الروائى السودانى أمير تاج السر يكتب: الإعلام حين يساند حلما مضطربا

{*B*A*T*M*A*N*}

مشرف

إنضم
Sep 21, 2011
المشاركات
23,222
مستوى التفاعل
80
المطرح
دمشق
فى الأسبوع الماضى، ظهر فى إحدى القنوات الفضائية العربية، وأمام مذيعة منبهرة، شاب فى أوائل الثلاثينات، يرتدى ملابس تؤهله للظهور إعلاميا، وثباتا غريبا، ثبات من اعتاد الكلام ومن حوله كاميرات تسجل حتى حكة شعره أن حك شعره.

كان يتحدث عن تجربة كبيرة له فى الكتابة الروائية، قوامها بضعة عشر عملا روائيا مكتوبا ومنتشرا بشدة فى قوائم الكتب الأكثر مبيعا فى الوطن العربى، ومترجما إلى كل اللغات العالمية، وحاز على إعجاب ومساندة الغرب، حيث نوه الكثيرون عن أعماله هناك، ولدرجة أن تم ترشيحه لجائزة نوبل فى الآداب لهذا العام.

أيضا تحدث الشاب الثلاثينى، وبثبات أكثر عن إقامته فى دوحة قطر، التى وجد فيها ملاذا آمنا، ومنحته الوقت حتى يكتب، وعن أعمال درامية، استوحيت من رواياته، وسم مسلسلا دراميا، شهيرا تم عرضه فى رمضان قبل الماضى، بوصفه سيناريو أخذ عن روايته التى باعت أربعين ألف نسخة حول العالم، وإن هذا المسلسل له قصة غريبة، والقصة الغريبة هى أن دولتين اشتهرتا فى مجال الدراما التلفزيونية، تقاتلتا على ذلك المسلسل، فى مزاد، إلى أن فازت به إحداهما، لتنتجه، وتبيعه لعدد من القنوات الفضائية، ثم لينال استحسان المشاهدين، ويزيد من بريقه ولمعانه. فى ذلك الحوار أيضا، تحدث الشاب عن بداياته فى الكتابة، أيام الصحف الحائطية فى المدارس، وعن الذين شجعوه على الاستمرار ذاكرا اسمين معروفين، وعن العوالم التى صنعته، وجعلت منه ذلك الرمز الكبير، الذى تفخر به بلاده الآن.

حين يظهر كاتب بهذا الحجم فجأة، فى عالم نعرف جيدا، من يمثله، ولا نعرف عنه شيئا، فى البداية سنتهم أنفسنا بالجهل، ثم سنبحث عنه فى محركات بحث تكنولوجية عالية الدقة، تخرج النملة من جحرها، أن بحثنا عن نملة ضائعة، ويمكن أن ترينا هذا الشاب الروائى، صاحب الشهرة العالمية، جالسا يكتب على مقهى غاص ببهارات الإيحاء، فى أحد شوارع أمستردام، أو فى عدد من مهرجانات الثقافة العالمية، فى أى بلد، يبتسم راضيا بصحبة بول أوستر، وجون جريشام، وبن أوكرى، أو على أقل تقدير، يضع يده على كتف واحد من كتابنا العرب الذين عرفهم العالم، من أمثال هشام مطر، وجمال محجوب، لكن للأسف لم يكن هناك أى شيء يخصه فى ذلك العالم الافتراضى الحشرى إلى أبعد درجة. لا كتاب منشور بأى لغة، فى أى بلد، لا سيرة ذاتية توضحه كاتبا، حتى من سطرين، وذلك العمل الدرامى الكبير، كان كاتبه معروفا وموثقا فى مقدمة عرض المسلسل الناجح.

كان ذلك الشاب يتبع حلم يقظة رسمه بسذاجة شديدة، ليس حلما معقولا يكتفى بمحلية أو إقليمية، ويمكن أن تتسع رقعته فى المستقبل، لكنه حلم كامل، لم يترك شاردة ولا واردة فى سكة البريق إلا جاء بها، ولدرجة أن انكشافه كان سهلا لأى شخص شاهد تلك الحلقة التلفزيونية، حتى لو كان جاهلا. كان الحلم يتبع أمنيات ربما تمناها غيره، وحلموا بها فى لحظات يقظة متعددة، لكن لم تتعد لحظة استيقاظهم قط: أولا حلم أن يصبح كاتبا يعيش فى دولة قطر المعروفة برقيها وحياتها السهلة، واحتفائها بالإبداع فى كل زمان ومكان، ثم ينتج أعمالا روائية تدخل فى قوائم الأوسع انتشارا والأعلى مبيعا، وتترجم إلى كل اللغات المتوفرة، ويكتب عنها الغرب، حتى تعبر الطريق إلى استوكهولم، حيث تنتظر جائزة نوبل، عروسا مزينة. ولأنه اشتهر بشدة، فلا بد أن تلتفت إليه الدراما، وأن تتنافس شركات الإنتاج على أعماله، التى ستنتج حتما ويشاهدها الملايين فى بيوتهم، ويزداد شهرة على شهرته.

بالطبع لن نجبر الناس على أن لا يحلموا أبدا، والحلم المتيقظ حق لمن أراد أن يرسمه بأى ريشة، لن نجبر راعيا للأغنام فى صحراء جرداء، على أن لا يرسم نفسه نلسون مانديلا، ولن نجبر فتاة عرجاء فى قرية بعيدة، على أن لا تتبختر أمام مرآتها، باعتبارها عارضة الأزياء نعومى كامبل، وقد جلست كثيرا إلى حالمين لم يبرحوا بلادهم قط، وتحدثوا عن زيارات قاموا بها للبيت الأبيض فى واشنطن، وكنت أعرف شخصا من أقاربى يعمل سائقا لشاحنة تجارية، ولا يملك حتى جوازا للسفر، يتحدث فى كل مجلس يجلس فيه، عن صداقته بالممثل المصرى الراحل عبد الوارث عسر، وعن أدائه لدور معلم فى مقهى، فى أحد أفلام المخرج العظيم صلاح أبو سيف، وأن ملك الأردن كان يبتهج حين يزوره، حيث يجلسه على يمينه، ويكرمه بلا حساب، لكن تلك الأحاديث، التى يتقبلها الناس ضاحكين عادة، ما تلبث فاعليتها أن تنتهى، حين ينفض المجلس، ويعود الرجل إلى شاحنته استعدادا لملئها أو تفريغها.

السؤال هنا فى قصة هذا الشاب الروائى، هو: كيف تفتح قناة تلفزيونية فضائية، استديوهاتها لتحاور شخصا مجهولا بوصفه نجما؟، كيف يعد أحدهم حلقة عن وهم لم يلمسه، ولم يتحقق من وجوده أو عدمه؟، وكيف تجلس مذيعة متأنقة ومنبهرة، تحاور حالما متتبعة حلمه كما رسمه، ولا تسأل مجرد سؤال، عن تلك الكتب أين توجد، وتلك الشهرة العريضة، كيف تكونت فى هذا السن الذى لا يسمح حتى بتكوين فريق حاف لكرة القدم فى حارة ضيقة؟

مهما تحدثنا عن جهل من يعدون البرامج الثقافية، وعدم معرفتهم بالشأن الثقافى، لكن من المستحيل أن يعد أحدهم حلقة عن رمز كبير من رموز البلاد، ولا يكون قد سمع بهذا الرمز من قبل؟، وفى زمن التكنولوجيا المتقدمة الذى نعيشه الآن، كما ذكرت، يمكن بنقرة ذر واحدة أن يحصل معدو تلك البرامج على معلومات تكفى لتقديم الضيف فى أى صورة يريدونها. لا أستطيع أن أتصور أن هذا الشاب حين طرح نفسه لتلك الفضائية، وبكل تلك العظمة، أخذ هكذا، وأجرى معه الحوار هكذا، ولم يكلف معد الحلقة أن ينقر على ذلك الذر السحرى، ليزداد علما ببريق ضيفه على الأقل؟

أذكر أن مقدم برامج شهيرا فى إحدى القنوات العربية، التقانى مرة فى أحد الملتقيات ولم يكن يعرفنى أو يعرف عنى أى شىء. طلب منى أن يجرى معى حوارا بعد ساعتين، وفى تلك الساعتين تزود بما يكفى لجعل ذلك الحوار ثريا ورائعا، أدهشنى شخصيا.

أرى أولا أن تعتذر تلك القناة لمشاهديها عما حدث، واعدة بعدم تكراره، وثانيا أن تعقد دورات مددتها عدة دقائق فقط، لمعدى البرامج الثقافية، يتعلمون فيها، كيف ينقرون على تلك الأذرار السحرية، فى ذلك العالم الذى يحوى كل شىء.
 
أعلى