البدانة.. علَّة كونية


إنضم
Jan 26, 2011
المشاركات
18,166
مستوى التفاعل
86
المطرح
الكويت
رسايل :

لو كنتُ يومًا سأسرق .. لسرقتُ أحزانك ..

بحسب فكرة شائعة تسوق لها الصناعات الغذائية، يعتبر الأشخاص البدينون عاجزين عن كبح شهواتهم ومسؤولين عما يصيبهم. إلا أن هذه الفكرة تغطي على الأسباب الحقيقية لظاهرة في طريقها إلى العولمة. والكشف عن آليات البدانة يعني الإضاءة على نمط حياة المجتمعات المسماة «متقدمة».
عندما غادر عمله كلحّام للحديد ليؤسس في العام 1985 شركة Goliath Casket، لم يكن فوريست دايفيد يتوقع تحقيق النجاح الذي حققه.
وفي أميركا، عندما كانت نسبة المصابين بالبدانة تقل عن %15، كانت سوق «تابوت غوليات» الضخم في بداياتها. لكن منذ الثمانينات، ازداد قياس خاصرة سكان البلد بشكل كبير. ففي حين كانت شركة العائلة الموجودة في شرق ولاية إنديانا تبيع، في ذلك الحين، نموذجا واحدا سنويا من التابوت «المثلث العرض»، فهي اليوم تبيع خمسة منه شهريا، بألوان مختلفة، أو في صيغ «فاخرة» مع قبضات مذهّبة ووسادات منجدة. هكذا مع أكثر من ثلث الراشدين الذين يعانون من الوزن الزائد، وثلث آخر من الأشخاص يعانون من البدانة(1)، تصنف الولايات المتحدة بين أكثر الدول بدانة في العالم.
تماشت الأسواق مع هذه القياسات الجديدة، وبين الشركات التي تحاول أن تتكيف مع الظاهرة وتقترح منتجات مخصصة للأشخاص البدينين، تلك التي تهتم بتصنيع مقاعد أكبر حجما للملاعب والمسارح، ونقالات ذات هيكلية مدعمة، وفرشات بـ«الحجم الملكي»، ومواقع تعارف للعازبين السمينين.. إلخ. بالإضافة الى تلك التي تدعي إيجاد حلول لصد الظاهرة، وتروج لحبوب للذوبان بلمح البصر، وتنظم مخيمات تنحيف يتبع تدريبا عسكريا، وتجري عمليات جراحية بـ10 آلاف دولار، إلخ.- تقدر الأرباح التي يتم حصدها بمئات مليارات الدولارات. وتباع الكتب المخصصة للبدانة، من الوصفات العجائبية إلى التحاليل المخصصة لهذه الظاهرة، بشكل جيد جدا ما جعل صحيفة نيويورك تايمز تخصص لها زاوية في تصنيفها لأفضل المبيعات. مع العلم أن أسباب الوزن الزائد العامة في الولايات المتحدة معروفة جيدا: نمط عيش الأميركيين الذين يستهلكون سعرات حرارية أكثر ويحرقون سعرات أقل، وذلك منذ ثلاثين سنة.
لكل إيجابية سلبيتها
يشجع «نمط العيش الأميركي» القائم على تقديس الاستهلاك والتطور التقني، على عدم بذل جهد جسدي. المصاعد، والسلالم الكهربائية، وآلات التحكم عن بعد، والري الأوتوماتيكي، والمكنسة الكهربائية، والغسالة والنشافة، وفتاحات العلب والسكاكين الكهربائية.. يوضح إيريك أ. فينكلشتاين ولوري زوكرمان أن «كل تلك الاختراعات ساهمت في خفض كمية الوحدات الحرارية التي نحرقها من دون انتباه. فعندما نرمي ثيابنا في الغسالة بدل غسلها بأيدينا، نحن نوفر مثلا 45 وحدة حرارية». هل يمكن القول إن لكل إيجابية سلبيتها؟ كان بإمكان الأميركيين الذين ارتاحوا من بعض المهمات المنزلية ممارسة نشاطات ترفيهية تسمح لهم ببذل مجهود جسدي. إلا أنه يتم استهلاك الجزء الأساسي من الوقت الذي تم كسبه خلال العقود الأخيرة، أمام الشاشة أو خلف المقود.
يشجع نموذج التنظيم العمراني السائد على استخدام متكاثف للسيارة. فخلال السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، ونتيجة ارتفاع أسعار الشقق في أوساط المدن، نزح السكان بكثرة إلى هوامش المدن؛ ما أدى إلى نمو ضواح أخطبوطية، تنتشر فيها البيوت الفردية الصغيرة على مد النظر، وتشكل كابوسا حقيقيا للمشاة بأرصفتها المتقطعة (وغير الموجودة أحيانا) والممرات المخصصة للمشاة غير واضحة المعالم، ومناظرها الرتيبة. في غياب شبكة للنقل العام جديرة بهذا الاسم، سوى في المدن الكبيرة جدا، باتت السيارة ضرورة لغالبية التنقلات اليومية، مع ازدياد طول المسافات.
مساوئ السيارة
منذ الستينات، تضاعف ثلاث مرات عدد الأشخاص المرغمين على مغادرة المقاطعة التي يقيمون فيها للذهاب للعمل، وتضاعف ثلاث مرات ونصف المرة عدد الأميال التي يتم اجتيازها سنويا بالسيارة. يمضي الأميركي أسبوعيا أكثر من عشر ساعات في السيارات. وهو وقت جمود يساهم في زيادة الوزن، فبحسب دراسة أجريت في منطقة أتلانتا، كل ساعة إضافية وراء مقود سيارة ترفع بنسبة %6 احتمالات الإصابة بالبدانة، في حين أن كل نصف ميل يتم اجتيازه سيرا على الأقدام يقلص هذا الاحتمال بنسبة %5. لا يعود بالتالي مستغربا أن يكون وزن الأشخاص الذين يعيشون في المقاطعات الخمس والعشرين من الولايات المتحدة التي تشهد أعلى نسبة انتشار جغرافي للمساكن، يفوق وزن الأشخاص الذين يعيشون في المقاطعات الخمس والعشرين ذات أعلى نسبة كثافة للمساكن، بستة باوندات (2.7 كيلوغرام).
ترفيه جلوسي
لكن انخفاض النشاط الجسدي، والوقت الذي يمضي في السيارة ليس خطيرا جدا، مقارنة مع الأربعين ساعة الأسبوعية التي تمضي أمام الشاشات (التلفزيون، الكومبيوتر، ألعاب الفيديو.. إلخ). فالشاشة المضاءة من الصباح حتى المساء قد أصبحت عنصرا أساسيا في العديد من المنازل، لدرجة أن العائلة الأميركية المتوسطة باتت تقتني تلفزيونات أكثر من عدد أفرادها (2.9 مقابل 2.57).. إلا أن الشاشة الصغيرة تخلق رابطا بين الحد من الحركة وتناول المزيد من الطعام. إنه ترفيه جلوسي يحث ممارسيه على القضم باستمرار، ويوجه، من خلال الدفق المستمر للإعلانات، العادات الغذائية للمشاهدين، خصوصا الشباب، باتجاه الاستهلاك المفرط.
هذا الواقع الذي يقر به الجميع، يولد واقعا آخر يتعارض مع الخصوصية النظرية لسوق التغذية، ألا وهو أنه يمكن إطعام شخص ما أكثر من حاجات جسده. هذا التأكيد ليس بالأمر البديهي، ففي الواقع، إن كان يمكن لشخص ما شراء قميص على الموضة أو حاسوب محمول من الطراز الأحدث لا حاجة فعلية إليهما، فلماذا يستهلك طوعا وحدات حرارية أكثر مما يتطلبه جسده، على أن يعرض صحته للخطر؟ يفترض إذاً بالآلية البشرية لامتصاص الطعام أن تجعل من التغذية سوقا نموها بطيء ومرتبط بالتطور السكاني. مع ذلك، في العام 1970، كان الأميركي يستهلك 2200 وحدة حرارية يوميا، ما يوازي المعدل الموصى به؛ لكنه بعد أربعين عاما صار يستهلك 2700.
سياسات تشجع على السمنة
لأجل زيادة أرباحها، عرفت الصناعات الغذائية كيف تحطم هذا النظام الديموغرافي الطبيعي. وأغرقت المحلات بمنتوجات جديدة لكي تثير لدى المستهلك رغبة مستمرة بالاكتشاف. هكذا بين العام 1990 ونهاية العقد الأول من الألفية الثانية، ظهر أكثر من 116 ألف منتج جديد على رفوف المتاجر الكبرى. ويكفي الدخول إلى قسم «المشروبات» في متجر أميركي للأغذية لاستكشاف إبداعية مهندسي هذا التنوع في العرض: مشروبات منشطة بألوان متلألئة، بنكهة العنب أو التوت الشوكي، تباع كل ستة في علبة مبردة أو في عبوات، ومشروبات غازية بنكهات متنوعة وأنواع من الكوكا كولا الخالية من السكر، الخالية من الكافيين، بطعم الكرز، بطعم الليمون (أخضر أو أصفر)، وبطعم الفانيليا؛ أنواعٌ من العصير شبه شفافة، مع أو من دون لب، عضوية أو مصنوعة من «خلاصة الفاكهة». وقد أثبتت هذه الإستراتيجية فعاليتها الهائلة، إذ يشرب كل أميركي سنويا 178 ليترا من مشروبات الصودا المحلاة، مقابل 85 ليترا كان يستهلكها في العام 1970 و135 في العام 1980.
الفقراء هدف مثالي
وفي سعيها للمزيد من الأسواق لتصريف منتوجاتها، حاولت الشركات استدراج زبائن جدد، بحيث تحول الفقراء الذين ارتفعت قدرتهم الشرائية خلال مرحلة النمو الاقتصادي خلال عقود ما بعد الحرب، إلى هدف مثالي. لفترة طويلة، في الولايات المتحدة، كانت المنتجات الطازجة مكلفة، وكانت الطبقات الشعبية الأميركية تجد صعوبة في تأمين غذاء مناسب لها، ومن ثم ساهمت مكننة الزراعة والإنتاج الصناعي في جعل الغذاء متوافرا بغزارة، وبدأ سعره النسبي ينخفض، إنما ليس بالسرعة نفسها لكل المنتجات.
بفضل التطور المتنامي لأساليب التعليب والحفظ والتوزيع، أصبحت المنتوجات المحولة، المحتوية على نسبة عالية من الوحدات الحرارية، أقل كلفة من السلع الطازجة ذات الفوائد الغذائية المهمة (من المعادن، والفيتامينات.. إلخ). بتعبير آخر، يملأ دولار من الشيبس المعدة أكثر من دولار من الجزر. ولو أن جميع الأميركيين يحترمون «التوصيات الغذائية» التي وضعتها الحكومة استهلاك المزيد من البوتاسيوم، والفيتامين د، والكالسيوم، ونسبة أقل من الدهون المشبعة، والسكر المضاف والملح، الموجودين بشكل خاص في المنتجات المحولة، يفترض بكل واحد منهم إنفاق 400 دولار إضافية سنويا.
بالتالي تساهم سياسات الأجور الأميركية في زيادة وزن الفقراء. كونهم أكثر حرصا لناحية الإنفاق، هم يستهلكون المزيد من المنتجات التي تحتوي على نسبة عالية جدا من الوحدات الحرارية، وعلى القليل من الفوائد الغذائية، ويصبحون منطقيا بين أول ضحايا البدانة. بحسب عدد صحيفة وال ستريت جورنال، الصادر في 7 يوليو 2011، أكثر من ثلث الراشدين الذين يعتاشون بأقل من 15 ألف دولار سنويا يعانون من البدانة، مقابل %24.6 من أولئك الذين يجنون أكثر من 50 ألف دولار. لذا فإننا سنجد في الولايات الأكثر فقرا، التي تضم نسبا كبيرة من الأقليات اللاتينية والأفريقية الأميركية (ألاباما، تينيسي، تيكساس، كانتشكي، لويزيان...)، أكبر نسبة من الأفراد الذي يعانون من السمنة أو البدانة.
سياسة القياس الكبير
لم يتسبب انخفاض تكاليف الإنتاج فقط بقلب العلاقة القديمة بين الفقراء والتغذية (من العوز إلى الاستهلاك المفرط)، لكنه غير أيضا المعطيات الاقتصادية للسوق. فقد أصبح الغذاء نفسه يشكل جزءا ضئيلا جدا من سعر بيع السلعة، مقارنة مع كلفة التعبئة، والترويج، والتصميم.. إلخ، بحيث أصبح من المربح جدا بيع كميات كبيرة في مستوعب واحد، لدى متاجر «وال مارت» مثلا، إن سعر كيس سعة 321 غراما من ألواح الشوكولاتة بالفستق والكاراميل هو 3.58 دولارات، مقابل 8.98 دولارات لكيس سعته 1100 غرام. سعره أقل من ثلاث مرات، وحجمه أربع مرات تقريبا. هكذا للاستفادة من العرض المربح، يلجأ العديد من الزبائن، خصوصا الأقل يسرا، إلى اختيار الحجم الثاني. والمنطق نفسه يتكرر بالنسبة لكل المنتوجات تقريبا: شراء الحليب بالغالون بدل الليتر، وأكياس الشيبس بالحجم العائلي، أو جبنة الشيدار بقطع نصف الكيلو، كلها أكثر توفيرا.
قد يستبشر الناس خيرا بانصياع المنطق الاقتصادي للمحتمات البيئية. إلا أنه «يوجد شيء ما في نفسيتنا يدفعنا إلى الأكل أكثر عندما توضع أمامنا كمية أكبر من الطعام»، بحسب ما شرحته لنا اختصاصية التغذية ماريون نيستل. برهانا على ذلك، جمعت الأستاذة في جامعة بنسيلفانيا باربارا رولز مجموعة من الشباب الممشوقي القامة الذين يولون اهتماما خاصا برشاقتهم. وقدمت لهم كل يوم حصصا من المعكرونة بالجبنة بأحجام مختلفة، ومن ثم قاست الكمية التي يستهلكونها يوميا: إن قدمت لهم صحنا سعته 450 غراما، يأكلون منه 280. لكن إذا كانت سعة الصحن 700 غرام، كانوا يأكلون 425. أي أكثر بمعدل النصف من الكمية التي اكتفوا بها البارحة. التجربة نفسها أثبتت في صالة سينما من خلال المقارنة بين رطل وكوب من البوشار، أو في المكتب عندما يتم عرض الحلويات باستمرار على مرأى من الموظفين.
حصص مضاعفة
طورت شبكات مطاعم الوجبات السريعة Fast-food الضليعة بهذا المنحى للنفس البشرية، استراتيجية «الحجم الكبير». فمن خلال دفع بضع دولارات إضافية (قليلة بما فيه الكفاية ليشعر المستهلك بأنها تشكل مكسبا له)، يمكن للمستهلك «تكبير» قائمة طعامه، والحصول على مشروب أكبر حجما، وقطعة لحمة إضافية إلى الهمبرغر، وكمية مضاعفة من البطاطا المقلية. ولتلبية المطالب الجديدة للمستهلكين، اضطرت كل المطاعم لاتباع الكميات التي تقدمها مطاعم الوجبات السريعة، وبدأت الحصص النمطية تتضاعف.
منذ أربعين سنة، كان الحجم الوحيد من المشروبات التي يبيعها مطعم ماكدونالد يحتوي على 20 سنتيليتر؛ أما الآن فأصغر كوب يحتوي على 35 سنتيليتر، والأكبر على حوالي الليتر. أما الهمبرغر الوحيد الذي كان يباع حينها فيقدم اليوم إلى الأطفال، ويطلبه الكبار عند الحاجة. وفي بلد يفوق فيه عدد مطاعم الوجبات السريعة عدد المتاجر الكبرى خمس مرات، لا يخلو هذا التطور من التأثير على انتشار البدانة.
استهداف الأطفال
أضف أن الإعلانات جاهزة لتذكر المستهلكين- خصوصا الأطفال- بمتعة تناول سلع غنية بالوحدات الحرارية. وعلى غرار الفقراء، يشكل الأميركيون الصغار سوقا حديثة نسبيا. فلفترة طويلة، كانت النفقات الخاصة بالطعام أمر يعنى به الأهل فقط. وقد ساهم ارتفاع القدرة الشرائية لدى غالبية الناس وإيلاء اهتمام أكبر برغبات الأطفال بجعلهم مستهلكين بكل معنى الكلمة. هكذا اعتبر مرجع التسويق الموجه للأطفال، جايمس ماكنيل، الأستاذ السابق في جامعة Texas A&M University، كما ورد في صحيفة «نيويورك تايمز» (20 إبريل 2011)، بأنهم يؤثرون سنويا على أكثر من 8 في المائة من المبيعات في محيطهم في مجال الطعام والمشروبات، ما يوازي 100 مليار دولار.
لذا فالإعلانات تتودد إليهم بشكل خاص. ويقدر بأن الطفل الأميركي يتعرض لمعدل 25 ألف إعلان تلفزيوني سنويا، أكثر من 5 آلاف منها مخصص للغذاء. وغالبا ما تستخدم هذه الإعلانات التي يتم تصميمها خصيصا لاستمالة المشاهدين الصغار، شخصيات مألوفة لخلق رابط عاطفي مع السلعة التي يتم الترويج لها. فتستدعى مثلا شخصية «بوب الاسفنجة» لاستمالة المستهلكين نحو شراء المعكرونة بالجبنة من صنع «كرافت»، أو الكريما المجلدة من صنع Breyers، أو ألواح الشوكولاتة «هيرشيز»، إلخ. حتى شخصيات Teletubbies - شخصيات الأقزام الملونة التي تحيي برنامجا خاصا بالأطفال دون الثالثة من العمر - قد استخدمت من قبل عباقرة الإعلانات.
تضييق الطوق
لكن منذ بضع سنوات، أصبحت تقنيات الترويج هذه عرضة للإدانة من قبل جمعيات المستهلكين، وباتت الشركات المتعددة الجنسيات التي تصنع السلع الغذائية تلجأ شيئا فشيئا إلى الوسائل الإعلامية الجديدة. فقد اكتشفت، من التطبيقات الخاصة بالهواتف الذكية smartphones وصولا إلى ألعاب الفيديو على الإنترنت، مرورا بألعاب الأسئلة والأجوبة الإلكترونية، قارة جديدة لم يتم اكتشافها بعد ومن الصعب جدا وضع أنظمة لها. إذ لا يمكن لأي قانون منع ولد من أن يصبح «صديقا» على الفيسبوك مع رونالد ماكدونالد، أو إمضاء ساعات على موقع honeydefender.com وهو «يحرر» العسل من رقائق تشيريوز Cheerios، أو على موقع McWorld.com، وهو يرسم مع شخصية «بوب الاسفنجة» الكلية الحضور.
بقيت السلطات العامة مكتوفة الأيدي لفترة طويلة إزاء الممارسات الهجومية للصناعات الغذائية. بحيث باتت سوق «الغذاء المهترىء» (junk food) تمثل مبالغ ضخمة جدا - فبحسب أرقام صحيفة فايننشال تايمز (9-10 يونيو 2012)، بلغت المبيعات العالمية للبيتزا والوجبات السريعة في العالم 706 مليارات دولار في عام 2011 ــ وصار بمقدور الماركات الكبرى تخصيص إمكانات مبالغ فيها لحماية مصالحها.
مع ذلك، يضيق الطوق باستمرار. إذ انتشرت ظاهرة البدانة بحيث باتت المشاكل الناتجة عنها (الإحباط، والتمييز، والمخاطر الصحية، وتداعي الإنتاجية...) تثير اهتمام المجتمع برمته. ومع معدل 200 ألف حالة وفاة سنويا، الأمر الذي يضعها في المرتبة الثانية بعد التدخين (أكثر من 400000 حالة وفاة)، إنما قبل الكحول وحوادث السير بفارق كبير، أصبحت البدانة هي السبب الثاني لـ«حالات الوفاة التي يمكن تفاديها». كما إن معالجة الأمراض المرتبطة بها (السكري من النوع الثاني، وأمراض القلب والشرايين، وارتفاع الضغط، وانسداد الرئة، والكولسترول، والسرطان، إلخ) تتسبب بكلفة سنوية تفوق 147 مليار دولار (ما يوازي 10 في المائة تقريبا من مجموع النفقات الطبية)؛ يتكفل برنامجا Medicare وMedicaid مباشرة بمبلغ 61.8 مليار دولار منها.
* صحافي
(1) بحسب تعريف منظمة الصحة العالمية، يعاني الشخص من الوزن الزائد في حال كان مؤشر كتلة الجسم الخاص به IMC، أي وزنه مقسوما على مربع الطول، أقل من 25 أو موازياً لهذا، ويعاني من البدانة في حال تخطى هذا المؤشر الـ 30.
ينشر بالتزامن مع لوموند ديبلوماتيكإجراءات حكوميةمنذ بضعة أعوام، ضاعفت الحكومة الفدرالية إجراءاتها: تشجيع ممارسة النشاط الجسدي لدى الأولاد، ووضع شارة تشكل ضمانة للفوائد الغذائية للسلع، ومنع آلات توزيع المشروبات الغازية في المدارس، إلخ. وعلى المستوى المحلي، تعتمد أيضا الولايات والبلديات تشريعات تفرض شروطا متزايدة. هكذا حذت ولاية نيوجيرسي حذو كاليفورنيا وماين وأوريغون، وفرضت منذ عام 2010 على مطاعم الوجبات السريعة تحديد عدد السعرات الحرارية الموجودة في منتوجاتها. وفي مايو 2012، منعت مدينة نيويورك بيع المشروبات المحلاة بالحجم الضخم في المطاعم ودور السينما والملاعب. وفي تقريرها السنوي الصادر في عام 2010، أدرجت شركة كوكاكولا اعتماد قوانين أكثر صرامة على لائحة «العوامل الثلاثين» التي قد تؤثر على أرباحها المستقبلية، من نوع الشح في المياه، وأزمة الإقراض الدولية أو التغير المناخي. ولحماية خطوطها الخلفية، تتوجه الشركات المتعددة الجنسيات نحو أسواق جديدة، ليست مغرقة بالبضائع بقدر الولايات المتحدة، والأهم أنها أقل خضوعا للمراقبة.
هكذا، فإن البدانة التي كانت في الماضي ظاهرة خاصة بالدول الغربية ودول الخليج العربي، قد اتسعت لتطال العالم بمجمله. تأثرت بها كل الدول الناهضة اقتصاديا، كما لو أن وزن الأفراد مرتبطٌ بنمو الناتج المحلي الإجمالي. ومع نسبة 30 في المائة من الراشدين يعانون من البدانة، تحقق المكسيك أسوأ نتيجة، أمام جنوب افريقيا (18.1 في المائة) والبرازيل (13.9 في المائة). حتى أن الهند والصين معنيتان بالأمر. من خلال اكتساب الإنتاج الغذائي طابعا مدينيا، ممكننا وصناعيا، وظهور آليات التوزيع من خلال المتاجر الكبرى، ولد النمو الاقتصادي تحولا جوهريا في أنماط العيش واتباع تدريجي لأسلوب التغذية الأميركي.
علامة نجاح اجتماعي!ارتفعت نسبة سكان المدن في الهند من 23 في المائة إلى أكثر من 31 في المائة خلال أقل من ثلاثين سنة: عشرات ملايين الأشخاص الذين كانوا يعتاشون في السابق في الأرياف من أعمال تعتمد على المجهود الجسدي، وكانوا يقتاتون كيفما كان من منتجات محلية، بدؤوا يدخلون شيئا فشيئا إلى نطاق الاستهلاك الجماهيري. السيارة، التلفاز، الغسالة، كلها ساهمت في تعزيز الجلوس. ووجود البراد في متناول عدد متزايد من الناس، ساهم في اجتياح المتاجر الكبرى للمدن مع مواكبها من المنتجات المحولة، والمعلبة، والمجلدة، والتي غالبا ما تكون مستوردة.
ويقدر بأن رقم أعمال التوزيع في المخازن الكبرى يرتفع بمعدل يفوق 27 مليار دولار سنويا. كما في أميركا اللاتينية منذ خمس عشرة سنة، حيث ارتفعت حصة المشتريات الغذائية في المخازن الكبرى من 15 في المائة في عام 1990 إلى 60 في المائة في عام 2000.
تكييف الوصفة
تبعت شبكات مطاعم الوجبات السريعة هذا التوجه، وطبقت في الدول الناهضة اقتصاديا الوصفة التي تم تجريبها في الولايات المتحدة وأوروبا. كان عليها فقط تكييفها مع الصلصة المحلية. الهندية مثلا، حيث يحل في الإعلانات نجوم بوليوود ولاعبو الكريكت مكان ممثلي هوليوود ولاعبي كرة السلة. وجبة الـ «بيغ ماك» الشهيرة التي لا تتناسب كثيرا مع بلد يحصي 80 في المائة من الهندوس، استبدلت بوجبة «دجاج المهراجا»، ولدى مطعم «دومينوز بيتزا»، يحل مكان الفليفلة واللحم المفروم الفلفل الحلو ولحم الماعز. وتنافس سلاسل المطاعم الوطنية («موتي ماهال»، «ناهوس سويتس»، «ساغار راتنا»...) العمالقة الأميركيين على مورد الربح الذي تشكله سوق الوجبات السريعة، التي تحقق نموا يتراوح بين 25 و30 في المائة سنويا. في عام 2011، أعلن «يوم براندز»، مالك شبكات منها «كانتكي فرايد تشيكن»، و«تاكو بيل» و«بيتزا هت»، عن رغبته في فتح ألف فرع جديد في الهند قبل عام 2015، وهذه كمية زهيدة مقارنة مع الخطة الاستثمارية المتوقعة للصين: فالشركة الأم لبائع الدجاج المقلي الشهير تنوي افتتاح عشرين ألف فرع جديد خلال السنوات المقبلة.
مخيمات تنحيف
في الهند والصين تشهد البدانة، بالرغم من كونها محدودة، ارتفاعا متزايدا، وقد بلغت معدلات ارتفاع الوزن معدلات مهمة. فهي تطول 15 في المائة من الراشدين الهنود - النساء أكثر تعرضا لها - مع نسب عالية تتخطى 30 أو حتى 40 في المائة في بعض المدن (شيناي (مدراس سابقا)، جايبور، يلهي، بومباي، وكالكوتا...).
وفي الصين، حيث أضحت العيادات الخاصة الباهظة الثمن تقلد مخيمات التنحيف الأميركية fat camps، أصبح 31 في المائة من الراشدين يعرفون زيادة مفرطة في الوزن، ويمكن تصنيف 12 في المائة منهم على أنهم يعانون من البدانة. في حين أن بين 6 و10 ملايين صيني يتخطون سنويا حد البدانة، لا يوجد بعد برنامج رسمي فعلي للوقاية.
يقر السيد تشان تشومينغ الاختصاصي السابق في التغذية في وزارة الصحة، بعجزه: «إن طلبتم من الناس عدم تناول الهمبرغر أو غيره من الأطعمة الغنية بالوحدات الحرارية، يجيبونكم: «أصبح لدي المال، وبإمكاني أن أتناول ما أريد».
فروقات مذهلة
تعرض الفروقات المذهلة في الثروة والشرخ بين سكان الريف والمدن، بعض الدول، خصوصا الأكثر فقرا، «للعبء المضاعف» للتغذية. ففي الأرياف، الغذاء نادر وباهظ الثمن، ويعاني العديد من الفلاحين من سوء التغذية. أما في المدن حيث تتوافر السلع الغذائية المصنّعة بكثرة، فتتبع الطبقات الوسطى الجديدة التي تجتاحها رغبة شديدة بالخروج والتسلية والاستهلاك، نظاما غذائيا غنيا جدا بالوحدات الحرارية.
في النيجر مثلا، يتخطى 30 في المائة من سكان المدينة من النساء الوزن الموصى به، في حين تعاني 20 في المائة من الريفيات من سوء التغذية. وفي ناميبيا، ترتفع هذه الأرقام إلى 40 و18 في المائة. وفي الهند، إلى 25 و50 في المائة. حتى أنه بالرغم من إبطاله في أغلبية الدول الغربية، فلا يزال المنطق التالي قائما في الدول الناهضة: إن الأكثر ثراء غالبا ما يعانون من وزن مفرط، في حين يكون الفقراء نحيفين جدا. وفي شيناي، كاد يصبح الوزن الزائد علامة للنجاح الاجتماعي. هكذا كان مطعم للوجبات السريعة في إحدى المدن يروج، لفترة معينة، لأحد منتجاته، مناديا المارة: «هل أنت سمين جدا؟ تهانينا!» وفي بعض القرى الأفريقية، حيث يصيب مرض السيدا - المعروف بأنه «مرض النحفاء» - شخصا تقريبا من أصل اثنين، يتم حتى إعطاء أهمية للوزن الزائد كدليل على الصحة الجسدية الجيدة.
اختلافات بين الأجيال
لا تفصل البدانة وسوء التغذية فقط بين المدن والأرياف، وبين الأثرياء والبؤساء، إذ يمكن لهما أن يتواجدا ضمن المجموعة الاجتماعية الواحدة، وضمن حيز جغرافي واحد أو عائلة واحدة: في أوساط اللاجئين الفلسطينيين في لبنان مثلا أو فلاحي البيرو، وفي قرى الصفيح البرازيلية أو في بعض أحياء المدن المالية والسنغالية الكبرى.
يمكن، أيضا، تفسير تواجدهما معا بالاختلافات بين الأجيال والتغييرات المفاجئة للنظام الغذائي. فالشخص الذي كان يعاني في صغره من سوء التغذية يشهد على تغيير آليته الجسدية للتغذية بشكل نهائي، ويطور ميلا نحو تخزين الدهون. وإذا اتبع في سن النضوج نظاما غنيا أكثر بالوحدات الحرارية، إنما فقيرا بالمواد الأساسية المغذية للجسم، وبالحديد والفيتامينات، فسرعان ما سيكسب وزنا. إلا أن أولاده قد يعانون في المقابل من نقص في التغذية، وقد يكونون صغيري الحجم أو يعانون من فقر الدم. في مصر مثلا، 12 في المائة من الأولاد المصابين بالكساح لديهم أم بدينة.
على الصعيد العالمي، بات عدد الأشخاص الذين يعانون من الوزن الزائد (نحو 1.5 مليار، من بينهم 500 مليون يعانون من البدانة) يتخطى عدد الذين يعانون من سوء التغذية (نحو المليار). وفي حين بدأ البحث عن حل لهذه المشكلة في أوروبا والولايات المتحدة، تتأخر العديد من الدول في المبادرة إلى حل. لكن في لائحتها الشهيرة للأوبئة الثلاثين، بدأت شركة كوكا كولا تبدي قلقها: «إن البدانة وسواها من المشكلات الطبية قد تتسبب بتقليص الطلب على بعض منتجاتنا».
 
أعلى