحبه ويحبها .. كانا يتقاسمان أفراحهما وأتراحهما وما يعلق بهما من بقايا كدر أو مصيبة .. كانت تُسمعه ألحانها العذبة التي تشدو بها كما طائر النورس .. و كانت تشعره بالحنان والدفء الذي لم يستوعب معناه من أمه :
العبرات تطرق مقلتيه .. والخد يستسقي دمعاً قد ألفه منذ زمن الحرب .. فقد أقضت مضجعه الذكريات ..
حن إلى سماع خطب الشيخ نجيب ، وصراخ مخبر القرية جابر ، ورؤية سرب الحمام يجوب أرجاء القرية ، وزقزقة العصافير التي شنفت سمعه ..
حن إلى تلك العبارة التي أطلقها مدرس القرية ذات مرة : [ عندما تتعانق روحان تحدث حينها جلبة في صروح الحب ..و هناك تنتشي القصيدة ] ..
لطالما تمنى في صغره أن يكون محبوباً وأن يجد من يُحب ويُمضي حياته بذلك ، لكن قدره صار به إلى أن يبقى هكذا ..
يأخذه الشوق حيث أريكة جدته الكفيفة والتي كانت تكرر عليه قولها : [ يا نزار كم أتمنى أن أراك مهندساً كبيراً ] ..
خاطب نفسه وقد توشحه اليأس : لا يا جدتي ، قدري أن أقبع تحت احتلال التشرد عالقاً في شراكه ..
يضطجع على يمينه - متأوهاً من شدة ما يشعر به جراء ذلك - بعدما كان مستلقياً على ظهره مستعيداً شريط ذكرياته ..
هنا .. يسرح في الأمنيات وهو ما زال يتجرع قسوة الآلام .. ولا زالت ترهقه مساحات الحزن المزروعة في فؤاده .. وتخنقه العبرة ، و دموعه المترعة بالألم باتت تغازل وجنتيه المجروحتين فلعلها تسمح لها بالهطول على ساحتها .
تمنى أن يعود السلام إلى قريتهم ، حيث كان هناك سائداً ، إلا أن الحرب دقت طبولها وأطربت الساعين إليها بمزمار المدافع . كل شيءٍ هناك كان جميلاً : خرير المياه في الساقي .. وهديل الحمام في المزرعة .. صوت الأغنام في الوادي ..
تمنى أن يعود إلى قريته ؛ فهناك خلف ذكرياته بما تحمل من سعادة وشقاء ، أخذ عهداً على نفسه أن أول منظر سيراه هو تل ( الحمراء ) والذي كان يرحل إليه كلما خالطه الحزن ، ليفضي هنالك للقمر، ويجالس النجوم بحضرة الدمع .
أبوه نجيب أحد الذين قتلوا في الحرب مدافعاً عن أرضه ، وجده وجدته قد فارقا الحياة بعدما نال منهم الوجع ما نال من جراء قذائف العدو . وكثيرٌ من سكان القرية قد شردتهم الحرب ، بيد أن بعضهم قد هاجر إلى شتى بقاع الأرض ليجد أماناً ..!
تذكر أخته فاطمة فجالت في صدره أسئلة حائرة :
أين أجد فاطمة ..؟ اشتقت لعبيرها .. لحديثها .. لقلبها الطاهر ..
فاطمة .. كم أتمنى لقائك ؟ بت وحيداً هنا .. وأنت وحيدة هناك !! وذكراك في قلبي ..
هل أنت بخير .. ؟ هل لا زلت تكنين لي الحب .. ؟
أنا .. لا زلت أحبك .. اشتقت إليك وتقت للقياك ..!
أتمنى أن تكوني بخير .. بخير يا فاطمة .. "
هنا .. هطلت دمعة ..
شقت طريقها إلى شفتيه صارخةً :
ربما طال الغياب
غير أنّا
في زمان
سوف نرجع "
يُحَاولُ جَاهداً أن يُنهي علاقة الغربة معه ..؛
فمنذ نُعومة أظفاره لم يَجد أمًا تحتضنه كباقي الأطفال ، ولا خليلاً يُظهر له ما يُخفيه من خبايا ككل البشر ، ولا حتى مَظهراً يحتفي بتقلده .. لكنه كان يجيد التمني ،، فلطالما تمنى أن يكون جميلاً ككل الأشياء الجميلة !
لا أدري إن كان يريد استمراراً لخفقان قلبه ..؟!
الذي أجيد فهمه أنه كلما بقي يخفق زاد توغل الجرح !
وحده يسير .. - تاركاً خلفه أجساداً شردتها مدافع الحرب وبددت أحلامها -
جاراً قدميه المثقلتين .. وبعضاً من أجزاء روحه المبعثرة ، متأبّطــاً معطفاً أسوداً ممزقاً .
وجهُه الذي يُبدي ما يُكنه جوفه يحكي قصة نسجت خيوطها من خوف ، ودبجت ببعض مراسم الخيانة . يداه الهالكتان تُعْطي إيضاحاً لمعنى الرعب ، وأما عيناه الزرقاوان فإنها تجلي لنا عظيم مُصابه .
المَسير لا يَنزعُ ما ألم به من ألم ، لكنه بمضيه هذا - من حيث يعلم أو لا يعلم - يحاول معرفة جواب سؤاله : متى تنقشع عني سحائب الشقاء ؟
هنا ..
ظلام حالك ، وسكون يلف المكان ، وهبات نسيم مَكْسُوةٌ ببرد قارس تلفح جسده ..
لا نور يحاول الاختراق ، ولا صخب يحاول العبور ..
ولا أنسام تجلب معها شقائق السعادة ..
إلا .. نوعاً من جلبة روح فقط ، تتمتم بألحان التعاسة !
خطواته تتوقف ..
تُعلن تَمرداً على مسير أقدامه المنهكة ؛ فلقد توجعت من شدة البرد القارس و لهيب الوجع الدفين .."
يستجدي قدميه أن تواصل المسير ، وأن تستحث الخطى ؛ إلا أن تنهيدةً من صدره المكلوم أوحت ألا طريق !
وأنه هنا ماكث ... حتى يأتي داعي الموت لينتزع روحه .."
يَجُوب بناظريه المكان ؛ باحثاً عن بقعةٍ تَصلُح لأن تكون قبرًا ، تَحمل جسده المُنهك ، وتَزُف روحه إلى مثواها ، شريطة أنها لا تزال بعيدةً عن صفة انتهاء الصلاحية ، فلا يجتمع الأموات في حفرة .."
واهناً يفترشُ الأرض ويلتحف السماء ؛ فثيابه البالية لا تتسع لأن تكون غطاءً لجسدٍ وروحٍ قد تمزقا كحالتها .
حينما ارتمى على الأرض- كما يرتمي الصغير في حضن أمه داعياً لحنان مسلوب أو رحمة موؤدة - أصدرت نفسه القانطة صيحات قلبه الواجف ، الذي قد أََسَرهُ جَور الظلم وكبلته قيود المأساة ، و مهيض عظام رجليه المتجمدة أبدت شعوراً بتوقف أنفاسه ..
وديمومة صدى أنين كفيه .. حتمت قرب النهاية .."
انتشر الخوف في أرجائه ، وبدا مَشرفيُّ الجزع على أديم ناديه ، وازورت نفحات الأمل إلى مدينة الفناء.
تنهد بعمق ..
حاول أن يجمع شتات جروح روحه ..
رتبها ..
أعادت التبعثر ..
رتبها .. ليكتشف أنها تعود لنفس ترتيبها الأسبق و كأنها تلكم الأنفاس التي يستنشقها ويخرجها تارة أخرى .
ما أصعب حياته ..!
كيف لفؤادٍ اعتنق القسوة أن ينبض ؟
وكيف لروح بعثرها الحقد أن تبقى ؟
سعى إلى طلب الهدوء والسكينة ، فلم يجد بُدّاً إلا أن يعلي ناظريه إلى تلكم الأنجم المبعثرة في السماء كتبعثر روحه ، ويرقب ذلك النور الذي تشعه أنجم السماء الطاهرة لعله يخفف آلامه .
حينها خاطب نفسه يمنيها بعودة عجلة الزمان :
آه ما أبهى هذا المنظر !
ما أبدع أيام قريتنا الحالمة !
وما أطيب ليالي الأنس والفرح !
كم تتوق نفسي لعودة تلك اللحظات ؛ حتى لو كانت مشوبة بفقر وعوز ، إلا أنك هناك تعرف على الأقل - جيداً من أنت !
هناك .. كنا لا نعرف إلا حقيقةً واحده ، أما اليوم فلا أدري أين أجد الحقيقة التي أحب أن تكون قدري : صدق حكيم القرية حين قال ذات مرة : [ يوم كنا صغاراً كنا نرى الأبيض أبيض والأسود أسود ، أما اليوم فقد أصابنا عمى الألوان وصرنا نخاف من الظل ونعطش من الماء ] .
وبينما هو غارقُ في حديث نفسه ؛ إذ بطيور الغربان تغزو المكان وتعلن النعيق وتجدد بث الحياة في البقعة ..
شده منظر الغربان هذا والتي تطوف وتطوف لكنها تطلب العزلة ، فلكل واحد منها حياته الخاصة ، هذا المنظر يجعله متعجباً من حياة البشر والذين غزى الطمع قلوبهم ، وأعمى الجشع أبصارهم : غرهم طول البقاء فنسوا أن السماء يوماً سوف تطوى كطي السجل !
ثمة أمر يجب علي أن أفعله قبل أن أموت .. وهو أن أحيا ..! تمتم بهذه الكلمات ثم تذكر والده ومصيره .. وبقي يناجيه :
أين أنت يا أبي ؟
أتتركني وحيداً تروعني صروف الدهر ؟ وتجرعني كؤوس المذلة ؟
فقد أعياني العنا وأرهقني الضنى ..
مالي أراك لا تجيب قلاقل روحي ؟ ولا تدرك صدى ضجيجها في خلدي ؟
... آهٍ ما أقسى الأيام ..!
توقف قليلاً عن التفكير ؛ فهو بحاجة إلى أن يشعر بالصفاء قليلاً ، لكن أنّ له هذا ؛ فكتابه المليء بالصفحات - والتي خط الأسى فيها كل حروفه - يحمل في طياته ما يبعثر النقاط ، ويجعل نهاية الكلم هو بدياته !
عبثاً حاول أن يغوص في بنيات ذاكرته ليخرج ما تخبئه من فصول مشرقة .. لكن ما يخنقه من همّ حال بين ما يتمناه وما يريد أن يصل إليه .. إلا أن ثمة مشاهد لا تملك ذاكرته أن تخفيها :
كلمات أخته فاطمة والتي كانت ترددها دوما : [ لم أرَ على أديم السماء أجمل من طير المحبة ] .
كانت تحبه ويحبها .. كانا يتقاسمان أفراحهما وأتراحهما وما يعلق بهما من بقايا كدر أو مصيبة .. كانت تُسمعه ألحانها العذبة التي تشدو بها كما طائر النورس .. و كانت تشعره بالحنان والدفء الذي لم يستوعب معناه من أمه :
العبرات تطرق مقلتيه .. والخد يستسقي دمعاً قد ألفه منذ زمن الحرب .. فقد أقضت مضجعه الذكريات ..
حن إلى سماع خطب الشيخ نجيب ، وصراخ مخبر القرية جابر ، ورؤية سرب الحمام يجوب أرجاء القرية ، وزقزقة العصافير التي شنفت سمعه ..
حن إلى تلك العبارة التي أطلقها مدرس القرية ذات مرة : [ عندما تتعانق روحان تحدث حينها جلبة في صروح الحب ..و هناك تنتشي القصيدة ] ..
لطالما تمنى في صغره أن يكون محبوباً وأن يجد من يُحب ويُمضي حياته بذلك ، لكن قدره صار به إلى أن يبقى هكذا ..
يأخذه الشوق حيث أريكة جدته الكفيفة والتي كانت تكرر عليه قولها : [ يا نزار كم أتمنى أن أراك مهندساً كبيراً ] ..
خاطب نفسه وقد توشحه اليأس : لا يا جدتي ، قدري أن أقبع تحت احتلال التشرد عالقاً في شراكه ..
يضطجع على يمينه - متأوهاً من شدة ما يشعر به جراء ذلك - بعدما كان مستلقياً على ظهره مستعيداً شريط ذكرياته ..
هنا .. يسرح في الأمنيات وهو ما زال يتجرع قسوة الآلام .. ولا زالت ترهقه مساحات الحزن المزروعة في فؤاده .. وتخنقه العبرة ، و دموعه المترعة بالألم باتت تغازل وجنتيه المجروحتين فلعلها تسمح لها بالهطول على ساحتها .
تمنى أن يعود السلام إلى قريتهم ، حيث كان هناك سائداً ، إلا أن الحرب دقت طبولها وأطربت الساعين إليها بمزمار المدافع . كل شيءٍ هناك كان جميلاً : خرير المياه في الساقي .. وهديل الحمام في المزرعة .. صوت الأغنام في الوادي ..
تمنى أن يعود إلى قريته ؛ فهناك خلف ذكرياته بما تحمل من سعادة وشقاء ، أخذ عهداً على نفسه أن أول منظر سيراه هو تل ( الحمراء ) والذي كان يرحل إليه كلما خالطه الحزن ، ليفضي هنالك للقمر، ويجالس النجوم بحضرة الدمع .
أبوه نجيب أحد الذين قتلوا في الحرب مدافعاً عن أرضه ، وجده وجدته قد فارقا الحياة بعدما نال منهم الوجع ما نال من جراء قذائف العدو . وكثيرٌ من سكان القرية قد شردتهم الحرب ، بيد أن بعضهم قد هاجر إلى شتى بقاع الأرض ليجد أماناً ..!
تذكر أخته فاطمة فجالت في صدره أسئلة حائرة :
أين أجد فاطمة ..؟ اشتقت لعبيرها .. لحديثها .. لقلبها الطاهر ..
فاطمة .. كم أتمنى لقائك ؟ بت وحيداً هنا .. وأنت وحيدة هناك !! وذكراك في قلبي ..
هل أنت بخير .. ؟ هل لا زلت تكنين لي الحب .. ؟
أنا .. لا زلت أحبك .. اشتقت إليك وتقت للقياك ..!
أتمنى أن تكوني بخير .. بخير يا فاطمة .. "
هنا .. هطلت دمعة ..
شقت طريقها إلى شفتيه صارخةً :
ربما طال الغياب
غير أنّا
في زمان
سوف نرجع "
حازت هذه القصة على المركز الأول في مجال القصة القصيرة لـ ياسر الأسمري