§ أبو المر §
بيلساني فعال
- إنضم
- Jun 28, 2008
- المشاركات
- 110
- مستوى التفاعل
- 87
- المطرح
- مع احلى قمر بلبلد
المتأمل للشعر يرى أن له أقساماً فمنه ما هو حسن، ومنه ما هو قبيح، وهكذا، وقد أبان الإمام ابن قتيبة رحمه الله عن أقسام الشعر، فقال:
تدبرت الشعر فوجدته أربعة أضرب:
1- ضرب منه (حَسنٌ لفظه، وجادٌ معناه) كقول القائل:
أيتها النفس أَجْمِلي جزعاً
إن الذي تحذرين قد وقعا
2- وضرب منه (حَسن لفظه وحَلا، فإذا أنت فتشته لم تجد هناك فائدة في المعنى) كقول القائل:
ولما قضينا من منى كلَّ حاجةٍ
ومسحَ بالأركان من هو ماسحُ
وشُدَّت على حُدب المهاري رحالُنا
ولا ينظر الغادي الذي هو رائحُ
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا
وسالت بأعناق المطي الأباطحُ
3- وضربٌ منه (جادٌ معناه، وقَصُرت ألفاظه عنه) كقول لبيد بن ربيعة:
ما عاتب المرءَ الكريم كنفسه
والمرءُ يُصلحهُ الجليسُ الصالح
4- وضرب منه (تأخر معناه، وتأخر لفظه) كقول الأعشى في امرأة:
وفُوها كَأقَاحي
غذاهُ دائمُ الهطيلِ
كما شيب براحٍ بارد
من عسل النحلِ
وتقسيم ابن قتيبة لطيف، لكنه تقسيم من الناحية الفنية.
هذا وللشعر عند العرب في العصر الجاهلي أغراض متعددة، من ذلك: المديح، والتفاخر، والهجاء، والرثاء، والغزل وغير ذلك.
وقد امتاز شعرهم بقوته، وبلاغته، وسلاسته، وبُعْده عن حشو الكلام، إضافة إلى أنه في الغالب شعر واقعي، يقوم على نقل المشاهد الحسية دون إغراق في المعاني والأبعاد.
تلك إلماحة أردتها أن تكون موطئة لأصل البحث، والله الموفق.
الإسلام والشعر:
طغى حب الشعر ونظمه وإنشاده على قلوب الكثير في العصر الجاهلي، واستمر حتى بعد الإسلام، وإلى يومنا هذا، فقد كان الناس يستشهدون بالشعر في حلهم وترحالهم وسمرهم والمواقف التي تمر بهم.
لكن لابد أن نعرف أن الشعر في الإسلام يختلف تماماً عمّا كان عليه في العصر الجاهلي، فقد أصبحت أغراض الشعر تنحى باتجاه تهذيب الأخلاق، والاعتناء بالمبادئ والقيم، والمثل العليا والدعوة إلى توحيد الله، والحث على الجهاد في سبيل الله، والزهد في الدنيا، والوعظ والنصح، ونصر الدين، وهجاء أعداء الإسلام.
على أن أغراض الشعر الأخرى كالمديح، والرثاء، والغزل العفيف ونحو ذلك مستمرة، لكن السمة الغالبة هو ما تقدم ذكره.
حكم الإسلام في الشعر:
عن عبدالله بن عمرو قال: قال رسول الله {: "الشعر بمنزلة الكلام، حسنه كحسن الكلام، وقبيحه كقبيح الكلام"(10).
وعن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقول: "الشعر منه حسن، ومنه قبيح، خذ بالحسن ودع القبيح، ولقد رويت من شعر كعب بن مالك أشعاراً، منها القصيدة فيها أربعون بيتاً، ودون ذلك"(11).
قال الجيلاني: "الشعر منه حسن، ومنه قبيح" أي: إذا حَسُنَ المعنى شرعاً فالكلام محكوم عليه شرعاً بالحسن، ولو كان اللفظ غير فصيح. وإذا قَبُح المعنى شرعاً لم يُحكم عليه بالحسن وإن كان لفظه فصيحاً. وهذا حق، ولكن الوزن وفصاحة الكلام يزيد الحسن حسناً كالحكمة، ويزيد القبيح قُبْحاً كالهجو، لأن الكلام الفصيح أجدر أن يُصغى له، ويُحفظ ويروى، وأشد تأثيراً في النفس"(12).
ولكن هناك آراء زعمت أن الإسلام وقف من الشعر موقف العداء، وذم الشعراء، وألحقهم بالغواة والمنافقين، واستشهدوا بالقرآن الكريم، وأوردوا آيات منه، قرأوها مُجَزَّأة مبتورة، ليصلوا إلى تأييد رأيهم السقيم، فقالوا: بأن الله ذم الشعر والشعراء في قوله الكريم: والشعراء يتبعهم الغاوون 224 ألم تر أنهم في كل واد يهيمون 225وأنهم يقولون ما لا يفعلون 226 {الشعراء: 224، 226}.
ووقفوا في قراءاتهم واستشهادهم عند هذه الآيات ولم يتموا القراءة؛ لأنهم علموا أنها لا توافق ما ذهبوا إليه.."(13).
ويحسن بنا أن نذكر ما ورد في مدح الشعر، وما ورد في ذمه، حتى نخرج بنتيجة مقنعة:
ما ورد في مدح الشعر:
وردت أحاديث وآثار كثيرة في ذلك منها:
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً - أو أعرابياً - أتى النبي { فتكلم بكلام بَيِّن، فقال النبي {: "إن من البيان سحراً، وإن من الشعر حكمة".
وإن المتأمل في هذا الحديث الشريف يُدرك ثناء النبي { على الشعر، كما يشعر في المقابل بتوجيهٍ رشيد لمضموناته، فقد نبه عليه الصلاة والسلام، المسلم إلى أهمية الشعر وأن فيه قيماً سامية، وأكد عليه الصلاة والسلام قوله ذلك بمؤكد لغوي هو: حرف التوكيد (إن) وذلك حتى يزيد الأمر في النفس ثباتاً واستقراراً... وغني عن البيان أن قول النبي {: "إن من الشعر حكمة" يفيد أن منه ماليس كذلك، لأن (من) تبعيضية"(14).
وجاء في رواية أبي داود: "وإن من الشعر حُكْماً" وهو بمعنى: الحِكْمة، يدل لذلك قوله تبارك وتعالى: وآتيناه الحكم صبيا 12 {مريم: 12}.
وقد قال بعض العلماء بأن (السحر) الذي ذكره {، عن البيان ورد في مَعْرِض الذم، حيث شبهه بعمل السحر، لكونه يزين القبيح، ويقبح الحسن، فيكون معناه: أن صاحبه يكسب من الإثم ما يكسبه الساحر بعمله(15).
ومنهم من رأى أن ذلك ورد مورد المدح، وعلى هذا يكون المعنى: "إنه تمال به القلوب، ويرضى به الساخط، ويذل به الصعب، ويشهد له: إن من الشعر لحكمة، وهذا لا ريب فيه أنه مدح.
والصواب: أن الأمر يختلف باختلاف المقاصد التي يراد بيانها، فإن كان البيان في أمر باطل فهو كذلك، وإلا فمدح لا محالة(16).
وعن هذا الحديث بين الطبري بأنه: ردٌ على من كره الشعر مطلقاً.
قال الجيلاني: "سحراً" السحر ما لَطُف مأخذه ودق. والبيان اثنان: أحدهما ماتقع به الإبانة عن المراد بأي وجه كان، والآخر ما دخلته الصنعة، حيث يروق السامعين، ويستميل قلوبهم، وهو الذي يشبه السحر إذا خلب القلب، وغلب النفس، حتى يحول ذلك عن حقيقته، ويصرفه عن جهته، فيلوح للناظر في معرض غيره. وهذا إذا صُرِفَ إلى الحق يُمدح، وإذا صُرِفَ إلى الباطل يُذم. وقد حمل بعضهم الحديث على المدح، والحث على تحسين الكلام، وبعضهم على الذم لمن تَصنَّع في الكلام، وتكلف لتحسينه، وصرف الشيء عن ظاهره، والظاهرُ: أن المراد به أن الرجل يكون عليه الحق وهو ألحن بالحجة من صاحب الحق، فيسحر الناس ببيانه فيذهب الحق.
قال ابن بطال: أحسن ما يقال في هذا: أن هذا الحديث ليس ذماً للبيان كله، ولا مدحاً، لقوله {: "من البيان" فأتى بلفظة (من) التي للتبعيض، وكيف وقد امتن الله به على صفوة خلقه قال: علمه البيان، وقد اتفق العلماء على مدح الإيجاز، والإتيان بالمعاني الكثيرة بالألفاظ اليسيرة، وعلى مدح الإطناب في مقام الخطابة بحسب المقام، نعم الإفراط في كل شيء مذموم، وخير الأمور أوسطها"(17).
وبالجملة: فلقد كان { يقول عندما يستمع إلى رائع من الشعر أو النثر "إن من الشعر لحكمة، وإن من البيان لسحراً"، وكان يقول لشاعر الإسلام حسان بن ثابت: "أجب عني، اللهم أيده بروح القدس"(18)، وقال: "أهجهم وجبريل معك"(19).
وقال لكعب بن مالك: "أهجهم فو الذي نفسي بيده لهو أشد عليهم من النبل"(20).
وعن أنس بن مالك أن رسول الله { قال: "جاهدوا المشركين بأنفسكم، وأموالكم، وألسنتكم"(21).
والأحاديث في هذه المعاني معلومة، وفيما أوردناه كفاية ودليل على مدح الشعر وأهله الصادقين.
ما ورد في ذم الشعر:
مَنْ ذمَّ الشعر وأهله استدل بقوله تعالى: والشعراء يتبعهم الغاوون 224 {الشعراء: 224} وسيأتي الكلام عليها لاحقاً.
واستدلوا بأحاديث منها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله { قال: "لئن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً حتى يريه، خير له من أن يمتلئ شعراً"(22).
وظاهر هذا الحديث أن الشعر مذموم بإطلاق.
ومعنى: (يَريَه) من الوَري، وهو داء يفسد الجوف، ومعناه: قيحاً يأكل جوفه ويفسده. ويصيب رئته ويفسدها.
وعن أبي نوفل بن أبي عقرب قال: "سألتُ عائشة رضي الله عنها: هل كان رسول الله { يتسامع عنده الشعر؟ قالت: كان أبغض الحديث إليه"(23).
وهناك أدلة أخرى في هذا المعنى، وقد أشكل على بعضهم ورود المدح، وورود الذم في الشعر، مما دفع العلماء إلى التوفيق بينهما، والتوجيه والتأويل، لدفع ما يوهم التعارض بين النصوص الشرعية، والتعارض هذا في الظاهر، وإلا فنصوص الإسلام متوافقة وهي من لدن حكيم خبير، والنصوص بعضها يوضح بعضاً، فما أُجْمِل في موضع فُصِّل في موضع آخر، وما ورد مطلقاً قُيِّد في موضع آخر وخصصه، وهذا من كمال الشريعة الإسلامية وتمامها، قال تعالى: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا3 {المائدة: 3}.
التوفيق بين أدلة المدح وأدلة الذم:
فهم بعض العلماء أن حديث ذم الشعر المتقدم، جاء في ذم الشعر مطلقاً، وتعلقوا بما ورد في رواية مسلم من حديث أبي سعيد الخدري قال: بينا نحن نسير مع رسول الله { بالعَرْج (اسم موضع قرب المدينة) إذْ عرض شاعر ينشد، فقال رسول الله {: "خذوا الشيطان - أو أمسكوا الشيطان - لئن يمتلئ جوف رجل قيحاً خير له من أن يمتلئ شعراً".
ففي هذه الرواية سبب ورود الحديث وقد أجاب العلماء عن هذا الحديث بأنه مخصوص بمن غلب عليه الشعر، ويؤيد هذا قوله { "يمتلئ" وهي كلمة تدل على الغلبة والكثرة.
قال النووي: "استدل بعض العلماء بهذا الحديث على كراهة الشعر مطلقاً، قليله وكثيره، وإن كان لا فُحش فيه، وتعلق بقوله {: "خذوا الشيطان"، وقال العلماء كافة: هو مباحٌ ما لم يكن فيه فحش ونحوه، قالوا: هو كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح (وهذا هو الصواب)، فقد سمع النبي { الشعر، واستنشده، وأمر به حسان في هجاء المشركين، وأنشده أصحابه بحضرته في الأسفار - وغيرها، وأنشده الخلفاء وأئمة الصحابة، وفضلاء السلف، ولم ينكره أحد منهم على إطلاقه، وإنما أنكروا المذموم منه، وهو الفحش ونحوه.
وأما تسمية هذا الرجل الذي سمعه ينشد (شيطاناً) فلعله: كان كافراً، أو: كان الشعر هو الغالب عليه، أو: كان شعره هذا من المذموم.."(24).
وقال ابن حجر: "وقوله شعراً، ظاهره العموم في كل شعر، لكنه مخصوص بما لم يكن مدحاً حقاً، كمدح الله ورسوله، وما اشتمل على الذكر، والزهد، وسائر المواعظ، مما لا إفراط فيه"(25).
قال القرطبي: "وهذا الحديث أحسنُ ما قيل في تأويله: إنه الذي قد غلبَ عليه الشعر وامتلأ صدره منه، دون علم سواه ولا شيء من الذكر، ممن يخوض به في الباطل، ويسلك به مسالك لا تحمد له كالمكثر من اللغط والهذر والغيبة وقبيح القول، ومن كان الغالب عليه الشعر لزمته هذه الأوصاف المذمومة الدنية، لحكم العادة الأدبية، وهذا المعنى هو الذي أشار إليه البخاري في صحيحه لما بوّب على هذا الحديث "باب ما يكره أن يكون الغالب على الإنسان الشعر.."(26).
قال ابن كثير: "على أن الشعر فيه ما هو (مشروع) وهو: هجاء المشركين الذي كان يتعاطاه شعراء الإسلام، كحسان بن ثابت رضي الله عنه، وكعب ابن مالك، وعبدالله بن رواحة، وأمثالهم، وأضرابهم رضي الله عنهم أجمعين.
ومنه: ما فيه حكم ومواعظ وآداب، كما يوجد في شعر جماعة من الجاهلية، ومنهم أمية بن أبي الصلت.... وقد أنشد بعض الصحابة - رضي الله عنهم - للنبي { مئة بيت، يقول { عقب كل بيت "هيه"، يعني: يستطعمه فيزيده من ذلك.."(27).
وقال ابن عبدالبر: "ولا يُنكر الحسن من الشعر أحد من أهل العلم ولا من أولي النهى، وليس أحد من كبار الصحابة وأهل العلم وموضع القدوة إلا قد قال الشعر، أو تمثل به، أو سمعه، فرضيه ما كان حكمه مباحاً ولم يكن فيه فحش ولا خناً ولا لمسلم أذى"(28).
موقف الرسول { من الشعر:
تقدم أنه { سمع الشعر، واستنشده، وأمر حسان بن ثابت بهجاء المشركين، وقال: "إن من البيان لسحراً"، وزاد على ذلك بأن أثاب المحسن من الشعراء المسلمين، ومثال ذلك ما فعله تجاه كعب بن زهير عندما أنشد قصيدته البليغة التي يعتذر فيه للرسول {:
بانت سعادُ فقلبي اليومَ متبولُ
متيم إِثرَها لم يُفْدَ مكبوُل
لكنه { لم يتجاوز في مسألة الشعر والشعراء الحدود، فقد عاب أن ينشغل المرء بالشعر حتى يغلب عليه لأن هذا المسلك من شأنه أن يصرف المرء عن العناية والاهتمام بالقرآن والسنة، ونحو ذلك.
موقف الصحابة من الشعر:
لقد اقتفى الصحابة رضي الله عنهم أجمعين سنة المصطفى { ولم يبالغوا في مسألة الشعر، بل كانوا قمة في الاعتدال، فقد اهتموا به، ولكنه لم يشغلهم عن ما هو أهم، وكانوا يحفظون أولادهم الشعر لما للشعر والأدب من تأثير بليغ في التربية والتهذيب، فقد كتب عمر رضي الله عنه إلى ساكني الأمصار: "أما بعد فعلموا أولادكم العلوم والفروسية، وَروُّوهُم ما سار من المثل، وحَسُنَ من الشعر"(29).
وبعث أيضاً إلى أبي موسى الأشعري برسالة قال فيها: "مُرْ من قِبَلِك بتعلم الشعر، فإنه يحل عقدة اللسان، ويشجع قلب الجبان، ويطلق يد البخيل، ويحض على الخلق الجميل"(30).
نفي القرآن عن النبي { أن يكون شاعراً:
المتأمل للآيات الواردة في الشعر والشعراء يجد أنها أتت في معرض الذب عن الرسول {، ونفي الشعر عما أوحاه الله إليه؛ لأن الشعر بطبيعة الحال يتنافى مع طبيعة الرسالة والوحي، وقال تعالى: وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين 69 {يس: 69}.
وقال تعالى: إنه لقول رسول كريم 40 وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون 41 ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون 42 تنزيل من رب العالمين 43 {الحاقة: 40 - 43}.
وقد زعم كفار مكة أن هذا القرآن شعر، وأن محمداً شاعر قال تعالى: بل قالوا أضغاث أحلام بل \فتراه بل هو شاعر فليأتنا بآية كما أرسل الأولون 5 {الأنبياء: 5}.
وقال تعالى: فذكر فما أنت بنعمت ربك بكاهن ولا مجنون 29 أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون 30 قل تربصوا فإني معكم من المتربصين 31 {الطور: 29 - 31}.
فالله تبارك وتعالى يبين أنه ماعلَّم نبيه الشعر وما علمناه الشعر وما ينبغي له 69 {يس: 69} قال ابن كثير: "أي ما هو في طبعه فلا يحسنه، ولا يحبه، ولا تقتضيه جبلته، ولهذا ورد أنه { كان لا يحفظ بيتاً على وزن منتظم، بل إن أنشده زحفه، أو لم يتمه".
ثم قال: "وثبت في الصحيح، أنه { تمثل يوم حفر الخندق، بأبيات عبدالله بن رواحة رضي الله عنه ولكن تبعاً لقول أصحابه رضي الله عنهم فإنهم يرتجزون وهم يحفرون، فيقولون:
لا هم لولا أنت ما اهتدينا
ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا
وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الألى قد بغوا علينا
إذا أرادوا فتنة أبينا(31)
ويرفع { بقوله: "أبينا" ويمدها، وقد روى هذا بزحاف، في الصحيحين أيضاً، وكذا ثبت أنه { قال يوم حنين وهو راكب البغلة يقدم بها في نحور العدو:
أنا النبي لا كذب
أنا ابن عبدالمطلب(32)
ولكن قالوا: هذا وقع اتفاقاً من غير قصد لوزن شعر، بل جرى على اللسان من غير قصد إليه.
وكذلك ما ثبت في الصحيحين عن جندب بن عبدالله رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله { في غار فنكبت أصبعه، فقال {:
هل أنت إلا أصبع دميت
وفي سبيل الله ما لقيت(33)
ثم قال ابن كثير موجهاً في ذلك بكلام دقيق: "وكل هذا لا ينافي كونه { ما علم شعراً، ولا ينبغي له، فإن الله تعالى إنما علمه القرآن، العظيم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد 42 {فصلت: 42}، وليس هو بشعر كما زعمه طائفة من جهلة كفار قريش، ولا كهانة، ولا مفتعل، ولا سحر يؤثر، كما تنوعت فيه أقوال الضلال وآراء الجهال، وقد كانت سجيته { تأبى صناعة الشعر طبعاً وشرعاً"(34).
ولا يقول قائل: بأن من تمثل بأبيات من الشعر فهو شاعر "ولا يلزم منه أن يكون النبي { عالماً بالشعر، ولا شاعراً؛ لأن التمثيل بالبيت النزر، وإصابة القافيتين في الرجز وغيره، لا يوجب أن يكون قائلها عالماً بالشعر، ولا يسمى شاعراً باتفاق العلماء.
كما أن من خاط خيطاً لا يكون خياطاً، قال أبو إسحاق الزجاج: معنى وما علمناه 69 {يس: 69} وما علمناه أن يشعر أي: ما جعلناه شاعراً، وهذا لا يمنع أن ينشد شيئاً من الشعر، قال النحاس: وهذا من أحسن ما قيل في هذا، وقد قيل: إنما خَبَّر الله عز وجل أنه ما علمه الله الشعر، ولم يخبر أنه لا ينشد شعراً، وهذا ظاهر الكلام"(35).
وقد أنشد بعض الصحابة للنبي { مائة بيت، يقول بعدها {: "هيه". قال ابن كثير: يعني يستطعمه فيزيده من ذلك(36).
بيان حال شعراء الكفر والضلال:
قال تبارك وتعالى: والشعراء يتبعهم الغاوون 224 ألم تر أنهم في كل واد يهيمون 225 وأنهم يقولون ما لا يفعلون 226 {الشعراء: 224 - 226}.
هذا استئناف مسوق لإبطال ما قالوا في حق القرآن الكريم، من أنه من قبيل الشعر، وأن الرسول { شاعر، ببيان حال الشعراء المنافية لحاله عليه الصلاة والسلام. بعد إبطال ما قالوا إنه من قبيل: ما يُلقي الشياطين على الكهنة من الأباطيل، بما مر من بيان أحوالهم المضادة لأحواله عليه الصلاة والسلام، والمعنى: أن الشعراء الذين يركبون المخيلات، والمزخرفات من القياسات الشعرية، والأكاذيب الباطلة، سواء كانت موزونة أم لا، فإنهم يتبعهم ويجاريهم ويسلك مسلكهم، ويكون من جملتهم الغاوون الضالون عن السنن، لاغيرهم من أهل الرشد، المهتدين إلى طريق الحق، الداعين إليه"(37).
قال ابن عطية: ويدخل في الآية كل شاعر مُخَلِّط، يهجو ويمدح شهوة، ويقذف المحصنات، ويقول الزور.
ثم قال: وقوله في كل واد يهيمون 225 {الشعراء: 225} عبارة عن تخليطهم وخوضهم في كل فن من غث الكلام وباطله، وتحسينهم القبيح وتقبيحهم الحسن.
وقوله: وأنهم يقولون ما لا يفعلون 226 {الشعراء: 226} ذكر لتعاطيهم وتعمقهم في مجاز الكلام حتى يؤول إلى الكذب"(38).
فهم يكذبون غير مبالين بما يستتبعه من اللوائم، "فإن الشعراء يتبجحون بأقوال وأفعال لم تصدر منهم، ولا عنهم، فيتكثرون بما ليس لهم"(39) ويدعون لأنفسهم بما لايستطيعونه ولا يقدرون عليه.
ولما كان الشعر منطلقه العاطفة الجياشة، والمشاعر الملتهبة، كان الشعراء إلى الإنحراف أقرب، وإلى الهوى أميل، إلا من رحم الله، كما قال تعالى: والشعراء يتبعهم الغاوون.
قال ابن سعدي عن الشعراء الذين ورد ذكرهم في قوله تعالى: ألم تر أنهم في كل واد يهيمون... قال: "ألم تر غوايتهم، وشدة ضلالهم أنهم في كل واد من أودية الشعر يهيمون فتارة في مدح، وتارة في قدح، وتارة يتغزلون، وأخرى يسخرون، ومرة يمرحون، وآونة يحزنون، فلا يستقر لهم قرار ولا يثبتون على حال من الأحوال. وأنهم يقولون ما لا يفعلون 226 {الشعراء: 226} أي: هذا وصف الشعراء، أنهم تخالف أقوالهم أفعالهم، فإذا سمعت الشاعر يتغزل بالغزل الرقيق، قلت: هذا أشد الناس غراماً، وقلبه فارغ من ذاك! وإذا سمعته يمدح أو يذم، قلت: هذا صدق، وهو كذب! وتارة يتمدح بأفعال لم يفعلها وتروك لم يتركها، وكرم لم يحم حول ساحته، وشجاعة يعلو بها على الفرسان، وتراه أجبن من كل جبان، هذا وصفهم..إلخ(40).
وقال يوسف العظم: "لا يقف القرآن الكريم عند الحديث عن الشعراء، بل يتعرض للجمهور المُعْجَب بالقول المشجع عليه، لأنه وسيلة من وسائل دعم الزور، وتأييد الكذب والاستزادة من الباطل، والسبب في ذلك واضح، إذ إن الشاعر ما كان ليتمادى في باطله، أو يوالي أكاذيبه لو لقي صدا من جمهور داع، وأمة سليمة الفكر، قويمة الخلق. ومن هنا: نجد حكم الإسلام شاملاً لا يتناول الشاعر وحده، بل يمتد فيشمل الشاعر شخصاً، والشعر مادة، والمستمعين جمهوراً مؤيداً أو معارضاً(41).
مسألة: اعتراف الشاعر في شعره بما يوجب الحد عليه؟
قال ابن كثير: اختلف العلماء رحمهم الله فيما إذا اعترف الشاعر في شعره بما يوجب حداً، هل يقام عليه بهذا الاعتراف أم لا؟ لأنهم يقولون مالا يفعلون، على قولين(42).
قال الشنقيطي:
أظهر القولين عندي: أن الشاعر إذا أقر في شعره بما يستوجب الحد، لا يقام عليه الحد؛ لأن الله جل وعلا صرح هنا بكذبهم في قوله: وأنهم يقولون ما لا يفعلون 226 {الشعراء: 226}.
فهذه الآية الكريمة تدرأ عنهم الحد، ولكن الأظهر أنه إن أقر بذلك استوجب بإقراره به الملام والتأديب، وإن كان لا يحد به(43).
بيان حال شعراء الحق:
بعد ما ذكر جل وعلا شعراء الضلال، وبين أوصافهم، استثنى من جنس الشعراء، شعراء الحق والإيمان قال ابن عطية: هذا الاستثناء هو في شعراء الإسلام، كحسان بن ثابت وكعب ابن مالك، وعبدالله بن رواحة، وكل من اتصف بهذه الصفة.
قال تعالى: إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون 227 {الشعراء: 227}.
وقوله: وذكروا الله كثيرا يحتمل أن يريد في أشعارهم ويحتمل أن يريد أن ذلك خلق لهم وعبادة وعادة(44).
وقوله: وانتصروا من بعد ما ظلموا 227 {الشعراء: 227}.
قال بيان الحق النيسابوري: أي شعراء المسلمين الذين نافحوا عن رسول الله {، وقال لحسان: "أجب عني". ثم قال: "اللهم أيده بروح القدس"(45).
قال ابن عطية: وباقي الآية وعيدٌ للظلمة، كفار مكة وتهديد لهم، وعمل (ينقلبون) في (أي) لتأخيره.
قال ابن عاشور: "وقد دلت الآية على أن للشعر حالتين: حالة مذمومة وحالة مأذونة، فتعين أن ذمَّه ليس لكونه شعراً، ولكن لما حف به من معان وأحوال اقتضت المذمة، فانفتح بالآية للشعر باب قبول ومدح، فحق على أهل النظر ضبط الأحوال التي تأوي إلى جانب قبوله، أو إلى جانب مدحه، والتي تأوي إلى جانب رفضه، وقد أومأ إلى الحالة الممدوحة قوله: وانتصروا من بعد ما ظلموا 227 {الشعراء: 227} وإلى الحالة المأذونة قوله: وعملوا الصالحات وكيف وقد أثنى النبي { عل بعض الشعر مما فيه محامد الخصال، واستنصت أصحابه لشعر كعب بن زهير وكان يستنشد شعر أمية ابن أبي الصلت، لما فيه من الحكمة، وأمر حسان بهجاء المشركين، وقال لكعب بن مالك: "لكلامك أشد عليهم من وقع النبل"(46).
وهذا تفصيل جيد، وتوضيح مفيد، وقد أسهب الجرجاني في مدح الشعر فقال: وأما التعلق بأحوال الشعراء بأنهم ذموا في كتاب الله تعالى فما أرى عاقلاً يرضى به أن يجعله حجة في ذم الشعر وتهجينه، والمنع من حفظه وروايته، والعلم بما فيه من بلاغة وما يختص به من أدب وحكمة، ذاك لأنه يلزم على قود هذا القول أن يعيب العلماء في استشهادهم بشعر امرئ القيس، وأشعار أهل الجاهلية في تفسير القرآن، وفي غريبه وغريب الحديث، وكذلك يلزمه أن يدفع سائر ما تقدم ذكره من النبي { بالشعر، وإصغائه إليه، واستحسانه له.
وبالجملة: فلا ينبغي أن يكون الغالب على العبد الشعر حتى يستغرق حياته، فهذا مذموم شرعاً، لقول النبي {: "لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً خيرٌ له من أن يمتلئ شعراً"(47).
قال الشافعي عن الشعر: حسنه كحسن الكلام، وقبيحه كقبيحه. قال ابن العربي معلقاً: يعني: أن الشعر ليس يكره لذاته، وإنما يكره لمتضمناته، وقد كان عند العرب عظيم الموقع حتى قال الأول منهم: وجرح اللسان كجرح اليد(48) والله أعلم.
الهوامش:
1- معجم مقاييس اللغة، لابن فارس (193/3-194).
2- ما اتفق لفظه واختلف معناه، لإبراهيم ابن أبي محمد يحيى اليزيدي ص: (234).
3- لسان العرب لابن منظور مادة (الشعر).
4- العمدة في محاسن الشعر (116/1).
5- التعريفات للجرجاني (166-167).
6- المتنبي، محمود محمد شاكر ص: (7).
7- مهرجان القصيدة ص: (29) د. عدنان رضا النحوي.
8- عيون الأخبار لابن قتبة (199/2).
9- عيون الأخبار (200/2-201).
10 - أخرجه البخاري في كتاب الأدب المفرد، باب الشعر حسن كحسن الكلام ومنه قبيح، (صحيح الأدب المفرد ج865) قال الألباني: صحيح لغيره.
11- المصدر السابق (ح866) وقال الألباني: صحيح.
12- فضل الله الصمد في توضيح الأدب المفرد للجيلاني (315/2).
13- شعراء الدعوة الإسلامية في العصر الحديث (5/1-6) أحمد الجدع وحسني جرار.
14- الالتزام الإسلامي في الشعر د. ناصر الخنين (119-120) دار الأصالة 1408ه.
15- عون المعبود شرح سنن أبي داود لشمس الحق أبادي (354/13).
16- المصدر السابق (352/13-353).
17- فضل الله الصمد (321/2-322).
18- البخاري في الصلاة، باب الشعر في المسجد (ح453).
19- البخاري في بدء الخلق، باب ذكر الملائكة (ح3213).
20- البخاري في المناقب باب من أحب أن لا يسب نسبه (ح3531) ومسلم في فضائل الصحابة باب فضائل حسان (ح2490) وغيرهما.
21- أخرجه أحمد في المسند (124/3) وغيره وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.
22- البخاري في كتاب الأدب، باب ما يكره أن يكون الغالب على الإنسان الشعر (ح6155)، ومسلم في صحيحه (ح2257) وغيرهما، وللأحاديث ألفاظ متنوعة أوردها عبدالغني المقدسي في كتاب: جزء أحاديث الشعر (ح32) فما بعد.
23- أحمد في المسند (134/6)، والبيهقي في الكبرى (245/10) بإسناد صحيح.
24- شرح صحيح مسلم للنووي (14/15).
25- فتح الباري (356/22).
26- الجامع لأحكام القرآن (151/13).
27- تفسير ابن كثير (587/3).
28- الجامع لأحكام القرآن (147/13).
29- جامع البيان (78/19).
30- البيان والتبيين للجاحظ (180/2).
31- أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الجهاد، باب حفر الخندق (ح2837)، ومسلم في صحيحه ك الجهاد باب غزوة الأحزاب (ح1803).
32- أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب قوله تعالى: ويوم حنين... (ج4316).
33- أخرجه البخاري في كتاب الجهاد باب من ينكب في سبيل الله (ح2802).
34- تفسير ابن كثير (585/3-587).
35- الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (5497/8).
36- تفسير ابن كثير (587/3).
37- تفسير أبي السعود (120/4)، تفسير القاسمي (49/13-50).
38- المحرر الوجيز لابن عطية (246/4).
39- الشعر والشعراء ليوسف العظم (14-15).
40- تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان لابن سعدي (491/3).
41- الشعر والشعراء للعظم ص: (14-15).
42- تفسير ابن كثير (366/3).
43- أضواء البيان (391/6).
44- تفسير ابن عطية (247/2).
45- وضح البرهان في مشكلات القرآن (136/2).
46- التنوير والتحرير (207/19-208) للطاهر بن عاشور.
47- دلائل الإعجاز للجرجاني ص: (27).
48- أحكام القرآن (462/3).
تدبرت الشعر فوجدته أربعة أضرب:
1- ضرب منه (حَسنٌ لفظه، وجادٌ معناه) كقول القائل:
أيتها النفس أَجْمِلي جزعاً
إن الذي تحذرين قد وقعا
2- وضرب منه (حَسن لفظه وحَلا، فإذا أنت فتشته لم تجد هناك فائدة في المعنى) كقول القائل:
ولما قضينا من منى كلَّ حاجةٍ
ومسحَ بالأركان من هو ماسحُ
وشُدَّت على حُدب المهاري رحالُنا
ولا ينظر الغادي الذي هو رائحُ
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا
وسالت بأعناق المطي الأباطحُ
3- وضربٌ منه (جادٌ معناه، وقَصُرت ألفاظه عنه) كقول لبيد بن ربيعة:
ما عاتب المرءَ الكريم كنفسه
والمرءُ يُصلحهُ الجليسُ الصالح
4- وضرب منه (تأخر معناه، وتأخر لفظه) كقول الأعشى في امرأة:
وفُوها كَأقَاحي
غذاهُ دائمُ الهطيلِ
كما شيب براحٍ بارد
من عسل النحلِ
وتقسيم ابن قتيبة لطيف، لكنه تقسيم من الناحية الفنية.
هذا وللشعر عند العرب في العصر الجاهلي أغراض متعددة، من ذلك: المديح، والتفاخر، والهجاء، والرثاء، والغزل وغير ذلك.
وقد امتاز شعرهم بقوته، وبلاغته، وسلاسته، وبُعْده عن حشو الكلام، إضافة إلى أنه في الغالب شعر واقعي، يقوم على نقل المشاهد الحسية دون إغراق في المعاني والأبعاد.
تلك إلماحة أردتها أن تكون موطئة لأصل البحث، والله الموفق.
الإسلام والشعر:
طغى حب الشعر ونظمه وإنشاده على قلوب الكثير في العصر الجاهلي، واستمر حتى بعد الإسلام، وإلى يومنا هذا، فقد كان الناس يستشهدون بالشعر في حلهم وترحالهم وسمرهم والمواقف التي تمر بهم.
لكن لابد أن نعرف أن الشعر في الإسلام يختلف تماماً عمّا كان عليه في العصر الجاهلي، فقد أصبحت أغراض الشعر تنحى باتجاه تهذيب الأخلاق، والاعتناء بالمبادئ والقيم، والمثل العليا والدعوة إلى توحيد الله، والحث على الجهاد في سبيل الله، والزهد في الدنيا، والوعظ والنصح، ونصر الدين، وهجاء أعداء الإسلام.
على أن أغراض الشعر الأخرى كالمديح، والرثاء، والغزل العفيف ونحو ذلك مستمرة، لكن السمة الغالبة هو ما تقدم ذكره.
حكم الإسلام في الشعر:
عن عبدالله بن عمرو قال: قال رسول الله {: "الشعر بمنزلة الكلام، حسنه كحسن الكلام، وقبيحه كقبيح الكلام"(10).
وعن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقول: "الشعر منه حسن، ومنه قبيح، خذ بالحسن ودع القبيح، ولقد رويت من شعر كعب بن مالك أشعاراً، منها القصيدة فيها أربعون بيتاً، ودون ذلك"(11).
قال الجيلاني: "الشعر منه حسن، ومنه قبيح" أي: إذا حَسُنَ المعنى شرعاً فالكلام محكوم عليه شرعاً بالحسن، ولو كان اللفظ غير فصيح. وإذا قَبُح المعنى شرعاً لم يُحكم عليه بالحسن وإن كان لفظه فصيحاً. وهذا حق، ولكن الوزن وفصاحة الكلام يزيد الحسن حسناً كالحكمة، ويزيد القبيح قُبْحاً كالهجو، لأن الكلام الفصيح أجدر أن يُصغى له، ويُحفظ ويروى، وأشد تأثيراً في النفس"(12).
ولكن هناك آراء زعمت أن الإسلام وقف من الشعر موقف العداء، وذم الشعراء، وألحقهم بالغواة والمنافقين، واستشهدوا بالقرآن الكريم، وأوردوا آيات منه، قرأوها مُجَزَّأة مبتورة، ليصلوا إلى تأييد رأيهم السقيم، فقالوا: بأن الله ذم الشعر والشعراء في قوله الكريم: والشعراء يتبعهم الغاوون 224 ألم تر أنهم في كل واد يهيمون 225وأنهم يقولون ما لا يفعلون 226 {الشعراء: 224، 226}.
ووقفوا في قراءاتهم واستشهادهم عند هذه الآيات ولم يتموا القراءة؛ لأنهم علموا أنها لا توافق ما ذهبوا إليه.."(13).
ويحسن بنا أن نذكر ما ورد في مدح الشعر، وما ورد في ذمه، حتى نخرج بنتيجة مقنعة:
ما ورد في مدح الشعر:
وردت أحاديث وآثار كثيرة في ذلك منها:
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً - أو أعرابياً - أتى النبي { فتكلم بكلام بَيِّن، فقال النبي {: "إن من البيان سحراً، وإن من الشعر حكمة".
وإن المتأمل في هذا الحديث الشريف يُدرك ثناء النبي { على الشعر، كما يشعر في المقابل بتوجيهٍ رشيد لمضموناته، فقد نبه عليه الصلاة والسلام، المسلم إلى أهمية الشعر وأن فيه قيماً سامية، وأكد عليه الصلاة والسلام قوله ذلك بمؤكد لغوي هو: حرف التوكيد (إن) وذلك حتى يزيد الأمر في النفس ثباتاً واستقراراً... وغني عن البيان أن قول النبي {: "إن من الشعر حكمة" يفيد أن منه ماليس كذلك، لأن (من) تبعيضية"(14).
وجاء في رواية أبي داود: "وإن من الشعر حُكْماً" وهو بمعنى: الحِكْمة، يدل لذلك قوله تبارك وتعالى: وآتيناه الحكم صبيا 12 {مريم: 12}.
وقد قال بعض العلماء بأن (السحر) الذي ذكره {، عن البيان ورد في مَعْرِض الذم، حيث شبهه بعمل السحر، لكونه يزين القبيح، ويقبح الحسن، فيكون معناه: أن صاحبه يكسب من الإثم ما يكسبه الساحر بعمله(15).
ومنهم من رأى أن ذلك ورد مورد المدح، وعلى هذا يكون المعنى: "إنه تمال به القلوب، ويرضى به الساخط، ويذل به الصعب، ويشهد له: إن من الشعر لحكمة، وهذا لا ريب فيه أنه مدح.
والصواب: أن الأمر يختلف باختلاف المقاصد التي يراد بيانها، فإن كان البيان في أمر باطل فهو كذلك، وإلا فمدح لا محالة(16).
وعن هذا الحديث بين الطبري بأنه: ردٌ على من كره الشعر مطلقاً.
قال الجيلاني: "سحراً" السحر ما لَطُف مأخذه ودق. والبيان اثنان: أحدهما ماتقع به الإبانة عن المراد بأي وجه كان، والآخر ما دخلته الصنعة، حيث يروق السامعين، ويستميل قلوبهم، وهو الذي يشبه السحر إذا خلب القلب، وغلب النفس، حتى يحول ذلك عن حقيقته، ويصرفه عن جهته، فيلوح للناظر في معرض غيره. وهذا إذا صُرِفَ إلى الحق يُمدح، وإذا صُرِفَ إلى الباطل يُذم. وقد حمل بعضهم الحديث على المدح، والحث على تحسين الكلام، وبعضهم على الذم لمن تَصنَّع في الكلام، وتكلف لتحسينه، وصرف الشيء عن ظاهره، والظاهرُ: أن المراد به أن الرجل يكون عليه الحق وهو ألحن بالحجة من صاحب الحق، فيسحر الناس ببيانه فيذهب الحق.
قال ابن بطال: أحسن ما يقال في هذا: أن هذا الحديث ليس ذماً للبيان كله، ولا مدحاً، لقوله {: "من البيان" فأتى بلفظة (من) التي للتبعيض، وكيف وقد امتن الله به على صفوة خلقه قال: علمه البيان، وقد اتفق العلماء على مدح الإيجاز، والإتيان بالمعاني الكثيرة بالألفاظ اليسيرة، وعلى مدح الإطناب في مقام الخطابة بحسب المقام، نعم الإفراط في كل شيء مذموم، وخير الأمور أوسطها"(17).
وبالجملة: فلقد كان { يقول عندما يستمع إلى رائع من الشعر أو النثر "إن من الشعر لحكمة، وإن من البيان لسحراً"، وكان يقول لشاعر الإسلام حسان بن ثابت: "أجب عني، اللهم أيده بروح القدس"(18)، وقال: "أهجهم وجبريل معك"(19).
وقال لكعب بن مالك: "أهجهم فو الذي نفسي بيده لهو أشد عليهم من النبل"(20).
وعن أنس بن مالك أن رسول الله { قال: "جاهدوا المشركين بأنفسكم، وأموالكم، وألسنتكم"(21).
والأحاديث في هذه المعاني معلومة، وفيما أوردناه كفاية ودليل على مدح الشعر وأهله الصادقين.
ما ورد في ذم الشعر:
مَنْ ذمَّ الشعر وأهله استدل بقوله تعالى: والشعراء يتبعهم الغاوون 224 {الشعراء: 224} وسيأتي الكلام عليها لاحقاً.
واستدلوا بأحاديث منها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله { قال: "لئن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً حتى يريه، خير له من أن يمتلئ شعراً"(22).
وظاهر هذا الحديث أن الشعر مذموم بإطلاق.
ومعنى: (يَريَه) من الوَري، وهو داء يفسد الجوف، ومعناه: قيحاً يأكل جوفه ويفسده. ويصيب رئته ويفسدها.
وعن أبي نوفل بن أبي عقرب قال: "سألتُ عائشة رضي الله عنها: هل كان رسول الله { يتسامع عنده الشعر؟ قالت: كان أبغض الحديث إليه"(23).
وهناك أدلة أخرى في هذا المعنى، وقد أشكل على بعضهم ورود المدح، وورود الذم في الشعر، مما دفع العلماء إلى التوفيق بينهما، والتوجيه والتأويل، لدفع ما يوهم التعارض بين النصوص الشرعية، والتعارض هذا في الظاهر، وإلا فنصوص الإسلام متوافقة وهي من لدن حكيم خبير، والنصوص بعضها يوضح بعضاً، فما أُجْمِل في موضع فُصِّل في موضع آخر، وما ورد مطلقاً قُيِّد في موضع آخر وخصصه، وهذا من كمال الشريعة الإسلامية وتمامها، قال تعالى: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا3 {المائدة: 3}.
التوفيق بين أدلة المدح وأدلة الذم:
فهم بعض العلماء أن حديث ذم الشعر المتقدم، جاء في ذم الشعر مطلقاً، وتعلقوا بما ورد في رواية مسلم من حديث أبي سعيد الخدري قال: بينا نحن نسير مع رسول الله { بالعَرْج (اسم موضع قرب المدينة) إذْ عرض شاعر ينشد، فقال رسول الله {: "خذوا الشيطان - أو أمسكوا الشيطان - لئن يمتلئ جوف رجل قيحاً خير له من أن يمتلئ شعراً".
ففي هذه الرواية سبب ورود الحديث وقد أجاب العلماء عن هذا الحديث بأنه مخصوص بمن غلب عليه الشعر، ويؤيد هذا قوله { "يمتلئ" وهي كلمة تدل على الغلبة والكثرة.
قال النووي: "استدل بعض العلماء بهذا الحديث على كراهة الشعر مطلقاً، قليله وكثيره، وإن كان لا فُحش فيه، وتعلق بقوله {: "خذوا الشيطان"، وقال العلماء كافة: هو مباحٌ ما لم يكن فيه فحش ونحوه، قالوا: هو كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح (وهذا هو الصواب)، فقد سمع النبي { الشعر، واستنشده، وأمر به حسان في هجاء المشركين، وأنشده أصحابه بحضرته في الأسفار - وغيرها، وأنشده الخلفاء وأئمة الصحابة، وفضلاء السلف، ولم ينكره أحد منهم على إطلاقه، وإنما أنكروا المذموم منه، وهو الفحش ونحوه.
وأما تسمية هذا الرجل الذي سمعه ينشد (شيطاناً) فلعله: كان كافراً، أو: كان الشعر هو الغالب عليه، أو: كان شعره هذا من المذموم.."(24).
وقال ابن حجر: "وقوله شعراً، ظاهره العموم في كل شعر، لكنه مخصوص بما لم يكن مدحاً حقاً، كمدح الله ورسوله، وما اشتمل على الذكر، والزهد، وسائر المواعظ، مما لا إفراط فيه"(25).
قال القرطبي: "وهذا الحديث أحسنُ ما قيل في تأويله: إنه الذي قد غلبَ عليه الشعر وامتلأ صدره منه، دون علم سواه ولا شيء من الذكر، ممن يخوض به في الباطل، ويسلك به مسالك لا تحمد له كالمكثر من اللغط والهذر والغيبة وقبيح القول، ومن كان الغالب عليه الشعر لزمته هذه الأوصاف المذمومة الدنية، لحكم العادة الأدبية، وهذا المعنى هو الذي أشار إليه البخاري في صحيحه لما بوّب على هذا الحديث "باب ما يكره أن يكون الغالب على الإنسان الشعر.."(26).
قال ابن كثير: "على أن الشعر فيه ما هو (مشروع) وهو: هجاء المشركين الذي كان يتعاطاه شعراء الإسلام، كحسان بن ثابت رضي الله عنه، وكعب ابن مالك، وعبدالله بن رواحة، وأمثالهم، وأضرابهم رضي الله عنهم أجمعين.
ومنه: ما فيه حكم ومواعظ وآداب، كما يوجد في شعر جماعة من الجاهلية، ومنهم أمية بن أبي الصلت.... وقد أنشد بعض الصحابة - رضي الله عنهم - للنبي { مئة بيت، يقول { عقب كل بيت "هيه"، يعني: يستطعمه فيزيده من ذلك.."(27).
وقال ابن عبدالبر: "ولا يُنكر الحسن من الشعر أحد من أهل العلم ولا من أولي النهى، وليس أحد من كبار الصحابة وأهل العلم وموضع القدوة إلا قد قال الشعر، أو تمثل به، أو سمعه، فرضيه ما كان حكمه مباحاً ولم يكن فيه فحش ولا خناً ولا لمسلم أذى"(28).
موقف الرسول { من الشعر:
تقدم أنه { سمع الشعر، واستنشده، وأمر حسان بن ثابت بهجاء المشركين، وقال: "إن من البيان لسحراً"، وزاد على ذلك بأن أثاب المحسن من الشعراء المسلمين، ومثال ذلك ما فعله تجاه كعب بن زهير عندما أنشد قصيدته البليغة التي يعتذر فيه للرسول {:
بانت سعادُ فقلبي اليومَ متبولُ
متيم إِثرَها لم يُفْدَ مكبوُل
لكنه { لم يتجاوز في مسألة الشعر والشعراء الحدود، فقد عاب أن ينشغل المرء بالشعر حتى يغلب عليه لأن هذا المسلك من شأنه أن يصرف المرء عن العناية والاهتمام بالقرآن والسنة، ونحو ذلك.
موقف الصحابة من الشعر:
لقد اقتفى الصحابة رضي الله عنهم أجمعين سنة المصطفى { ولم يبالغوا في مسألة الشعر، بل كانوا قمة في الاعتدال، فقد اهتموا به، ولكنه لم يشغلهم عن ما هو أهم، وكانوا يحفظون أولادهم الشعر لما للشعر والأدب من تأثير بليغ في التربية والتهذيب، فقد كتب عمر رضي الله عنه إلى ساكني الأمصار: "أما بعد فعلموا أولادكم العلوم والفروسية، وَروُّوهُم ما سار من المثل، وحَسُنَ من الشعر"(29).
وبعث أيضاً إلى أبي موسى الأشعري برسالة قال فيها: "مُرْ من قِبَلِك بتعلم الشعر، فإنه يحل عقدة اللسان، ويشجع قلب الجبان، ويطلق يد البخيل، ويحض على الخلق الجميل"(30).
نفي القرآن عن النبي { أن يكون شاعراً:
المتأمل للآيات الواردة في الشعر والشعراء يجد أنها أتت في معرض الذب عن الرسول {، ونفي الشعر عما أوحاه الله إليه؛ لأن الشعر بطبيعة الحال يتنافى مع طبيعة الرسالة والوحي، وقال تعالى: وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين 69 {يس: 69}.
وقال تعالى: إنه لقول رسول كريم 40 وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون 41 ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون 42 تنزيل من رب العالمين 43 {الحاقة: 40 - 43}.
وقد زعم كفار مكة أن هذا القرآن شعر، وأن محمداً شاعر قال تعالى: بل قالوا أضغاث أحلام بل \فتراه بل هو شاعر فليأتنا بآية كما أرسل الأولون 5 {الأنبياء: 5}.
وقال تعالى: فذكر فما أنت بنعمت ربك بكاهن ولا مجنون 29 أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون 30 قل تربصوا فإني معكم من المتربصين 31 {الطور: 29 - 31}.
فالله تبارك وتعالى يبين أنه ماعلَّم نبيه الشعر وما علمناه الشعر وما ينبغي له 69 {يس: 69} قال ابن كثير: "أي ما هو في طبعه فلا يحسنه، ولا يحبه، ولا تقتضيه جبلته، ولهذا ورد أنه { كان لا يحفظ بيتاً على وزن منتظم، بل إن أنشده زحفه، أو لم يتمه".
ثم قال: "وثبت في الصحيح، أنه { تمثل يوم حفر الخندق، بأبيات عبدالله بن رواحة رضي الله عنه ولكن تبعاً لقول أصحابه رضي الله عنهم فإنهم يرتجزون وهم يحفرون، فيقولون:
لا هم لولا أنت ما اهتدينا
ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا
وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الألى قد بغوا علينا
إذا أرادوا فتنة أبينا(31)
ويرفع { بقوله: "أبينا" ويمدها، وقد روى هذا بزحاف، في الصحيحين أيضاً، وكذا ثبت أنه { قال يوم حنين وهو راكب البغلة يقدم بها في نحور العدو:
أنا النبي لا كذب
أنا ابن عبدالمطلب(32)
ولكن قالوا: هذا وقع اتفاقاً من غير قصد لوزن شعر، بل جرى على اللسان من غير قصد إليه.
وكذلك ما ثبت في الصحيحين عن جندب بن عبدالله رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله { في غار فنكبت أصبعه، فقال {:
هل أنت إلا أصبع دميت
وفي سبيل الله ما لقيت(33)
ثم قال ابن كثير موجهاً في ذلك بكلام دقيق: "وكل هذا لا ينافي كونه { ما علم شعراً، ولا ينبغي له، فإن الله تعالى إنما علمه القرآن، العظيم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد 42 {فصلت: 42}، وليس هو بشعر كما زعمه طائفة من جهلة كفار قريش، ولا كهانة، ولا مفتعل، ولا سحر يؤثر، كما تنوعت فيه أقوال الضلال وآراء الجهال، وقد كانت سجيته { تأبى صناعة الشعر طبعاً وشرعاً"(34).
ولا يقول قائل: بأن من تمثل بأبيات من الشعر فهو شاعر "ولا يلزم منه أن يكون النبي { عالماً بالشعر، ولا شاعراً؛ لأن التمثيل بالبيت النزر، وإصابة القافيتين في الرجز وغيره، لا يوجب أن يكون قائلها عالماً بالشعر، ولا يسمى شاعراً باتفاق العلماء.
كما أن من خاط خيطاً لا يكون خياطاً، قال أبو إسحاق الزجاج: معنى وما علمناه 69 {يس: 69} وما علمناه أن يشعر أي: ما جعلناه شاعراً، وهذا لا يمنع أن ينشد شيئاً من الشعر، قال النحاس: وهذا من أحسن ما قيل في هذا، وقد قيل: إنما خَبَّر الله عز وجل أنه ما علمه الله الشعر، ولم يخبر أنه لا ينشد شعراً، وهذا ظاهر الكلام"(35).
وقد أنشد بعض الصحابة للنبي { مائة بيت، يقول بعدها {: "هيه". قال ابن كثير: يعني يستطعمه فيزيده من ذلك(36).
بيان حال شعراء الكفر والضلال:
قال تبارك وتعالى: والشعراء يتبعهم الغاوون 224 ألم تر أنهم في كل واد يهيمون 225 وأنهم يقولون ما لا يفعلون 226 {الشعراء: 224 - 226}.
هذا استئناف مسوق لإبطال ما قالوا في حق القرآن الكريم، من أنه من قبيل الشعر، وأن الرسول { شاعر، ببيان حال الشعراء المنافية لحاله عليه الصلاة والسلام. بعد إبطال ما قالوا إنه من قبيل: ما يُلقي الشياطين على الكهنة من الأباطيل، بما مر من بيان أحوالهم المضادة لأحواله عليه الصلاة والسلام، والمعنى: أن الشعراء الذين يركبون المخيلات، والمزخرفات من القياسات الشعرية، والأكاذيب الباطلة، سواء كانت موزونة أم لا، فإنهم يتبعهم ويجاريهم ويسلك مسلكهم، ويكون من جملتهم الغاوون الضالون عن السنن، لاغيرهم من أهل الرشد، المهتدين إلى طريق الحق، الداعين إليه"(37).
قال ابن عطية: ويدخل في الآية كل شاعر مُخَلِّط، يهجو ويمدح شهوة، ويقذف المحصنات، ويقول الزور.
ثم قال: وقوله في كل واد يهيمون 225 {الشعراء: 225} عبارة عن تخليطهم وخوضهم في كل فن من غث الكلام وباطله، وتحسينهم القبيح وتقبيحهم الحسن.
وقوله: وأنهم يقولون ما لا يفعلون 226 {الشعراء: 226} ذكر لتعاطيهم وتعمقهم في مجاز الكلام حتى يؤول إلى الكذب"(38).
فهم يكذبون غير مبالين بما يستتبعه من اللوائم، "فإن الشعراء يتبجحون بأقوال وأفعال لم تصدر منهم، ولا عنهم، فيتكثرون بما ليس لهم"(39) ويدعون لأنفسهم بما لايستطيعونه ولا يقدرون عليه.
ولما كان الشعر منطلقه العاطفة الجياشة، والمشاعر الملتهبة، كان الشعراء إلى الإنحراف أقرب، وإلى الهوى أميل، إلا من رحم الله، كما قال تعالى: والشعراء يتبعهم الغاوون.
قال ابن سعدي عن الشعراء الذين ورد ذكرهم في قوله تعالى: ألم تر أنهم في كل واد يهيمون... قال: "ألم تر غوايتهم، وشدة ضلالهم أنهم في كل واد من أودية الشعر يهيمون فتارة في مدح، وتارة في قدح، وتارة يتغزلون، وأخرى يسخرون، ومرة يمرحون، وآونة يحزنون، فلا يستقر لهم قرار ولا يثبتون على حال من الأحوال. وأنهم يقولون ما لا يفعلون 226 {الشعراء: 226} أي: هذا وصف الشعراء، أنهم تخالف أقوالهم أفعالهم، فإذا سمعت الشاعر يتغزل بالغزل الرقيق، قلت: هذا أشد الناس غراماً، وقلبه فارغ من ذاك! وإذا سمعته يمدح أو يذم، قلت: هذا صدق، وهو كذب! وتارة يتمدح بأفعال لم يفعلها وتروك لم يتركها، وكرم لم يحم حول ساحته، وشجاعة يعلو بها على الفرسان، وتراه أجبن من كل جبان، هذا وصفهم..إلخ(40).
وقال يوسف العظم: "لا يقف القرآن الكريم عند الحديث عن الشعراء، بل يتعرض للجمهور المُعْجَب بالقول المشجع عليه، لأنه وسيلة من وسائل دعم الزور، وتأييد الكذب والاستزادة من الباطل، والسبب في ذلك واضح، إذ إن الشاعر ما كان ليتمادى في باطله، أو يوالي أكاذيبه لو لقي صدا من جمهور داع، وأمة سليمة الفكر، قويمة الخلق. ومن هنا: نجد حكم الإسلام شاملاً لا يتناول الشاعر وحده، بل يمتد فيشمل الشاعر شخصاً، والشعر مادة، والمستمعين جمهوراً مؤيداً أو معارضاً(41).
مسألة: اعتراف الشاعر في شعره بما يوجب الحد عليه؟
قال ابن كثير: اختلف العلماء رحمهم الله فيما إذا اعترف الشاعر في شعره بما يوجب حداً، هل يقام عليه بهذا الاعتراف أم لا؟ لأنهم يقولون مالا يفعلون، على قولين(42).
قال الشنقيطي:
أظهر القولين عندي: أن الشاعر إذا أقر في شعره بما يستوجب الحد، لا يقام عليه الحد؛ لأن الله جل وعلا صرح هنا بكذبهم في قوله: وأنهم يقولون ما لا يفعلون 226 {الشعراء: 226}.
فهذه الآية الكريمة تدرأ عنهم الحد، ولكن الأظهر أنه إن أقر بذلك استوجب بإقراره به الملام والتأديب، وإن كان لا يحد به(43).
بيان حال شعراء الحق:
بعد ما ذكر جل وعلا شعراء الضلال، وبين أوصافهم، استثنى من جنس الشعراء، شعراء الحق والإيمان قال ابن عطية: هذا الاستثناء هو في شعراء الإسلام، كحسان بن ثابت وكعب ابن مالك، وعبدالله بن رواحة، وكل من اتصف بهذه الصفة.
قال تعالى: إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون 227 {الشعراء: 227}.
وقوله: وذكروا الله كثيرا يحتمل أن يريد في أشعارهم ويحتمل أن يريد أن ذلك خلق لهم وعبادة وعادة(44).
وقوله: وانتصروا من بعد ما ظلموا 227 {الشعراء: 227}.
قال بيان الحق النيسابوري: أي شعراء المسلمين الذين نافحوا عن رسول الله {، وقال لحسان: "أجب عني". ثم قال: "اللهم أيده بروح القدس"(45).
قال ابن عطية: وباقي الآية وعيدٌ للظلمة، كفار مكة وتهديد لهم، وعمل (ينقلبون) في (أي) لتأخيره.
قال ابن عاشور: "وقد دلت الآية على أن للشعر حالتين: حالة مذمومة وحالة مأذونة، فتعين أن ذمَّه ليس لكونه شعراً، ولكن لما حف به من معان وأحوال اقتضت المذمة، فانفتح بالآية للشعر باب قبول ومدح، فحق على أهل النظر ضبط الأحوال التي تأوي إلى جانب قبوله، أو إلى جانب مدحه، والتي تأوي إلى جانب رفضه، وقد أومأ إلى الحالة الممدوحة قوله: وانتصروا من بعد ما ظلموا 227 {الشعراء: 227} وإلى الحالة المأذونة قوله: وعملوا الصالحات وكيف وقد أثنى النبي { عل بعض الشعر مما فيه محامد الخصال، واستنصت أصحابه لشعر كعب بن زهير وكان يستنشد شعر أمية ابن أبي الصلت، لما فيه من الحكمة، وأمر حسان بهجاء المشركين، وقال لكعب بن مالك: "لكلامك أشد عليهم من وقع النبل"(46).
وهذا تفصيل جيد، وتوضيح مفيد، وقد أسهب الجرجاني في مدح الشعر فقال: وأما التعلق بأحوال الشعراء بأنهم ذموا في كتاب الله تعالى فما أرى عاقلاً يرضى به أن يجعله حجة في ذم الشعر وتهجينه، والمنع من حفظه وروايته، والعلم بما فيه من بلاغة وما يختص به من أدب وحكمة، ذاك لأنه يلزم على قود هذا القول أن يعيب العلماء في استشهادهم بشعر امرئ القيس، وأشعار أهل الجاهلية في تفسير القرآن، وفي غريبه وغريب الحديث، وكذلك يلزمه أن يدفع سائر ما تقدم ذكره من النبي { بالشعر، وإصغائه إليه، واستحسانه له.
وبالجملة: فلا ينبغي أن يكون الغالب على العبد الشعر حتى يستغرق حياته، فهذا مذموم شرعاً، لقول النبي {: "لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً خيرٌ له من أن يمتلئ شعراً"(47).
قال الشافعي عن الشعر: حسنه كحسن الكلام، وقبيحه كقبيحه. قال ابن العربي معلقاً: يعني: أن الشعر ليس يكره لذاته، وإنما يكره لمتضمناته، وقد كان عند العرب عظيم الموقع حتى قال الأول منهم: وجرح اللسان كجرح اليد(48) والله أعلم.
الهوامش:
1- معجم مقاييس اللغة، لابن فارس (193/3-194).
2- ما اتفق لفظه واختلف معناه، لإبراهيم ابن أبي محمد يحيى اليزيدي ص: (234).
3- لسان العرب لابن منظور مادة (الشعر).
4- العمدة في محاسن الشعر (116/1).
5- التعريفات للجرجاني (166-167).
6- المتنبي، محمود محمد شاكر ص: (7).
7- مهرجان القصيدة ص: (29) د. عدنان رضا النحوي.
8- عيون الأخبار لابن قتبة (199/2).
9- عيون الأخبار (200/2-201).
10 - أخرجه البخاري في كتاب الأدب المفرد، باب الشعر حسن كحسن الكلام ومنه قبيح، (صحيح الأدب المفرد ج865) قال الألباني: صحيح لغيره.
11- المصدر السابق (ح866) وقال الألباني: صحيح.
12- فضل الله الصمد في توضيح الأدب المفرد للجيلاني (315/2).
13- شعراء الدعوة الإسلامية في العصر الحديث (5/1-6) أحمد الجدع وحسني جرار.
14- الالتزام الإسلامي في الشعر د. ناصر الخنين (119-120) دار الأصالة 1408ه.
15- عون المعبود شرح سنن أبي داود لشمس الحق أبادي (354/13).
16- المصدر السابق (352/13-353).
17- فضل الله الصمد (321/2-322).
18- البخاري في الصلاة، باب الشعر في المسجد (ح453).
19- البخاري في بدء الخلق، باب ذكر الملائكة (ح3213).
20- البخاري في المناقب باب من أحب أن لا يسب نسبه (ح3531) ومسلم في فضائل الصحابة باب فضائل حسان (ح2490) وغيرهما.
21- أخرجه أحمد في المسند (124/3) وغيره وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.
22- البخاري في كتاب الأدب، باب ما يكره أن يكون الغالب على الإنسان الشعر (ح6155)، ومسلم في صحيحه (ح2257) وغيرهما، وللأحاديث ألفاظ متنوعة أوردها عبدالغني المقدسي في كتاب: جزء أحاديث الشعر (ح32) فما بعد.
23- أحمد في المسند (134/6)، والبيهقي في الكبرى (245/10) بإسناد صحيح.
24- شرح صحيح مسلم للنووي (14/15).
25- فتح الباري (356/22).
26- الجامع لأحكام القرآن (151/13).
27- تفسير ابن كثير (587/3).
28- الجامع لأحكام القرآن (147/13).
29- جامع البيان (78/19).
30- البيان والتبيين للجاحظ (180/2).
31- أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الجهاد، باب حفر الخندق (ح2837)، ومسلم في صحيحه ك الجهاد باب غزوة الأحزاب (ح1803).
32- أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب قوله تعالى: ويوم حنين... (ج4316).
33- أخرجه البخاري في كتاب الجهاد باب من ينكب في سبيل الله (ح2802).
34- تفسير ابن كثير (585/3-587).
35- الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (5497/8).
36- تفسير ابن كثير (587/3).
37- تفسير أبي السعود (120/4)، تفسير القاسمي (49/13-50).
38- المحرر الوجيز لابن عطية (246/4).
39- الشعر والشعراء ليوسف العظم (14-15).
40- تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان لابن سعدي (491/3).
41- الشعر والشعراء للعظم ص: (14-15).
42- تفسير ابن كثير (366/3).
43- أضواء البيان (391/6).
44- تفسير ابن عطية (247/2).
45- وضح البرهان في مشكلات القرآن (136/2).
46- التنوير والتحرير (207/19-208) للطاهر بن عاشور.
47- دلائل الإعجاز للجرجاني ص: (27).
48- أحكام القرآن (462/3).
التعديل الأخير: