- إنضم
- Nov 25, 2008
- المشاركات
- 17
- مستوى التفاعل
- 0
دمشق تتنفس بتاريخها بعد أن فقدت غوطتها
سألتني صديقة غالية على قلبي أتت من بلد عربي شقيق عن تفسير لأصالة دمشق، وماهي هذه الغوطة التي تغنى بها الشعراء؟
أول ما تبادر الى ذهني أنها تسأل عن مدينة تألقت بأسماء عديدة منها جلّق، الفيحاء، الشام وإرم ذات العماد ونسبها المؤرخون إلى دمشاق ابن كنعان, ودمشق ابن نمرود، وأليعازر غلام ابراهيم الخليل، وجيرون بن سعد بن عاد بن إرم، ودمشق أيضاً غلام الاسكندر الكبير كما أرجعها المؤرخون الى ما قبل ابراهيم لخليل.
فعن أي اسم لأي حقبة يعود نتحدث!! وهل هذه الشامة على خد بلاد الشام المحاطة بغوطة غنّاء تكفيها بضعة من السطور لتفيها حقّها من التعريف!!
دمشق التي وقعت على طريق الحرير كأجمل جنّة في الدنيا ترتاح فيها القوافل تتاجر ثم تتابع مسيرتها شرقاً وغرباً.
دمشق التي إن أتاها الأجانب دخلوها من طريق يقع بين جبلين جبل (الجُنْك) الشرقي وجبل (الدف) الغربي يعلو جبل الجُنْك قبة ناصعة البياض تدعى قبة السيّار كانت للحراس يراقبون مرور القوافل، بين الجبلين وعلى سفحيهما امتدت أفرع من نهر بردى تشق الوادي والغيضة الفيحاء، نهر بردى الذي عرف في سالف الزمان بنهر (أبانا) حين ذكره نعمان السرياني في سفر الملوك الثاني وسماه الاغريق نهر الذهب وجاء ذكره في التوراة كما عرف بالنهر البارد.
أتعلم؟!! أن لطعم ماء بردى مذاق أجاج يروي العطش لا تجده بأي مكان في العالم ويتفرع عنه قبل دخوله المدينة سبعة أفرع سميّت بـ يزيد، ثورى، بردى، بانياس، قنوات، المزاوي، الديراني هذه الافرع تروي مساحات شاسعة من الاراضي الزراعية المشبعة بالماء فتحيط دمشق بسوار من أشجار الصفصاف، الحور، والكينا من جميع اتجاهاتها من الشرق الى الغرب دون انقطاع، ويطل على دمشق من الشمال فيسندها بحنان جبل قاسيون الخالد.
كما أن ترابها انعجن برفات أولياء الله الصالحين حيث مازالت الى الآن مقامات للأولياء ومدافن لبعض نساء الرسول محمد عليه السلام وضريح لصلاح الدين الأيوبي.
لدمشق حارات يعبق عطرها المشبع بالياسمين، الورد الجوري، النارنج، الكباد، الليمون والأرصيّا تلك الفاكهة التي تشبه الخوخ التي انقرضت وقد كانت فيما سلف تهدى للسلاطين والملوك.
في الحارات بيوتات اشتهرت بطراز مميز منها ما ينسب الى منهج الباروك والذي يعنى بالتفاصيل الدقيقة المحكمة والترابط والايقاع إلى جانب اسلوب الروكوكو المتميز بالمنمنمات الدقيقة داخل التفاصيل بذاتها إضافة الى تاثيرات شرقية، عربية، عثمانية هذا الخليط العجيب يؤدي الى محصلة من قاعات تدهشك بترفها وبذخها وفخامتها.
صنعت بيوت الأثرياء من مرمر أبيض تداخل معه الخشب وفي كل بيد فسحة سماوية تملؤها الأزهار والاشجار كما يتوسطها بحرات من الماء يعلوها أشكال تزيينية جمالية بعضها صنع من البرونز ينسكب الماء من فوهاتها برقة ورقرقة وجمال.
في دمشق حمامات شهيرة تزود روادها بماء ساخن وسوق مغطى شهير يدعى بالحميدية أظنّه من بعض أول وأجمل الاسواق المغطاة في العالم بني هذا السوق بديلاً عن سوق الاروام (الأروام أو اليونان الذين سكنوا بلاد الروم ومنها جاؤوا) الذي كان متواجداً في نفس الموضع الذي بني فيه سوق الحميدية حيث تم بناؤه في عهد السلطان عبد الحميد الأول كان للسوق سقف خشبي استبدل بسقف من الحديد والتوتياء وقاية لها من الحريق تباع في السوق منتجات نسيجية مختلفة ذات منشأ مختلف وتحف شرقية اشتهرت دمشق بأغلى أنواع القماش المصنوع من الحرير يدوياً ويدعى الدامسكو كما اشتهرت بمحال حلويات، مرطبات، وبوظة حيث كانت تدوي في الأرجاء صوت قرع المدقات الخشبية الطويلة عندما تهبط على الحليب ومكونات البوظة بعنف شديد لتدقها ضمن جرن معدني بغية تكثيفها ثم تعجن بالفستق الحلبي وتقدم.
من المحن التي شهدها سوق الحميدية حريق ضخم جائر شب فيها عام 1911 فأتي على كثير من المحال وخلف أضراراً حسيمة إلا أنه كدمشق شمخ من جديد بعد أن أعيد بناؤه. في نهاية سوق الحميدية وفي قلب المدينة القديمة وفي موضع المعبد الآرامي (حدد) الذي يرجع تاريخه الى مطلع الألف الأول قبل الميلاد والذي بني عنده المعبد الروماني للاله جوبيتير الدمشقي في القرن الثالث الميلادي ثم شيدت فوقه كنيسة القديس يوحنا المعمدان المعروف بالنبي يحيى أواخر القرن الرابع الميلادي وقد أمر الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك بتشييد الجامع الأموي سنة 705 ميلادي استغرق البناء حوالي العشر سنوات فجاء آية بالروعة والاتقان على طراز اسلامي وعربي للجامع ثلاثة مآذن، أربعة قباب وأربعة أبواب.
يعد سور مدينة دمشق من أهم المعالم الاثرية فيها ويضم قلعة قلعة دمشق وابوابها السبعة وبرجى نور الدين والصالح أيوب ويعود تاريخ انشاء هذا السور إلى العهد الارامى ثم اليونانى وبعده الروماني. يبلغ طول السور 1500 متر وعرضه 750 مترا ويحتوى على مساحة تقدر بمئة هكتار مقسمة إلى جزر مستطيلة مفصولة بشوارع تتجه من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب وضم السور الرومانى سبعة ابواب كما يختلف السور الرومانى عن السور الحالى الذى رمم عدة مرات على مر العصور وتم توسيعه ليكون متفقا مع اتساع المدينة.
لسور دمشق برجين: نور الدين وبرج الصالح أيوب. يقع برج نور الدين في الطرف الجنوبى الغربى من سور المدينة( جنوب جامع سنان باشا) وقد أضيف إلى السور سور أخر يمتد من باب السلام وباب توما حتى الباب الشرقي لتصبح المنطقة الواقعة بين السورين تعرف باسم (بين السورين) كما أقام نور الدين عدة أبراج على هذا السور الصالح أيوب شرقي شرقي باب توما.و من المعالم أيضا برج الملك الصالح أيوب ويقع إلى الزاوية الشمالية الشرقية من المدينة وسمى باسمه حيث انشأه عام 646 ه 1248 ميلادى وهو نموذج للابراج الايوبية الدمشقية.
أما أبواب السور التي يسهل اغلاقها في وجه أي هجوم مفاجئ فقد رمز كل باب كما يقول ابن عساكر إلى أحد الكواكب السبعة، وجعل على كل باب صورة الكوكب المرصود له. فباب كيسان الذي يرمز لزحل بقيت الصورة عليه حتى الآن، بينما خربت على الأبواب الأخرى، لكن أبواب دمشق لم تبق كما عرفها ابن عساكر سبعة أبواب بل أصبحت عشرة أبواب هي:
باب كيسان: وهو باب قديم رغم نسبته إلى مولى معاوية ويرمز هذا الباب لزحل.
الباب الشرقي : وهو بناء روماني رممه السلطان نور الدين الزنكي عام 1154م وعبرته جيوش المسلمين أثناء الفتح العربي للمدينة بعد حصارها واستلام أهلها. ويرمز هذا الباب للشمس
باب توما: بني في عهد الرومان، لكنه تهدم كلياً، فأعيد بناؤه في عهد الملك الأيوبي الناصر داود ويرمز هذا الباب إلى كوكب الزهرة
باب الصغير: وهو باب قديم أيضاً لكن الملك نور الدين محمود أعاد بناءه عام 1156م للميلاد. ويرمز للمشتري
باب الجابية:وأتت شهرة هذا الباب والباب الشرقي من عبور جيوش المسلمين منهما بقيادة خالد ابن الوليد وعبيدة بن الجراح لفتح دمشق. وسمي بهذا الاسم لأنه كان يؤدي إلى معسكر للجند، مكلفين بجباية الضرائب. وكان هذا الباب مؤلفاً من ثلاث فتحات، لم يستعمل منها الا الفتحة الجنوبية. وهذا النمط الثلاثي يؤكد أنه باب روماني ويرمز هذا الباب للمريخ.
باب الفراديس:ويعرف الآن بباب العمارة، وهو باب قديم يرجح أنه روماني، وهو مغمور الآن بالكتل السكنية والأسواق التجارية،ويرمز لعطارد.
باب الفرج: ويسمى اليوم باب المناخلية، باب مزدوج أقامه الملك نور الدين محمود وزالت معالمه الآن بسبب هدم الأسواق المحيطة بالقلعة
باب النصر:ولا يعرف الزمن الذي بني فيه هذا الباب، لكن الروايات تقول أن الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي قد بناه قد تهدم كلياً عام 1862م قبل بناء سوق الحميدية الذي كان هذا الباب يقع عند مدخله.
باب الفراديس الصغير أو باب الجنيق:وهو باب روماني صغير نسبياً تهدم بسبب عدم الاستخدام وما يزال مهدماً حتى الآن ويرمز هذا الباب للفخر
. باب السلامة:ويعرف الآن بباب السلام، ومازالت آثاره باقية حتى الآن.
دخلنا الى دمشق من غوطتها الغنّاء التي تقلصت مساحتها مؤخراً بتأثير التلوث والجفاف الذي يمر على المنطقة وخرجنا من أحد أبواب سور أحاط مدينة دمشق القديمة وحماها بكل حنان وقوة من تطفل الغزاة.
هل من لغة أو صفحات تكفي لشرح غالية كدمشق ووصف دهر مرَّ عليها فصقلها كجوهرة؟! هل من عطر قد أجمعه يكفي لايصال عبق تاريخ ونكهة الربيع الدافئ لغوطة تتألق شموخاً وسحراً ونضارة يحزننا اليوم ما زحف من العمران ليلتهم كالغول جزءاً واسعاً من غوطتها وآثارها ويجرحنا جفاف أصاب بردى اليوم نتيجة شح الأمطار كشح الدم في عروقنا. كأنها عروس أفاقت من جحيم الغزو المتلاحق على مدى التاريخ بعد نشوة الصبا على لوعة الفقد للخضرة والماء ولم تفقد من غواها وجمالها مما يجذب الدنيا إليها وكأنها مليكة على المدن جمعاء يرصعها في الليل بريق أنوار المد العمراني فتتألق كنجمة على رداء أسود ممتد لا ينتهي.
من أعلى قاسيون اليوم تتجمع مقاه نظمت بجانب بعضها كالعقد على جيد الحسناء ترى وأنت جالس بداخلها بيوتات دمشق وشوارعها ومآذنها وكنائسها وتصطف القصص والأمسيات وراء النوافذ وتختفي الأسرار وراء الستائر لبيوت ما اغلقت ابوابها بوجه زائر ولا أطفأت نارها لضيف.
يسكرنا هوى دمشق ويملؤنا فلاً وبنفسجاً يشبهها بتواضعه وجماله وعطره سلام عليها منا لأرض السلام والتوافق الديني والحضاري سلام على مهد العطر والخضرة ومزيج الأديان والأمزجة.
رئيفة المصري
التعديل الأخير بواسطة المشرف:
