دالاس...

DE$!GNER

بيلساني محترف

إنضم
Apr 4, 2011
المشاركات
2,637
مستوى التفاعل
44
المطرح
بين الأقلام والألوان ولوحات التصميم
شاهدت اليوم صباحاً على إحدى الشاشات، خبراً مصوراً عن المواطن الأمريكي «دالاس». من هو «دالاس»؟ هو إنسان قبل كل شيء، رجل يمتلك الحق بالحياة كأمر بديهي،. فالإله عندما قرر الخلق، لم يوزع الحياة بمقاييس عديدة، بل وهب جميع مخلوقاته هذا الحق. عاش «دالاس» قبل تاريخ معين وقد كان لديه أحلام وطموحات، مثله مثل أي إنسان، وكان لديه زوجة وأبناء، يعمل من أجل أسرته، من أجل الحياة، من أجل مستقبله ومستقبل أسرته، وهذا أمر بديهي أيضاً، لأن أهم نشاط في الحياة هو العمل، كما كل المخلوقات تسعى في سبيل رزقها. «دالاس» ما زال شاباً، لكنه تعرض وهو يقوم بدهان أحد الجدران إلى تماس كهربائي أشعل حريقاً كان وجهه هو الضحية الأولى. ‏
وجهنا هو نحن، هو تلك الملامح التي تميزنا من حيث الشكل أولاً، وهو العاكس لدواخلنا ثانياً. هو الذي يحدد ارتكاس الآخر تجاهنا. الوجه الذي يرسم انطباعاتنا، ويشف عن أعماقنا، الوجه يقول للآخر أنا أحبك، أنا أكرهك، أنا أفهمك، أنا أقبلك، أنا أرفضك، أنا معجب بك، أنا خائف منك، أنا غاضب عليك... إلى ما هنالك من معان يقولها الوجه بلغته الخاصة، من دون الكلام الذي هو اللغة الأكثر مواربة ومراوغة، بل القاصر عن أداء المعنى من دون دعم عضلات الوجه، وجلده، وعينيه، وحتى أنفه، وأجزائه كلها. ‏
«دالاس» تآكل وجهه في لحظة غير مرصودة، لحظة قلبت حياته، غيّرت مصيره، حرقت طموحاته. فجأة بعد تجاوز مرحلة الألم الجسدي، وتجاوز ضوضاء الصدمة، يواجه «دالاس» حقيقته الجديدة، عينان مضطربتا الرؤية ومنكمشتان في محجريهما، وجه ضامر يغطيه جلد منكمش يفقده أي إمكانية للتعبير، داخله تمور مشاعر من اليأس والقهر والرفض، والخيبة، والألم بكل أشكاله، وأصعب أمر، على ما أظن، هو ألا يستطيع أن يشم رائحة ابنته، حتى لو قبلت أن يحضنها، فكيف وهي تتمنع عن تقبيله، وأن تتصدع الأرض بينه وبين زوجته، فتفصل بينهما هوة عميقة، تغتال الحب حتى لو تشبثا به، هو نفور قد لا يحمل بين طياته شعور الاشمئزاز، بل الذهول الناجم عن تهتك تلك الوشيجة اللامرئية التي تربط بين الابنة وأبيها، وتدمر ذلك البينان الذي رفعه هو وزوجته على أسس الأحلام الكبيرة، والطموحات الواعدة، والعقد المبارك من الإله والحياة. ‏
أخيراً أجريت لـ «دالاس» عملية زراعة وتصنيع وجه، شارك فيها فريق من الأطباء ومساعديهم على مدى خمس عشرة ساعة، على حساب الجيش الأمريكي، مع أن «دالاس» ليس من أفراد الجيش الأمريكي، لكنه مواطن أمريكي. الجيش الأمريكي الذي يفكر بمصير جنوده وضباطه، لا يهمل أي جانب من حياتهم، يريد صنع واقع حربي مترف لهم، مثلما يراعي احتياجاتهم الحياتية، من جسدية ونفسية ومعنوية، وروحية. قدم الجيش تلك الهدية للمواطن الأمريكي، آملاً أن تكون تلك العملية فاتحة أعمال متجددة ومتطورة باستمرار من أجل جنوده الذين قد يصابون في معاركهم الكثيرة خارج حدودهم، البعيدة جداً عن بلادهم، بإصابات تأتي على ملامح وجوههم. فتحصد معاني الحنين إلى أوطانهم، وأسرهم، وعشيقاتهم. لكن هل الوجوه الجديدة يمكن أن تغير معها عواطف قديمة؟ أن تؤسس لمشاعر أخرى تلائم الوجه الجديد؟ ‏
أمريكا التي تعتدي على الشعوب بحجة الدفاع عن ديمقراطية تمارسها في مجتمعها فقط، تنهب خيراتها، وتسعى مع حلفائها في الرأسمالية العالمية إلى بناء أمجادها، وتحقيق رفاهية عالية لمجتمعاتها على حساب الشعوب الأخرى التي تبيدها بالمئات كل يوم، إن كان عن طريق جنودها بشكل مباشر، أو عن طريق أدواتها المتغلغلة في نسيج تلك الشعوب. أمريكا التي تهمها كلابها، وتسن القوانين الناظمة لحمايتها من قسوة البشر عليها، ولا تكترث بآلاف الأطفال الذين تحصدهم حروبها، ويعتدي على حقوقهم خدمها وعملاؤها. لا تكترث بملايين الأطفال المهددين بالموت جوعاً وفاقة ومرضاً. ولا بآبائهم الذين يموتون غمّاً ويأساً. ‏
لا شك بأنني تعاطفت مع «دالاس»، الإنسان وليس مع «دالاس» الأمريكي، لكنني تألمت على إنساننا، هذا الذي يعيش على أرض ترابها معجون بالدم، قدره أن يدفع ضريبة الدم على مرّ العصور، أن يستهل إدراكه للحياة بمفهوم الموت، بذرائع مختلفة، الموت المقدس هو أهم مفهوم للحياة لدى إنسان هذه المنطقة وأخواتها بالشروط التاريخية، الموت الذي أسست له ودعمته أمريكا، فصار عقيدة تتسلل إلى النفوس المتآكلة باليأس من الحياة. صار قبول الموت الجماعي على أنه أمر لا بد منه في صناعة تغيرات الحياة، عقيدة وممارسة تحصد كل يوم مئات الأرواح بذريعته. ‏
حلمت بترف أن نستطيع يوماً تصنيع وجوه تجعلنا أقدر على قبول بعضنا للبعض الآخر، تجعلنا نكتسي ملامح تستثني مشاعر الرفض لبعضنا أو الرغبة في إقصاء الآخر، ملامح تجعلنا يقول واحدنا للآخر: صباح الخير يا أخي، يا ابن هذه الأرض التي صاغنا تاريخها، فحملنا مورثات غنية بتعددها، ملامح تجعلنا نقبل على بعضنا بلهفة الاشتياق إلى إخوتنا الذين باعدتنا عنهم مسافات من التغريب والتغرير. حلمت بوجوه متنوعة باسمة للحياة، تفيق صباحاً تلقي على وجه الوطن تحية السلام. ‏
 
أعلى