- إنضم
- Jul 24, 2010
- المشاركات
- 1
- مستوى التفاعل
- 0
المرأة والرجال والقطيع:
قصة من الواقع
د. حامد سوادي عطية
أمرأة وشقيقان وخالان، هم الأقربون، أعمارهم متقاربة، بين أوائل الستينات وأواسط السبعينات ، لكن أفكارهم مختلفة، وأمزجتهم متباينة. الرجال الأربع متفقون على أمرين لا غير، ارتداء الملابس الافرنجية، والوقوف صفاً واحداً ضد المرأة.
كلهم سعوديون، من عائلة نجدية معروفة، مسقط رأسهم جميعاً دمشق، الخالان تربيا في الشام، عانيا من شظف العيش بعد وفاة والدهما، الذي عاش مترفاً، ومات مفلساً، تاركاً وراءه زوجته الثانية، الشركسية الشابة، التي يكبرها بأربعة عقود من السنين، لتربي أولادهما الصغار الثلاثة، أكبرهم فتاة دون العاشرة والخالان.
تزوجت الفتاة اليتيمة من ابن عمها، وسكنت معه وزوجة اخرى ووالدته في بيت واحد، كان زواجها قنطرة عبر عليها الخالان، وعلى الضفة الأخرى كانت تنتظرهما فرص الدراسة في أحسن المدارس والكليات، في بيروت أولاً ثم أمريكا، وبفضل نفوذ زوج الأخت الحنون، اكتفى الخال الأكبر بسنتين جامعيتين فيما عاد الأصغر بشهادة جامعية من أمريكا، عمل الأكبر في وظيفية حكومية والأصغر في شركة نفطية.
لم يتزوج الخال الأكبر، أو حتى يخطب ود امرأة.
كان زوج الأم يسخر من الخال الأعزب قائلاً: مكانك الطبيعي بين أغوات الحرم، ولمن لا يعرف أغوات الحرم هم خدم الحرمين المكي والنبوي المخصيين، وأول من عين خدماً مخصيين للحرمين يزيد بن معاوية.
بدا أن الخال الأصغر سائر على نهج أخيه، فظل عازباً حتى أواسط خمسينيات عمره، مكتفياً بعلاقات غرامية بزميلات دراسة ورفيقات عمل أجنبيات، عندما فاجأ الجميع بزواجه من فتاة متجنسة، تصغره بحوالي ربع قرن، وعلى عكس المثل السائر هنا يصح القول: من شابه أباه ظلم، وتهكم البعض على زواجه قائلين: تزوج ليكون له ورثة من صلبه، يترك لهم الملايين التي جمعها من وظيفته في شركة النفط واستثماراته.
إذا كان ثلثا الولد للخال كما يقول المثل، فالثلثان كانا بالتأكيد كل ما هو رديء في سيرة الخالين، فقد اقتفى الأخوان آثر الخالين، في اصرارهما على ارتداء الملابس الافرنجية، تعبيراً عن رفضهم للتراث الاجتماعي التقليدي، و أولع الأخ الأكبر بالأجنبيات كما هو حال الخال الأصغر، وانتهى به ذلك إلى الزواج من ايرلندية، مضيفة طيران، مسيحية متعصبة، لا تنام من دون نسخة من التوراة تحت مخدتها، أجبرته على تبني لقيط من أحد الملاجيء، استلبوه عنوة من أبيه العربي، الذي أراد تربيته بنفسه، لكن محكمة البلد الأوروبي، الذي ولد فيه الابن رفضت طلبه، فكان من نصيب الأخ وزوجته، التي تحرص على تنشأته على دينها.
تلوم الأخت نفسها لأنها لم تفعل شيئاً لمنع أخيها الأكبر من التزوج بأجنبية، وتقول لو كانت والدتنا على قيد الحياة لما تجرأ حتى على التفكير بذلك، والدتها وقفت بين زواج الخال الأصغر ومديرة مكتبه الأجنبية، فأذعن الخال لمشيئة اخته، لكن استياء الخال الأكبر من اخته دفعه للاتصال بها ومعاتبتها، محتجاً بأن اخيهما قد تجاوز الأربعين آنذاك، فكان جوابها اغلاق الهاتف بوجهه، وبعد قليل عاود الاتصال ليعتذر.
كان القول الفصل للأم، في شؤون أخوانها وأولادها الهامة، والوحيدة التي تقبلت ذلك ابنتها التي عاشت معها طيلة سنين عمرها، وأدركت رجاحة عقلها وصواب قراراتها.
في المجتمع القبلي مكان المرأة خلف الرجال، بل وحتى خلف القطيع.
تمردت الأم على القطيع وساوت نفسها بالرجال، كان درعها الوحيد مرضها الخطير وعزة نفسها، ولعلهم كانوا يتحينون الفرص، للنيل منها واذلالها، لكنها فوتت عليهم الفرصة، ثم عالجها الأجل، فتوفيت وغليل الرجال لم يشف منها، لذا استحلوا ضرب الميتة، دفنت في بيروت، حسب وصيتها، لا الخالان ولا الابنان ولا الزوج دفع ليرة واحدة من تكلفة دفنها وثمن قبرها، تكفلت بذلك عائلة لبنانية صديقة، واوروا جثمانها في مدفنهم الخاص، الكائن في مقبرة الشهداء، ثم تناسها الرجال.
خمس وثلاثون سنة انقضت على وفاتها، لم يزر قبرها ويترحم عليها سوى ابنتها وصهرها، ولعل الفضول وحده الذي ساق احد ولديها لتفقد قبرها، فلاحظ ثلاثة اسماء جديدة بجوار اسمها، لسيدات من العائلة اللبنانية الصديقة، دفنوا معها في لحد واحد،اشتكى ذلك لاخته فأجابته بمرارة: ماذا توقعت؟
لم يقدروا على الأم في حياتها، لكنهم تركوها لتدفن مثل الفقراء المشردين، وبدلاً من البلدية تولت ذلك العائلة الصديقة، وأهملوا قبرها حتى غدا قبراً جماعياً، ثم أتى دور الابنة، التي اقتدت بوالدتها، فاستحقت سخط الرجال والقطيع.
كان أول تمرد للابنة على القطيع زواجها، من عربي لكنه من بلد اخر، أبوه شيخ قبيلة، لكن لا أحد بالطبع يضاهي الشيوخ النجديين، مسلم متنور وملتزم، لكن سيان بالنسبة للخالين والأخوين، وحتى شهادته العليا لا تساوي قلامة اظفر عندهم ، لم يجاهروا بمعارضتهم لأن امها كانت راضية، فلا قيمة لرأيهم، لكنهم انتظروا حتى وفاة الأم ليقتصوا من ابنتها.
حانت الفرصة في وقت عسرة الأخت وزوجها، فقد الزوج جواز سفره بسبب معارضته لحكومة بلده المتعسفة، فغدا بدون جنسية، يهدده وزوجته خطر التشرد في المنافي، وعده الخال الأصغر بإقامة دائمية في السعودية، فصدقه واتكل عليه، لكنه اخلف وعده، فلم يبق للزوج من بديل سوى اللجوء لدولة عربية، لا ترد العرب المشردين لأسباب سياسية مثله، وصحبته الأخت واولادهما الثلاثة، ليستقر بهم المطاف في شقة صغيرة، وهكذا اكملت الأخت حياة التشرد التي عاشتها والدتها.
في بلد اللجوء العربي الذي استقرت فيه الأخت وعائلتها لا توجد وظائف أو أعمال يمارسها اللاجئون، ولولا مدخرات الزوج القليلة لافتقرت أسرة الأخت، هكذا كان حال امها حين تقدم لخطبتها ابن عمها فقبلت به خلاصاً لاسرتها من غوائل الفقر والحاجة، وتكرر التاريخ أو كاد مع ابنتها، خافت على أولادها فقبلت بمعونة أخويها وخالها الأصغر خلافاً لمشيئة زوجها، لكن والدتها كانت احرص على ارادتها الحرة واستقلالها فكانت ترفض باصرار عروض أخويها المغرية بالمساعدة المالية، لأنها ليست لوجه الأخوة ولا وجه الله.
هل كان القصد من عرض المساعدة الأخوي ارجاع الابنة إلى مكانها المناسب خلف القطيع أم هو احسان ابطله من وأذى؟ المرجح هو الأول، مع المن والأذى، أول تدبيرهما الخبيث منع مساعدة الأب، أكدا له بانهما يتكفلان بذلك، فكانت الوحيدة بين اخواتها، التي حرمت من عطاء أبيها الشهري، ولضمان قبولها قالا لها بأن ما سيقدمانه لها ليست مساعدة بل هو ريع حصتها من الشركة التي قاما بتأسيسها، لذا هو حق لها، فاستكانت نفسها وقبلت، على الرغم من معارضة الزوج.
ما يرسخ في الذاكرة غير كاف لتكوين صورة حقيقية ومنصفة عن الاخرين، لكنه هو المتاح، ولا مناص من الاعتماد عليه، الصورة المترسبة عن الأخ الكبير صراخه بوجه امه المريضة بان ما لديها من أموال هي من أبيه فلماذا تبخل عليه بسيارة سبق جديدة مثل أقرانه الأثرياء؟ هكذا كان حاله في ايام مراهقته، متعجرفاً، متباهياً بصيت أجداده ومسرفاً بمال غيره، ولم يتغير.
أما الأخ الصغير فنراه في ألبوم الذاكرة ينصح اخيه واخته بان لا يغضبا امهم، لأنها "تشتري لهم أشياءً حلوة"، ليس لأنها امهم المحبة المضحية، بل من اجل اللعب والحلوى والملابس الجديدة، ولم يغادره هذا التفكير النفعي حتى اليوم.
تصاعدت تدخلات الأخوين في حياة اختهما وعائلتها مع مرور الوقت، ثمان سنوات قضتها الأخت وعائلتها في الغربة، لأن الخال الأصغر نكث بوعده، تلك كانت الغربة الصغرى، ثم حان وقت الغربة الكبرى، إلى كندا، بعيدة عن العين بعيدة عن القلب، هكذا يقول المثل الانجليزي، والعكس صحيح في حالة الأخت، فقد كانت بعيدة عن القلب أساساً وأرادوا ابعادها عن العيون إلى أبعد نقطة ممكنة في العالم، فاختاروا لغربتها الكبرى كندا، لم يكن لاعتراضات الزوج قيمة، من دون تقديم بديل أفضل، فرضي على مضض.
قال الأخ الأصغر للزوج: احرق قواربك من بعدك فلن تكون هنالك رجعة، كلماته سكينة تفري اللحم المفتوح بجرح سابق، فهو يعرف مدى وطنيته وتدينه.
زارهم الأخ الأكبر في الغربة الكبرى مرتين، في الزيارة الثانية وجد ابنة الاخت وقد تحجبت، استشاط غضباً زوج الأيرلندية - مضيفة الطيران سابقاً - فانتهر الزوج أمام أفراد عائلته: نحن لا نقبل بهذا، مشيراً إلى حجاب ابنة اخته، وبالكاد كظم الزوج غيظه.
بعد سبع وعشرين سنة من المصاهرة ذهب زوج الاخت لمساعدة الأخ الأصغر، في إدارة مشروع له في بيروت، وبعد يوم أو يومين من وصوله صرخ الأخ بوجه صهره: أنت قتلت امي بزواجك من اختي.
كذب الأخ الأصغر الغاضب، كعادته، فاخته لم تتزوج إلا بعد قضاء معظم سني شبابها بجانب والدتها، تسعفها كلما توقف قلبها عن النبض، تستدعي لها سيارة الاسعاف، وتسهر بجانب سريرها في المشافي، فأين كان هو وأخوه؟ وعندما تزوجت بمباركة ورضا والدتها لم يهرع الأخ الأصغر المتباكي ولا الأكبر اللاهي ليحلا محلها، ولم تكن لاي منهما وظيفة يخافان فقدانها أو استثمار يخشيان كساده، كانا منغمسين باللهو، وعندما زارهما زوج اختهما بعد أكثر من عشر سنوات مضت على تخرجهما وجدهما يعيشان حياة عابثة كما هو الحال يوم وفاة والدتهما. أراد استخدام دورة المياه المخصصة للضيوف في شقتهما الصغيرة فوجدها مكتظة بالاواني وقناني العصير الفارغة، تبين بانهما يقطران النبيذ في دورة المياه، وفي الحمام الثاني وجد مناشف تحمل اسماء مختلف الفنادق المعروفة، وفي غرفة نوم الضيوف عدد من البطانيات عليها اسماء شركات طيران.
" بناتك لا مشكلة لديهما، يستطيعان العيش من بيع جسديهما لكن ماذا سيفعل ابنك؟" تلك كانت كلمات الأخ الأصغر لزوج اخته، في بلد الزوج يقتل الانسان إن تفوه بمثل هذا الكلام، وإذا كان ليس هنالك أسوء من كلمة الكفر بالله فتلك الكلمات قاب قوسين أو أدنى منها في القبح.
سخط الرجال على النساء، وبالأخص المتمردات على القطيع، تراث موروث، وكما ورثته الاخت عن أمها كان من المحتم أن تورثه لابنتها، وتخير الرجال الساعة لينفثوا غضبهم في ابنة الأخت، فلم يجدوا افضل من مناسبة زواجها، اتفقوا وهم بالعادة مختلفون على تنغيص فرح اختهم وابنتها، وعد الأخ الأكبر بحضور حفل الزواج فأخلف، ولم يكتف بذلك فنهب مال اخته واستولى على شقتها المستأجرة في بيروت، والأخ الأصغر الذي كان يعالج عينيه على بعد ساعة بالطائرة منهم غادر على عجل قبل اسبوع من موعد الزفاف، عائداً إلى وطنه لينشر إشاعة خبيثة حول الزواج، بين الاقارب والمعارف، وكانت هدية الخال الأكبر تهكماً اشد مرارة من السم الزعاف، والخال الأصغر الذي لم يكلمه الأخوان منذ عشرين عاماً انضم هو الاخر للرجال ضد المرأة وابنتها، المتمردتين على القطيع.
لم يصدق الأخ الأصغر في حياته إلا مرة واحدة، عندما قال لأخيه الأكبر يوماً: "لماذا يكرهنا كل هؤلاء الناس؟ لا بد أن يكون السبب فينا".
بسبب خسارة مالية سكت قلب الأخ الأصغر لثوان، ثم عاد للخفقان بالحقد الأسود، والذين وثق بهم بالأمس انقلبوا عليه، اشتكوا عليه في المحاكم، وحجزوا على المتبقي من املاكه، واتهموه في جريدة لبنانية باللصوصية.
الأخ الأكبر الذي مد يده لأموال اخته، صرفها والكثير من ماله الخاص في ترميم بيت زوجته في فرنسا، وبعد أن ذاقا الأمرين من ربيبهما سجلاه في مدرسة داخلية في دولة أخرى، اقساطها باهضة، وهو الاخر طال الحجز بعض ممتلكاته.
اما الخالان فقد كانت خسارتهما معنوية فقط، وهي الأبهض ثمناً، فأخيراً نضب صبر زوجة الخال الأصغر من لسان الخال الأكبر السليط، حرضت والدتها عليه، فكان جزاءه النفي من بيت أخيه، اما الخال الأصغر فيوشك على خسارة ولديه، الذين انجبهما في خريف عمره ليرثاه، الأكبر لتفضيله العمل والعيش بعيداً عنه، والأصغر لفشله المتكرر في الدراسة.
هكذا تفككت أواصر القرابة بين الرجال الأربعة، الذين اجتمعوا للمرة الأخيرة صفاً واحدا ضد النسوة لتمردهن على القطيع، وقد فاتهم بأن النسوة هن اللحمة الوحيدة بينهم، قبل أن تقطعها سكاكين سخطهم...
لو أنصتم جيداً لما يتمتمه الزوج فستسمعون: من ينصح النساء؟ لا تسابقن القطيع، ليس هنالك رجال، هنالك قطيع فقط.
اب 2010م
التعديل الأخير بواسطة المشرف: