إنه الوطن

{*B*A*T*M*A*N*}

مشرف

إنضم
Sep 21, 2011
المشاركات
23,222
مستوى التفاعل
80
المطرح
دمشق
استشهاد ضباط وجنود من أبناء القوات المسلحة على حدودنا الشرقية فى سيناء، على يد عناصر متطرفة من جماعات الإسلام السياسى، فى هجوم غادر وخسيس، أثناء تناولهم طعام الإفطار.. فجّر الغضب فى نفوس المصريين من أصحاب الضمائر، لكنه للمرة الأولى يفجر أيضًا داخل كثير منا أسئلة خطيرة.. هل يمكن أن تكسب أمة ثورة وتخسر الوطن؟! أو تخسر روحها وهويتها؟! وهل ضاعت منا الأهداف النبيلة، التى استشهد وضحى من أجلها الآلاف من خيرة شباب مصر منذ 25 يناير من العام الماضى وحتى الآن؟

أسئلة قاسية لكنها مشروعة، وبنت لحظة فارقة فى تاريخنا، فأعظم ثورة سلمية فى تاريخ البشرية، يتم استنزاف طاقتها الإيجابية بين حروب الدم، وبين معارك ترتيب بيت السلطة الجديد، فالشباب والقوى الثورية، التى دفعت ـ ولا تزال ـ ثمن حروب الدم، التى جرت وقائعها على الهواء مباشرة بالميادين والشوارع؛ رفضت أن تتحول الثورة إلى مجرد تغيير وجوه من النظام، وليس النظام نفسه، أو أن تشارك فى عملية تجميله بعد أن شاخ، أو أن تستبدل به استبداد السمع والطاعة.
حين كانت تودع مصر شهداءها تباعا، ويتفرغ العشرات من الشباب لمتابعة زملائهم المصابين فى المستشفيات، وفى ردهات المحاكم والنيابات وساحات السجون المدنية والعسكرية، التى ما زالت تضم أعدادًا كبيرة منهم.. تفرغت قوى سياسية أخرى لحصد ما أسمته الاستحقاقات الديمقراطية، ولو بنتائج الدم المراق، والصفقات الحرام فى الخفاء، وتصريحات الغزل فى العلن، أو بإهمال مطالب الثوار والتشهير بهم والنيل من نبل مقصدهم.

جريمة سيناء تصفعنا جميعًا على وجوهنا، وتضعنا عراة أمام الحقيقة، ففى لحظة ونحن فى عز حروب الاستقطاب السياسى، ومناورات السلطة، وشهوة الاستحواذ والتمكين، ومعارك اقتسام وتوزيع الغنائم بين جناحين للحكم، اكتشفنا أن الوطن فى خطر، وأنه يمكن أن يضيع منا، وأننا فى حاجة إلى مراجعة أنفسنا وإلى مواجهة الحقائق، مصر التى تعرضت للهزائم القاسية والنكسات فى كثير من مراحل تاريخها قاومت ولم تنكسر، لأنها حافظت على روحها وعلى هويتها وعلى تنوعها الذى انصهر وشكّل عبقرية شخصيتها.. فما الذى فعلناه منذ أن غادرنا ميدان التحرير بعد خلع مبارك وإلى أين ذهبنا.. وكيف تحولت مليونيات الغضب التى وحدت المصريين بجميع فئاتهم وعقائدهم السياسية والدينية إلى حروب الخنادق الحزبية واستعراضات القوة.. وكيف انتقل بنا الحال من "الجيش والشعب إيد واحدة" إلى "يسقط.. يسقط حكم العسكر" ثم "يسقط.. يسقط حكم المرشد" ومن "الشعب يريد إسقاط النظام" إلى "الشعب يريد تطبيق شرع الله"؟

من أول حادثة عنف ضد الثوار فى 9 مارس من العام الماضى عندما قامت قوات الشرطة العسكرية بفض اعتصام ميدان التحرير بالقوة، تتالت الأحداث فى التحرير والبالون والعباسية الأولى والثانية وماسبيرو ومحمد محمود ومجلس الوزراء، وسقط الشهداء والمصابون وجمع بين الشيخ عماد عفت ومينا دانيال والطبيب الميدانى علاء عبد الهادى حب الوطن وتحول الدكتور أحمد حرارة، الذى فقد عينيه إلى أيقونة.

أدت هذه التضحيات إلى إسقاط حكومة عصام شرف، وسارعت بعملية نقل السلطة، التى سارت على نحو آخر منذ فتنة الاستفتاء على التعديلات الدستورية، ومن مجلس شعب إلى شورى، إلى تأسيسية أولى للدستور ثم ثانية، ثم حل للبرلمان، وانتخابات رئاسية أشبه بالدراما السوداء، وإعلان دستورى مكمل، وقرار رئاسى بعودة البرلمان، ثم إلغاء للقرار بحكم الدستورية، وتنتقل صفقات ترتيب بيت السلطة إلى صراع بين أهله، ورئيس فى القصر ومكتب إرشاد يمد جسوره إلى هناك ويقرر بدون إدراك الفروق بين تنظيم جماعة وإدارة دولة.. وأخيرًا تشكيل وزارى كاشف لعين حسابات السلطة البصيرة ويد الثورة القصيرة.

إنه الوطن بداخلنا، الذى يخبو إذا استمر التباعد بين استحقاقات الثورة وهذا المسار السياسى العقيم.

إنه الوطن الذى إن لم يكن للجميع خاب الجميع مهما تصور بعضهم أنهم كسبوا.

والذى إن تلاعب أحد بحدوده أو على حدوده فقد استقلاله وكرامته وإرادته.

إنه الوطن الذى نختلف ونتفق من أجله ويصيبنا جرحه ويبهجنا نصره، وغير ذلك هو الخيانة.

إنه الوطن.. قبل الحزب والتيار والجماعة والقبيلة، وقبل الأشخاص والمصالح الضيقة والأفكار المغلقة.
 
أعلى