DE$!GNER
بيلساني محترف
- إنضم
- Apr 4, 2011
- المشاركات
- 2,637
- مستوى التفاعل
- 44
- المطرح
- بين الأقلام والألوان ولوحات التصميم
بين المدينة التي تسعى - ربما دون علمها - لإلغاء الريف بشكل أو بآخر، والقرية التي فقدت نقاءها وباتت نسخة مشوهة عن المدينة... كنت تائهة. مدينتي البحرية الجميلة التي تشبه كل المدن في بلدي، تلك المدينة التي لا تحوي إلا دار سينما واحدة، خشبة مسرح واحدة، ومركز ثقافي واحد... غريبة هذه المدينة، لماذا تحب الواحدية إلى هذا الحد!!!!
بمزيج البشر المتشابه حد التناقض داخلها، بين مقيم فيها ووافد إليها... بأفق بحرها الذي لا حدود لحلمه ولا أسوار لأمواجه... بضحكات الناس الجالسين على الرمل الساخن يرسمون بحباته أحلامهم المقبلة، اكتسبت اللاذقية مزاجها الخاص بكل مجانيته وتمدنه وتنوعه.
كان هذا جزءاً بسيطاً من حياة المدينة (ولن أقول تاريخها)، فالتاريخ مسألة لا يمكن ادعاء روايتها، فحكايات الناس وتفاصيلهم اليومية هي التي تروي التاريخ، لكل حجر من حجار الرصيف قصة، ووراء كل باب سيرة، وخلف كل شباك حكاية، وبين حديث أي اثنين عاديين في أي جلسة عادية قصص وخبايا وأسرار.
لن يروي أحد في يوم من الأيام تاريخ هذه المدينة، ولا غيرها من المدن... لكني أستطيع القول: إني كنت حكاية صغيرة من حكاياتها، فقد عايشتها وعشت فيها بأفقها المفتوح على زرقة البحر وأخضر الجبل حد النهاية... كنت شاهدة أنظر ولا أرى، أسمع ولا أفهم، أحكي ولا أتكلم... كنت الشاهدة (إن كنتم تقبلون شهادة امرأة!) التي أبكمها الخوف وشرع لها حزناً لا ضفاف لشطآنه.
فمنذ دخول ذلك المسلح الغريب والمتآمر إلى شوارعها لم تعد المدينة كما كانت، تحولت مدينة البحر والضوء والأقمار الملونة بسرعة قياسية إلى مدينة العتمة والخفافيش والوطاويط، فقد أعلنت شرفات الحب بمكبرات الصوت الموت المسبق لمن يتجرأ على كسر حاجز الخوف وفتح شباك للنور، وعزفت الشوارع نوتة موسيقية لأصوات الرصاص الطائش الذي يتدفق بعشوائية في كل مكان.
اختفى الناس من الشوارع، أغلقت محلاتها ومدارسها وجامعتها (الوحيدة أيضاً!)... باتت مدينة غريبة عني وغريبة عنها، ما أقسى هذا النوع من الغربة... حتى حكايات الناس فيها تغيرت، تحولت حكاياتهم إلى قصص تشبه أيام المهلهل وعنترة... باتوا يتكلمون عن مسلحين غرباء عن المدينة ملأت أجسادهم الوشوم يرتدون الملابس السوداء بعضلاتهم المفتولة... أين اختفى الصيادون الطيبون من هذه المدينة!، أين اختفى العشاق والعابثون والحالمون!
ومن محطة إخبارية إلى أخرى، من نشرة إلكترونية إلى أخرى، من إذاعة إلى أخرى... كل الأخبار غامضة ولا تروي فضولاً لأحد... لكن أمضينا عبرها الأيام التي لم نخرج فيها من البيت مؤنسة كآبتنا وحزننا وخوفنا.
ولم يكن الريف بمأمن عما يجري، فقد طالت يد الغدر بساتين الزيتون أيضاً، يبدو أن الريف يسعى لتقليد المدينة حتى بالمصائب...
بعد تصاعد الأحداث السريع وظهور المسلحين المجهولين المتآمرين، ثم اختفائهم المفاجئ الذي يشبه ظهورهم، وعودة الحياة تدريجياً إلى المدينة... نزلت إلى الشارع، مشيت فيها شارعاً شارعاً... أبكي تارة وأضحك تارة أخرى، أبكي لرؤية النعوات لأحبتنا وشهدائنا من المدنيين والعسكريين معلقة على الجدران، حتى الحائط السميك بات حزيناً ومجروحاً لهذه الأسماء الشابة التي خسرناها، فقدتها المدينة، فقدها الوطن... أبكي لأني أرى في عيون الناس خوفاً لم أعهده من قبل، تتلفت يميناً ويساراً وكأنها تقول في سرها لغيرها: قد تكون أنت مندساً مسلحاً مجهولاً أيضاً، لم نألف الغربة في عيون جيران البحر، لم نألف الخوف، كان تعايشاً مميزاً تنعم به مدينتنا غادرها بسرعة رهيبة... وأفكر: هل ستعود مدينتا بهية وأليفة وودودة ومتنوعة كما كانت!
وأضحك لأني أمشي من جديد في الشارع، شعرت بقيمة التفاصيل الصغيرة التي لم نشعر بأهميتها، أن تمشي وحيداً دون أن تحمي ظهرك، هل حقاً لم أخف حينها من طعنة أو رصاصة في ظهري!... ربما أعلنت تحدياً ضمنياً لذلك القناص المجهول المتآمر الذي يعتلي سطح بناء ما قريب أو بعيد عني، قلت له في سري: اقتلني إذا أردت، لكن ضع عينك بعيني وأنت تفعلها، لا تأتني من الخلف فقط كي أستطيع رؤية عينيك وأنت تطلق الرصاص، كي أتمكن من رؤية الجسد الآدمي الجميل وهو يتحول إلى آلة بشعة وقذرة تطلق الرصاص لتقتل الناس، لتنظر في عيني وهي تقول لك إن لم يستطع فمي نطقها: لن تستطيع قتل الربيع الذي بدأ يزهر في هذه المدينة البحرية، أنا أسمع صوت البحر الآن... أشم رائحة الحياة... إنها رائحة دمي.
بمزيج البشر المتشابه حد التناقض داخلها، بين مقيم فيها ووافد إليها... بأفق بحرها الذي لا حدود لحلمه ولا أسوار لأمواجه... بضحكات الناس الجالسين على الرمل الساخن يرسمون بحباته أحلامهم المقبلة، اكتسبت اللاذقية مزاجها الخاص بكل مجانيته وتمدنه وتنوعه.
كان هذا جزءاً بسيطاً من حياة المدينة (ولن أقول تاريخها)، فالتاريخ مسألة لا يمكن ادعاء روايتها، فحكايات الناس وتفاصيلهم اليومية هي التي تروي التاريخ، لكل حجر من حجار الرصيف قصة، ووراء كل باب سيرة، وخلف كل شباك حكاية، وبين حديث أي اثنين عاديين في أي جلسة عادية قصص وخبايا وأسرار.
لن يروي أحد في يوم من الأيام تاريخ هذه المدينة، ولا غيرها من المدن... لكني أستطيع القول: إني كنت حكاية صغيرة من حكاياتها، فقد عايشتها وعشت فيها بأفقها المفتوح على زرقة البحر وأخضر الجبل حد النهاية... كنت شاهدة أنظر ولا أرى، أسمع ولا أفهم، أحكي ولا أتكلم... كنت الشاهدة (إن كنتم تقبلون شهادة امرأة!) التي أبكمها الخوف وشرع لها حزناً لا ضفاف لشطآنه.
فمنذ دخول ذلك المسلح الغريب والمتآمر إلى شوارعها لم تعد المدينة كما كانت، تحولت مدينة البحر والضوء والأقمار الملونة بسرعة قياسية إلى مدينة العتمة والخفافيش والوطاويط، فقد أعلنت شرفات الحب بمكبرات الصوت الموت المسبق لمن يتجرأ على كسر حاجز الخوف وفتح شباك للنور، وعزفت الشوارع نوتة موسيقية لأصوات الرصاص الطائش الذي يتدفق بعشوائية في كل مكان.
اختفى الناس من الشوارع، أغلقت محلاتها ومدارسها وجامعتها (الوحيدة أيضاً!)... باتت مدينة غريبة عني وغريبة عنها، ما أقسى هذا النوع من الغربة... حتى حكايات الناس فيها تغيرت، تحولت حكاياتهم إلى قصص تشبه أيام المهلهل وعنترة... باتوا يتكلمون عن مسلحين غرباء عن المدينة ملأت أجسادهم الوشوم يرتدون الملابس السوداء بعضلاتهم المفتولة... أين اختفى الصيادون الطيبون من هذه المدينة!، أين اختفى العشاق والعابثون والحالمون!
ومن محطة إخبارية إلى أخرى، من نشرة إلكترونية إلى أخرى، من إذاعة إلى أخرى... كل الأخبار غامضة ولا تروي فضولاً لأحد... لكن أمضينا عبرها الأيام التي لم نخرج فيها من البيت مؤنسة كآبتنا وحزننا وخوفنا.
ولم يكن الريف بمأمن عما يجري، فقد طالت يد الغدر بساتين الزيتون أيضاً، يبدو أن الريف يسعى لتقليد المدينة حتى بالمصائب...
بعد تصاعد الأحداث السريع وظهور المسلحين المجهولين المتآمرين، ثم اختفائهم المفاجئ الذي يشبه ظهورهم، وعودة الحياة تدريجياً إلى المدينة... نزلت إلى الشارع، مشيت فيها شارعاً شارعاً... أبكي تارة وأضحك تارة أخرى، أبكي لرؤية النعوات لأحبتنا وشهدائنا من المدنيين والعسكريين معلقة على الجدران، حتى الحائط السميك بات حزيناً ومجروحاً لهذه الأسماء الشابة التي خسرناها، فقدتها المدينة، فقدها الوطن... أبكي لأني أرى في عيون الناس خوفاً لم أعهده من قبل، تتلفت يميناً ويساراً وكأنها تقول في سرها لغيرها: قد تكون أنت مندساً مسلحاً مجهولاً أيضاً، لم نألف الغربة في عيون جيران البحر، لم نألف الخوف، كان تعايشاً مميزاً تنعم به مدينتنا غادرها بسرعة رهيبة... وأفكر: هل ستعود مدينتا بهية وأليفة وودودة ومتنوعة كما كانت!
وأضحك لأني أمشي من جديد في الشارع، شعرت بقيمة التفاصيل الصغيرة التي لم نشعر بأهميتها، أن تمشي وحيداً دون أن تحمي ظهرك، هل حقاً لم أخف حينها من طعنة أو رصاصة في ظهري!... ربما أعلنت تحدياً ضمنياً لذلك القناص المجهول المتآمر الذي يعتلي سطح بناء ما قريب أو بعيد عني، قلت له في سري: اقتلني إذا أردت، لكن ضع عينك بعيني وأنت تفعلها، لا تأتني من الخلف فقط كي أستطيع رؤية عينيك وأنت تطلق الرصاص، كي أتمكن من رؤية الجسد الآدمي الجميل وهو يتحول إلى آلة بشعة وقذرة تطلق الرصاص لتقتل الناس، لتنظر في عيني وهي تقول لك إن لم يستطع فمي نطقها: لن تستطيع قتل الربيع الذي بدأ يزهر في هذه المدينة البحرية، أنا أسمع صوت البحر الآن... أشم رائحة الحياة... إنها رائحة دمي.