DE$!GNER
بيلساني محترف
- إنضم
- Apr 4, 2011
- المشاركات
- 2,637
- مستوى التفاعل
- 44
- المطرح
- بين الأقلام والألوان ولوحات التصميم
بعد ثلاثة وعشرين عاماً على غياب عاصي الرحباني، يحار المرء هل كان عاصي الرحباني شخصاً حقيقياً أم أنه كأبطاله مصنوع من نسيج المخيلة وعالمها الطيفي؟!.
فهذا الرجل الذي بدأ حياته شرطياً بسيطاً في دولة ناشئة، استطاع بذكاء أن ينقل الوطن من واقعية الكيان إلى أسطورة الفكرة، حتى إذا ترنح الوطن تحت ضربات الحرب وبؤس طوائفها المتناحرة، تحوّل هو نفسه إلى اسطورة تجدد معناها في أعمال أثبتت قدرتها على العيش خارج المكان والزمان اللذين شكلا حيزها وإطارها .
ربما اشترك عاصي ومعه منصور بالطبع ، مع سعيد عقل في تلك المحاولة التي هدفت إلى (أسطرة) الوطن وإخراجه من مجال الجغرافية الضيقة إلى المطلق الذي يبحث عن تاريخه في نثار وقائع متباعدة أو ملتبسة .
لقد تقاطع الطرفان في محطات قليلة أبرزها مسرحية« فخر الدين»، حيث تمت المزاوجة بين الواقعي والمتخيل في إطار الحلم اللبناني المتضخم والذي لا يجد ما يسنده، لكن الرحبانيين لم يذهبا أبعد من ذلك، ولم يحاولا تطويع التاريخ لمستلزمات "العظمة الفينيقية "المدعومة بأبجدية قدموس وهندسة اقليدس .
لقد حدث الانفصال بين سعيد عقل والرحبانيين في هذه المنطقة على الأرجح ، ففي حين راح الأول يحمّل التاريخ اللبناني أكثر ما يحتمل من مبالغات دون كيشونية، أدرك الآخران أن هناك فرقاً بيناً بين الحلم والتوهم، وراحا يحفران لنفسيهما مجرى مغايراً يعتمد على المزاوجة بين جزر البطولة المتناثرة هنا وهناك (فخر الدين ،انطلياس ..) وبطولة غير متحققة نجد مادتها في المثال البطولي المتخيل (جبال الصوان، ناطورة المفاتيح).
في مناطق الاختلاط الأول، كان صوت فيروز موزعاً بين نصوص سعيد عقل التي لم تكن قد انكفأت بعد إلى داخل الكيان ( الشاميات والمكيات) وبين نصوص الرحبانيين التي كانت تشي منذ البداية بانعتاقها من دائرة المحلية الضيقة نحو دائرة الإنسانية الرحبة، وحتى في أوج انحيازهما للبطولة الفردية لم يقتنع الأخوان رحباني أن الفرد وحده يغير التاريخ بل جعلا على ضفافه بشراً آخرين، يعملون على مساندة القائد الرمز وشد أزره، هذا القائد الذي ينبغي أن يحقق وفق مفهومهما شرطين اثنين هما: القوة والعدالة، فالقوة غير العادلة هي قوة الاستبداد التي تستلزم ثورة دموية لإطاحتها (جبال الصوان )، أو ثورة سلمية سلبية على الطريقة الغاندية مثلما حصل في«ناطورة المفاتيح»، و العدالة التي لا تسندها القوة هي عدالة ناقصة لا تؤدي إلا إلى الإذعان واليأس، فالإيمان بالعدالة يستلزم التضحية وإلا أصبح رديف الباطل وصنواً له .
يبدو الواقع الرحباني هارباً باستمرار ، يفر من ثباته إلى ما هو أبعد منه وذلك لا يعني الابتعاد عن الواقعية، بل يعني قراءة مغايرة للواقع تختلف عن الأيديولوجيات النهائية والفكر الشمولي، لكن الرؤية الرحبانية تظل دائماً أسيرة الضدية المتواصلة بين الخير والشر، العدالة والظلم، الأبيض والأسود، وقلما تدخل في المناطق الرمادية الملتبسة التي نراها في أعمال شكسبير على سبيل المثال .
أما الزمن، فيحتل دور البطولة في الفن الرحباني.. إنه العنصر الأكثر جدلية في هذا الفن، فاللحظة الرحبانية هي لحظة رجراجة، دائمة الجريان، لذا هي تهرب من نفسها وراءً إلى الذاكرة، وأماماً إلى الحلم، والعودة ليست ردة إلى الماضي في حد ذاته، بل سعي إلى البراءة الأولى وطهرانية العناصر والعلاقات، والحلم هو مستقبل اللحظة أو طفولتها الأخرى غير المحققة.
يقول باشلار: «إن أصفى حب هو ذلك الذي خسرناه»،كما يقول غويو: «إن أعذب نعيم هو الذي نتوقعه»، وبين هذين الحدين يتحرك الزمن الرحباني، ليست الحياة إذن سوى رحلة عابرة بين الجنة المفقودة والجنة الموعودة .
في هذه المنطقة أيضاً يتحرك صوت فيروز مختلقاً ينابيع لم يجف ماؤها بعد، وساعياً وراء أزمنة عند تخوم الصمت، لكن هذا الجريان الدائم للزمن يحمل في داخله عناصر الانهدام الفردي، ويفضي إلى ذبول الكائن الذي يجد نفسه فجأة في مواجهة الشيخوخة والموت، لذا يحاول النص الرحباني أن يجنح بالزمن إلى حيث لا يطاله الفساد أو التحول المخيف:«تعا تا نتخبامن درب الأعمارإذا هني كبروا بقينا ونحنا صغاران سألونا وين كنتوليش ما كبرتو انتومنقللن نسينا».
في إطلالات كهذه تلمع في المدى الرحباني بروق معراة من كل بعد ظرفي، بروق يندمج فيها الشكل ومعناه، وتصبح الأغنية تعويذة ضد خراب العالم وانهدامه، حيث يحتفظ« شادي» برنين ضحكاته فوق ثلج الموت الذي لا يذوب .
في مواجهة خراب العالم، بنى الرحبانيان عالماً موازياً يتعذر تهديمه، مصوغاً بعناية من مخيلة تتواصل مع ينابيعها الخام وتتناول مادتها من عناصر الحياة وسحرها الغامض ، فلم يكن النص الرحباني يتلقى أوامره من العقل أو الثقافة أو الأيديولوجيا أو الفطرة، بل من صهر هذه العناصر مجتمعة في حمى لونية وإيقاعية نادرة،وهذه اللغة المصفاة ظلت رغم الاشتغال المتقن عليها بمأمن من الاشتغال البلاغي وسكونية الشكل المحض، كونها حقنت بشغاف الحنين وحقائق المكابدة .
لقد انتصر عاصي الرحباني للحرية، لغة وموقفاً، لذلك أقام مع أخيه في المناطق الملتبسة بين شاعرية الصمت واحتفالية الإيقاعات والألوان، حيث تستطيع كل حاسة أن تخلي مكانها للأخرى في عملية استبدال متواصلة.
ثلاث وعشرون سنة مرت على غياب عاصي الرحباني لا نتذكره، ربما لأننا لم ننسه في الأصل، نستعين به لكي نتعرف على أنفسنا في مرآته، لعله من بين القلة الذين رفعوا الحياة إلى مرتبة الشعر، و الشعر إلى مرتبة الحرية، وحين ضاق العالم به، راح يطرق الباب بعنف لكي يذهب إلى الأبدية، حيث لا مكان للظلم والجوع والخراب.
فهذا الرجل الذي بدأ حياته شرطياً بسيطاً في دولة ناشئة، استطاع بذكاء أن ينقل الوطن من واقعية الكيان إلى أسطورة الفكرة، حتى إذا ترنح الوطن تحت ضربات الحرب وبؤس طوائفها المتناحرة، تحوّل هو نفسه إلى اسطورة تجدد معناها في أعمال أثبتت قدرتها على العيش خارج المكان والزمان اللذين شكلا حيزها وإطارها .
ربما اشترك عاصي ومعه منصور بالطبع ، مع سعيد عقل في تلك المحاولة التي هدفت إلى (أسطرة) الوطن وإخراجه من مجال الجغرافية الضيقة إلى المطلق الذي يبحث عن تاريخه في نثار وقائع متباعدة أو ملتبسة .
لقد تقاطع الطرفان في محطات قليلة أبرزها مسرحية« فخر الدين»، حيث تمت المزاوجة بين الواقعي والمتخيل في إطار الحلم اللبناني المتضخم والذي لا يجد ما يسنده، لكن الرحبانيين لم يذهبا أبعد من ذلك، ولم يحاولا تطويع التاريخ لمستلزمات "العظمة الفينيقية "المدعومة بأبجدية قدموس وهندسة اقليدس .
لقد حدث الانفصال بين سعيد عقل والرحبانيين في هذه المنطقة على الأرجح ، ففي حين راح الأول يحمّل التاريخ اللبناني أكثر ما يحتمل من مبالغات دون كيشونية، أدرك الآخران أن هناك فرقاً بيناً بين الحلم والتوهم، وراحا يحفران لنفسيهما مجرى مغايراً يعتمد على المزاوجة بين جزر البطولة المتناثرة هنا وهناك (فخر الدين ،انطلياس ..) وبطولة غير متحققة نجد مادتها في المثال البطولي المتخيل (جبال الصوان، ناطورة المفاتيح).
في مناطق الاختلاط الأول، كان صوت فيروز موزعاً بين نصوص سعيد عقل التي لم تكن قد انكفأت بعد إلى داخل الكيان ( الشاميات والمكيات) وبين نصوص الرحبانيين التي كانت تشي منذ البداية بانعتاقها من دائرة المحلية الضيقة نحو دائرة الإنسانية الرحبة، وحتى في أوج انحيازهما للبطولة الفردية لم يقتنع الأخوان رحباني أن الفرد وحده يغير التاريخ بل جعلا على ضفافه بشراً آخرين، يعملون على مساندة القائد الرمز وشد أزره، هذا القائد الذي ينبغي أن يحقق وفق مفهومهما شرطين اثنين هما: القوة والعدالة، فالقوة غير العادلة هي قوة الاستبداد التي تستلزم ثورة دموية لإطاحتها (جبال الصوان )، أو ثورة سلمية سلبية على الطريقة الغاندية مثلما حصل في«ناطورة المفاتيح»، و العدالة التي لا تسندها القوة هي عدالة ناقصة لا تؤدي إلا إلى الإذعان واليأس، فالإيمان بالعدالة يستلزم التضحية وإلا أصبح رديف الباطل وصنواً له .
يبدو الواقع الرحباني هارباً باستمرار ، يفر من ثباته إلى ما هو أبعد منه وذلك لا يعني الابتعاد عن الواقعية، بل يعني قراءة مغايرة للواقع تختلف عن الأيديولوجيات النهائية والفكر الشمولي، لكن الرؤية الرحبانية تظل دائماً أسيرة الضدية المتواصلة بين الخير والشر، العدالة والظلم، الأبيض والأسود، وقلما تدخل في المناطق الرمادية الملتبسة التي نراها في أعمال شكسبير على سبيل المثال .
أما الزمن، فيحتل دور البطولة في الفن الرحباني.. إنه العنصر الأكثر جدلية في هذا الفن، فاللحظة الرحبانية هي لحظة رجراجة، دائمة الجريان، لذا هي تهرب من نفسها وراءً إلى الذاكرة، وأماماً إلى الحلم، والعودة ليست ردة إلى الماضي في حد ذاته، بل سعي إلى البراءة الأولى وطهرانية العناصر والعلاقات، والحلم هو مستقبل اللحظة أو طفولتها الأخرى غير المحققة.
يقول باشلار: «إن أصفى حب هو ذلك الذي خسرناه»،كما يقول غويو: «إن أعذب نعيم هو الذي نتوقعه»، وبين هذين الحدين يتحرك الزمن الرحباني، ليست الحياة إذن سوى رحلة عابرة بين الجنة المفقودة والجنة الموعودة .
في هذه المنطقة أيضاً يتحرك صوت فيروز مختلقاً ينابيع لم يجف ماؤها بعد، وساعياً وراء أزمنة عند تخوم الصمت، لكن هذا الجريان الدائم للزمن يحمل في داخله عناصر الانهدام الفردي، ويفضي إلى ذبول الكائن الذي يجد نفسه فجأة في مواجهة الشيخوخة والموت، لذا يحاول النص الرحباني أن يجنح بالزمن إلى حيث لا يطاله الفساد أو التحول المخيف:«تعا تا نتخبامن درب الأعمارإذا هني كبروا بقينا ونحنا صغاران سألونا وين كنتوليش ما كبرتو انتومنقللن نسينا».
في إطلالات كهذه تلمع في المدى الرحباني بروق معراة من كل بعد ظرفي، بروق يندمج فيها الشكل ومعناه، وتصبح الأغنية تعويذة ضد خراب العالم وانهدامه، حيث يحتفظ« شادي» برنين ضحكاته فوق ثلج الموت الذي لا يذوب .
في مواجهة خراب العالم، بنى الرحبانيان عالماً موازياً يتعذر تهديمه، مصوغاً بعناية من مخيلة تتواصل مع ينابيعها الخام وتتناول مادتها من عناصر الحياة وسحرها الغامض ، فلم يكن النص الرحباني يتلقى أوامره من العقل أو الثقافة أو الأيديولوجيا أو الفطرة، بل من صهر هذه العناصر مجتمعة في حمى لونية وإيقاعية نادرة،وهذه اللغة المصفاة ظلت رغم الاشتغال المتقن عليها بمأمن من الاشتغال البلاغي وسكونية الشكل المحض، كونها حقنت بشغاف الحنين وحقائق المكابدة .
لقد انتصر عاصي الرحباني للحرية، لغة وموقفاً، لذلك أقام مع أخيه في المناطق الملتبسة بين شاعرية الصمت واحتفالية الإيقاعات والألوان، حيث تستطيع كل حاسة أن تخلي مكانها للأخرى في عملية استبدال متواصلة.
ثلاث وعشرون سنة مرت على غياب عاصي الرحباني لا نتذكره، ربما لأننا لم ننسه في الأصل، نستعين به لكي نتعرف على أنفسنا في مرآته، لعله من بين القلة الذين رفعوا الحياة إلى مرتبة الشعر، و الشعر إلى مرتبة الحرية، وحين ضاق العالم به، راح يطرق الباب بعنف لكي يذهب إلى الأبدية، حيث لا مكان للظلم والجوع والخراب.