{*B*A*T*M*A*N*}
مشرف
- إنضم
- Sep 21, 2011
- المشاركات
- 23,222
- مستوى التفاعل
- 80
- المطرح
- دمشق
نبذة تاريخيّة موجزة عن حيّ الميدان بدمشق:
حي الميدان واحد من الأحياء القديمة والعريقة بدمشق، واكب في تاريخه الطويل جميع العصور التاريخية التي مرت بها مدينة دمشق، وتركت به تلك العصور كمّاً هائلاً من معالم الحضارة وتراث الأجداد ورونق الماضي. لذلك كلهن صار اسم الميدان اليوم مقترناً بالعراقة المستندة إلى تاريخ حافل، وباشتهار أهله بالجود والنّخوة والكرم والشجاعة، والمحافظة على شعائر الدين ومكارم الأخلا
ق.
والميدان أكبر ضواحي دمشق على الإطلاق، في جهتها الجنوبية. أقدم ذكر له كان في العهد الفاطمي، كما ورد لدى المؤرخ الدمشقي أبي يعلى القلانسي فلي كتابه «ذيل تاريخ دمشق» في حوادث سنة 363هـ. والجدير بالذكر أن به إلى اليوم مسجد قديم يعود إلى العهد الفاطمي، يٌعرف بمسجد «فلوس».
ثم في القرن السادس الهجري، يذكره ابن عساكر في «تاريخ مدينة دمشق» بقوله: «حارة الميدان المعروفة بالمنية». ولكن ثمّة رأي للباحث عيسى اسكندر المعلوف أن الميدان يعود إلى أقدم من ذلك، إلى العهد الأموي تحديداً، فيقول: «وعقد الوليد بن عبد الملك ميداناً لسباق الخيل، ولا يزال ذلك المضمار إلى يومنا يُعرف بالـ «ميدان»، وهو من أحياء المدينة المشهورة في غربها الجنوبي».
والواقع أن المنطقة سميّت بذلك لأنها كانت ميداناً رحباً واسعاً، تُقام فيه سباقات الخيل وجميع ضروب الفروسية من مبارزة ورماية ومصارعة. على أن الميدان لم يكن مقتصراً على هذه السباقات كما يرى الباحث الفرنسي جان سوقاجيه، بل كان ينزل به ويخيّم كلّ من تضيق المدينة عن إيوائه من الناس، كمواكب الأمراء والوفود والجيوش والقوافل.
هذا ولقد كان اسم الميدان قديماً لدى مؤرخي القرون الوسطى يقترن بتسمية: «ميدان الحصى»، وكانت هذه التسمية مختصّة، بالمحلّة المحاذية لجامع باب المصلّى، التي كانت لقربها من المدينة أول ما سُكن من أراضي الميدان، وعُرفت أيضاً بالـ «الميدان التحتاني». ثم شاع اسم «ميدان الحصى» ليشمل الضاحية برمّتها. وسبب تسميته بذلك كما هو واضح عائد إلى تربته اللحقيّة المفروشة بالحصى، بسبب وقوعه على مفاض سيل فرعي بردى القنوات والدّاراني، فكان في سنوات المطر الغزير تنساح أرضه بالحصى المترسّب في مهد السّيل.
هذا ولم تشهد ضاحية الميدان العمران الفعلي حتى عهد الدولة المملوكيّ (648-923هـ)، فقبل هذا العهد كانت المدينة تقوم ضمن السّور، ولم يكن خارجها ضواح كثيفة العمران بالمعنى الحقيقي (ما خلا العقيبة والصّالحية)، بل مجرّد قرى وتجمّعات سكنية منفردة لا تشكل كثافة سكانية. ويعود ذلك لقلة عدد سكان المدينة من جهة، ولانعدام الأمن والاستقرار خارج الأسوار من جهة أخرى بسبب الحروب الصليبية، وكثرة القلاقل بين فئات العسكر.
وقبل العهد المملوكي، كانت حماية حي الميدان موكلة إلى جماعة من شبّان الحي عُرفوا بلقب «الأحداث»، أي الفتيان، وكانوا النواة الحقيقية للمقاومة الشعبية ضد الغزاة الصليبيين والتتار، اتصفوا بالجرأة والصلابة وسرعة الحركة والمناورة، وكانت لهم تنظيمات شبه صوفية تقوم على مبدأ «الفتوة» بما تحمله من معاني النجدة والفداء والاستماتة في الدفاع عن الوطن والعرض وصدق الكلمة والوفاء بالوعد. وهؤلاء الأحداث كانوا في الواقع الأصل القديم لفئة «القبضايات والزكرتيّة» المعروفين لاحقا، مع ملاحظة أن هذه التسميات شاعت في العهد العثماني.
لذلك ينبغي لنا ملاحظة أن منبع هذا التنظيم الشعبي بمدينة دمشق إنما كان حيّ الميدان تحديداً، ولذلك فلا عجب أن نرى حيّ الميدان يضحي تحديداً بمثابة قلب الثورة السورية ضد الاحتلال الفرنسي (1925) كما سنرى.
في العهد المملوكي بدأت الضواحي السكنية بالظهور خارج الأسوار، فمنها السويقات خارج أبواب المدينة كالسويقة المحروقة وسيوقة صاروجا، عدا التوسعات التي طرأت على الصالحية والعقيبة. ومنها أيضاً ضاحية الميدان التي بُدئ بعمارتها، فظهرت فيها المساجد وبعض المدارس، واشتهرت بزواياها على الخصوص.
وما زال عدد كبير من هذه الآثار مائلاً إلى أيامنا، ومنها: جامع منجك، المدرسة القُنشليّة، الزاوية السّعديّة، تربة أراق السِّلَحدار، تربة النائب تنم (التّينبيّة)، تربة الشيخ حسن ابن المزلّق، وعدد من الترب المملوكيّة الأخرى. ولا نجد في الميدان اليوم أي بناء يعود إلى العهد الأيوبي، بل كانت آخر حدود أبنية هذا العهد عند محلّة باب المصلّى وشماليّها السويقة.
وبالطبع استمرّت النهضة العمرانيّة والمعماريّ في الحي بالعهد العثماني، وكانت أرض الميدان قبل ذلك مجموعات منفصلة وقريّات، مثل «القُبيبات» التي كانت نواة حي الميدان الفوقاني (القسم الجنوبي من الميدان). فأخذت هذه الأحياء بالاتساع، حتى ارتبطت ببعضها وصارت ضاحية كاملة كبيرة متطاولة الشكل جنوبي دمشق، تربوا عليها بالحجم! ويذكر كثير من الرّحّالين الأوروبيين الذين زاروا دمشق في العهد المملوكي أن مساحة الضواحي تبلغ أضعاف مساحة المدينة الأصليّة المسوّرة. وأن الأسواق العامة (البازارات) كانت تُقام في الضواحي، وأما المتاجر والأسواق المغطاة والبَزستانات (أسواق الثياب والأقمشة) وأسواق البضائع الثمينة (الذهب والمصنوعات والتوابل) فضمن نطاق السّور.
ومن آثار العهد العثماني في الميدان: جامع مراد باشا من أواخر القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي)، حمام فتحي من القرن الثاني عشر الهجري (الثامن معشر الميلادي). كما تعود أكثر دور الميدان الفخمة إلى هذا العهد، ولكن للأسف تم هدم عدد كبير من هذه الدور الجميلة أواخر السبعينات عند شق الطريق المحلّق الجنوبي، كان من أجملها دار الموصلي ودار البيطار.
وفي العهد العثماني، استقطب حي الميدان عدداً من أفراد السّلك العسكري المحلي (الإنكشارية اليرليّة)، لما اختص به الحي من الثراء الكبير من خلال تجارة الحبوب والمواشي والغلال الزراعية والمنتوجات الحيوانية. فظهرت طبقة كبيرة من الأعيان بالحي، جمع أفرادها بين الانتماء إلى السلك العسكري المذكور والتجارة الوفيرة الربح، وحول هذا الموضوع نشرت صديقتنا الباحثة الأميركية ليندا شيلشر Linda Schilcher دراسة وافية (حول أسر دمشق في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر)، تبعتها دراسة وافية للحياة المدنيّة والاقتصادية بحي الميدان، قامت بها صديقتنا الباحثة الفرنسية بريجيت مارينو Brigitte Marino.
على أن حي الميدان، مع الأسف الشديد، لم يحظ حتى اليوم بدراسة تاريخية وافية تلخّص مسيرته الحضارية عبر العصور، وتحصي أوابده المعماريّة الهامّة، وتتقصّى تاريخه الشعبي ودور أهم عائلاته في سيرة دمشق، على صعيد العلم والدين والتربية والجهاد والفنون والصناعة والاقتصاد. وهذا الأمر نتمنّى مخلصين على أبناء هذا الحيّ العريق من المثقفين المعتزّين بتاريخ حيّهم، بأن يبادروا إلى تأليف مثل هذه الدراسة، قبل أن تضيع بقيا الذكريات ممّن تبقوا من شيوخ الميدان الذين عاصروا بدايات القرن العشرين.
ولا يمكننا أن نعبّر عن هذه الرغبة العزيزة الغالية إلا ونذكر بالأسى الفقيد الصديق منذر حَوَري من أهالي الميدان، الذي كان حلمه على مدى عمره القصير أن ينشر كتاباً عن تاريخ حيّه الذي أحبّهن ولكنه مع الأسف لقي وجه ربّه دون أن يُقدّر له تحقيق رغبته هذه.
يُقسم حي الميدان في عُرف أهله إلى ثلاثة أقسام:
الميدان التحتاني مما يلي محلّ باب المصلّى، ثم الميدان الوسطاني، وبعده الميدان الفوقاني عند بوابة الله. ويشقّها طريق الحج المعروف باسم «الدرب السلطاني». وفيما يلي ذكر لبعض حرات وأحياء الميدان.
في أواخر العهد العثماني بالقرن التاسع عشر، قسّمت المدينة إدارياً إلى ثمانية أثمان، فكان ثُمنان منها يشملان حيّ الميدان: التحتاني والفوقاني. وهذا هو وصفهما من مصدر معاصر، بقلم عبد العزيز العظمة:
فأمّا «ثُمن الميدان التحتاني» فبدايته من السّويقة، ويشمل بداية الدرب السّلطاني، وخان المغاربة، وزقاق الأربعين، وزقاق الاورفه لي، وزقاق النقشبندي، والقبّة الحمراء، والتّيامنة، وباب المصلى، وزقاق القملة، وقاعة النشا (تسمى القاعة اليوم اختصاراً)، وزقاق الموصلي، والتنورية، والقرشي، والعسكري، والمحمص، وزقاق البصل، والقبيبات.
وفيه جامع النارنج وجامع صُهيب (تربة أراق)، وجامع الزاوية، وجامع القوّاص، والرفاعي، وجامع منجك، والكريمي (جامع الدقاق اليوم)، ومدرسة الخانكيّة، ومدرستان أميريّتان للبنين والبنات.
وفي حمّام الزين، وحمّام السّويقة، وحمّام سُنقُر، وحمّام النّاصري، وكنيسة للروم الأرثوذوكس باسم القديس حنانيا، وكنيستان للروم الكاثوليك، ومدرسة لكل من هاتين الطائفتين.
وفي الميدان التحتاني تُباع الحبوب بأنواعها، في حوانيت فسيحة تُسمّى بَوايك (جمع بايكة)، وفيه أهراء كبيرة لخزن الحبوب، وكثير من الخانات والأحواش لربط الدّواب والجمال ولإيواء الفلاحين، ثم مصانع متعدّدة لأعمال مختلفة ومعامل للنسيج والحياكة وقاعات للنّشاء.
أما ثُمن الميدان الفوقاني فيقع في منتهى المدينة من جهة القبلة، ويمتد من سوق الجزماتية إلى بوابة الله (باب مصر). ويضم من الأحياء والمحال: سوق الجزماتية، الحقلة، ساحة عصفور، ساحة بحصيص، والراقية، وزقاق الطالع، وزقاق البرج، وزقاق الماء، وزقاق أبي حبل، والمشارقة، والحارس، والجمّالة، والقلاينية، والنصار، وزقاق قيصر.
وفي الميدان الفوقاني: جامع الدقاق، وزاوية الشيخ سعد الدين الجباوي، ومسجد العسالي، ثم الحمّام الجديد، وحمّام الجديد، وحمّام الدّرب، وحمّام التّوتة، وحمّام منجك، وحمّام الرّفاعي. ثم معمل السكة الحديدة الحجازية (أي المحطة وورشاتها)، ومحطة سكة حديد بيروت وتمديداتها، وثكنة المتطوّعة، والثكنة العزيزية.
الميدان ومحمل الحج: كانت ضاحية الميدان تزدحم الجموع الغفيرة من أهالي دمشق أربع مرّات في السنة: مرّة عند خروج محمل الحجّ من «بوابة الله» بأسفل الميدان الفوقاني إلى الحجاز، والثانية عند خروج موكب «الجردة» الذي يحمل المؤن لقافلة الحج إبّان رجوعها، الثالثة عند رجوع «الجردة» ومعها مكاتيب الحجّاج، والرابعة عند الخروج لاستقبال موكب الحج في شهر صفر.
على ذلك ازدادت أهميّة حيّ الميدان لهذه المواسم الأربعة المباركة فلي كل عام، وكانت ترافقها طبعاً الأسواق الموسمية الحافلة بشتى أصناف الأطعمة والألبسة ولوازم الحياة إجمالاً، كما كانت تقوم حركة اقتصادية كاملة على حركة قافلة الحج، مما أفرز مهناً دائمة على مدار المواسم، مثل: المقوّمين (متعهّدو المطايا)، الجمّالة (الدّوجيّة)، والبغّالون (القاطرجيّة)، ومُكرو الدّواب (العكّامة)، والحمّالون (العتّالة)، والأجراء، والأدلاء، والسُّقاة، والحرّاس، والمهاترة (الخيميّة).
أمّا السيّاح الأوروبيّون، فكانوا عند إطلالهم على دمشق من قاسيون يشبّهون المدينة البيضويّة مع ضاحية الميدان المستطيلة الملحقة بها بشكل المقلاة أو ذراع قيثارة الماندولين.
في أثناء الاحتلال الفرنسي لسورية (1920-1946)، حارب أهل الميدان إلى جانب أشقائهم أهل الشاغور وبقيّة أحياء دمشق والمدن السوريّة قوى الاحتلال بضراوة، حتى أن الفرنسيين قصفوا الميدان مراراً، وأكثرها شراسة ما حدث في العشرينيات أثناء الثورة السورية الكبرى.
اشتهر من أهل الميدان عدد من الأسر العريقة منها: العابد، سكّر، البيطار، الحكيم، المهايني (أصلها من القلمون)، دعبول (أصلهم من الموصل)، حبنّكة، النّوري، حتاحت، الرّفاعي، الجباوي، الحملي، سرحان، خطّاب، الميداني، الصبّاغ، السّاسة، الغبرة، البرغلي، أبو حرب، سحلول. وغيرها كثير.
وظهر في حيّ الميدان ثلّة من العلماء الأفاضل، منهم: المجاهد الشيخ محمّد الأشمر، الذي نفته القوات الفرنسية خارج دمشق. ومنهم الشيخ حسن حبنّكة الميداني، والشيخ حسين خطاب، والشيخ محمد كريّم راجح، كما أقام بينهم الشيخ عبد القادر أرناؤوط (أصله من كوسوفا). ومن أعيانهم المجاهد أبو صيّاح الحَرَش والمجاهد غالب بحصاص.
وحول التّراث الشعبي، ارتبطت بحيّ الميدان كما لنا صفات النّخوة والكرم والحميّة، ورأى فيهم أبناء بعض الأحياء الأخرى شدّة في المراس وغلبة في القتال فهابوهم، وعبروا عن ذلك في بعض أمثالهم الشعبيّة السائرة. ولا زال إلى اليوم يُضرب المثل بالـ «العزيمة الميدانيّة» الحافلة باللحم والسّمن العربي والقلوبات والكبب واللبن الدّسم وحلويات القشطة الأصليّة.
أما عما يُروى عن اشتجار القتال بين «الميادنة» و«الشّواغرة»، فله أصول قديمة جداً تعود إلى العهد الأموي، إبّان اشتداد عصبيّة القبائل القيسيّة واليمنيّة، وحروب مروان بن الحكم والنّعمان بن بشير. وبقي هذا التنافس قائماً في العصور الوسطى، كما نجد في نصوص تواريخ العهد المملوكي، وحتى العثماني.
أخيراً، يتميز حي الميدان بمطبخه العريق والكبير، حيث تكثر اليوم محلات الطبخ والحلويات والمطاعم، التي تقدّم الأطعمة من كافّة الأنواع والألوان الشرقية والغربية. وما زال أهل دمشق يفضّلون ابتياع أصناف اللحوم والسمن العربي والقشدة (القشطة) وسائر المشتقّات الحيوانيّة من حيّ الميدان، بالإضافة إلى أصناف الحلويات الشاميّة اللذيذة الشهيرة، كالكنافة والمغشوشة والنمّورة والقطايف والمبرومة والآسيّة والبرازق والغرَيبة، وغيرها.
وبالإجمال، عندما يطلب الباحث المؤرّخ مثالاً عن طبيعة الحياة الاجتماعية التقليدية الدمشقيّة، فعليه دون أدنى نقاش التوجه إلى الميدان، حيث ما زالت هذه الحياة العريقة قائمة بجميع عاداتها وتقاليدها الأصيلة، وأخلاق أهلها وتكافلهم الاجتماعي، والتّرابط في جميع الظروف، والميل الكبير إلى الحشمة والتديّن ونبذ عادات المدنيّة والحديثة من التّحذلق أو التّباهي بالمظاهر المادية الجوفاء.
قُصارى القول: بعد 30 سنة من التعمّق بتاريخ دمشق وتراثها الاجتماعي نقول: لم يبق بدمشق من نماذج حياتها الاجتماعيّة الأصلية ومن عادات أهلها، سوى ما هو قائم اليوم في حي الميدان! فالميدان إذاً هو موئل للأصالة، وعنوان لكل ما يخصّ ماضي دمشق وتراثها وجوهرها الأصيل
حي الميدان واحد من الأحياء القديمة والعريقة بدمشق، واكب في تاريخه الطويل جميع العصور التاريخية التي مرت بها مدينة دمشق، وتركت به تلك العصور كمّاً هائلاً من معالم الحضارة وتراث الأجداد ورونق الماضي. لذلك كلهن صار اسم الميدان اليوم مقترناً بالعراقة المستندة إلى تاريخ حافل، وباشتهار أهله بالجود والنّخوة والكرم والشجاعة، والمحافظة على شعائر الدين ومكارم الأخلا
ق.
والميدان أكبر ضواحي دمشق على الإطلاق، في جهتها الجنوبية. أقدم ذكر له كان في العهد الفاطمي، كما ورد لدى المؤرخ الدمشقي أبي يعلى القلانسي فلي كتابه «ذيل تاريخ دمشق» في حوادث سنة 363هـ. والجدير بالذكر أن به إلى اليوم مسجد قديم يعود إلى العهد الفاطمي، يٌعرف بمسجد «فلوس».
ثم في القرن السادس الهجري، يذكره ابن عساكر في «تاريخ مدينة دمشق» بقوله: «حارة الميدان المعروفة بالمنية». ولكن ثمّة رأي للباحث عيسى اسكندر المعلوف أن الميدان يعود إلى أقدم من ذلك، إلى العهد الأموي تحديداً، فيقول: «وعقد الوليد بن عبد الملك ميداناً لسباق الخيل، ولا يزال ذلك المضمار إلى يومنا يُعرف بالـ «ميدان»، وهو من أحياء المدينة المشهورة في غربها الجنوبي».
والواقع أن المنطقة سميّت بذلك لأنها كانت ميداناً رحباً واسعاً، تُقام فيه سباقات الخيل وجميع ضروب الفروسية من مبارزة ورماية ومصارعة. على أن الميدان لم يكن مقتصراً على هذه السباقات كما يرى الباحث الفرنسي جان سوقاجيه، بل كان ينزل به ويخيّم كلّ من تضيق المدينة عن إيوائه من الناس، كمواكب الأمراء والوفود والجيوش والقوافل.
هذا ولقد كان اسم الميدان قديماً لدى مؤرخي القرون الوسطى يقترن بتسمية: «ميدان الحصى»، وكانت هذه التسمية مختصّة، بالمحلّة المحاذية لجامع باب المصلّى، التي كانت لقربها من المدينة أول ما سُكن من أراضي الميدان، وعُرفت أيضاً بالـ «الميدان التحتاني». ثم شاع اسم «ميدان الحصى» ليشمل الضاحية برمّتها. وسبب تسميته بذلك كما هو واضح عائد إلى تربته اللحقيّة المفروشة بالحصى، بسبب وقوعه على مفاض سيل فرعي بردى القنوات والدّاراني، فكان في سنوات المطر الغزير تنساح أرضه بالحصى المترسّب في مهد السّيل.
هذا ولم تشهد ضاحية الميدان العمران الفعلي حتى عهد الدولة المملوكيّ (648-923هـ)، فقبل هذا العهد كانت المدينة تقوم ضمن السّور، ولم يكن خارجها ضواح كثيفة العمران بالمعنى الحقيقي (ما خلا العقيبة والصّالحية)، بل مجرّد قرى وتجمّعات سكنية منفردة لا تشكل كثافة سكانية. ويعود ذلك لقلة عدد سكان المدينة من جهة، ولانعدام الأمن والاستقرار خارج الأسوار من جهة أخرى بسبب الحروب الصليبية، وكثرة القلاقل بين فئات العسكر.
وقبل العهد المملوكي، كانت حماية حي الميدان موكلة إلى جماعة من شبّان الحي عُرفوا بلقب «الأحداث»، أي الفتيان، وكانوا النواة الحقيقية للمقاومة الشعبية ضد الغزاة الصليبيين والتتار، اتصفوا بالجرأة والصلابة وسرعة الحركة والمناورة، وكانت لهم تنظيمات شبه صوفية تقوم على مبدأ «الفتوة» بما تحمله من معاني النجدة والفداء والاستماتة في الدفاع عن الوطن والعرض وصدق الكلمة والوفاء بالوعد. وهؤلاء الأحداث كانوا في الواقع الأصل القديم لفئة «القبضايات والزكرتيّة» المعروفين لاحقا، مع ملاحظة أن هذه التسميات شاعت في العهد العثماني.
لذلك ينبغي لنا ملاحظة أن منبع هذا التنظيم الشعبي بمدينة دمشق إنما كان حيّ الميدان تحديداً، ولذلك فلا عجب أن نرى حيّ الميدان يضحي تحديداً بمثابة قلب الثورة السورية ضد الاحتلال الفرنسي (1925) كما سنرى.
في العهد المملوكي بدأت الضواحي السكنية بالظهور خارج الأسوار، فمنها السويقات خارج أبواب المدينة كالسويقة المحروقة وسيوقة صاروجا، عدا التوسعات التي طرأت على الصالحية والعقيبة. ومنها أيضاً ضاحية الميدان التي بُدئ بعمارتها، فظهرت فيها المساجد وبعض المدارس، واشتهرت بزواياها على الخصوص.
وما زال عدد كبير من هذه الآثار مائلاً إلى أيامنا، ومنها: جامع منجك، المدرسة القُنشليّة، الزاوية السّعديّة، تربة أراق السِّلَحدار، تربة النائب تنم (التّينبيّة)، تربة الشيخ حسن ابن المزلّق، وعدد من الترب المملوكيّة الأخرى. ولا نجد في الميدان اليوم أي بناء يعود إلى العهد الأيوبي، بل كانت آخر حدود أبنية هذا العهد عند محلّة باب المصلّى وشماليّها السويقة.
وبالطبع استمرّت النهضة العمرانيّة والمعماريّ في الحي بالعهد العثماني، وكانت أرض الميدان قبل ذلك مجموعات منفصلة وقريّات، مثل «القُبيبات» التي كانت نواة حي الميدان الفوقاني (القسم الجنوبي من الميدان). فأخذت هذه الأحياء بالاتساع، حتى ارتبطت ببعضها وصارت ضاحية كاملة كبيرة متطاولة الشكل جنوبي دمشق، تربوا عليها بالحجم! ويذكر كثير من الرّحّالين الأوروبيين الذين زاروا دمشق في العهد المملوكي أن مساحة الضواحي تبلغ أضعاف مساحة المدينة الأصليّة المسوّرة. وأن الأسواق العامة (البازارات) كانت تُقام في الضواحي، وأما المتاجر والأسواق المغطاة والبَزستانات (أسواق الثياب والأقمشة) وأسواق البضائع الثمينة (الذهب والمصنوعات والتوابل) فضمن نطاق السّور.
ومن آثار العهد العثماني في الميدان: جامع مراد باشا من أواخر القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي)، حمام فتحي من القرن الثاني عشر الهجري (الثامن معشر الميلادي). كما تعود أكثر دور الميدان الفخمة إلى هذا العهد، ولكن للأسف تم هدم عدد كبير من هذه الدور الجميلة أواخر السبعينات عند شق الطريق المحلّق الجنوبي، كان من أجملها دار الموصلي ودار البيطار.
وفي العهد العثماني، استقطب حي الميدان عدداً من أفراد السّلك العسكري المحلي (الإنكشارية اليرليّة)، لما اختص به الحي من الثراء الكبير من خلال تجارة الحبوب والمواشي والغلال الزراعية والمنتوجات الحيوانية. فظهرت طبقة كبيرة من الأعيان بالحي، جمع أفرادها بين الانتماء إلى السلك العسكري المذكور والتجارة الوفيرة الربح، وحول هذا الموضوع نشرت صديقتنا الباحثة الأميركية ليندا شيلشر Linda Schilcher دراسة وافية (حول أسر دمشق في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر)، تبعتها دراسة وافية للحياة المدنيّة والاقتصادية بحي الميدان، قامت بها صديقتنا الباحثة الفرنسية بريجيت مارينو Brigitte Marino.
على أن حي الميدان، مع الأسف الشديد، لم يحظ حتى اليوم بدراسة تاريخية وافية تلخّص مسيرته الحضارية عبر العصور، وتحصي أوابده المعماريّة الهامّة، وتتقصّى تاريخه الشعبي ودور أهم عائلاته في سيرة دمشق، على صعيد العلم والدين والتربية والجهاد والفنون والصناعة والاقتصاد. وهذا الأمر نتمنّى مخلصين على أبناء هذا الحيّ العريق من المثقفين المعتزّين بتاريخ حيّهم، بأن يبادروا إلى تأليف مثل هذه الدراسة، قبل أن تضيع بقيا الذكريات ممّن تبقوا من شيوخ الميدان الذين عاصروا بدايات القرن العشرين.
ولا يمكننا أن نعبّر عن هذه الرغبة العزيزة الغالية إلا ونذكر بالأسى الفقيد الصديق منذر حَوَري من أهالي الميدان، الذي كان حلمه على مدى عمره القصير أن ينشر كتاباً عن تاريخ حيّه الذي أحبّهن ولكنه مع الأسف لقي وجه ربّه دون أن يُقدّر له تحقيق رغبته هذه.
يُقسم حي الميدان في عُرف أهله إلى ثلاثة أقسام:
الميدان التحتاني مما يلي محلّ باب المصلّى، ثم الميدان الوسطاني، وبعده الميدان الفوقاني عند بوابة الله. ويشقّها طريق الحج المعروف باسم «الدرب السلطاني». وفيما يلي ذكر لبعض حرات وأحياء الميدان.
في أواخر العهد العثماني بالقرن التاسع عشر، قسّمت المدينة إدارياً إلى ثمانية أثمان، فكان ثُمنان منها يشملان حيّ الميدان: التحتاني والفوقاني. وهذا هو وصفهما من مصدر معاصر، بقلم عبد العزيز العظمة:
فأمّا «ثُمن الميدان التحتاني» فبدايته من السّويقة، ويشمل بداية الدرب السّلطاني، وخان المغاربة، وزقاق الأربعين، وزقاق الاورفه لي، وزقاق النقشبندي، والقبّة الحمراء، والتّيامنة، وباب المصلى، وزقاق القملة، وقاعة النشا (تسمى القاعة اليوم اختصاراً)، وزقاق الموصلي، والتنورية، والقرشي، والعسكري، والمحمص، وزقاق البصل، والقبيبات.
وفيه جامع النارنج وجامع صُهيب (تربة أراق)، وجامع الزاوية، وجامع القوّاص، والرفاعي، وجامع منجك، والكريمي (جامع الدقاق اليوم)، ومدرسة الخانكيّة، ومدرستان أميريّتان للبنين والبنات.
وفي حمّام الزين، وحمّام السّويقة، وحمّام سُنقُر، وحمّام النّاصري، وكنيسة للروم الأرثوذوكس باسم القديس حنانيا، وكنيستان للروم الكاثوليك، ومدرسة لكل من هاتين الطائفتين.
وفي الميدان التحتاني تُباع الحبوب بأنواعها، في حوانيت فسيحة تُسمّى بَوايك (جمع بايكة)، وفيه أهراء كبيرة لخزن الحبوب، وكثير من الخانات والأحواش لربط الدّواب والجمال ولإيواء الفلاحين، ثم مصانع متعدّدة لأعمال مختلفة ومعامل للنسيج والحياكة وقاعات للنّشاء.
أما ثُمن الميدان الفوقاني فيقع في منتهى المدينة من جهة القبلة، ويمتد من سوق الجزماتية إلى بوابة الله (باب مصر). ويضم من الأحياء والمحال: سوق الجزماتية، الحقلة، ساحة عصفور، ساحة بحصيص، والراقية، وزقاق الطالع، وزقاق البرج، وزقاق الماء، وزقاق أبي حبل، والمشارقة، والحارس، والجمّالة، والقلاينية، والنصار، وزقاق قيصر.
وفي الميدان الفوقاني: جامع الدقاق، وزاوية الشيخ سعد الدين الجباوي، ومسجد العسالي، ثم الحمّام الجديد، وحمّام الجديد، وحمّام الدّرب، وحمّام التّوتة، وحمّام منجك، وحمّام الرّفاعي. ثم معمل السكة الحديدة الحجازية (أي المحطة وورشاتها)، ومحطة سكة حديد بيروت وتمديداتها، وثكنة المتطوّعة، والثكنة العزيزية.
الميدان ومحمل الحج: كانت ضاحية الميدان تزدحم الجموع الغفيرة من أهالي دمشق أربع مرّات في السنة: مرّة عند خروج محمل الحجّ من «بوابة الله» بأسفل الميدان الفوقاني إلى الحجاز، والثانية عند خروج موكب «الجردة» الذي يحمل المؤن لقافلة الحج إبّان رجوعها، الثالثة عند رجوع «الجردة» ومعها مكاتيب الحجّاج، والرابعة عند الخروج لاستقبال موكب الحج في شهر صفر.
على ذلك ازدادت أهميّة حيّ الميدان لهذه المواسم الأربعة المباركة فلي كل عام، وكانت ترافقها طبعاً الأسواق الموسمية الحافلة بشتى أصناف الأطعمة والألبسة ولوازم الحياة إجمالاً، كما كانت تقوم حركة اقتصادية كاملة على حركة قافلة الحج، مما أفرز مهناً دائمة على مدار المواسم، مثل: المقوّمين (متعهّدو المطايا)، الجمّالة (الدّوجيّة)، والبغّالون (القاطرجيّة)، ومُكرو الدّواب (العكّامة)، والحمّالون (العتّالة)، والأجراء، والأدلاء، والسُّقاة، والحرّاس، والمهاترة (الخيميّة).
أمّا السيّاح الأوروبيّون، فكانوا عند إطلالهم على دمشق من قاسيون يشبّهون المدينة البيضويّة مع ضاحية الميدان المستطيلة الملحقة بها بشكل المقلاة أو ذراع قيثارة الماندولين.
في أثناء الاحتلال الفرنسي لسورية (1920-1946)، حارب أهل الميدان إلى جانب أشقائهم أهل الشاغور وبقيّة أحياء دمشق والمدن السوريّة قوى الاحتلال بضراوة، حتى أن الفرنسيين قصفوا الميدان مراراً، وأكثرها شراسة ما حدث في العشرينيات أثناء الثورة السورية الكبرى.
اشتهر من أهل الميدان عدد من الأسر العريقة منها: العابد، سكّر، البيطار، الحكيم، المهايني (أصلها من القلمون)، دعبول (أصلهم من الموصل)، حبنّكة، النّوري، حتاحت، الرّفاعي، الجباوي، الحملي، سرحان، خطّاب، الميداني، الصبّاغ، السّاسة، الغبرة، البرغلي، أبو حرب، سحلول. وغيرها كثير.
وظهر في حيّ الميدان ثلّة من العلماء الأفاضل، منهم: المجاهد الشيخ محمّد الأشمر، الذي نفته القوات الفرنسية خارج دمشق. ومنهم الشيخ حسن حبنّكة الميداني، والشيخ حسين خطاب، والشيخ محمد كريّم راجح، كما أقام بينهم الشيخ عبد القادر أرناؤوط (أصله من كوسوفا). ومن أعيانهم المجاهد أبو صيّاح الحَرَش والمجاهد غالب بحصاص.
وحول التّراث الشعبي، ارتبطت بحيّ الميدان كما لنا صفات النّخوة والكرم والحميّة، ورأى فيهم أبناء بعض الأحياء الأخرى شدّة في المراس وغلبة في القتال فهابوهم، وعبروا عن ذلك في بعض أمثالهم الشعبيّة السائرة. ولا زال إلى اليوم يُضرب المثل بالـ «العزيمة الميدانيّة» الحافلة باللحم والسّمن العربي والقلوبات والكبب واللبن الدّسم وحلويات القشطة الأصليّة.
أما عما يُروى عن اشتجار القتال بين «الميادنة» و«الشّواغرة»، فله أصول قديمة جداً تعود إلى العهد الأموي، إبّان اشتداد عصبيّة القبائل القيسيّة واليمنيّة، وحروب مروان بن الحكم والنّعمان بن بشير. وبقي هذا التنافس قائماً في العصور الوسطى، كما نجد في نصوص تواريخ العهد المملوكي، وحتى العثماني.
أخيراً، يتميز حي الميدان بمطبخه العريق والكبير، حيث تكثر اليوم محلات الطبخ والحلويات والمطاعم، التي تقدّم الأطعمة من كافّة الأنواع والألوان الشرقية والغربية. وما زال أهل دمشق يفضّلون ابتياع أصناف اللحوم والسمن العربي والقشدة (القشطة) وسائر المشتقّات الحيوانيّة من حيّ الميدان، بالإضافة إلى أصناف الحلويات الشاميّة اللذيذة الشهيرة، كالكنافة والمغشوشة والنمّورة والقطايف والمبرومة والآسيّة والبرازق والغرَيبة، وغيرها.
وبالإجمال، عندما يطلب الباحث المؤرّخ مثالاً عن طبيعة الحياة الاجتماعية التقليدية الدمشقيّة، فعليه دون أدنى نقاش التوجه إلى الميدان، حيث ما زالت هذه الحياة العريقة قائمة بجميع عاداتها وتقاليدها الأصيلة، وأخلاق أهلها وتكافلهم الاجتماعي، والتّرابط في جميع الظروف، والميل الكبير إلى الحشمة والتديّن ونبذ عادات المدنيّة والحديثة من التّحذلق أو التّباهي بالمظاهر المادية الجوفاء.
قُصارى القول: بعد 30 سنة من التعمّق بتاريخ دمشق وتراثها الاجتماعي نقول: لم يبق بدمشق من نماذج حياتها الاجتماعيّة الأصلية ومن عادات أهلها، سوى ما هو قائم اليوم في حي الميدان! فالميدان إذاً هو موئل للأصالة، وعنوان لكل ما يخصّ ماضي دمشق وتراثها وجوهرها الأصيل