آلبتول
أدميرال
- إنضم
- Jul 5, 2008
- المشاركات
- 10,067
- مستوى التفاعل
- 172
- المطرح
- من جزيرة العرب وبقايا بخور فرنسي !!
مضى شهران ؛ وحبيب قلبها " عبد الله " يَعدُّ أنفاسه في السجنِ السياسيِّ المشيد !
اعتقلوه قبيل شهر رمضان بأيامٍ قلائل .
وقفتْ أم عبد الله عند باب حُجرته .. بِسَمْتٍ وصمت ، كانت تستعرض خيالَ شَخصه ،
وحَكَاياه الماتعة ، وضحكته المميزة بين إخوته .
رأتْ أشلاءَ حاسوبه الشخصي متناثرةً في زاوية الغرفة ، لم يبقَ سوى شاشته ، وفأرته !
أما بقيةُ جسده فقد أبَتْ إلا أن تشاركه همَّ الاعتقال !
قلّبتْ ناظريها في جَنبات حجرته ؛ التي لم تدخلها بعد رحيله إلا لماماً ، أوراقه ملقاةٌ هنا ،
( شماغه ) الأبيض ، قارورةٌ من عطر"جيفينشي" ، ثوبُ نومه .. أَغمضتْ عينيها !
كتابٌ بلغةٍ غير عربيةٍ يتوسد منضدته ، مسواكه ، ساعته .. لقد نسيها ، ولم ترافقه في مُعتقَله !
تدحرجتْ دمعةُ جائرةٌ على خدِّها الأسيف ، لطالما كان هذا الخد مَعبَراً لدمعاتِ الأسى ، ونوائب الدهر ،
ولطالما كان مَسرحاً رحيباً لتصاريف الزمن القاسية !
أسندتْ يدها على حائطِ حجرته ، كفكفتْ بيُمنَاها دمعاتِ الأم ، الإنسانية ، المرهفة .
***
أيامٌ شِداد مرّتْ عليها ، وعليه !
أَقسمتْ بأن تراه بثياب الاعتقال ، ( ولو صارَ ما صار) ..
- أرجوك بأن تُزيلَ القيودَ منه ، فلن تحتمل والدتي هذا المنظر !
قالها حسن للضابط عبد الإله .
- خمسُ دقائقٍ بالتمام .. وتنتهي الزيارة !
قالها بجلافة !
مرت الدقائقُ الخمسُ سِرَاعاًً !
لم يتذكر " عبد الله " أنها فَاتَحَتهُ بكلمة ، ولم يَعلَق بمخيلته حرفٌ واحد !
فقد أَفسحا لخطيبِ الأحزان دربه ، ومهّدا له فجّه !
تحدّثَ الدمع بين الأم وصغيرها .. وأفصح !
خمسُ دقائق بتمامها .. كانت ملأى بقُبل البر ، والحنين ، ودمعات البين .
- انتهى موعد الزيارة .. انتهى الوقت !
قالها الحارس بجلافةٍ أعرابية !
***
لم يَتوارَ عن مخيلةِ " عبد الله " لحظاتُ انتزاعه من بين يدي والدته ؛ يوم الاثنين المشئوم !
لم ينسَ نظرات والدته حينما أركبوه سيارتهم .. صوب المجهول !
كان يُحِس بنظرات والده ، وإخوته من حوله .. إلا أن ألحاظَ والدته كانت شيئاً آخر ،
كانت تحمل أثقال الدنيا بأسرها .. في مشهدٍ لن ينساه أبد الآبدين !
احتضن المصحف بيديه ؛ التي فقدتْ نضارتها ، واتَشحتْ بجلباب الحزن بين جدران مُعتقله .
حاول لملمة كلمات المصحف !
جاهد نفسه على أن تفقه شيئاً ، أو حتى تستبين معالم حرفٍ واحد ؛ فلم يُفلح !
مرّر يده اليمنى على لحيته السوداء اللامعة ، لقد غزا جانبيها لونٌ يميل إلى الشُّقرة !
من مبالغته في التعطر ؛ كما يحلو له أن يقول .
جالَ بناظريه في جدران مُعتقله الكئيب ، سجادةٌ مُلقاة ، مصحف ، تفسير ابن كثير ، وسادةٌ بالية ،
بطانيةٌ عافها الزمن ، إضاءةٌ مُعتِمة ؛ باختصار .. هذا ما ألِفَ أن يراه كلَّ غَداةٍ وضحاها !
كان يَفرُّ من واقعه بالخيال ..
رأى تمثالَ والديه وإخوته ؛ كانوا يُتابعون النظرَ إليه بصمتٍ ساكن ، ولا تنبسُ شفاههم بمواساةٍ أو تصبير !
يرى تَصاويرَ رفقته من الشباب ، فينكسر خاطره ، وتضمر روحه .
يتذكر أيامه معهم ، ذكرياته ، ضحكاته ، مقالبه !
يستعرضُ أيام مرحه معهم في أبها ، والمصيف ، ولحظات عزمه ، وجِدِّه ؛ في الدرس ، والمحاضرة ، والنسك .
يتذكر ليالي الأنس والصفاء ، ويتذكر حينما كانـ ..
- قمْ يا " عبد الله " ، الجلسةُ المسائية !
صوتٌ أعرابي ، يَحملُ تواصيفَ الخشونةِ والبأس ، كان يهتف به
لحضور جلسةِ التحقيق في مكتب الضابط " منصور " !
ما زالَ المصحف بين يديه ..
وقعتْ عيناه على آيةٍ هزّته كثيراً .. ( واستعينوا بالصبر والصلاة ) !
عجباً !
أنستعين بهما ؟!
ولماذا قرنهما تعالى من دون ما سواهما ؟!
هكذا سَاءلته نفسه !
تذكّرَ ظِلالَ " سيد " ، وأسلوبه الندي في تقرير مثل ذلك ، وتوليده المعاني التي كان يتعجب
من أين يأتي بها ؛ فجاشتْ نفسه ، وسَمَتْ بين علياء الصبر والصلاة .
- ( واستعينوا بالصبر والصلاة .. بالصبر والصلاة )
يرددها " عبد الله " بصوتٍ خافت .
- ألا تسمعني .. قلتُ : قمْ ، الجلسة المسائية !
تجاهلَ صوتَ الأعرابي خلفه ، واستقبل القِبلة بقلبه وروحه ، يمّمَ صوبَ الكعبة بجسده النحيل ؛
الذي ضمر ، واصفرّ من تهاويل الوحدة ، والغُربة !
استقامَ خاشعاً ..
أَحنى رأسَه لمولاه ، زاد إيمانه ، ويقينه بدنوِّ الفرج ، وقُربِ انحلال الوثاق !
- قمْ .. الجلسة المسائية !!
رفع يديه عالياً ، وابتهل في دعاء خاشع ، وتمتم :
- واستعينوا بالصبر والصلاة
واستعينوا بالصبر والصلاة !
لـ ابن القزعة