البحر

شام

جنرال

إنضم
Jan 17, 2009
المشاركات
5,509
مستوى التفاعل
72
المطرح
بين اجمل 3 عصافير في الدنيا
البحر


البحر
الشيخ/ ناصر بن محمد الأحمد

إن الحمد لله...
إن البحر بأمواجه وأسراره آية من آيات الله -تعالى- في هذا الكون..
البحر: مخلوق عجيب، ونبأ غريب، آية من آيات القدرة الباهرة ودليل من دلائل العظمة الفائقة، عالم غريب، ومَركَب رهيب مهيب.
هذا هو البحر: بجماله وجلاله، وعظمته وأهواله، وتغير أحواله وديع حتى ليلعب به طفل صغير، وجبّار يرتعد فيُهلك الأسطول الكبير هادئ هادر، ثابت ثائر، بار غادر، إنه صورة صادقه من صور الزمان في إقباله وتجهمه، وابتسامه وعبوسه، ومده وجزره ولينه وشدته، وحلاوته ومرارته، قال الله -تعالى-: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [(22) سورة يونس].
فهو مُتَقلِّب تقلب الزمان متغير تغير الحياة، يأتي إليه المؤمن الخاشع فيجلس أمامه، فيقرأ فيه دلائل العظمة، وآيات القدرة، ويزيده إيماناً إلى إيمانه، ويقيناً إلى يقينه، فيقوم عنه ذاكراً شاكراً: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [(14) سورة النحل].
ويجلس به المهموم الذي ضاقت به نفسه وأظلمت أمامه الحياة، ولم يجد في البر مأوى يسكن إليه، أو ركناً يأوي إليه، فيشتكي له الهم، ويبثه الغم، ويتنفس الصعداء على شاطئه، فيقوم عنه وقد هدأ همّه، وخفت وطأة غمّه.
فكم من دموع أريقت على شاطئه، وكم من نفس بكت على ساحله!! الخلوة مع الله -تعالى- على البحر لها طعم آخر، والخلوة مع النفس على البحر -أيضاً- لها طعم آخر!!.
عجبت لهذا البحر لازال بالفضل زاخراً
إذا ما أتاه المرء بالهمّ مثقلاً
إذا بثه الأحباب ما في نفوسهم
هواء عليل يمتع النفس كلما
ويحلو لذي الإيمان تسبيح ربه
يرى من هُدى الباري وآثار فضله
فكم نظرة للبحر نفاذة الرؤى
يشابه في مذخوره لغة الضادِ
يرى فيه تنفيساً لكرب وأنكاد
رأوا فيه ترويحاً لآهات أكباد
سرى طيبه أزكى من المسك والكادي
على شاطئ فيه انسجام لمرتاد
دلائل للتوحيد من غير أنداد
تسل سيوف الفكر من بعد إغماد

البحر: صبور لا ييأس، مجد لا يمل، قوي لا يضعف، يحارب الصخور الصماء فيقلبها بصبره، وينال من قسوتها وصلابتها مع رقته وسلاسته، ويذيبها في نفسه، فإذا هي لا شيء، وإذا هو كل شيء.
كم مرت به من أمم؟! وكم عبرت عليه من دول؟! وكم استمتع بروعته من أناس؟! فمضوا وانقضوا، وتولوا وانتهوا وهو لا يزال صامداً ثابتاً، رابضاً في مكانه، معتزاً بقوته، لا يخشى ملِكاً لملكه، ولا جباراً لجبروته، ولا غنياً لغناه، ولا فقيراً لفقره، ولا بائساً لبؤسه.
البحر: خلق من خلق الله، يعبد الله ويوحده، ومن عجائبه التي تدل على إدراكه وعبوديته لله -تعالى-، أنه يعظم عليه أن يرى ابن آدم يعصي الله -تعالى- مع حلم الله عليه، فيتألم البحر لذلك وينـزعج، فيتمنى هلاك عصاة بني آدم، بل وأخبر النبي --صلى الله عليه وسلم- أن البحر يستأذن ربه في ذلك ففي مسند الإمام أحمد فيما رُوي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-- أن النبي --صلى الله عليه وسلم-- قال: ((ليس من ليلة إلا والبحر يشرف فيها ثلاث مرات يستأذن الله أن ينفضح عليهم فيكفه الله)) فلا إله إلا الله، البحر يتمعر ويتمنى إغراق العصاة ويستطيع ولكنه مأمور بالكف والإمساك.
قال ابن القيم --رحمه الله--: "وإذا تأملت عجائب البحر وما فيه من الحيوانات على اختلاف أجناسها وأشكالها ومقاديرها ومنافعها ومضارها وألوانها، حتى إن فيها حيواناً أمثال الجبال لا يقوم له شيء، وحتى أن فيه من الحيوانات ما يُرى ظهورها فيُظنّ أنها جزيرة فينـزل الركّاب عليها فتحس بالنار إذا أوقدت فتتحرك فيُعلم أنه حيوان، وما من صنف من أصناف حيوان البر إلا وفي البحر أمثاله حتى الإنسان والفرس والبعير وأصنافها، وفيه أجناس لا يعهد لها نظير في البر أصلا".
وقال -أيضاً- --رحمه الله--: "انظر إلى عجائب السفن وسيرها في البحر تشقه وتمخره بلا قائد يقودها ولا سائق يسوقها وإنما قائدها وسائقها الرياح التي يسخرها الله لإجرائها، فإذا حبس عنها القائد والسائق ظلت راكدة على وجه الماء قال الله -تعالى-: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ*إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُور} [(32-33) سورة الشورى].
كم أوجد الباري به من عوالم
إذا كانت الأسماك تأبى فنونها
فكيف بآلاف الأعاجيب غيرها
وفيها من الآيات ما يذهل النهى
وكم آية لله تروي بنفسها
تحدث عن إعجاز خلق وإيجاد
وألوانها أن تنطوي تحت أعداد
من رائح في لجة البحر أو غاد
وذلك ما يرويه أرباب أرصاد
شواهد للإبداع من غير إسناد

تشغل البحار و المحيطات، حيزاً كبيراً من سطح الأرض، يبلغ نحو ثلاثة أرباعه، وتختلف صفات الماء عن الأرض، بسهولة تدفقه من جهة إلى أخرى، حاملا الدفء أو البرودة.
فهو يباري الزمان في دوامه، ويطاول الخلود في بقائه، تمر آلاف الأعوام، بل وعشرات الألوف والملايين، وهو في يومه، هو أمسه وغده، تنقلب الجبال أودية، والأودية جبالا، والبحر هو البحر، بجماله ومتعته، إلاّ أنه قوي مدمّر مخيف! فما أقواه وما أقساه! فإنه أحياناً يكاد يكون أقوى وأقسى ما في الوجود على وجه الإطلاق يجرف كل ما يقف في سبيله، يسبب كوارث الفيضانات، ويفتت الحجر، وتهوي تحته الصخور، لها لجج متصاعد كالجبال وخنادق منخفضة كالأودية، إن ارتفاع ماء البحر لقدم واحد يعطيه من القوة ما يدمر ما زنته ستة آلاف رطل.
فهو على لينه وسهولته لكنه يجرف جبلاً على جبروته وكبريائه.
ففي عام 1288هـ اقتلعت موجة عاتية في اسكتلندا مرسى حديدياً زنته مليونا و 700 ألف رطل، وموجة أخرى حملت صخرة وزنها 175 ألف رطل إلى ارتفاع مائة قدم.
وفي عام 1149هـ -وفي أحد الموانئ- هاج البحر وقتل 300 ألف إنسان ودمر 20 ألف مركب، قال الله -تعالى-: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} [(40) سورة النــور].
هذا هو البحر إذا هاج وماج، ولكن بعدما يصفو الجو، وتعتدل الرياح، إذا بذلك الأسد الهزبر، ينقلب هادئاً ساكناً، وتظهر السماء وتنكشف الأرض، فلا يملك الإنسان إلا أن يسبح بحمد الله قائلاً: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [(117) سورة البقرة].
إنه البحر: عمقه هائل، موجه مضطرب، حركته دائمة، قوته ضخمة بطشته قاتلة، وثبته مدمرة.
إن زمجرت يوماً تثير انفعاله
إذا ثار فهو الخوف والموت والردى
إذا ما ارتدى ثوب الرضى كان سلوة
فإن هاج لم يأبه لجار وصاحب
قوي صبور صامد كم توافدت
ولا زالت الأمواج منذ ابتدائه
تنقض أمواج لها صوت إرعادِ
وتعشقه الأرواح في ثوبه الهادي
لأضيافه من كل جمع وآحاد
فكم من دمار واقتحام وإسهاد
عليه البرايا ثم تمني بإحصاد
توالي خطاها في هبوط وأسناد

عجيب هذا البحر، وأعجب منه خلق الإنسان، وهناك تشابه في بعض الخصائص والصفات بين البحر والإنسان، ولذا لا عجب إذا كانت النفس تأنس بالبحر، فالبحر مخلوق لا محدود، والنفس -أيضاً- مخلوق لا محدود، والنفس عميقة كالبحر، بل هي أعمق من البحر، وأدق من البحر، والنفس تهيج كما يهيج البحر، وتهدأ كما يهدأ، والنفس تحوي من الدرر والأصداف كما يحوي البحر من الدرر والأصداف، وتتكسر موجاتها كما تتكسر موجاته، وترغي وتزبد كما يرغي ويزبد ولها مد وجزر كما له مد وجزر، وترى منها الجمال وترى منها العنف كما ترى الجمال والعنف في البحر.
وفي البحر أسرار وأسرار، فقد اكتشف علماء البحار أن هناك اختلافاً بين عينات مائية أخذت من البحار المختلفة، فَعَرَفَ الإنسان أن المياه في البحار تختلف في تركيبها عن بعضها البعض، من حيث درجة الملوحة، ودرجة الحرارة، ومقادير الكثافة، وأنواع الأحياء المائية، ولقد كان اكتشاف هذه المعلومة بعد رحلة علمية استمرت ثلاثة أعوام، جابوا جميع بحار العالم. وقد جَمعت الرحلة معلومات من 362 محطة مخصصة لدراسة خصائص المحيطات.
وملئت تقارير الرحلة 29.500 صفحة في خمسين مجلداً استغرق إكمالها 23 عاماً.
وإضافة إلى كون الرحلة أحد أعظم منجزات الاستكشاف العلمي، فإنها أظهرت كذلك ضآلة ما كان يعرفه الإنسان عن البحر.
هل تعلم -يا أخي الحبيب- أن من أهم أسبابِ البقاءِ لحياةِ الأرضِ ومَن عَليها كونُ ماء البحرِ مالحاً، بل واكتساحُهُ ثلاثةَ أرباعِ المساحةِ الأرضيةِ، فلو فُرِضَ أن البحرَ فقدَ مُلوحَتهُ، وتحوّلَ ما فيه من ملايين الملايين من الأطنانِ المائيةِ إلى عذوبةٍ فإنَ ذلكَ سَيؤُدي حتماً إلى تَعفُنٍ في جوِ الأرضِ، لأن من شأنِ الماءِ العذبِ، أن يَنْتِنَ من كثرةِ الوقوفِ وتأثيرِ الشمسِ فيهِ، ولو كان كذلك لسارتِ الرياحُ بِنَتَنِهَا إلى أطرافِ الأرضِ فأدت إلى فسادِ الهواءِ ويُسمى ذلك طاعوناً، ولو كان البحرُ حلواً لأنتنَ من موتِ حَيوانهِ فيهِ، فاقتضتْ حكمةُ المولى العليم الخبير أن يكونَ ماءُ البحرِ مِلحاً أُجَاجاً مُراً زُعَاقاً لدفعِ هذا الفسادِ، ولو أُلقيَ فيه جِيفُ العالمِ كُلِهِ وأنتَانِه وأمواتِه لم تغيّرهُ شيئاً، ولا يتغيّر على مكثهِ من حين خُلِقَ إلى أن يَطوي اللهُ -تعالى- هذا العالمَ، وصدقَ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إذ قال في البحرِ: ((هو الطهورُ ماؤُهُ الحلُ مَيتَتُهُ)).
إن البحر جند من جنود الله، يَنتقم به ويُهلك فيه من شاء من أعدائه -جل وعلا-، وينصر وينجي به من شاء من أوليائه، والمعركة بين الحق والباطل مستمرة إلى قيام الساعة، حتى ينصر الله أولياءه ويهلك أعداءه.
ونحن المسلمين بيننا وبين البحر صداقة قديمة، ومحبة عريقة، إنها قديمة قدم التاريخ، عميقة عمق البحر، لقد كان للبحر دور في نصرة الدعاة وتأديب الطغاة.
خرجَ موسى -عليه السلام- منْ مصرَ وأصبحُوا وليسَ منهمُ بمصرَ داعٍ ولا مجيبٍ، فغضِبَ فرعونُ غضَباً شديداً، وأرسلَ في المدائنِ حاشِرينَ، وجَمعَ جنداً عظِيماً وهو يقولُ: {إِنَّ هَؤُلَاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ*وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ} [(54-55) سورة الشعراء].
جَمعَ جُنْدَهُ واستوثَقَ لهُ جيشُهُ، وخرَجَ في محفلٍ عظيمٍ، ومعهُ الأمرَاءُ والوزرَاءُ والرؤسَاءُ والكبرَاءُ، لِيرُدَهُم إلى عَبَودِيتَهُ، وكانَ بنُو إسرائيلَ قد بَلغُوا سَاحل البحرِ الأحمرِ، أدركَهُم فرعونُ فأيقَنُوا بالهَلاكِ وقالوُا: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [(61) سورة الشعراء] فَسَكَّنَ موسَى رَوعَهُم وقالَ لهم: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [(62) سورة الشعراء].
وقف موسى -عليه السلام- ببنيِ إسرائيلَ، البحرُ أمامَهُم، وفرعَونُ وجُنُودُهُ وراءهُم، عندَ ذلكَ، أوحى اللهُ إليه {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ...} [(77) سورة طـه] فضَربَ موسَى بعصَاهُ البحرَ فانفَلقَ {فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [(63) سورة الشعراء].
أي صارت كل قطعة من البحر قائمة عن يمين الطريق وعن يساره كالجبل العظيم، قال ابن عباس --رضي الله عنه-ما-: صار البحر اثني عشر طريقاً لكل سبط طريق.
وقام البحر كالحيطان، وبعث الله الريح إلى قعر البحر فلفحته فصار يبساً كوجه الأرض، قال الله -تعالى-: {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَّا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى} [(77) سورة طـه].
وأمرَ موسى -عليه السلام- بني إسرائيلَ بالعُبورِ، فعبرُوا من الشَاطئِ الغربِّيِ إلى الشاطئِ الشرقيِّ، وصَلَ فرعونُ إلى موضِعِ العُبورِ، فرأى طريقاً في البحرِ لا وعُورةَ فيه، وبني إسرائيلَ بينَ جانبيّ الماءِ طَمِعَ فرعَونُ أن يَعبُرَ في أَثرِهِم، فَيرُّدَهُم هو وجُنودُهُ فاقتحَمُوا الطريقَ خَلفَ بني إسرائيلَ، فغشِيهَم من اليَمِّ ما غشيِهَم، وأصَابهُمِ من ماء البحرِ ما أصابهُم، وحينَ توسطَ فرعونُ البحرَ هو وجنودُهُ أمرَ اللهُ البحرَ فانطَبقَ عليهم وأغَرَقَ فرعَونُ وجنودُهُ، فانْظرْ كيفَ كانَ عاقبةُ المجرمين {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ*َأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ*إِنَّ هَؤُلَاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ*وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ*وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ*فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ*وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ*كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ*فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ*فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ*قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ*فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ*وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ*وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ*ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ*إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ*وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [(52-68) سورة الشعراء].
ألا أيها البحر يا خير آية
لنا ذكريات فيك تزهو بطيفها
حملت كليم الله طفلاً ملففاً
مضيت به للمارد الكافر الذي
وما زلت في حب لموسى ونصرة
هوى بالعصا موسى فحييت صوته
فلما أتى فرعون يزهو بجيشه
وأبقيت للذكرى مدى الدهر آية
على روعة الإبداع للخالق الهادي
وتبعث في أرواحنا عطر آباد
بأمر من الباري على متن أعواد
طغى وانبرى ما بين قتل وإفساد
وكنت لجند الحق تسعى بإمداد
بخير دروب آمنات كأطواد
تدافعت الأمواج فتكاً بأوغاد
فناء لأرواح ومكث لأجساد

ولنا مع البحر قصة أخرى لداعية آخر: وهو نبي الله يونس -عليه السلام-.
لما ركب يونس -عليه السلام- في السفينة المحملة بالبضائع، هاجت الرياح من كل ناحية، حتى كادت السفينة أن تَغرَق بمن فيها، فاتفق ركابها على عمل قرعة، ومن تقع عليه يُلقَ في البحر لتخف حمولة السفينة فوقعت القرعة على نبي الله يونس -عليه السلام- ثلاث مرات، وهم يضنون به أن يلقى من بينهم، فأرسل الله له حوتا فابتلعه، وأمر الله الحوت أن لا يكسر له عظماً أو يجرح له لحما، وطاف به البحار، وغاص به إلى أعماقها، وبقي بداخله أياماً عدة، حتى سمع تسبيح حيواناتها وحيتانها، فسبَّح الله -تعالى- واستغفره من هنالك، كما قال -تعالى-: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ*إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ*فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ*فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ* فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ* لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ*فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ*وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ*وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ*فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [(139-148) سورة الصافات].
ويونس لما ساهم الركب سهمه
سعى الحوت مأموراً به لالتقامه
فقام يناجي ربه في ظلامه
يناجي الذي ما خاب من يحتمي به
أتى أمره للحوت أن ألق يونساً
فألقى به مضنى إلى ظل دوحة
رماه بلج منك من غير إنجاد
فأمسى بجوف الحوت في هول إرعاد
بأزكى دعاء في خضوع وترداد
غياث لملهوف ملاذ لقصاد
فما لك فيه أيها الحوت من زاد
وبادر يقطين لستر وإضماد

وقبل هؤلاء جميعاً قوم نوح، فإن الله -تعالى- لما أراد إهلاكهم، أمر نبيه نوحاً -عليه السلام- أن يصنع سفينة فصنعها، ولما بدأ الطوفان أمره الله بالركوب فيها مع من آمن معه، وعمّ الطوفان جميع الدنيا حتى بلغ قمم الجبال العالية، فنجاه الله -تعالى- ومن معه من المؤمنين، وأغرق من كفر بالله رب العالمين، قال الله -تعالى-: {فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ} [(64) سورة الأعراف].
وأخبر -تعالى- أنهم كانوا ظالمين -أيضاً- فقال -تعالى-: {فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} [(14) سورة العنكبوت]، وهكذا فإن عاقبة الظلم وخيمة في الدنيا قبل الآخرة.
وقوم لوط الذين كانوا يعملون فاحشة اللواط التي ما سبقهم إليها أحد من العالمين، كانت عقوبتهم كما أخبر الله -تعالى- عنهم بقوله: {فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ*مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنْ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [(82-83) سورة هود].
وقوم لوط كانوا في قرى سدوم بالأردن، فرفعهم جبريل -عليه السلام- على جناحه إلى السماء مع قراهم ومدنهم، حتى سمعت الملائكة صياح الديكة، ونباح الكلاب، ثم قلبها بهم وصار عاليها سافلها، فغاصوا في الأرض تحت سطح البحر، والمكان الذي قلبهم فيه جبريل -عليه السلام- يعرف اليوم بالبحر الميت. فهذه كانت بعض الحوادث التي ذكرها القرآن الكريم عمن أهلكهم أو نجاهم في البحر.
ولنا -أيضاً- مع البحر قصص أخرى عظيمة وعجيبة أيام سعد بن أبي وقاص --رضي الله عنه--، وأيام القواد الفاتحين والأبطال المجاهدين مما سجله التاريخ وتحدثت به الدنيا حتى مشوا بخيولهم على الماء وعبروا بها في وضح النهار.
قومٌ مشَوُا فوقَ المياهِ وَصَّيرُوا مِنْ تَحتِهم مَتْنَ الهواءِ رَكائِبَا
أعجبُ مَشيٍ فَوقَ الماءِ، قِصَةُ سعدُ بنُ أبي وَقاصٍ يومَ المدَائنِ، ودِجْلَةَ تَفيضُ وترمي بِزَبَدِها، وسَعدٌ --رضي الله عنه-- يُريدُ الوصُولَ إلى الفُرْسِ في النَاحِيةِ الأخرِى منَ النهرِ، فيستَشِيرُ سلمَانَ الفَارسِيَّ بعدَ أن يتَأكدَ مِنْ خُلُوِ الجَيشِ الإسْلاميِّ من المعَاصِي والذنُوبِ، ويمشي سعدٌ بجيْشٍ عظيمٍ على الماءِ بقدرَةِ الواحدِ القَهارِ، ويَعْبُرُه إلى الفُرْسِ، ويَكُونُ النصَرُ بإذنِ اللهِ.
اسّمعْ لهذا الحديثِ الأخوِيِّ، بينَ سلمانٍ وسعدٍ --رضي الله عنه-ما-، وهما يسِيرَانِ فوقَ الماءِ: ذكرَ سلمانُ الحديثَ الذي رواهُ هو عنْ رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: ((إنَ المسلمَ إذا لقيَ أخَاهُ فأخذَ بيدِهِ تحّاتَتْ عنهُمَا ذُنُوبهمَا كما يتحَاتُ الورَقُ عنِ الشجرَةِ اليابسَةِ في يومِ ريحٍ عاصفٍ، وغُفرَ لهُمَا ولو كانتْ ذنُوبهُمَا مِثلَ زَبَدِ البحرِ)).
يذكرُ سلمانُ هذا الحديثِ ويُسْمِعَهُ سَعْدَاً وهوَ يرىَ زَبَدَ البحْرِ يتلاطَمُ مِنْ حَولِهِ، والخيل تعومُ بهم وسعدٌ يقولُ: "ذلكَ تقديرُ العزيزِ العليمِ، حسبُنَا اللهُ ونعمَ الوكيلُ، واللهِ لينصُرَنَّ اللهُ ولِيَّهُ، وليظْهِرَنَّ دِينَهُ، ولَيهزِمَنَّ اللهُ عَدوَهُ، إنْ لم يكنْ في الجيشِ بَغيٌ أو ذُنوبٌ تَغلبُ الحسنَاتِ".
قال له سلمان: "الإسلامُ جديد، ذُلّلت لهم والله- البحور، كما ذُلّل لهم البر، أما والذي نفسُ سلمانَ بيدهِ، ليَخْرُجُنَّ منه أفواجاً كما دخَلوُهُ أفواجاً"، وغطَى المسلمونَ سطحَ الماءِ، حتى ما عادَ يُرَىَ الشَاطِئِ، وعبرُوا وخرجُوا منهُ كما قالَ سلمانُ: "لم يَفقِدُوا شيئاً ولم يَغَرَقْ منهم أحدٌ".
ويمضي شريط الذكريات الذي لنا
أولئك جند الله ساروا بخيلهم
وجن جنون الفرس والروم إذ رأوا
هوى عرش كسرى وانقضى ملك قيصر
طويناه نروي قصة المجد والتقى
وكم راية في الصين والهند تعتلي
دعاة إلى التوحيد والعلم والرضى
سلوا كل بحر عن علانا ويابس
سلوا المغرب الأقصى وأزهار فارس
سلوا كل نهر أو محيط عن الذي
تجلى لكم من دفتر المجد أسطراً
مع البحر من مجد تليد وإسعاد
على البحر حتى هابهم كل صداد
خيولاً على الأمواج تمضي بآساد
ونادى مناد الحق في الحضر والبادي
فكم من جموع عابرات وأفراد
تُحدث عن أحفاد سعد ومقداد
لجند رسول الله من خير أحفاد
سلوا السهل والصحراء والتل والوادي
وأمواج أوربا وآثار بغداد
طواه احتساباً من دعاة وقواد
محيطاتها من أطلسيٍّ ومن هادي

ومن عمق علاقة المسلمين بالبحر ما ذكر أن أسطول معاوية -رضي الله عنه- في البحر قد بلغ ألفاً وسبعمائة سفينة كاملة العدد والعدة، وقد قطع البحر الأبيض المتوسط ووصل إلى أسوار القسطنطينية، فحاصرها حيناً من الزمان.
وأما معركة ذات الصواري البحرية فلها شأن آخر، لقد تحول البحر المتوسط بعدما كان بحراً رومياً خاضعاً لسطوة وطول باع أسطول الروم في البحار، ولضخامة عدد سفنه وخبرته وفنون الإبحار، أصبح البحر المتوسط بحراً إسلامياً، وصار الأسطول الإسلامي سيد مياه البحر الأبيض حصل ذلك كله بعد معركة "ذات الصواري".
بعدها عكف المسلمون على دراسة العلوم البحرية، وصناعة السفن، وكيفية تسليحها، وأسلوب القتال من فوقها، وعلوم الفلك المتصلة بتسييرها في البحار ومعرفة مواقعهم على المصورات البحرية المختلفة، فعرفوا البوصلة الفلكية، وطوروها إلى المدى الذي استفاد منه بعد ذلك البحارة الغربيون في اكتشافاتهم.
صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا ثم قال: أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفور لهم)). [رواه البخاري].
وعَنْ يَعْلَى بْنِ شَدَّادٍ عَنْ أُمِّ حَرَامٍ عَنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: ((الْمَائِدُ فِي الْبَحْرِ الَّذِي يُصِيبُهُ الْقَيْءُ لَهُ أَجْرُ شَهِيد، وَالْغَرِقُ لَهُ أَجْرُ شَهِيدَيْنِ)) [رواه أبو داود وهو صحيح]..
وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((غزوة في البحر خير من عشر غزوات في البر، ومن أجاز البحر فكأنما أجاز الأودية كلها، والمائد فيه كالمتشحط في دمه)). [صححه الألباني -رحمه الله- في صحيح الجامع].
وهكذا كان لسلفنا -رضي الله عنهم وأرضاهم- جولات مع البحر وصولات، عبروه إلى أنحاء الدنيا فأشرقت بهم الرسالة، وانتشر بهم ضياء الوحي.
وأذكرك هنا أن تسرح بخيالك سريعاً؛ لتقيم مقارنة بين موقفهم من البحر وموقفنا منه، ولا سيما إذا كنت قد مررت على الكثير من بلدان المسلمين في هذه الأوقات، فوقفت على شواطئها، وسرت على سواحلها، ورأيت أموراً تنكس الرأس، وتجلب الذل، وتكدر الخاطر، لغطٌ وصخب، خمور وفجور، عري وتفسخ، عهر وهمجية، وقاحة وحيوانية.
يهدأ البحر ولا يهدأون، ويبيت البحر ولا يبيتون، ويُسبح البحر ولا يُسبحون، والأسماك في جوفه، والمخلوقات في قعره تذكر خالقها وتسبح رازقها، تسير بأمره، وتسبح بحمده، وتعرف قدره، وهي تستغفر لطالب العلم في لجته، وهم يعلنون الحرب على الدين على ساحله!!.
أهكذا يصل بنا الحال نحن المسلمين في علاقتنا بالبحر، لم نكتف بمعصيته في البر، فعصيناه في البحر.
أما لنا عبرة بما حلّ ببعض الكفرة في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، عندما صنع الإنكليز باخرة عظيمة كانت -كما يقولون- فخر صناعاتهم، ومجد اختراعاتهم، ثم انطلقت في رحلة ترفيهية، على متنها علية القوم ونخبة المجتمع، كما يصفون أنفسهم، وقد بلغ الفخر والاعتزاز ببناة السفينة درجة كبيرة من الكبر والغرور فسموها "الباخرة التي لا تقهر" وقد اشتهرت باسم "تايتنك" بل سُمع أحد أفراد طاقمها يتشدق فخراً أمام بعض كبار ركّابها بما ترجمته: "حتى الله نفسه لا يستطيع أن يغرق هذا المركب" \جل الله وتعالى وتقدس أن يعجزه شيء في السماوات أو في الأرض.
وفي اليوم الثالث من سيرها في المحيط الأطلسي، وفي خضمّ كبرياء صنّاعها وركّابها، شاء الله -تعالى- أن تصطدم بجبل جليدي عائم، فيفتح فيها فجوة بطول90 متراً، وبعد ساعتين وربع الساعة، تستقر الباخرة التي زعموا أنها لا تقهر، تستقر في قعر المحيط، ومعها 1504 راكب وحمولة بلغت 46 ألف طن {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [(40) سورة العنكبوت].
فلا إله إلا الله، ما أهون الخلق على الله -تعالى- إذا عصوه، سنة الله في الأولين والآخرين.
قال الله -تعالى-: {فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} [(55) سورة الزخرف].
أجل لقد أغرقهم أولاً، ثم أماتهم ثانياً، ليجمع لهم بين الخوفين خوف الغرق وخوف الموت.
وهكذا تحول هذا الماء الذي هو سبب الحياة لكل من عليها، تحول إلى سبب دمار وهلاك لقوم نوح -عليه السلام- زمن الطوفان، وغرقٍ وهلاكٍ ودمارٍ -أيضاً- لفرعون وجنده، وللغواصة الإنكليزية، التي أصبحت بمن فيها حديثاً يتناقله الناس على مستوى العالم، حيث مزقهم الله كل ممزق، وجعلهم أحاديث للناس، انتقاما لأوليائه، وشفاء لصدور عباده المؤمنين. أما الاعتذارات، وإعلان الحداد، وإيقاد الشموع، وتنكيس الأعلام، وتوقف محطات الإذاعة والتليفزيون عن بث البرامج الترفيهية، فكل ذلك لن يجدي نفعاً بعد أن كان أمر الله مفعولا.
وليعلم اليهود وغيرهم من الدول النصرانية الكافرة، المعادية للإسلام والمسلمين، ليعلموا جميعاً أنهم إنما يحاربون الله، وأن الله موهن كيدهم فمهما حاربوا الإسلام والمسلمين، فإن ربك لهم بالمرصاد، وهذه الكارثة آية من آيات الله، خوفهم الله -تعالى- وأنذرهم بها، فعليهم الرجوع عما هم عليه من إلحاد وبغي وظلم واعتداء على عباد الله الآمنين.
وعلى الأمم عامة أن تنسجم مع الظواهر الكونية الأخرى في الخضوع لله -تعالى-، وذلك ببذل خيرها وكف شرها، لكي تنسجم معهم تلك الظواهر هي الأخرى، فلا تكف عنهم خيراً، ولا تضطرب منفعلة باضطرابهم فتغمرهم شراً.
إن عذاب الله وعقابه للأمم والدول ليس نوعاً واحداً، ولا لوناً معيناً، بل جرت سنة الله -تعالى- في تنويعه على ألوان مختلفة متنوعة، فقد يكون الهلاك بصاعقة أو بغرق، أو يكون فيضاناً أو ريحاً أو خسفاً أو قحطاً ومجاعة، أو ارتفاعاً بالأسعار أو أمراضاً، أو ظلماً وجوراً، وذلك بأن يسلط على بعض عباده حكاماً ظلمة، يسومون الناس سوء العذاب، أو يكون فتناً بين الناس واختلافاً أو مسخاً في الصور، كما فعل ببني إسرائيل فمسخهم قردة وخنازير أو مطراً بالحجارة، أو رجفة، فالكل عقاب من الله -تعالى-، وعذاب يرسله على من يشاء من عباده، تأديباً لهم، وردعاً لغيرهم.
وقد جاءت كل هذه الأنواع في كتاب الله فاقرأوا مثلاً- قول الله -عز وجل- في الصاعقة: {فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ} [(44) سورة الذاريات] وقوله في الغرق: {فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} [(136) سورة الأعراف].
وقوله في الفيضان والطوفان: {فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} [(14) سورة العنكبوت]. وقوله في الريح: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} [(6) سورة الحاقة]. وقوله في الخسف: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} [(81) سورة القصص]، وقوله في القحط والمجاعات وارتفاع الأسعار وانتشار الأمراض: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ} [(168) سورة الأعراف] ويقول -عز وجل-: {فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء} [(42) سورة الأنعام] فالسيئات تعم كل ما يسوء الإنسان، والبأساء هي الفقر والشدة والجوع والقحط والضراء هي الآفات ومنها الأمراض.
وقوله ¬¬¬¬-¬عز وجل- في الظلم والجور: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [(59) سورة القصص]. وقوله في الفتن بين الناس والاختلاف والتحزّب والعذاب العام: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ} [(65) سورة الأنعام].
وقوله في مسخ اليهود قردة وخنازير: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} [(60) سورة المائدة]، وقوله في المطر بالحجارة: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ*مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [(82-83) سورة هود].
وقوله في الرجفة: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [(78) سورة الأعراف].
وغيرها كثير في كتاب الله -تعالى-. لكن الدرس الذي يجب أن نأخذه مما سمعنا، هو أن الظلم ودولته لا يدومان، وأن الله ليس بغافل عما يعمل الظالمون، وأن الله -تعالى- يمهل ولا يهمل، كما قال -تعالى-: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [(183) سورة الأعراف].
وأنه -جل وعلا- ينتقم لأوليائه من أعدائه متى شاء وكيف شاء، وأنه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وأنه إذا أراد أمراً فإنما يقول له كن فيكون، وأن على المؤمنين أن لا ييأسوا من نصر الله، فوالله الذي لا إله غيره، إن الذي نصر الأنبياء والمرسلين لقادر على أن ينصر أتباعهم المؤمنين ليس في الدنيا فقط، بل في الدنيا والآخرة، ولو طال الزمان قال الله -تعالى-: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [(51) سورة غافر] لكن ما علينا إلا أن ننصر الله -تعالى-، وذلك بالتزام شرعه قولاً وعملاً واعتقاداً، والانتهاء عما عنه نهى وزجر قولاً وعملاً واعتقاداً.
ألا أيها البحر هلا رويت لي
وعمن مضى من قوم نوح وتبّع
وعن آل ساسان الذين تألقوا
وعمن قضوا ليلاً من الأنس حالماً
وعن باطش للهول والموج ماخر
وعن مؤمن خاض المحيطات صابراً
وعن أمم من كل بر وفاجر
قرون مع الأيام تفنى وأنت في
أحاديث من أخبار هود ومن عاد
وموسى وذي مكر شديد وأوتاد
بأمجادهم دهراً وعن آل شداد
وكم شيدوا من دار لهو ومن ناد
فكانت له الأمواج في شر مرصاد
يمزق بالإيمان أستار إلحاد
ولون وجنس أو عبيد وأسياد
صمودك لم تحفل بموت وميلاد

والحمد لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً...


 

إنضم
Oct 3, 2008
المشاركات
6,719
مستوى التفاعل
69
المطرح
دمشق باب توما
قرأت موضوعك بالكامل يعطيكي الف عافية وجزاكي الله كل خير
 

عكــ البيلسان ــيد

سيد الياسمين النـائب العام

إنضم
Oct 8, 2008
المشاركات
7,935
مستوى التفاعل
144
المطرح
شـــــام شـريف
رسايل :

..." وكأن الوقت في بعدك واقف مابيمشيش "...

سبحان الخالق جل جلاله
ما أعظم خلقه وأكمله
وفي ذلك عبر لأولي الالباب وسواهم

فهل من معتبر


 
أعلى