Life of the soul
أدميرال
- إنضم
- Oct 18, 2008
- المشاركات
- 10,167
- مستوى التفاعل
- 82
- المطرح
- بالعالم الغريب ( عالم الضياع )
مرحبااااا شباب وصبايا ارض البيلسان
اليوم حبيت جبلكن رواية قرأتا وعجبتني كتييير
وحبيت انكن تشاركوني فيها
واسمها
(الأجراس تقرع في بيت لحم)
للكاتب لطفي حداد
............................................
الفصل الأول
ناديا
اليوم حبيت جبلكن رواية قرأتا وعجبتني كتييير
وحبيت انكن تشاركوني فيها
واسمها
(الأجراس تقرع في بيت لحم)
للكاتب لطفي حداد
............................................
الفصل الأول
ناديا
الحقائق تكتسب ابديتها من أشخاص يعيشونها كل يوم بصدق
-1-
غطى الثلج البيوت والأشجار والطرقات في بيت لحم خلال الليل بطبقة ناعمة رقيقة, بدت معها تلك الضيعة الصغيرة كعروس موشحة بالبياض...
متسربلة بالجمال والفتنة. ثم ابتدأ قرص الشمس الذهبي يطلع من وراء التلال, وينثر
النور وبعضا من الدفء على الشوارع وقبة كنيسة المهد.
استيقظت على حركة مضطربة في بطني ...كان الجو باردا, ويبدو أنني أستغرقت في النوم طويلا , ونفد الحطب من المدفأة... لكن هذه التقلصات غير اعتيادية, إنها أشد من الأيام السابقة!! قمت من فراشي الممدد على الأرض... نظرت من النافذة الصغيرة
الوحيدة في قبو الدير حيث أنام للأشهر الثلاثة الماضية... لم يكن أحد هناك..
فخرجت كعادتي مسرعة إلى التلة المواجهة للكنيسة وارتقيت إلى القمة...
كان البرد هناك شديدا, وكانت تقلصات بطني تزداد تواترا وحدّة... ونظرت في الأفق البعيد...
-أين أنت !! ألن تعود!!..
الجنين الذي في بطني يطلبك.. إنه بحاجة إلى أب, وأنا بحاجة إليك..
أين أنت يا إبراهيم؟ أين أنت...
وبقيت أنظر للبعيد أستجدي رحمة سماوية, رغم أنني مللت من غبائي.. فكيف يعود إبراهيم!!
لقد عاد كل رجال الضيعة, ولا أحد يعرف عنه شيئا..
لم يريدوا أن يخبروني بموته.. لم يره أحد يموت...
آه.. الموت أفضل من الأمل الكاذب .. زادت تقلصات بطني, وهممت بالعودة إلى غرفتي.. أية غرفة؟!!
لقد طلع النهار, وعليّ أن أتجول حتى يحين المساء فأعود إلى مخبأي.. هذا ما اتفقت عليه مع الأخت حنّة, التي أوجدت لي هذا المكان في الخفية, رغم تهديد رئيستها في الدير بطردها إذا ساعدتني..
كيف أستطيع أن أثبت لهم أن هذا الجنين هو ابن أبيه وابن زوجي.. إنني لم أعرف رجلا سواه في حياتي كلها... كان إبراهيم أول من قبلت شفتاي.. ومن بعده لن يكون أحد... آه ما أقسى القدر..
منذ تسعة أشهر تماماً.. جاءني في الليل, كي يطمئن على الأولاد ويودعني.. كان صوته مضطربا.. همس في أذني كي لا يوقظ الأولاد قائلا:
-ربما لا اعود ثانية , مهمتنا صعبة, وقد هربت الليلة لأنني أشعر أنني لن أراك بعد الآن.. الحرب تبتلع الآلاف.. الملايين.. وقد جئت لأقول لك أحبك قبل أن أموت.. سينقلوننا في الغد إلى منطقة متقدمة في الجبهة.. وانا أشعر بالخوف من الموت.. وحده حبك يجعلني أمضي دون خوف...
كنتُ فرحة به, قلقة عليه, وشاردة الذهن في الوقت نفسه.. لم أكن أفهم كل مايقول..كان الطقس الربيعي وديعاً رقيقاً, فأمسكت يده وصعدنا إلى سطح بيتنا..
كان ضوء القمر الفضي يوشح ضيعتنا (( بيت لحم )) بجلال إلهي.. ولأنني لم أعش مراهقتي .. شعرت أنني ألتقي به للمرة الأولى لأعيشها بجنونها.. ضمني بقوة إلى صدره, وراح يقبلني بهدوء وعمق. شعرت أنه يحبني حقاً, وأنه يريد أن يعيش كل لحظة كأنها أبدية.. كأنها اللحظة الأولى..اللحظة الأخيرة..اللحظة الوحيدة..
وأنا أذكر كل شيئ الآن كأنه يمرّ أمام عيني لحظات أبدية. شعرت بخدر في كل جسمي, وأعطيته نفسي أكثر من أي مرة في الماضي..أكثر من ليلة عرسنا..
لم تنقطع لمساته وقبلاته الليل كله..وحين أقبل الصبح, كنا مانزال ملتصقين تحت الشرشف الرقيق على السطح..وكنت أشعر أنه قد زرع قلباً صغيراً في داخلي..جسداً أشعر بحركاته الآن .. إنه يضربني بقوة, عله يريد أن يخرج للنور!!
وصلت إلى كنيسة المهد.. جلست في المقعد الخلفي, في الزاوية اليمنى كعادتي.. الكنيسة مفتوحة خلال النهار, والخوري هنا طيب جداً,وهو يعرف قصتي.. لا أظن أنه يصدّقها, لكنه على الأقل يشعرني بالأمان والثقة بأنني في بيت الله.
قال لي مرة:
- بيت الله هو بيت الفقراء والمتروكين.. وأنا خادم هذا البيت وخادمهم.. أرجو أن أكون مستحقاً لخدمتك!!
ما أطيب هذا الخوري..ما أجمل تواضعه..وما أوفر سخاءه..إنه يعطيني من المال والطعام أكثر مما أستحق لعملي هنا.. وبسببي حدثت له مشاكل كثيرة مع مختار الحارة ((أبو مجد)) أخي زوجي, الذي رفض أن يستقبلني أحد في الضيعة من جديد..((لأن الذي في بطنك هو ابن حرام)).
أبو مجد لم يحبني قط.. كان يغار دوماً منا أنا وزوجي..كان يشعر كم نحب بعضنا, وأننا خلقنا معا عائلة جميلة..أما هو وزوجته فلم يعرفا الحب..ولم يعرفا الأطفال .. ولم يصنعا بيتاً وعائلة..كان أبو مجد بقايا رجل..حطام إنسان.
وحين سمع أن بطني تتكور رغم أن إبراهيم لم يعد من الحرب.جُنّ جنونه, فأخذ أولادي وطردني من البيت..
أخبر الجميع أنني عاهرة ولا أستحق أن أعيش في هذه الضيعة!! ولم أستطع أن أقنع أحداً رغم بكائي وترجياتي بأن إبراهيم هو الذي زرع هذا الجسد فيّ..
لم يصدقني أحد غير الأخت حنّة.. فقد صرخت بوجهه, حين كان يضربني ويطردني من البيت, أن يتوقف..وجاءت وانتصبت بقامتها الصغيرة النحيفة بيننا, ومنعته من الأعتداء عليّ أكثر..حنّة هذه ملاك من السماء.. حقاً مايزال في ضيعتنا بعض القديسين والقديسات.
أخذتني حنّة إلى الدير المواجه لكنيسة المهد, وطلبت من رئيستها الإذن بإيوائي في إحدى غرف الدير..فتجهم وجه الرئيسة وقالت بحزم:
-لانستطيع أن نؤوي لدينا نساء متزوجات في أرحامهن أولاد..
ولم تكمل, وأكتفت بالتجهم أكثر وتقطيب الحاجبين, ثم أضافت:
-لا مكان لها بيننا.
لكن حنّة لم تقل شيئاً لأنها كانت ذكية ومحبّة..وهزّت رأسها, واصطحبتني إلى الخارج ثم همست في أذني مودعة:
-تعالي في الساعة الثامنة مساءً, وانزلي مباشرة إلى القبو من الباب الخلفي..سأتركه مفتوحاً, أغلقيه بعد دخولك.. وسأترك لك بعض الطعام والحطب..حاولي أن لاتصدري أي صوت.. حتى لا يعرف أحد بوجودك هنا. وقبلتني على جبيني وعادت مسرعة إلى الداخل.
-2-
مرّت ثلاثة أشهر منذ طردي من البيت وما يزال القبو يحضنني كل مساء.. وفي الصباح الباكر أخرج إلى النبع أستقي ماء ثم أصعد التلة وأقف هناك أنتظر إبراهيم.. إبراهيم الذي لن يأتي..كنت أعرف ذلك لكنني لا أستطيع أن أعيش دون هذا الحلم!!
هناك على قمة التلة أضع يدي على بطني المتكورة.. وأشعر بضربات هذا القلب الصغير..القلب الذي لن يجد أباً بانتظاره..أبكي أحيانا كثيرة, وفي أحيان أخرى تملأ التعزية قلبي حين أشعر أن إبراهيم معي..حاضر بقوة..حاضر بكل مافيه..قريب إليّ أكثر من أي شخص آخر.. أكثر من حنّة ومن أولادي الذين لم أعد أستطيع أن أكلمهم..
أنزل من التلة وأنتظر في زاوية الحارة خروج أولادي الثلاثة من بيتهم إلى المدرسة أبقى متخفية كي لا يرانس أحد..لأن ((أبو مجد)) هدّدني وأقسم يميناً بإرسالهم إلى دير الأيتام في القدس إن أنا تكلمت مع أحد منهم.
فضّلت أن ألتزم الصمت..أن أموت كل يوم عن عواطفي وعن أمومتي كي لايفقدوا جوّ العائلة والبيت!!.. ((أم مجد)) طيبة وتحبهم وأنا متأكدة أنها تهتم بهم أكثر من أشخاص غرباء. أنا متأكدة أنهم يملأون عليها البيت الآن بضحكاتهم وصخبهم.. آه كم أنا أحبهم!! ألن يعود إبراهيم ذات يوم.. ليجمعنا من جديد تحت جناحيه..
هذه التقلصات لن تتركني اليوم ويبدو أن هذا الجسد الصغير قد ملّ من سجنه الصغير.. إنه يريد أن ينطلق..ولا يعرف ماينتظره في الخارج..لماذا لاتبقى هنا في بيتك الصغير الدافئ!!
ووصلت إلى الكنيسة..كان الخوري راكعاً أمام المغارة غارقاً في صلاته اليومية, التي بدت مضطرمة أكثر في هذا اليوم..يوم الميلاد. جاء من إيطاليا منذ عشرين عاماً لأنه يحب أن يعيش مع الذكريات..وقد طلب من رؤوسائه أن يكون خادماً لكنيسة المهد..
ما أجمل أن نعيش مع الذكريات. الحقائق تكتسب ابديتها من أشخاص يعيشونها كل يوم بصدق..
جلست في زاويتي لبعض الوقت حتى أتم صلاته, ثم تقدمت إلى الأمام وحييته..كانت ابتسامته المشرقة كل صباح تؤلق يومي..كنت أنتظرها بشوق..كانت تشبه ابتسامة أبي إلى حد كبير...
سألته عما يريدني أن أعمل اليوم..لكنه نظر باندهاش إلى وجهي الشاحب وقال بهدوء ولطف بالغين:
-اليوم عيد.. ارتاحي هنا..لا أريدك أن تتعبي نفسك, إن وجهك يزداد شحوباً.
وضعت يدي على بطني عندما اشتّدت التقلصات, فذعر الخوري وأمسك بيدي الأخرى وأجلسني على المقعد.. وهرع وأتى بكأس من الماء.. واضطرب أكثر حين رآني أتلوى من الألم رغم أنني لم أصدر صوتاً قط.
قال لي بحنان ولهفة:
-هل تريدينني أن أدعو الأخت حنّة إلى هنا, أم آخذك لعندها.. أم ماذا تريدين؟؟!
لم أستطع أن أجيبه لدقائق, حتى خفّت شدة التقلصات, فقلت عندها:
لا .. لا .. الأم الرئيسة لن تقبل أن أدخل الدير.. إذا سمحت, ادعُ الأخت حنّة ... إنني أحتاجها.
-سأذهب في الحال.. أعتذر لأنني لا أستطيع أن أدخلك إلى غرفتي..لكنني سأجد حلاً عندما أعود مع الأخت حنّة.. اشربي هذا الماء وارتاحي هنا..
وانطلق الخوري مسرعاً..وتمدّدت أنا في الزاوية اليمنى.. لم يكن هناك أحد في الكنيسة..كان الوقت بعد الظهر..والجميع في بيوتهم يستعدون لقداس المساء الاحتفالي لاستقبال عيد الميلاد.
بدأت أفكر بأولادي مرقس, نخلة, وسليم ... وبإبراهيم... ستكبر عائلتنا اليوم وسيأتينا طفل جديد أيها الأولاد.. ستصبح أبا من جديد با إبراهيم..
ترى هل سيكون صبياً أو بنتاً !!
إنني أحلم ببنت مدورة الوجه , مكتنزة الوجنتين.. ليدللها إبراهيم وتصير صديقتي المفضلة.. سيحبها أبوها بالتأكيد لأنها -كما كان يقول قبل كل ولادة متمنياً أن تكون بنتاً- ستكون حلوة ولذيذة كأمها!!
صحيح أننا لم نفكر بمزيد من الأولاد بعد أن ساقوه إلى الجيش ليحارب - لا أعرف من سيحارب - لكن تلك الليلة كانت حلما لا أنساه.. زمناً خارج الزمن.
فرحا يتجاوز الجسد والمكان..
كان وجهه متألقاً بضوء القمر..
كان قمراً يسقط على وجهي وعنقي وشراييني..
كان سماء تتجمع في نقطة نور..
وكنت أنا شاطئاً يغمره الزبد الصافي..
سمعت صوت لهاث حنةّ وهي تقترب مني فانتبهت ونظرت نحوها.. أمسكت ذراعي بحنان.. ربّتت على كتفي وقبلتني على جبيني كعادتها وقالت بحب:
-إذن قرر العصفور الصغير أن يخرج من قفصه!! كيف تشعرين الآن؟!
قلت بصوت متهدج:
-الآن أفضل !!. شيء غريب مايحدث لي..
فأنا لم أشعر بولادتي الثانية والثالثة.. كانتا سهلتين جداً أما هذه التقلصات فتذكرني بولادتي الأولى..
شكراً على مجيئك .. أرجو أن لا يسبب لك إحراجاً وصعوبات مع رئيستك!!
هزّت حنّة رأسها مبتسمة وربّتت على كتفي ثانية ثم أخذتني من ذراعي وسارت بي وراء الخوري إلى غرفة جانبية, وهناك أتت بوسادات كثيرة وضعتها على الأرض على شكل فراش ووضعت عليها شرشفاً..فاستلقيت هناك..يبدو أن التقلصات قد خفّت ولم أعد أشعر بالعصفور الصغير في داخلي..وغرقت بعد دقائق في نوم عميق..لا أدري ما حدث وكيف نمت بينما كانت حنّة تحكي لي قصة الميلاد .. أنا لا أعرف القراءة والكتابة,وكنت أنتظر هذا اليوم لأسمع القصة من جديد.. كنت أحب القصة خصوصاً أنني أقترب جداً من المغارة في كل عيد.. آتي مبكرة مع الأولاد وإبراهيم, ونجلس في المقعد الأول القريب من المغارة ..ونسمع القصة بتلهف وشغف!!
أفقت لا أدري كم أستغرق نومي.. كانت حنّة ماتزال هناك جالسة قربي تقرأ بصوت هامس.. وفجأة شعرت بحركة قوية في بطني وكأنّ كتلة تخرج مني ..صرخت:حنّة.. فأسرعت وجاءت بماء ساخن وساعدتني كي ألد.. حملت حنّة الطفلة الصغيرة بين يديها وقربتها مني لأقبّلها وأضمّها...
كانت حمراء الوجه والجسم, تصرخ بلا انقطاع..ضممت جسدها الصغير الناحل إلى صدري وأحسست بضربات قلبها ..
كم كانت فرحتي بها كبيرة..
سألت حنّة التي كانت فرحة مثلي:
-ماذا تظنين نسميها؟؟
ابتسمت حنّة وحملت الطفلة بين يديها وقبّلتها ثم قالت بحنان بالغ:
-نسميها مريم!!
فرحت بالاسم ..فرحت أنها ولدت ليلة الميلاد ..وسألت حنّة أن تغسلها وتقمطها..ثم سألتها عن الخوري: أين هو؟؟
فردت وهي تهدهد الطفلة التي مافتأت تبكي:
-إنه يستعد لاحتفال المساء..سأخبره الآن.
ماأجمل أن تولد هذه الطفلة اليوم!!
وراحت حنّة تغسل وجه مريم وجسمها من السوائل والدم, وكنت أنا مستلقية ممدة على الأرض أنظر إليهما بسعادة لا توصف...
هذه ثمرة حبنا أنا وإبراهيم ..أنها وعد تلك الليلة, الوعد الذي لا يموت.. وحنّة هذه ملاك من السماء ..وأنا أثق بها تماما إنها تضحي كثيراً من أجلي ومن أجل هذه الطفلة..
كنت في لحظة يأس أريد أن أنهي حياتي وأخلّص من في رحمي من هذه الدنيا التعيسة!!
وجمعت نباتاً ساما من الحقول, وبدأت أغليه لأشرب ماءه, وأقتل نفسي..وأقتل مريم!
وإذا بحنّة تحضر وتراني..
لم توبخني..لم تصلبني بوعظة طويلة عريضة, بل اكتفت بضمي إلى صدرها, ورجتني أن لا أؤذي نفسي..
قالت لي بحب مطرقة رأسها:
-يكفينا في هذه الحياة أن نلتقي شخصاً واحداً يحبنا ونحبه..كي نجد المعنى, ونتجاوز العبث, ونعيش أيامنا من أجله!!
ألا يكفي هذا يا ناديا ..ألا يكفي هذا..
وأنا أقول لكِ..أنت غالية جداً على قلبي, وإنني أقدرك وأحترم إخلاصك وصدقك..
ناديا.. لا أريدك أن تموتي.. وهذا الجنين الذي في بطنك هو وعدك لإبراهيم بأن تبقي مخلصة له للأبد ..
ما أجمل أن نعيش الحياة كلها من أجل وعد..
ما أثمن أن نبقى مخلصين لوعدنا..
كنتُ أختنق بدموعي, وأفزع بشدة لمجرد أن أتذكر أن طفلي سيكون بلا عائلة..وسيحمل هذا العار حياته كلها..
وصرت أبكي وأخبرت حنّة عن مخاوفي, فكانت تصغي إليّ بصدق ثم قالت لي:
-لا تخافي..أنامعك..وسأبقى معك..
بكيت يومها..تعانقنا ..بكينا كلانا, وكان الوقت مساءً, وكانت الوحدة شديدة عليّ في ذلك لقبو.. لكن وجود حنّة وكلامها أعطياني شيئاً من الأمل..ووعدتها أن لا أؤذي نفسي, وأن أهتم بمن في بطني, وأعيش من أجل وعدي..
-3-
وضعت حنّة طفلتي المتوردة الوجنتين, المقمطة بأقمشة بيضاء قربي فضممتها ووضعتها على صدري كي أرضعها.. هدأ صراخها حين بدأت الرضاعة..ورحت أتأمل تقاطيعها جزءاً فجزءاً..
عيناها المغمضتان كبيرتان برموش طويلة مثل أمي..وجهها المدور شبيه بوجه إبراهيم.. أما خدودها الحمراء فهي لي..إنها تشبهني حين كنت صغيرة..
كانت أمي وأخوتي يتسلّون بقرصي من خدّي كلما رأوني..أما أبي فكان يحب أن يقبلني طويلاً..كنت المدللة عنده.. الطفلة الأصغر والوحيدة بين خمسة صبيان..كنت أجلس على حضنه وألعب بشاربيه وكان هو لا يتحرك .. فقط يبتسم ويقبلني ويضمني! كان يغني لي أغنيات كثيرة ماتزال هنا في ذاكرتي. هناك ذاكرة خاصة تحفظ وجوه وأصوات من نحب للأبد..
ساد صمت عميق حين نامت مريم على صدري بعد أن رضعت وخرجت حنّة بعد أن اطمأنت على كل شيء, لتحضر القداس..طلبت منها أن تترك الباب مفتوحا قليلا كي أسمع صوت الخوري ..
وجاء بعد لحظات صمت صوته الهادئ الوقور يقول للناس المجتمعين..
-كان يوسف ومريم غرباء..كانا يبحثان عن مكان يبيتون فيه,وحين جاء مريم المخاض,كان البشر مشغولين كل في قضيته..لم يكن هناك مكان للمخلص..واختارت مريم أن تلد ابنها هنا,على الأرض الباردة الجرداء,وتضعه في مذود..على الهامش,مع الغرباء,مع المتروكين. آه...
لقد سمعنا هذه القصة مراراً ومراراً..وماذا بعد؟!
الميلاد يا اصدقائي هو أن نفهم أننا سنحاسب على الحب..حب الغرباء والمتروكين.
سنحاسب على استقبال من نرفضهم,استقبالهم بحب وفرح..استقبال من نحكم عليهم بالموت والطرد..
اليوم ولدت ناديا طفلة صغيرة..ناديا التي عاشت بيننا سنين طويلة ولا أحد سأل عنها وعن مصيرها بد غياب زوجها..كنتُ مشدودة بكليتي أصغى لكلام الخوري, وحين انقطع صوته حدث لغط وضجيج! وأدركت أن ((أبو مجد)) قد تدخل لإنهاء الوعظة بطريقة ما...ثم سمعت صوت تراتيل وصلوات...
كنت متعبة,وشرد ذهني في أفكار وخيالات كثيرة..ولم أشعر بالوقت حتى ساد صمت عميق,فأدركت أن الصلاة قد انتهت..ودخلت حنّة عليّ من جديد تطمئن..وقالت لي: إنه يجب عليّ أن أعود إلى القبو لأنام هناك . ساعدتني كي أنهض,وغطت مريم بأقمشة كثيرة وغطاء جديد صنعته بمخرزها, وانسلت مسرعة امامي..
دخلت من الباب الخلفي وأغلقته ووضعت مريم على الفراش وأوقدت المدفأة بسرعة..
أيقظتني مريم مرات كثيرة للرضاعة في الليلة الأولى. لكنني حين أقبل الصبح كنت أشعر بنشاط غريب رغم كل ما مرّ بي البارحة..فلبست ثيابي وغطيت مريم وضممتها إلى صدري وخرجت كعادتي إلى التلة أنظر في الأفق أبحث عن وجه إبراهيم.. لقد نسيت تماما أنني قد ولدت بالأمس وأنني يجب أن أبقى في بيتي أربعين يوماً!
كان الطقس بارداً, وثلج خفيف يتساقط..كنت أضم مريم إلى صدري بقوة وأنظر بين لحظة وأخرى إلى وجهها المدور..وأتخيل وجهاً مشابهاً مرسوماً في الأفق البعيد يبتسم لي.. لم أتوقف كثيرا كعادتي لم يكن هناك إبراهيم قادما..كان إبراهيم هنا بين يديّ وفي قلبي.. ذهبت بسرعة إلى الكنيسة,وجلست في زاويتي ..وانتظرت الخوري حتى ينتهي من صلاته الفرديّة .. رحب بي كعادته وحمل مريم بين يديه, وقبلها على وجنتيها وقال مبتسماً فرحاً كطفل:
-ما أجمل هذا الملاك.. إنها حقاً ملاك..
قلت له باعتزاز:
- هل هي جميلة؟
-إنها رائعة.. رائعة
لكن كان عليك أن لا تخرجي من هناك هذه الأيام ..
قلت له بجدية:
-أخشى أن تسمع الأم الرئيسة صوت مريم وتأتي وتطردنا.
رد الخوري بابتسامة عريضة:
-الأم الرئيسة تسكن في الطابق الاعلى ولن تسمها.. أما بقية الأخوات فكلهن يعرفن مخبأك..
نظرت باندهاش..فضحك بطفولية ثم أردف قائلا:
-على كل حال .. إذا كان هذا يريحك فافعليه..يمكنك أن تستعملي هذه الغرفة خلال النهار وأنا لا أطلب منك أي شيء .. فقط اهتمي بطفلتك حتى تكبر قليلا وسنتدبر الأمور هنا أنا والأخت حنّة ..
شكرت الخوري كثيراً وفرحت بغرفتي الجديدة..
ومرت الأيام , ومريم تكبر . وأنا أقضي نهاري في الكنيسة والليل في قبو الدير..
-4-
بعد بضعة أسابيع.. صرت أخشى أن تكتشف الأم الرئيسة مخبأي حين بدأت بالسعال الليل كله.. صارت تعتريني نوبات من البرودة والسخونة ثم تعرّق شديد.وبدأ جسمي ينحل أكثر..لكنني لم أكترث..لأنني كنت أرى مريم تكبر وتكتنز لحما أكثر..
صارت تبتسم لي ..تنظر إلي حين أرضعها..تبحث بعينيها عني..تحرك يديها لتمسك بشيء ما فيّ..تبكي إذا غبت عنها لحظات..كانت تنام دوماً وهي ترضع فأوقظها من جديد, وحين تشبع تغرق في نوم عميق...
كنت أغني لها ما أتذكر من أغاني أمي وأبي لي حين كنت صغيرة..وحين تنام ترفع يديها للأعلى مستسلمة بثقة غريبة لهذه الحياة..
هي تعرف أن لا شيء سيحدث لها مادمت أنا بقربها..عجيب إيمان الأطفال!!
مريم هي كل حياتي..ربما حين كنت لا أراها وي في بطني كنت أشعر بها في كل لحظة ..حركاتها وسكناتها ..أما الآن فهي كل شيء مختلف إنها كائن آخر..قطعة مني ومن إبراهيم خارجي..خارج رحمي..مقصوص حبلها السرّيّ لكنها قريبة جدا إليّ..لماذا يتطلب الحب الانفصال!!
لماذا يجب أن يكون من نحب كائناً بحد ذاته ..خارجا عنا!!
لماذا لا نستطيع أن نضعه في أحشائنا ...الحب مؤلم!!
-5-
مريم تنمو بسرعة وتبدو أكبر من عمرها الحقيقي..وأنا فرحة جدا بذلك ..لكن ماقصة هذا السعال الذي لا يتركني!
جفلت اليوم حين رأيت بعضا من الدم على المنديل..اعترتني بعدها نوبة من السخونة
شعرت أن جسمي يلتهب ثم بدأت قشعريرة شديدة وتعرّقت بغزارة..وحين أتى الصباح لم أستطع أن أذهب إلى التلة لأنتظر إبراهيم...واتجهت مباشرة إلى غرفتي في الكنيسة واستقليت على الفراش..
أتت حنّة لتزورني كعادتها بعد الظهر ولاحظت قلقي وشحوبي فأخبرتها عن الدم والسعال,فطمأنتني رغم تغيّر أساريرها...وقالت لي لي بهدوئها الطيب الحنون:
-يبدو أن القبو رطب وبارد..يجب أن نجد مكان أفضل ..ودعتني يومها وذهبت,أتت إليّ في اليوم التالي ببعض اللأعشاب للسعال ونزلة البرد..شربتها وطمأنتها أنني لم أبص دما من جديد.. فارتاحت قليلاً...
أتى آذار وصار الطقس أفضل. لكن سعالي لم ينقطع, وبين حين وآخر كنت أبصق دماً مع السعال..ولم أهتم كثيرا لذلك وكانت حنّة تأتيني بالأعشاب, وتسقيني مغليّها وهي تنظر بقلق.. وذات يوم طلبت مني أن أذهب معها إلى الطبيب, لكني رفضت وأخبرتها أنني أشعر بتحسن كبير بفضل هذه الأعشاب..
في اليومين التاليين ازدادت شدة المرض عليّ ولم أعد أستطيع أن أرضع مريم فكانت تبكي اليوم كله.. جاءتها حنّة ببعض حليب البقر لكنها رفضت وبقيت تبكي بعصبية ودموع... كان جسمي يضعف أكثر ويهزل وكانت نظرات حنّة تزداد قلقا وعطفا..وبدأت أشعر هذا المساء بأنني مريضة حقا ..ازدادت شدة السعال, وتواترت نوبات التعرّق والحمى, فكنت أنتفض في فراشي, وحنّة تضع عليّ الرفاد البارد وقت الحمى وتغطيني بالأقمشة واللحاف حين تأتيني القشعريرة...
حملت حّنة مريم وضمتها إلى صدرها ..
إنني أراهما الأن من خلال الغشاوة التي تتشكل أمام عينيّ..هذا إبراهيم يطل عليّ من بعيد..
لماذا تأخرت يا إبراهيم ؟!!
لماذا يغلفك الضباب؟؟!
ألا تعلم أنني بانتظارك ! هذه ثمرة حبنا ..
هل تذكر ليلة السطح.. بالتأكيد تذكرها ..تبّاً للحرب..لماذا أخذوك ... ألا يعرفون أنني أحبك؟؟!
وأنني لا أستطيع أن أعيش بدونك..
أنظر مريم ..خداها متوردان مثلي ..ووجهها مدوّر مثل وجهك.. إبراهيم لماذا تأخرت؟؟
أنني أشتقت أليك ..هل أنت آتٍ لتضمنا كلنا إلى صدرك ...كم أنا بحاجة إلى حبك!!
الغشاوة تزداد ..الصوت يبتعد ..إبراهيم يقترب..يغلفه الضباب أكثر ...السعال يزداد .
أعتقد أنني أبصق دماً كثيراً..الدم اللزج غطّى وجهي وعنقي. لم أعد أرى مريم وحنّة ..
لم أعد أسمع صوتهما...
أشعر بالبرد , مرقس الصغير يبكي,لماذا يا مرقس؟؟! لماذا لا تلعب مع نخلة وسليم؟!
هذه مريم تنضم إليكم !! وأبوك آت ليضمنا إلى قلبه ..السماء غائمة ..البحر يغمر رئتيّ..لا أسمع صوت تنفسي. القمر الذي انسكب على شعري في تلك الليلة يبتسم لي..
إبراهيم يقترب.. إنني ألمحه.. سأضمه عما قريب
وانشاالله تنال اعجابكم
يتبع
غطى الثلج البيوت والأشجار والطرقات في بيت لحم خلال الليل بطبقة ناعمة رقيقة, بدت معها تلك الضيعة الصغيرة كعروس موشحة بالبياض...
متسربلة بالجمال والفتنة. ثم ابتدأ قرص الشمس الذهبي يطلع من وراء التلال, وينثر
النور وبعضا من الدفء على الشوارع وقبة كنيسة المهد.
استيقظت على حركة مضطربة في بطني ...كان الجو باردا, ويبدو أنني أستغرقت في النوم طويلا , ونفد الحطب من المدفأة... لكن هذه التقلصات غير اعتيادية, إنها أشد من الأيام السابقة!! قمت من فراشي الممدد على الأرض... نظرت من النافذة الصغيرة
الوحيدة في قبو الدير حيث أنام للأشهر الثلاثة الماضية... لم يكن أحد هناك..
فخرجت كعادتي مسرعة إلى التلة المواجهة للكنيسة وارتقيت إلى القمة...
كان البرد هناك شديدا, وكانت تقلصات بطني تزداد تواترا وحدّة... ونظرت في الأفق البعيد...
-أين أنت !! ألن تعود!!..
الجنين الذي في بطني يطلبك.. إنه بحاجة إلى أب, وأنا بحاجة إليك..
أين أنت يا إبراهيم؟ أين أنت...
وبقيت أنظر للبعيد أستجدي رحمة سماوية, رغم أنني مللت من غبائي.. فكيف يعود إبراهيم!!
لقد عاد كل رجال الضيعة, ولا أحد يعرف عنه شيئا..
لم يريدوا أن يخبروني بموته.. لم يره أحد يموت...
آه.. الموت أفضل من الأمل الكاذب .. زادت تقلصات بطني, وهممت بالعودة إلى غرفتي.. أية غرفة؟!!
لقد طلع النهار, وعليّ أن أتجول حتى يحين المساء فأعود إلى مخبأي.. هذا ما اتفقت عليه مع الأخت حنّة, التي أوجدت لي هذا المكان في الخفية, رغم تهديد رئيستها في الدير بطردها إذا ساعدتني..
كيف أستطيع أن أثبت لهم أن هذا الجنين هو ابن أبيه وابن زوجي.. إنني لم أعرف رجلا سواه في حياتي كلها... كان إبراهيم أول من قبلت شفتاي.. ومن بعده لن يكون أحد... آه ما أقسى القدر..
منذ تسعة أشهر تماماً.. جاءني في الليل, كي يطمئن على الأولاد ويودعني.. كان صوته مضطربا.. همس في أذني كي لا يوقظ الأولاد قائلا:
-ربما لا اعود ثانية , مهمتنا صعبة, وقد هربت الليلة لأنني أشعر أنني لن أراك بعد الآن.. الحرب تبتلع الآلاف.. الملايين.. وقد جئت لأقول لك أحبك قبل أن أموت.. سينقلوننا في الغد إلى منطقة متقدمة في الجبهة.. وانا أشعر بالخوف من الموت.. وحده حبك يجعلني أمضي دون خوف...
كنتُ فرحة به, قلقة عليه, وشاردة الذهن في الوقت نفسه.. لم أكن أفهم كل مايقول..كان الطقس الربيعي وديعاً رقيقاً, فأمسكت يده وصعدنا إلى سطح بيتنا..
كان ضوء القمر الفضي يوشح ضيعتنا (( بيت لحم )) بجلال إلهي.. ولأنني لم أعش مراهقتي .. شعرت أنني ألتقي به للمرة الأولى لأعيشها بجنونها.. ضمني بقوة إلى صدره, وراح يقبلني بهدوء وعمق. شعرت أنه يحبني حقاً, وأنه يريد أن يعيش كل لحظة كأنها أبدية.. كأنها اللحظة الأولى..اللحظة الأخيرة..اللحظة الوحيدة..
وأنا أذكر كل شيئ الآن كأنه يمرّ أمام عيني لحظات أبدية. شعرت بخدر في كل جسمي, وأعطيته نفسي أكثر من أي مرة في الماضي..أكثر من ليلة عرسنا..
لم تنقطع لمساته وقبلاته الليل كله..وحين أقبل الصبح, كنا مانزال ملتصقين تحت الشرشف الرقيق على السطح..وكنت أشعر أنه قد زرع قلباً صغيراً في داخلي..جسداً أشعر بحركاته الآن .. إنه يضربني بقوة, عله يريد أن يخرج للنور!!
وصلت إلى كنيسة المهد.. جلست في المقعد الخلفي, في الزاوية اليمنى كعادتي.. الكنيسة مفتوحة خلال النهار, والخوري هنا طيب جداً,وهو يعرف قصتي.. لا أظن أنه يصدّقها, لكنه على الأقل يشعرني بالأمان والثقة بأنني في بيت الله.
قال لي مرة:
- بيت الله هو بيت الفقراء والمتروكين.. وأنا خادم هذا البيت وخادمهم.. أرجو أن أكون مستحقاً لخدمتك!!
ما أطيب هذا الخوري..ما أجمل تواضعه..وما أوفر سخاءه..إنه يعطيني من المال والطعام أكثر مما أستحق لعملي هنا.. وبسببي حدثت له مشاكل كثيرة مع مختار الحارة ((أبو مجد)) أخي زوجي, الذي رفض أن يستقبلني أحد في الضيعة من جديد..((لأن الذي في بطنك هو ابن حرام)).
أبو مجد لم يحبني قط.. كان يغار دوماً منا أنا وزوجي..كان يشعر كم نحب بعضنا, وأننا خلقنا معا عائلة جميلة..أما هو وزوجته فلم يعرفا الحب..ولم يعرفا الأطفال .. ولم يصنعا بيتاً وعائلة..كان أبو مجد بقايا رجل..حطام إنسان.
وحين سمع أن بطني تتكور رغم أن إبراهيم لم يعد من الحرب.جُنّ جنونه, فأخذ أولادي وطردني من البيت..
أخبر الجميع أنني عاهرة ولا أستحق أن أعيش في هذه الضيعة!! ولم أستطع أن أقنع أحداً رغم بكائي وترجياتي بأن إبراهيم هو الذي زرع هذا الجسد فيّ..
لم يصدقني أحد غير الأخت حنّة.. فقد صرخت بوجهه, حين كان يضربني ويطردني من البيت, أن يتوقف..وجاءت وانتصبت بقامتها الصغيرة النحيفة بيننا, ومنعته من الأعتداء عليّ أكثر..حنّة هذه ملاك من السماء.. حقاً مايزال في ضيعتنا بعض القديسين والقديسات.
أخذتني حنّة إلى الدير المواجه لكنيسة المهد, وطلبت من رئيستها الإذن بإيوائي في إحدى غرف الدير..فتجهم وجه الرئيسة وقالت بحزم:
-لانستطيع أن نؤوي لدينا نساء متزوجات في أرحامهن أولاد..
ولم تكمل, وأكتفت بالتجهم أكثر وتقطيب الحاجبين, ثم أضافت:
-لا مكان لها بيننا.
لكن حنّة لم تقل شيئاً لأنها كانت ذكية ومحبّة..وهزّت رأسها, واصطحبتني إلى الخارج ثم همست في أذني مودعة:
-تعالي في الساعة الثامنة مساءً, وانزلي مباشرة إلى القبو من الباب الخلفي..سأتركه مفتوحاً, أغلقيه بعد دخولك.. وسأترك لك بعض الطعام والحطب..حاولي أن لاتصدري أي صوت.. حتى لا يعرف أحد بوجودك هنا. وقبلتني على جبيني وعادت مسرعة إلى الداخل.
-2-
مرّت ثلاثة أشهر منذ طردي من البيت وما يزال القبو يحضنني كل مساء.. وفي الصباح الباكر أخرج إلى النبع أستقي ماء ثم أصعد التلة وأقف هناك أنتظر إبراهيم.. إبراهيم الذي لن يأتي..كنت أعرف ذلك لكنني لا أستطيع أن أعيش دون هذا الحلم!!
هناك على قمة التلة أضع يدي على بطني المتكورة.. وأشعر بضربات هذا القلب الصغير..القلب الذي لن يجد أباً بانتظاره..أبكي أحيانا كثيرة, وفي أحيان أخرى تملأ التعزية قلبي حين أشعر أن إبراهيم معي..حاضر بقوة..حاضر بكل مافيه..قريب إليّ أكثر من أي شخص آخر.. أكثر من حنّة ومن أولادي الذين لم أعد أستطيع أن أكلمهم..
أنزل من التلة وأنتظر في زاوية الحارة خروج أولادي الثلاثة من بيتهم إلى المدرسة أبقى متخفية كي لا يرانس أحد..لأن ((أبو مجد)) هدّدني وأقسم يميناً بإرسالهم إلى دير الأيتام في القدس إن أنا تكلمت مع أحد منهم.
فضّلت أن ألتزم الصمت..أن أموت كل يوم عن عواطفي وعن أمومتي كي لايفقدوا جوّ العائلة والبيت!!.. ((أم مجد)) طيبة وتحبهم وأنا متأكدة أنها تهتم بهم أكثر من أشخاص غرباء. أنا متأكدة أنهم يملأون عليها البيت الآن بضحكاتهم وصخبهم.. آه كم أنا أحبهم!! ألن يعود إبراهيم ذات يوم.. ليجمعنا من جديد تحت جناحيه..
هذه التقلصات لن تتركني اليوم ويبدو أن هذا الجسد الصغير قد ملّ من سجنه الصغير.. إنه يريد أن ينطلق..ولا يعرف ماينتظره في الخارج..لماذا لاتبقى هنا في بيتك الصغير الدافئ!!
ووصلت إلى الكنيسة..كان الخوري راكعاً أمام المغارة غارقاً في صلاته اليومية, التي بدت مضطرمة أكثر في هذا اليوم..يوم الميلاد. جاء من إيطاليا منذ عشرين عاماً لأنه يحب أن يعيش مع الذكريات..وقد طلب من رؤوسائه أن يكون خادماً لكنيسة المهد..
ما أجمل أن نعيش مع الذكريات. الحقائق تكتسب ابديتها من أشخاص يعيشونها كل يوم بصدق..
جلست في زاويتي لبعض الوقت حتى أتم صلاته, ثم تقدمت إلى الأمام وحييته..كانت ابتسامته المشرقة كل صباح تؤلق يومي..كنت أنتظرها بشوق..كانت تشبه ابتسامة أبي إلى حد كبير...
سألته عما يريدني أن أعمل اليوم..لكنه نظر باندهاش إلى وجهي الشاحب وقال بهدوء ولطف بالغين:
-اليوم عيد.. ارتاحي هنا..لا أريدك أن تتعبي نفسك, إن وجهك يزداد شحوباً.
وضعت يدي على بطني عندما اشتّدت التقلصات, فذعر الخوري وأمسك بيدي الأخرى وأجلسني على المقعد.. وهرع وأتى بكأس من الماء.. واضطرب أكثر حين رآني أتلوى من الألم رغم أنني لم أصدر صوتاً قط.
قال لي بحنان ولهفة:
-هل تريدينني أن أدعو الأخت حنّة إلى هنا, أم آخذك لعندها.. أم ماذا تريدين؟؟!
لم أستطع أن أجيبه لدقائق, حتى خفّت شدة التقلصات, فقلت عندها:
لا .. لا .. الأم الرئيسة لن تقبل أن أدخل الدير.. إذا سمحت, ادعُ الأخت حنّة ... إنني أحتاجها.
-سأذهب في الحال.. أعتذر لأنني لا أستطيع أن أدخلك إلى غرفتي..لكنني سأجد حلاً عندما أعود مع الأخت حنّة.. اشربي هذا الماء وارتاحي هنا..
وانطلق الخوري مسرعاً..وتمدّدت أنا في الزاوية اليمنى.. لم يكن هناك أحد في الكنيسة..كان الوقت بعد الظهر..والجميع في بيوتهم يستعدون لقداس المساء الاحتفالي لاستقبال عيد الميلاد.
بدأت أفكر بأولادي مرقس, نخلة, وسليم ... وبإبراهيم... ستكبر عائلتنا اليوم وسيأتينا طفل جديد أيها الأولاد.. ستصبح أبا من جديد با إبراهيم..
ترى هل سيكون صبياً أو بنتاً !!
إنني أحلم ببنت مدورة الوجه , مكتنزة الوجنتين.. ليدللها إبراهيم وتصير صديقتي المفضلة.. سيحبها أبوها بالتأكيد لأنها -كما كان يقول قبل كل ولادة متمنياً أن تكون بنتاً- ستكون حلوة ولذيذة كأمها!!
صحيح أننا لم نفكر بمزيد من الأولاد بعد أن ساقوه إلى الجيش ليحارب - لا أعرف من سيحارب - لكن تلك الليلة كانت حلما لا أنساه.. زمناً خارج الزمن.
فرحا يتجاوز الجسد والمكان..
كان وجهه متألقاً بضوء القمر..
كان قمراً يسقط على وجهي وعنقي وشراييني..
كان سماء تتجمع في نقطة نور..
وكنت أنا شاطئاً يغمره الزبد الصافي..
سمعت صوت لهاث حنةّ وهي تقترب مني فانتبهت ونظرت نحوها.. أمسكت ذراعي بحنان.. ربّتت على كتفي وقبلتني على جبيني كعادتها وقالت بحب:
-إذن قرر العصفور الصغير أن يخرج من قفصه!! كيف تشعرين الآن؟!
قلت بصوت متهدج:
-الآن أفضل !!. شيء غريب مايحدث لي..
فأنا لم أشعر بولادتي الثانية والثالثة.. كانتا سهلتين جداً أما هذه التقلصات فتذكرني بولادتي الأولى..
شكراً على مجيئك .. أرجو أن لا يسبب لك إحراجاً وصعوبات مع رئيستك!!
هزّت حنّة رأسها مبتسمة وربّتت على كتفي ثانية ثم أخذتني من ذراعي وسارت بي وراء الخوري إلى غرفة جانبية, وهناك أتت بوسادات كثيرة وضعتها على الأرض على شكل فراش ووضعت عليها شرشفاً..فاستلقيت هناك..يبدو أن التقلصات قد خفّت ولم أعد أشعر بالعصفور الصغير في داخلي..وغرقت بعد دقائق في نوم عميق..لا أدري ما حدث وكيف نمت بينما كانت حنّة تحكي لي قصة الميلاد .. أنا لا أعرف القراءة والكتابة,وكنت أنتظر هذا اليوم لأسمع القصة من جديد.. كنت أحب القصة خصوصاً أنني أقترب جداً من المغارة في كل عيد.. آتي مبكرة مع الأولاد وإبراهيم, ونجلس في المقعد الأول القريب من المغارة ..ونسمع القصة بتلهف وشغف!!
أفقت لا أدري كم أستغرق نومي.. كانت حنّة ماتزال هناك جالسة قربي تقرأ بصوت هامس.. وفجأة شعرت بحركة قوية في بطني وكأنّ كتلة تخرج مني ..صرخت:حنّة.. فأسرعت وجاءت بماء ساخن وساعدتني كي ألد.. حملت حنّة الطفلة الصغيرة بين يديها وقربتها مني لأقبّلها وأضمّها...
كانت حمراء الوجه والجسم, تصرخ بلا انقطاع..ضممت جسدها الصغير الناحل إلى صدري وأحسست بضربات قلبها ..
كم كانت فرحتي بها كبيرة..
سألت حنّة التي كانت فرحة مثلي:
-ماذا تظنين نسميها؟؟
ابتسمت حنّة وحملت الطفلة بين يديها وقبّلتها ثم قالت بحنان بالغ:
-نسميها مريم!!
فرحت بالاسم ..فرحت أنها ولدت ليلة الميلاد ..وسألت حنّة أن تغسلها وتقمطها..ثم سألتها عن الخوري: أين هو؟؟
فردت وهي تهدهد الطفلة التي مافتأت تبكي:
-إنه يستعد لاحتفال المساء..سأخبره الآن.
ماأجمل أن تولد هذه الطفلة اليوم!!
وراحت حنّة تغسل وجه مريم وجسمها من السوائل والدم, وكنت أنا مستلقية ممدة على الأرض أنظر إليهما بسعادة لا توصف...
هذه ثمرة حبنا أنا وإبراهيم ..أنها وعد تلك الليلة, الوعد الذي لا يموت.. وحنّة هذه ملاك من السماء ..وأنا أثق بها تماما إنها تضحي كثيراً من أجلي ومن أجل هذه الطفلة..
كنت في لحظة يأس أريد أن أنهي حياتي وأخلّص من في رحمي من هذه الدنيا التعيسة!!
وجمعت نباتاً ساما من الحقول, وبدأت أغليه لأشرب ماءه, وأقتل نفسي..وأقتل مريم!
وإذا بحنّة تحضر وتراني..
لم توبخني..لم تصلبني بوعظة طويلة عريضة, بل اكتفت بضمي إلى صدرها, ورجتني أن لا أؤذي نفسي..
قالت لي بحب مطرقة رأسها:
-يكفينا في هذه الحياة أن نلتقي شخصاً واحداً يحبنا ونحبه..كي نجد المعنى, ونتجاوز العبث, ونعيش أيامنا من أجله!!
ألا يكفي هذا يا ناديا ..ألا يكفي هذا..
وأنا أقول لكِ..أنت غالية جداً على قلبي, وإنني أقدرك وأحترم إخلاصك وصدقك..
ناديا.. لا أريدك أن تموتي.. وهذا الجنين الذي في بطنك هو وعدك لإبراهيم بأن تبقي مخلصة له للأبد ..
ما أجمل أن نعيش الحياة كلها من أجل وعد..
ما أثمن أن نبقى مخلصين لوعدنا..
كنتُ أختنق بدموعي, وأفزع بشدة لمجرد أن أتذكر أن طفلي سيكون بلا عائلة..وسيحمل هذا العار حياته كلها..
وصرت أبكي وأخبرت حنّة عن مخاوفي, فكانت تصغي إليّ بصدق ثم قالت لي:
-لا تخافي..أنامعك..وسأبقى معك..
بكيت يومها..تعانقنا ..بكينا كلانا, وكان الوقت مساءً, وكانت الوحدة شديدة عليّ في ذلك لقبو.. لكن وجود حنّة وكلامها أعطياني شيئاً من الأمل..ووعدتها أن لا أؤذي نفسي, وأن أهتم بمن في بطني, وأعيش من أجل وعدي..
-3-
وضعت حنّة طفلتي المتوردة الوجنتين, المقمطة بأقمشة بيضاء قربي فضممتها ووضعتها على صدري كي أرضعها.. هدأ صراخها حين بدأت الرضاعة..ورحت أتأمل تقاطيعها جزءاً فجزءاً..
عيناها المغمضتان كبيرتان برموش طويلة مثل أمي..وجهها المدور شبيه بوجه إبراهيم.. أما خدودها الحمراء فهي لي..إنها تشبهني حين كنت صغيرة..
كانت أمي وأخوتي يتسلّون بقرصي من خدّي كلما رأوني..أما أبي فكان يحب أن يقبلني طويلاً..كنت المدللة عنده.. الطفلة الأصغر والوحيدة بين خمسة صبيان..كنت أجلس على حضنه وألعب بشاربيه وكان هو لا يتحرك .. فقط يبتسم ويقبلني ويضمني! كان يغني لي أغنيات كثيرة ماتزال هنا في ذاكرتي. هناك ذاكرة خاصة تحفظ وجوه وأصوات من نحب للأبد..
ساد صمت عميق حين نامت مريم على صدري بعد أن رضعت وخرجت حنّة بعد أن اطمأنت على كل شيء, لتحضر القداس..طلبت منها أن تترك الباب مفتوحا قليلا كي أسمع صوت الخوري ..
وجاء بعد لحظات صمت صوته الهادئ الوقور يقول للناس المجتمعين..
-كان يوسف ومريم غرباء..كانا يبحثان عن مكان يبيتون فيه,وحين جاء مريم المخاض,كان البشر مشغولين كل في قضيته..لم يكن هناك مكان للمخلص..واختارت مريم أن تلد ابنها هنا,على الأرض الباردة الجرداء,وتضعه في مذود..على الهامش,مع الغرباء,مع المتروكين. آه...
لقد سمعنا هذه القصة مراراً ومراراً..وماذا بعد؟!
الميلاد يا اصدقائي هو أن نفهم أننا سنحاسب على الحب..حب الغرباء والمتروكين.
سنحاسب على استقبال من نرفضهم,استقبالهم بحب وفرح..استقبال من نحكم عليهم بالموت والطرد..
اليوم ولدت ناديا طفلة صغيرة..ناديا التي عاشت بيننا سنين طويلة ولا أحد سأل عنها وعن مصيرها بد غياب زوجها..كنتُ مشدودة بكليتي أصغى لكلام الخوري, وحين انقطع صوته حدث لغط وضجيج! وأدركت أن ((أبو مجد)) قد تدخل لإنهاء الوعظة بطريقة ما...ثم سمعت صوت تراتيل وصلوات...
كنت متعبة,وشرد ذهني في أفكار وخيالات كثيرة..ولم أشعر بالوقت حتى ساد صمت عميق,فأدركت أن الصلاة قد انتهت..ودخلت حنّة عليّ من جديد تطمئن..وقالت لي: إنه يجب عليّ أن أعود إلى القبو لأنام هناك . ساعدتني كي أنهض,وغطت مريم بأقمشة كثيرة وغطاء جديد صنعته بمخرزها, وانسلت مسرعة امامي..
دخلت من الباب الخلفي وأغلقته ووضعت مريم على الفراش وأوقدت المدفأة بسرعة..
أيقظتني مريم مرات كثيرة للرضاعة في الليلة الأولى. لكنني حين أقبل الصبح كنت أشعر بنشاط غريب رغم كل ما مرّ بي البارحة..فلبست ثيابي وغطيت مريم وضممتها إلى صدري وخرجت كعادتي إلى التلة أنظر في الأفق أبحث عن وجه إبراهيم.. لقد نسيت تماما أنني قد ولدت بالأمس وأنني يجب أن أبقى في بيتي أربعين يوماً!
كان الطقس بارداً, وثلج خفيف يتساقط..كنت أضم مريم إلى صدري بقوة وأنظر بين لحظة وأخرى إلى وجهها المدور..وأتخيل وجهاً مشابهاً مرسوماً في الأفق البعيد يبتسم لي.. لم أتوقف كثيرا كعادتي لم يكن هناك إبراهيم قادما..كان إبراهيم هنا بين يديّ وفي قلبي.. ذهبت بسرعة إلى الكنيسة,وجلست في زاويتي ..وانتظرت الخوري حتى ينتهي من صلاته الفرديّة .. رحب بي كعادته وحمل مريم بين يديه, وقبلها على وجنتيها وقال مبتسماً فرحاً كطفل:
-ما أجمل هذا الملاك.. إنها حقاً ملاك..
قلت له باعتزاز:
- هل هي جميلة؟
-إنها رائعة.. رائعة
لكن كان عليك أن لا تخرجي من هناك هذه الأيام ..
قلت له بجدية:
-أخشى أن تسمع الأم الرئيسة صوت مريم وتأتي وتطردنا.
رد الخوري بابتسامة عريضة:
-الأم الرئيسة تسكن في الطابق الاعلى ولن تسمها.. أما بقية الأخوات فكلهن يعرفن مخبأك..
نظرت باندهاش..فضحك بطفولية ثم أردف قائلا:
-على كل حال .. إذا كان هذا يريحك فافعليه..يمكنك أن تستعملي هذه الغرفة خلال النهار وأنا لا أطلب منك أي شيء .. فقط اهتمي بطفلتك حتى تكبر قليلا وسنتدبر الأمور هنا أنا والأخت حنّة ..
شكرت الخوري كثيراً وفرحت بغرفتي الجديدة..
ومرت الأيام , ومريم تكبر . وأنا أقضي نهاري في الكنيسة والليل في قبو الدير..
-4-
بعد بضعة أسابيع.. صرت أخشى أن تكتشف الأم الرئيسة مخبأي حين بدأت بالسعال الليل كله.. صارت تعتريني نوبات من البرودة والسخونة ثم تعرّق شديد.وبدأ جسمي ينحل أكثر..لكنني لم أكترث..لأنني كنت أرى مريم تكبر وتكتنز لحما أكثر..
صارت تبتسم لي ..تنظر إلي حين أرضعها..تبحث بعينيها عني..تحرك يديها لتمسك بشيء ما فيّ..تبكي إذا غبت عنها لحظات..كانت تنام دوماً وهي ترضع فأوقظها من جديد, وحين تشبع تغرق في نوم عميق...
كنت أغني لها ما أتذكر من أغاني أمي وأبي لي حين كنت صغيرة..وحين تنام ترفع يديها للأعلى مستسلمة بثقة غريبة لهذه الحياة..
هي تعرف أن لا شيء سيحدث لها مادمت أنا بقربها..عجيب إيمان الأطفال!!
مريم هي كل حياتي..ربما حين كنت لا أراها وي في بطني كنت أشعر بها في كل لحظة ..حركاتها وسكناتها ..أما الآن فهي كل شيء مختلف إنها كائن آخر..قطعة مني ومن إبراهيم خارجي..خارج رحمي..مقصوص حبلها السرّيّ لكنها قريبة جدا إليّ..لماذا يتطلب الحب الانفصال!!
لماذا يجب أن يكون من نحب كائناً بحد ذاته ..خارجا عنا!!
لماذا لا نستطيع أن نضعه في أحشائنا ...الحب مؤلم!!
-5-
مريم تنمو بسرعة وتبدو أكبر من عمرها الحقيقي..وأنا فرحة جدا بذلك ..لكن ماقصة هذا السعال الذي لا يتركني!
جفلت اليوم حين رأيت بعضا من الدم على المنديل..اعترتني بعدها نوبة من السخونة
شعرت أن جسمي يلتهب ثم بدأت قشعريرة شديدة وتعرّقت بغزارة..وحين أتى الصباح لم أستطع أن أذهب إلى التلة لأنتظر إبراهيم...واتجهت مباشرة إلى غرفتي في الكنيسة واستقليت على الفراش..
أتت حنّة لتزورني كعادتها بعد الظهر ولاحظت قلقي وشحوبي فأخبرتها عن الدم والسعال,فطمأنتني رغم تغيّر أساريرها...وقالت لي لي بهدوئها الطيب الحنون:
-يبدو أن القبو رطب وبارد..يجب أن نجد مكان أفضل ..ودعتني يومها وذهبت,أتت إليّ في اليوم التالي ببعض اللأعشاب للسعال ونزلة البرد..شربتها وطمأنتها أنني لم أبص دما من جديد.. فارتاحت قليلاً...
أتى آذار وصار الطقس أفضل. لكن سعالي لم ينقطع, وبين حين وآخر كنت أبصق دماً مع السعال..ولم أهتم كثيرا لذلك وكانت حنّة تأتيني بالأعشاب, وتسقيني مغليّها وهي تنظر بقلق.. وذات يوم طلبت مني أن أذهب معها إلى الطبيب, لكني رفضت وأخبرتها أنني أشعر بتحسن كبير بفضل هذه الأعشاب..
في اليومين التاليين ازدادت شدة المرض عليّ ولم أعد أستطيع أن أرضع مريم فكانت تبكي اليوم كله.. جاءتها حنّة ببعض حليب البقر لكنها رفضت وبقيت تبكي بعصبية ودموع... كان جسمي يضعف أكثر ويهزل وكانت نظرات حنّة تزداد قلقا وعطفا..وبدأت أشعر هذا المساء بأنني مريضة حقا ..ازدادت شدة السعال, وتواترت نوبات التعرّق والحمى, فكنت أنتفض في فراشي, وحنّة تضع عليّ الرفاد البارد وقت الحمى وتغطيني بالأقمشة واللحاف حين تأتيني القشعريرة...
حملت حّنة مريم وضمتها إلى صدرها ..
إنني أراهما الأن من خلال الغشاوة التي تتشكل أمام عينيّ..هذا إبراهيم يطل عليّ من بعيد..
لماذا تأخرت يا إبراهيم ؟!!
لماذا يغلفك الضباب؟؟!
ألا تعلم أنني بانتظارك ! هذه ثمرة حبنا ..
هل تذكر ليلة السطح.. بالتأكيد تذكرها ..تبّاً للحرب..لماذا أخذوك ... ألا يعرفون أنني أحبك؟؟!
وأنني لا أستطيع أن أعيش بدونك..
أنظر مريم ..خداها متوردان مثلي ..ووجهها مدوّر مثل وجهك.. إبراهيم لماذا تأخرت؟؟
أنني أشتقت أليك ..هل أنت آتٍ لتضمنا كلنا إلى صدرك ...كم أنا بحاجة إلى حبك!!
الغشاوة تزداد ..الصوت يبتعد ..إبراهيم يقترب..يغلفه الضباب أكثر ...السعال يزداد .
أعتقد أنني أبصق دماً كثيراً..الدم اللزج غطّى وجهي وعنقي. لم أعد أرى مريم وحنّة ..
لم أعد أسمع صوتهما...
أشعر بالبرد , مرقس الصغير يبكي,لماذا يا مرقس؟؟! لماذا لا تلعب مع نخلة وسليم؟!
هذه مريم تنضم إليكم !! وأبوك آت ليضمنا إلى قلبه ..السماء غائمة ..البحر يغمر رئتيّ..لا أسمع صوت تنفسي. القمر الذي انسكب على شعري في تلك الليلة يبتسم لي..
إبراهيم يقترب.. إنني ألمحه.. سأضمه عما قريب
وانشاالله تنال اعجابكم
يتبع