زهرة في الرمال

دموع الورد

رئيس وزارء البيلسان

إنضم
Dec 19, 2009
المشاركات
13,384
مستوى التفاعل
139
المطرح
هنْآگ حيثّ تقيأت موُآجعيّ بألوُآنْ آلطيفّ..
رسايل :

يااارب انا في قمة ضعي وفي عز احتياجي اليك فكن معي

زهرة في الرمال ـــ باسم عبدو

رواية ـ منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق 2006


ـ 1 ـ
أسندتُ رأسي إلى وسادة ملأى بالذكريات، والشحنات المتجمّدة في سواقٍ شرَّدها الجفاف، وقهرتها فؤوس الفلاحين، وشوَّهت فضاءاتها "كاسيتات" المطربين، وفضحت أسرارنا الهمسات والرغبات والوصايا، فنضبت مياه الذاكرة، غارت في حَلْق الأرض، ونسيت محبَّتنا وعشقنا لها ولدروبها.‏
كنتُ ألتقط شذرات باردة، حمقاء، تعصف بلوثات النسيان. وحينما تحضر أمامي صورة وجهها، وتتراقص بغضب تعابيره المتأفّفة، تصعب عليَّ قراءة سرّ أنفها الصغير، وسفحيه المنحدرين إلى غمَّازتيها. أنف صغير شامخ، أبيّ، يرتفع قليلاً نحو الأعلى، فتسمو به ومضة جمالية متأهّبة للانقضاض في أيّة لحظة انسيابية على غُصن مقاوم، لكنّه سَرْعان ما ينحني بخشوع.‏
حاولتُ ممارسة سياسة الإقناع بمبدأ الحوار، الذي قرأت عنه في الصحف والبيانات. حاولتُ أن أتلو عليها أسئلتي بطريقة سرية جدّاً. وعندما تكتشف ما كنت أُخبّئه، تهزّ كتفيها، غير راضية عن هذا الإعلان. كانت تقول: (كلَّما وجدتُ الوقت المناسب، أخرج معك إلى شارع الصمت). تُطلق رأيها، تبدو في جمال هدوئها رائعة، ساخنة. أخاف عليها من نسمة باردة تلفح وجهها، وتقهر أنفاسها الدافئة، المتصابية.‏
أقرأ في نفسي قدرتها على التضحية. أعلم أنَّها لا تحرم نفسها من إغفاءة بعد الظهيرة التي لا تُضّحي بها إلاَّ عندما أُهاتفها، فتُسرُّ، وينتفخ وجهها، ويلمع، يُصْدر تموجات مغناطيسية، تجذبني نحوها، فأقيّد الوجع الدَّاخلي، أتأبَّط ذراعها، ونمشي في أقرب شارع يطمئنها على ذكريات طفولتها ومراهقتها، تحت زخَّات المطر. تلتصق بجسدي كلّما حاولت الريح دفعنا إلى الخلف.‏
قالت: أكره الحوار مع الرجال.‏
قلت: لماذا؟‏
أجابت: لأنَّه لا يهمُّني! ولست مسؤولة عن فشل الحوارات.‏
هذا مبدأ العصر، و"موضة" جديدة ملأت البيوت والمؤسسات والإعلانات والصحف والمنتديات.‏
كلّ جنس يتحاور مع جنسه... هذا التقابل بين الذكورة والأنوثة، هو تلاقٍ بين جسدين ولذتين فقط، فاترك رؤوسنا فارغة، ولا تُحمّلني أكثر من قدرتي.‏
توقفتُ عن الهذر. صممتُ أن أُلغي هذا اللغط الاستهلاكي، رغم إيماني الكُلّي بأنّهُ أقصر الطُرق لتحريك العقل، ونقل كلّ ما يختفي من الدَّاخل إلى الخارج، ودون أدنى شكّ بشفافية عصرنا.‏
هزَّتْ رأسها رافضة بقوّة استمراري بالكلام. وكلَّما حاولتْ الإفلات من يدي، شددتُها نحوي، فتبتسم راضية، ويخرج زفير أنفاسنا الشتائي متهالكاً. أفرح لأنَّ حرارة الحوار تلاشت، وخفَّ توهّجه، بعد أن ردعتني بأجوبتها، فانخفض منسوب الكلام إلى أدناه، وارتفع جبل الصمت، وتسلَّقت ضحكاتنا دروبه الصخرية، بينما كُنَّا نفتّش عن طاولة في أول "كافتريا" قبل أن ينعطف بنا الشارع إلى جهة أخرى.‏
كعادتي أزحت الكرسي، وكان آخر ما أملك من طقوس الذَّوق والاحترام، فأحسَّتْ بالكبرياء والنشوة. تحوّلتُ بعد أن تقابلنا حول الطاولة إلى رجل بليد. خبَّأت الكلام الجميل، ربّما كنتُ أحوج في هذه الساعة إلى مراجعة لنظريتي "المستوردة" التي عَبرت الحدود واجتازت كلّ المخافر ونقاط التفتيش.‏
كانت أمل تحترق ببطءٍ، وهي المتشوّفة، الغيورة. وبين لحظتي صمت وقهر، كنت أُعيد النظر إلى أنفها، وتحضر أمامي أنوف عائلتها، وما أعرفه من أعمامها وأخوالها.‏
توصلتُ في النهاية إلى أنَّ أمل ورثت أنفها من عمّها، علماً أنّها تعرفه بالصورة، فهاجر الرجل وهي طفلة، لا تتذكّر إلاَّ أنّه كان مديراً لأحد المصارف، وقرأت الخبر المنشور في صحيفة محلية، لا يزال والدها يحتفظ بها. وعندما كبرت، وأصبحت في الجامعة، في قسم اللغة الإنكليزية، تفهَّمت ما يدور حولها، وهي ابنة الموظف البسيط في شركة "الكبلات".‏
عادت ذاكرتها تتحرَّك في دائرة واسعة. لعنت ساعة التخرّج والتدريس وهذا الانسحاق أمام موجة عارمة من القرف والضياع والتقهقر الروحي‏
بين الناس.‏
كانت كلّما دار الحوار بينها وبين زملائها، قبيل الولوج إلى المدرَّج، تفطن بذكاء، تستمع بإصغاء إلى عُمر الذي ينطّط مفاتيح السّيارة في كفّه.‏
تتذكّر سهام صديقتها الوديعة التي انقلبت بين ليلة وضحاها إلى فتاة أخرى. رفعتْ أمل رأسها. ارتشفت قهوتها، رفعتُ رأسي، وارتشفتُ أيضاً ما تبقّى في فنجان القهوة. تقابل الوجهان في هذا الفضاء الضيّق، وفي هذا الزمن المقتطع من مشوارنا، ومن حياتنا، الذي ينبغي أن نستثمر كلّ دقيقة منه.‏
تنفَّستْ أمل بعمق. خرجت من صمتها. تأفّفت كأنَّها تُمثّل مشهداً. وتعتصر ذكرياتها، بينما كنتُ أفتح لها درباً للحكي.‏
سألتها: هل تريدين أن تأكلي أيَّ شيء يُذوّب المرارة، ويرطب حلقك؟‏
لم تكترث لسؤالي. قالت: سأبدأ أولاً ولو أنّني ضلع من أضلاعك، علماً أنَّها، تعرف أنَّ الكذبَ والغشَّ صديقان قديمان، يعودان إلى مستنقع آسن، وكلّما انتهى عقد الصداقة بينهما، يجدّدانه على ورق أبيض ناصع، وحبر من هذا العصر، يُطلق عليه أصحابه "العقد الاجتماعي". ووصل الأمر أنَّ الكذب تحوَّل إلى عادة جميلة، يكتسبها الناس بالتدريج، وتغلِّف الصِّدق بقشور الجوز، وتعفَّن. وكلَّما كسرت غلافاً، ولامس الصِّدق الهواء، تفتَّت قطعاً ونتفاً صغيرة، وتبعثر على الأرض كالبذار، والناس ينتظرون المواسم، والجفاف يزداد، وتنحبس الأمطار، وتتقلَّص الفصول، وتتبدَّل النفوس. وهذه التحوّلات والانقسامات والاصطفافات، هي من صناعتنا، ولم تأتِ عبر الحدود. وبالعكس كلَّما ازداد الكذب، وغاب الصّدق، تراجعت الحقيقة، وذبلت أوراق الحُبّ. وتقابلت الأغصان المُحمَّلة بثمار، تُحقن بالإبر كي تنتفخ، وتتحوَّل بقدرة قادر إلى أصناف من الدرجة الأولى، يصفُّها الباعة في الواجهات، ويرتِّبونها حبَّة حبَّة، وهكذا إنسان هذه الأيام، لا تعرف كذبه من صِدْقه. فعندما يكذب الموظف أمام مديره، يفرح المدير، لأنّه يكذب أمام رئيسه.‏
وكان عمّي رجلاً كذَّاباً من الدرجة الممتازة، وهو الحاصل على إجازة في إدارة الأعمال من جامعة دمشق منذ ربع قرن، وهو الذي كذب على أبي، ودفعه إلى العمل مُبكّراً بعد حصوله على الشهادة الثانوية العامة، في معمل "الكبلات"، وكان يقدّم لـه كل ما يحتاج إليه من كتب وثياب ومصروف، مُطْمئناً أنّه سيقابله بالمثل، ويُعطيه مقابل ذلك حصَّته من الأرض.‏
فرح والدي لأنّه سيصبح مالكاً، فهو رجل يحبّ الأرض، وهو الذي وقف في وجه جدّي عندما همَّ ببيعها. مات جدي، وبقيت الأرض، ثمَّ فقدها بلحظة ابتهاج، فباعها عمّي ليكمل دراسته في أوربا. وكان قد حوَّل ثلاثة ملايين ليرة من المصرف التجاري الذي يعمل فيه مديراً إلى أحد البنوك الأوربية.‏
وجَّهتْ أمل سؤالها قائلة: كيف أبدأ الحوار معك؟ الآن أريد أن أحاورك. أريد أن أعرف مصيري ومصيرك في أجواء تتفحَّم وتزداد غَلَساً ورعونةً.‏
قلت لها: فكرة واحدة أثارتك إلى هذه الدرجة، لكن أشكرك لأنَّك أعطيتني فرصة صغيرة، أو أنَّكِ فتحتِ كوّة في جدار العبث، وغليان النفوس، وعدم القدرة على إصلاح ما خرَّبه عمُّكِ، وكيف استطاع خلط الأوراق مع والدك، والنفاذ عبر مسامات الكذب. وتحيَّن كلّ الفُرص للفوز به وقهره وتركه ينتظر مشاريع المستقبل التي وعده بها... وتركه يتخبَّط في أحلامه.‏
كيف تراني أتحاور معكَ على بناء كذبة جديدة! ألا ترى أنَّ كلَّ السلال مملوءة بالفواكه والخضار المغشوشة! ألا ترى أنَّ أجمل التفّاحات وأكبرها تغطّي وجه الصندوق هذا هو الظاهر، المكشوف، وما يختفي تحت أفكارنا الجميلة، كالتفَّاح المصاب بالجرب، فأفسده السَّماد والدّواء، وكبَّر أحجامه، وخلَّصه من المذاق اللَّذيذ.‏
مذاقاتنا وأفكارنا أصبحت مهووسة بالكلام، في ظلّ فراغ الأمكنة التي أخلاها الصِّدق، وعدم الأمان لهذا الزمان، وما يعتريه من شرذمة وعزلة ويَباس.‏
لا تعرف أمل أنّني شاب مشتّت الأفكار، تتنازعني في مدٍّ وجزر أمواج صاخبة، فأعتلي موجة، وتهبط أخرى إلى القيعان. ورغم ارتطامها بالشاطئ، لا أصحو من وهج القرف الحاصل في كلّ شيء. فالهواء أُفْسِدَ، وزحف الأسمنت، والتهمَ جمال المدينة. لم أعد أملك القدرة على استيعاب هذه الدفاتر المخزونة في ذاكرة عائلتك، فتثلَّج صدري، وانغسلت مسامات يدي بعرق يدك.‏
انتفضتْ أمل، وسحبت يدها كأنَّ نَحْلة لسعتها، أو أنَّ أصابعي اللَّجوجة نتفت أرياش إلحاحها المتعاظم، فرشقتها بابتسامة، لأنّني أعرف أنّها تحبّ الابتسامات الخفيفة اللّماحة، وتكره الخشونة.... تعرف مهنتي طبعاً، فما زلنا منذ ثلاث سنوات نُدرِّس في الثانوية نفسها، وشدَّنا خيط التقارب إلى هذا الانسجام الذي يُغطي يومنا ويظهر عدم الانسجام أحياناً، حينما نختلف على قضايا أعدُّها كبيرة. أمّا الأمور الصغيرة، إذا توقفتُ عندها، فسَرْعان ما ننساها بعد فنجان قهوة "سادة". دائماً كانت تؤكّد على مظهري الخارجي. وكنتُ أُراعي شعورها، وأوافق على الألوان التي تختارها. وهذا أحد أبرز نقاط التقاطع والتلاقي والانسجام بيننا. وكانت تتقبّل مشورتي واقتراحاتي، بتبديل أحمر الشفاه، أو لون الحذاء والشَّال، وموديل الثياب، والتخفيف من وزنها، لتظهر أناقتها، ورشاقتها أكثر.‏
وفي هذا اللقاء الذي تكرَّر كثيراً، بخاصة في أماسي العُطل الأسبوعية والرسمية، حاولتُ قاصداً إثارتها. أردتُ أن أُجرّبها، لعلَّ التجربة تدلّني على اكتشاف مخزونها الدَّاخلي، ودرجة الغضب عندها.‏
قلتُ: هل تذكرين عندما كنتِ برفقة سهام، وأوصلكما عُمر إلى ساحة "الإطفائية" بسيارته. ونزلتما هناك عند محال "البالة". ومررتُ بجانبك، لكنّك لم تنتبهي إليَّ. وكانت سهام تختار ما يناسبها من القمصان، وكنتِ تقلّبينها بين يديك.‏
سحبتْ أمل محفظتها بغضب بعد أن استمعت إلى هذا الخبر، كأنّها تريد الانقضاض عليَّ. وازداد غضبها وغيظها حينما لمست أصابعي قميصها الزيتي.‏
كررتُ إثارتها، وقلت: رائحة البالة تعشّش في القميص. ثمَّ قرَّبتُ طرف معطفها الجلدي من أنفي، وأظهرتُ تقزّزي، وقرفي!‏
ظلَّ الصمتُ يُمزِّق انسجامنا، وازداد خوفي. أحسستُ أنّني أثقلتُ عليها كلاماً لستُ بحاجة إلى البوح به الآن، وفي هذا الوقت بالذَّات. أنا مثلك تماماً تمتصُّ الأيام العشرة الأوائل من الشهر كلّ راتبي، فلا تحزني... انظري إلى قميصي، وربطة العُنق، وهذا الحذاء اللَّماع، كلّها ابتعتها من دكان أبي قيصر، جارنا الذي كلَّما فتح "بالة"، أوَّل ما يحسب حسابي، فيعزل لي القطع الجيّدة، وكذلك يتعامل مع الجيران، ويتردّد على دكانه زُبُن كُثُر.‏

:10::10::10::10:

 

دموع الورد

رئيس وزارء البيلسان

إنضم
Dec 19, 2009
المشاركات
13,384
مستوى التفاعل
139
المطرح
هنْآگ حيثّ تقيأت موُآجعيّ بألوُآنْ آلطيفّ..
رسايل :

يااارب انا في قمة ضعي وفي عز احتياجي اليك فكن معي

ـ 2 ـ‏

اختلط الفرح بالخوف في تلك الليلة. وكلّما قطع الزمن ساعة، كان يُقَرّب موعد زيارتي لأهل أمل. وفي هذه الزيارة النوعية، سأتعرَّف على والدها، وأطلب يدها منه.‏
انشغلتُ بالقراءة، وتسجيل مذكّراتي، لعلّ ذلك يخفف ارتباكي. هجستُ بأمور المستقبل، ورتَّبتُ الكلام المناسب حين مواجهته.‏
كانت البداية الأولى لإعلاني المكشوف عن حُبّ أمل من أصعب الولادات الروحية. وهذا اليوم بالنسبة لي يختلف عن بقية الأيام.‏
اعتدت أن أفتح النافذة صباحاً، وأستقبل الشمس فرحاً، وأشرب القهوة في الشُرْفة المُطلّة على حديقة صغيرة مهجورة. وفي هذا اليوم "عُطْلة رسمية" استرخيت في سريري. اكتفيت بتكرار الأسئلة الدائرة في رأسي، المتغلغلة في قصص قديمة، تحكي عن الخوف الذي يربكني، فأنا أكره زيارة الأقبية والبيوت التراثية الواطئة. أحاول دائماً أن أتجاهل الأحياء القديمة وزواريبها، وأخالف كلّ الذين يدعون للحفاظ عليها، رغم أنّها واسعة، فسيحة، غرفها كبيرة، وسقوفها عالية، لكنّها تضجُّ بالناس وتعدّد العائلات...‏
أعود إلى السؤال الذي أرهقني: ماذا سيحصل في مساء هذا اليوم؟ هل يا ترى تكون أمل نهضت من نومها باكراً، وفي الموعد ذاته؟ وهي الأنثى الوحيدة في المنزل تعيش إلى جانب والدها الأرمل منذ عشر سنوات، وأصبحت بالنسبة إليه كظلّه، وكلّ شيء في حياته!‏
رجل في الثالثة والسّتين من عمره. تقاعد من عمله. يقضي معظم أوقاته في مقهى المتقاعدين. أمَّا أمل المدرّسة لمادة اللغة الإنكليزية، فهي المسؤولة عن نظافة المنزل وترتيبه وغسل الملابس وكيّها، وعن الطّبخ وسواها من الأعمال البيتية. كيف سيتخلَّى عنها، وبهذه السهولة يتقبَّل فكّ هذا الرباط! أتصوّر أنّه سيعقّد الأمور، وسيلزمني بشروطٍ قاسية يمكن أن تدفعني مُكْرهاً إلى الإحجام عن هذه الخطوة أو تأجيلها، علماً أنني أصبحتُ في الثانية والثلاثين، وأملك بيتاً متواضعاً، وراتباً شهرياً، وأعيش وحيداً. وهذه أحد الأسباب الموجبة، لاندفاع أمل نحوي، فلا حماة تناكدها، ولا أخت عانساً تراقبها، ولا أب يحاسبها على كلّ حركة تقوم بها. كل الشروط التي حدّدتها أمل متحقّقة، قبل أن نخطو خطوة واحدة. كنت صريحاً معها، فأنا في سنٍ لا يسمح لي بالتلاعب بعواطف الناس، فهي تريد أن تكون حُرّة، ومن حقّها أن لا يزاحمها أحد في بيتها الزوجي.‏
دار حوار طويل في لقائنا الثاني حول هذه النقاط، ومسائل أخرى، عن (مفهوم الحرية) مثلاً. اختلفنا من حيث الجوهر، واتفقنا على القشور. وكلّما حاولتُ نزع قشور البصل التي تُغلّف مفهوم الحرية، عادت من جديد، واستعادت موقفها القديم في النقاش الحامي، الذي كان يدور في غرفة المدرّسين. وكانت الآراء تتعدّد وتتباين. منهم مَنْ يقول: يولد الإنسان حُرّاً، لكنَّ الإنسان نفسه هو الذي يفرض القيود على حريته، فيسنُّ القوانين. ويقول آخر: الإشكالية في الأنظمة، وفي الغزو الثقافي. وقالت مدرّسة: الحجاب أفضل حلّ للمرأة، والمرأة مُلك للرجل... مكانها البيت، وينبغي أن تظهر بمظهر لائق، وتتبرّج أمام زوجها فقط، لإغوائه، وإبقائه قريباً منها، وكي لا يلتفت لغيرها، فهو المالك الوحيد لهذا العقار الأنثوي.‏
كانت أمل الأكثر قُدْرة على استيعاب "الموضة" التي تعدُّها جزءاً هاماً من حرية المرأة، والحرية كما تراها تبدأ من الخارج نحو الداخل. وخالفتها مدرّسة الرياضيات، قائلة: على العكس، تبدأ الحرية من الداخل فهو معقّد جدّاً، لتصل إلى الخارج، أي تبدأ من انفتاح العقل، فهنا القيادة المركزية لكل العمليات، وفي كلّ أوقات الحرب والسلم.‏
أوضحت أمل أنَّ المسألة الجوهرية هي في القوانين التي تقيّد وتكبّل المرأة، بينما الرجل الذي تكبّله بعض القوانين، والعادات السّيئة، المسكونة فيه، تُحبط كلّ طموح ومسعى للإلغاء أو التعديل، لكنّه، أي الرجل، يظلّ أكثر حرية من المرأة، فيخرج، ويعود، ويتنقّل، ويتحرَّك متى يشاء، بينما ما يحصل للمرأة أسوأ بكثير!‏
سكتتْ تداعياتي. توقَّفت عن الجريان واستقدام مقطوعات قديمة من حكايات أمل الاستهلاكية، ومواقف الآخرين والمراوغين أصحاب الوجوه المتعدّدة... الشيء المهمّ الآن، والأكثر صعوبة وتعقيداً، هو امتلاك الجُرأة، وتبديد الخجل الذي يعتريني أحياناً، ويمنعني من الإدلاء بموقفي. وهذا ما كان يحرمني من قول رأيي، وقول الحقيقة، عندما تجتاحني الرغبة في منع مَنْ يحاول أن يُدبّج كذبة، ويمرّرها بسهولة، ويدّعي مفتخراً، ويقول: إنَّ الكذب هو الشيء السائد اليوم، كما الشعار الذي يتردّد دائماً (بوس الأيدي ضحك على اللّحى).‏
أفرغتُ جُعْبة أفكاري الزَّاحفة في فراغ لا نهائي. أقنعتُ نفسي بأنَّ الهدف الرئيس الآن هو إنجاز مهمتي دون عراقيل كبيرة، حتى وإن طلب العمّ عبد الله والد أمل أن أكون "صهر بيت" نسكن معاً في منزل واحد، سأتقبّل الأمر بارتياح وهذا شرط من أبسط الشروط وأسهلها، عندئذٍ سأكلّف مكتباً عقارياً بتأجير بيتي إلى عائلة خليجية، واستثماره كلّ صيف، وبذلك يزداد دخلي، ويتحسَّن مستوى حياتي، وأتخلَّص من ديوني المتراكمة، والمزاحمة على القروض من مصرف التسليف الشعبي، لاستكمال تجهيز غرفة النوم، وتأمين تكاليف الزواج.‏
تنازعني أمران أحلاهما مُرّ، فمن جهة أخذ القلق يتمشّى بحرية في شراييني، كأنّه يستحمّ في دمائي، ولا أملك القوة على مواجهته، وكان الخوف يكشّر عن أنيابه، يرنُّ نباحه في أُذني، فأكتم أنفاسي، ريثما تتطاير الأوراق الصفراء، وينتهي خريف هذه الزيارة بأقلّ الخسائر من جهة أخرى.‏
حدثت تبدّلات جريئة، فخفت صوت اضطراباتي، وأنا أغلق الباب، وأنطلق فرحاً إلى الشارع أبحث عن سيارة أجرة للوصول في الموعد المحدّد، وهذا سيخلّصني من تشتتي، والبلبلة التي عصفت بي، ومن أول الطريق سأكون صادقاً. فالمواعيد الدقيقة هي مقدمة صحيحة، للمقولة الدارجة، بأننا لا نحترم الوقت. سأخالف آراء الناس، سأكون دقيقاً وصارماً مع الزمن.

 

mahmoud salih

Attorney General

إنضم
Jun 24, 2008
المشاركات
7,926
مستوى التفاعل
97
المطرح
الياسمين
رسايل :

ودموعي كالنجوم تأبى السقوط

رائعة جدا ...مشكورة اليسا

معك منذ البداية :24:
 

دموع الورد

رئيس وزارء البيلسان

إنضم
Dec 19, 2009
المشاركات
13,384
مستوى التفاعل
139
المطرح
هنْآگ حيثّ تقيأت موُآجعيّ بألوُآنْ آلطيفّ..
رسايل :

يااارب انا في قمة ضعي وفي عز احتياجي اليك فكن معي

♣ mooooody ♣;470147 قال:
رائعة جدا ...مشكورة اليسا



معك منذ البداية :24:


بتنور صفحتي اخ مووووودي

:24::24::24::24:

 

دموع الورد

رئيس وزارء البيلسان

إنضم
Dec 19, 2009
المشاركات
13,384
مستوى التفاعل
139
المطرح
هنْآگ حيثّ تقيأت موُآجعيّ بألوُآنْ آلطيفّ..
رسايل :

يااارب انا في قمة ضعي وفي عز احتياجي اليك فكن معي

ـ 3 ـ‏
رَوت لي أمل بعد أن انتهينا من شرب القهوة، وأحضر النّادل كأسين من عصير البرتقال، وتحوَّل الحوار من السخونة إلى البرودة. وتدخّلت العواطف والكلمات الحميمة الدَّافئة.‏
قالت: أعرف قصَّتك، قرأتها في كتاب التطور التاريخي للمجتمعات البشرية.‏
دفعتْ شعرها إلى الخلف، وظهر وجهها البلّوري أكثر صفاءً، غابت بعض التجاعيد الخفيفة عن جبينها.‏
أنتَ في وادٍ، وأنا في وادٍ. أين ذهب ذهنك يا رجل، وليس الأمر كما تتصوَّر إنَّ قصة الطبقات هذه، غير قصة تاريخ الطبقات.‏
سألتها: ماذا تقصدين من هذه التسمية يا أمل؟‏
إنّها طبقات الكذب، والكذب كما تعلم لا يشكّل طبقة واحدة، متجانسة مثل الطبقة العاملة، فهو يتعدّد ويتلوَّن، ويترقّى من أدنى درجات السلّم إلى أعلاها. والكذاب الشاطر المحترف، الانتهازي، يحقق النجاح في التسلّق قبل الكذَّاب الجبان، الخائف على ريشه من النتف السريع. وهناك طبقة الكذب المزدوجة، أو الشخصية المزدوجة، التي يتنقّل صاحبها بين طبقتين. فمرّة يحمل صفات هذه الطبقة، ويعدّه "عمّي" ابناً حقيقياً لها، لأنّه سرعان ما اندسَّ في صفوف الحزب، علماً أنّه، كما يروي والدي، كان قبل أن يصبح مديراً لأكبر مصرف تجاري في البلاد، أي عندما كان على مقاعد الدراسة، يدّعي أنّه كجدّه، بعظمه ولحمه، يحمل ملامحه الآسيوية. دخل البلاد مع إحدى القبائل المهاجرة.. هكذا كان يردّد عمّي في جلساته وهو يقرأ أصول وفروعها. شجرة العائلة. وكان يُمازحنا لأنه في الحقيقة لا يعرف أصولنا الحقيقية، لكنَّ الاسم يوحي لنا بأننا من "حرمون".‏
رجل طويل، يضفي شاربه شيئاً من الهيبة والصرامة، يميل لون عينيه إلى الاخضرار. مرّة كما يقول والدي: (يعكس صورة الأجنبي الذكي، ومرّة تكسو البساطة شكله الخارجي).‏
وكلّما تمعّنتُ في تفاصيل صورة قديمة لـه، وهو في السنة الدراسية الأخيرة، وقبيل تخرّجه، أتذكّر مدى الدهاء، وحبّ السيطرة والجشع، اللّذين يبدوان أنّهما صفات موروثة، غير مكتسبة، بعكس البساطة والودّ، فهما يشكلان أصالة والدي.‏
يمكنك ألاَّ تقلق من حديثي، وتتصوّر أنّني أدفعك إلى الحقد على عمّي "عطا". لقد انتهت قصّة العائلة، وما حدث قد أصبح من الماضي. ولا نواجه مشكلة الآن، فالأمور تسير بهدوء، ولا مَنْ يُعكّر صفاءها.‏
تيقّنت أنَّ أمل لا تكذب. كانت تحاول أن تفلسف درجات الكذب وتماهيها مع الواقع. أتخيّل أنّها تسترشد بوصايا أُمها "المرحومة" لأنّها تكرّر وتُعيد أقوالها كأنها فيلسوف عصرها، ولا تذكر قولاً لأبيها.‏
وعندما توقفتْ عن الحكي غير المجّاني في معظمه، بدا الحزن يشرب حُمْرة خدّيها، فأمسكتُ يدها، ودلكتها بين كفّيَّ. كانت باردة على الرغم من اعتدال الطقس الربيعي. وشجعتها للتخلّص من أفكارها واستطراداتها المبللة بعبق عتيق، مصاحباً بالتوتر، والبوح بعجالة.‏
قلتُ مواسياً: كلّ الناس هكذا... الكثيرون يكذبون، ويسوّغون كذبهم، لكنهم يطلقون عليه "الكذب الأبيض".‏
هل تُصدِّقين أنَّ هناك كذباً أبيض، وكذباً أسود؟‏
الكذب هو الكذب لا يتغيّر، لكن هناك كذبة صغيرة، وكذبة كبيرة. فعندما كنت طفلاً، وعمري خمس سنوات، وهذا من المؤكّد حصل معكِ، ويحصل مع كلّ الأطفال. مددتُ يدي إلى محفظة أبي، وسرقتُ ليرة سورية. وكانت آنذاك مبلغاً مرموماً، بالنسبة إلى طفل. لاحظت أُمّي أنّني أكرر زياراتي إلى دكان أبي بشير. وحينما اقترب موعد الغداء، استلقيتُ على سريري. أغمضتُ عينيَّ لعلّي أغفو، ففشلت محاولاتي. ورفضتُ نداء أُمّي لتناول الطعام.‏
تعرّضت مساء إلى مساءلة صعبة، بعد أن خرج والدي مع أحد أصدقائه. ارتبكتُ في الإجابة عن أسئلة أمي، ثم اعترفتُ لها بالذنب الذي اقترفته. وما زلتُ أتذكّر أنّها لم تضربني. ابتسمت أُمّي، ونبهتني، وحذرتني من تكرار ما قمتُ به. قالت: (السارق يا بُني تقطع يده. وإذا كرر السرقة يقطع الشيخ لسانه. أي العين بالعين والـ....).‏
بلتُ على ثيابي من الخوف. وسال خيط الماء على البلاط. تركتُ أُمّي وأسئلتها ووصاياها وهربتُ مسرعاً إلى غرفتي، ندمتُ على ما قمت به. وتعهدت في نفسي ألاَّ أكرر السرقة ثانية.‏
كنتِ تريدين أن تقولي إنَّ عمك سرق الأموال، فهو لصٌ كبير، والسرقة كما تلاحظين رافقت الإنسان. ويكذب السارق إذا تعرَّض للمساءلة، وحتماً سيقول: (ورثتُ هذه الأموال من أبي أو عمّي الغني...) ويمكن أن نسمّي هؤلاء (سارقين وكذَّابين)! وعمك كذب كذبة كبيرة... وكلّ شيء لـه حسابه.‏
أقول لك إنَّ حبل السرقة، كما هو حبل الكذب، قصير جدّاً، لكن عندما تتكاثف وتتضخّم تلال السرقة، تتحوّل إلى قضية كبيرة. ألم تقل لك أُمّك (الذي يسرق إبرة يمكن أن يسرق جملاً).‏
أشرقت الابتسامة. وكان النُّور الهابط من سقف "الكافتيريا" يعطيها ألواناً برتقالية، بلون العصير..‏
أكَّدت أمل كلامي. قالت: الحقُّ معك. يجب علينا أن نميّز بين الكذب والسرقة، وبين السرقة الصغيرة والكبيرة، وبين الفساد والإفساد، وما حصل معك عندما نشلت ليرة من محفظة أبيك، حصل معي أيضاً، لكّني سرقت نصف ليرة من محفظة أُمّي، واشتريت بها أحمر الشفاه، فتورَّدت شفتاي.‏
تضاحكتْ أُمّي وهي تراقبني، وأنا "أَتَغَنْدر" أمام المرآة. رَّبتتْ على كتفي ساخرة (الله يكبِّرك يا بنتي، لاحقة على الغندرة. أنتِ جميلة بدون هذه الصبغة... عمري خمسون عاماً وربيّت كل أولادي، ولم أصبغ شفتيَّ وأتغندر إلاَّ في ليلة زفافي...).‏
سألتْ أمل: هل تعرف الحكومة كلّ السَّارقين؟ وكيف تسكت عن مثل هذه الجرائم، تشمُّ الحكومة يا حبيبتي تلك الرائحة الكريهة، فأنفها يستنشق كلّ هواء البلاد، ويملأ زفيرها كلّ الأماكن الرسمية والشعبية. والدليل على ذلك ما تنشره يومياً الصحف المحلية، لكّنها تكتم أسرارها عنّا. كلّ دولة من دول العالم لها أسرارها الخاصة. والسرقة الكبيرة هي سرّ كبير، والصغيرة هي سرّ صغير، سَرْعان ما يظهر في أعمدة الصحف. ألم تسمعي، فمنذ أيّام فاحت رائحة شركة "محروقات"، وسرقت إحدى الموظفات أكثر من مليار ليرة، وهربت، لكنَّ الحكومة رأت أنها تسرق دفء المواطنين وتعويضات التدفئة، فلاحقتها وأعادتها إلى البلد، وقرأت السَّارقة قصّتها، وقصص الذين اشتركوا معها، وكلّهم شخوص رئيسة في هذه الرواية.‏
أية رواية؟‏
رواية من القطع الكبير، عنوانها "السرقات".‏
إذا قُدِّر لك أن تسرقي الحُبّ من قلبي، فأين سأحاكمك؟ وفي أية محكمة؟‏
إذا تمَّ ذلك، ونجحتْ خطّتك، فأين تخبّئين المسروقات؟‏
وضعتْ أمل يدها على قلبها. قلت: إنّه مكان آمن، مُحصَّن، لا أحد يكتشفه بسهولة، وهذه ثروتنا، علينا ألاَّ نبدّدها، أن نحافظ عليها كي لا تخرج مشوَّهة. والحُبّ المشوّه، مولود مَعوق يعيش حياة ناقصة بين أترابه الذين ينظرون إليه نظرات الشفقة، وأحياناً يسخرون منه، فينفر منهم، ويبتعد عنهم، ينزوي بعيداً في باحة المدرسة، وفي أمكنة اللّعب، خوفاً من تشويهه أكثر.‏
في هذا اللقاء شعرتُ أنّني في أفضل حال. تطابقتْ آرائي مع آرائها. وهذا إلى حدّ ما يساعد على إعادة تشكيل صيرورتنا وتماهينا، وهو من جانب آخر، وفي تصوّري، إذا استمرَّ هذا الاندماج عن دراية ووعي، سيكون صائباً. وإذا ظهرت بوادر خلافية مع المحافظة على هذه الصيرورة، فهو الأكثر قدرة على الاستمرار والديمومة.‏
أثنتْ أمل على صحّة هذه الفلسفة التي تسمعها للمرة الأولى، لكّنها عارضت كيفية صياغتها بهذا الشكل. تبلور عندها مفهوم آخر. تحوَّلت إلى امرأة من نوع آخر في نظري، عندما شرحت موقفها من "فلسفة الحُبّ" هذا الكائن الخلاّق الذي وصفته بالتجدّد إذا كانت التربة التي ينمو فيها غير معرضة للتملّح. أمَّا إذا كان الحُبّ سلعة رخيصة في سوق التداول، يبتاعه أيٌّ كان وفي أيّ زمان، فهو مُعرَّض لتشكيل أغشية رقيقة، من السهل خدشها بدبّوس، وتنفيسها. ويحدث هذا دائماً بين البشر الذين يدّعون أنّهم جبلوا من طينة واحدة.‏
رفعتُ يدها بقدسية، وقبَّلتها بفرح. لم تُمانع، وفهمتُ من نظرتها الوديعة أنّها تذكّرني بموعد زيارة أبيها، كي نستكمل مشروعنا وفلسفتنا، لأنَّ مشروعنا مُكْلف من الناحيتين المادية والروحية، وتحتاج فلسفتنا إلى تفسير وشرح لأركانها، والأعمدة التي سينهض عليها هذا البناء.‏
تستحقُّ هذه الجلسة التسجيل في "كاسيت"، فقد أمتعتني أمل بجمال حديثها، وهذه القدسية النّورانية، والإلحاح المسحوق تحت أقدام مشاعرنا، المشدود بخيوط من الحرير المقدّس، المكرّس للنذور على جدران مقام السّيد المجهول الاسم.‏
أحسستُ أنّني في زيارة لأَفي نذوري بدون لهاث وقهر أو ندم. إنَّها تَشْغل تفكيري، وتَدْخل إلى قلبي بعاهاتها. تدسُّ أتفه الأفكار والمشاريع بين زفيري وشهيقي، فيخرج فساد روحي نظيفاً من الغشِّ واللعنات.‏
طوَّقت ذراعاي عنقها. دسستُ أنفي في شعرها الأسود النّقي، الصافي، فاحترقتُ، واشتعلتُ من الدَّاخل، وهي تشتعل أيضاً، ويتأجّج اللَّهب في جسدها، فعجزتُ رغم مقاومتي، وصبري عن إطفاء حرائقنا. تراجعتُ وتركتها تُصلح ما خرَّبته أناملي.‏
نَظَرتْ إليَّ بعينين ذابلتين. حفظتُ جيّداً ما أكَّدته عليه، ونحن نترك "الكافيتريا" خلفنا. نترك دفئاً، وجيشاناً، ولهاثاً، ظلَّ أسيراً تحت سقف صدرينا. ولا يمكن أن أنسى ما أوصتني به. سأكون عندها مساءً، وأبدأ ببناء فلسفتنا الجديدة!‏

 

دموع الورد

رئيس وزارء البيلسان

إنضم
Dec 19, 2009
المشاركات
13,384
مستوى التفاعل
139
المطرح
هنْآگ حيثّ تقيأت موُآجعيّ بألوُآنْ آلطيفّ..
رسايل :

يااارب انا في قمة ضعي وفي عز احتياجي اليك فكن معي

ـ 4 ـ
رغبتُ في السَّير على الأقدام. قلتُ: جميل مساء دمشق في هذا الفصل من عام 1990. سأنطلق من بيتي الكائن في آخر شارع هاشم الأتاسي. وعندما أصل الدَّوار. سأتجه نحو اليمين، ثم أنحرف شرقاً، وسأصل إلى حيّ العمارة بعد نصف ساعة.‏
دارت هواجسي دورة واحدة، ونحن نترك "الكافتيريا" خلفنا ليلة البارحة، ونقطع "ساحة التحرير"، وننحرف بعدها إلى اليمين، وتكون على يسارنا "محطة الجدّ" للمحروقات.‏
دفعتني أمل، وهي تتأبّط ذراعي، فدخلنا زقاقاً طويلاً مستقيماً، سيلفُّ بنا إلى دمشق القديمة. توقفنا قليلاً عند بائع عرانيس الذُّرة، واشترينا عرنوسين...‏
قالت أمل: لا تنسَ الموعد غداً، نحن بانتظارك!‏
قلت: كلّ شيء في كفَّة، وموعدنا في كفَّة... سيحتل مكانة خاصة، فكوني مستعدة لأي طارئ، وأية تبدلات في موقف أبيك.‏
تركت أمل تلج مدخل بيتها في الساعة التاسعة مساء، عدت إلى منزلي مُحمَّلاً بتباشير الغد، وأحلامه.‏
أطفأت الأنوار. فتحت النافذة المطلة على الحديقة كعادتي، التي أصبحت مأوى للسكارى والمشردين. أشعلتُ سيجارة. بدأ الفأر يلعب في عُبّي. مزقتُ من ذاكرتي المخطط الأول لبرنامج الزيارة. صححتُ خطّ السير، ونقطة الانطلاق والوصول. وكان همّي الأكبر هو كيف سأواجه العم عبد الله، ومن أين سأبدأ الكلام؟‏
عادت طقوس البارحة. حضرت طازجة، بكل اختلاطاتها ورونقها وفحيحها وصمتها سمعتُ كلاماً كثيراً عن أبيها، عن طباعه، حياته اليومية، نفسيته، وعن الاحتمالات التي يمكن أن تقف في طريق مستقبلنا... قالت: إنَّ والدها أسرَّ لها ما في أعماقه من أحاسيس... وحاولت بإلحاح ليَقْبل طلبي لأَنّني كما قلت لـه: أحبّه!.‏
قال والدي: أنتِ تفصّلي وأنا ألبس يا بنتي، لماذا تبكين؟ ومسح دموعي. ثمَّ بدأ يتأمّلني، ويخز روحي بعواطفه. يتساءل: ستتركينني... سأكون وحيداً يا أمل لم يبق لي في الدنيا سواك... لم يبق حولي أحد... أختك تزوجت وهاجرت.. أخوك تزوج وسافر إلى الخليج. لم أره منذ عشر سنوات، وأنت! وأُمُّك رحمها الله تركتني وبكّرت في رحيلها!‏
تراخت تداعياتي. انتفض شرودي، وبصعوبة لملمتُ أشلاء أفكاري، وتساءلت: أين المشكلة؟ رضي أم لم يرضَ! وافق أم لم يوافق! هي إرادتنا وَحدها... سيوافق حتماً، لأنّه عندما يعرف أنّها تخرج معي، يطمئن عليها، ويُسرّ، فهو إذاً يتابع تفاصيل حياتها اليومية. وأمل أيضاً لا تخبّئ عنه شيئاً، فهي تحترمه وتقدّره وتجلّه، وهكذا تَربّتْ على الصدق، وهي الآن في نهاية العقد الثاني من عمرها، ومدرّسة محترمة، نشيطة، محبوبة من طالباتها ومديرتها، تعي ما تقول. تقرأ الصحف، تتابع بعض الدوريات والروايات العربية والعالمية. أنا أعرف بعض التفاصيل عن يومياتها وسلوكها، ومناقشاتها، وتباين مواقفها في عديد من المسائل مع أبيها وزملائها وزميلاتها. كثيراً ما كانت تلخّص لي مضامين الكتب التي تنتهي من قراءتها، فتسرّني، وتوفّر عليَّ الجهد... علماً أننا نصل بعد المناقشات الطويلة إلى سكَّتين متباعدتين. وتتّهمني بتصلّب موقفي وعنادي، وبأنّني رجل خشن، رغم اعترافها بنضارة شبابي وأناقتي. وفي كلّ مرّة تحاورني، تسمع كلاماً جديداً، وتعترف بأنّها امرأة غيورة، لكنّي لم ألحظ غَيْرتها. وعدتُ إلى ذاكرتي. ألهمتني الفطنة أنَّ ما قالته صحيحاً. تذكرت، ونحن نقطع الشارع في نهايات امتحانات العام الدراسي أنّها تراجعت إلى الوراء خطوتين، عندما سلَّمت عليَّ مدرّسة أقل جمالاً منها. التقينا مصادفة، ونحن ننتظر الإشارة الضوئية لنقطع الشارع وبعد اعترافها بمبدأ الغيرة وعدم التخلي عنه أصبحت أتجنب مثل هذه المواقف المُحْرجة. وعندما انتصف الليل توالدت أفكار جديدة، ظهرت بأشكال وألوان متغايرة عن المألوف. خربشت بطباشيرها على سبورة ذاكرتي وأحلامي، فأنتجت معرضاً تشكيلياً، لم أحسب لـه حساباً بأنَّ لوحاته ستُعرض، بهذه السرعة... اختلاطات هاجسية قَدِمت زاحفة، فضّيعتُ كل حساباتي التي ظلّت تمشي معي وترافقني طوال هذه السنين، ثمَّ تعبر في أضيق ممرٍّ، وفي هذه الليلة، بينما كنت بأمسِّ الحاجة إلى الهدوء، وصفاء الذهن.‏
أقنعتُ نفسي بأنَّ في الإعادة إفادة. أذهلني انفجار، يبدو أنّه بعيد عنّي، فتسلَّقتُ السُّلّم إلى سطح البناية. كانت ألسنة اللَّهب تتصاعد، تتخلّلها الأدخنة من الجهة الشرقية... تدفعها الرياح القادمة من محطة للمحروقات في منطقة الأزبكية.‏
بقيتْ أفكاري حبيسة بين جدران الصمت والهدوء المسكون بأنفاس النوم. وكاد النُّعاس يلفظ آخر آهاته، يحثّني على العودة إلى الشاشة الصغيرة.‏
فتَّشتُ في عديد الأقنية والأقمار. فأنا أوَّلَ مَنْ امتلك "الديجتل" بين جيراني ومعارفي. ومن قناة إلى قناة، وجدتُ فيلماً فرنسياً، سحبني معه من بدايته إلى نهايته. تسمَّرتُ أمام الشاشة كتمثال، وكلّما كانت الأحداث تقترب أو تتقاطع معي ازداد شوقي لمعرفة النهاية.‏
كانت عشيقة البطل، كأنّها تحكي قصة أمل، قصة تلك الطالبة في جامعة السوربون، القادمة من الريف الفرنسي... الفتاة الحالمة بعالم آخر يخلَّصها من عنف الأب، المتوهج حماقة، والأم الحنون.‏
قلت بصوت مسموع أخاطب روحي الحائرة: هذه أحوال الدنيا... لكلّ فتاة قصة، ولكلّ حالة خصوصيتها، لكنَّ أمل تختلف بأمور كثيرة عن الفتاة الفرنسية... أنا أعرف أكثر من أبيها حالتها، لقد رافقتها تلك الرحلة التي لم تنتهِ بعد. وأقنعني سفر الحُبّ الطويل، بأنَّ ما يجري في فرنسا، يختلف بمواضع ومواقع عديدة، عمّا يجري عندنا!‏
الصباح الوردي في هذا اليوم يختلف عن صباحات الأيام السابقة اللَّقيطة، فلا رياح تهزّ نوافذ البيت، وتلقي بأوراق الأشجار في الشرفة، ولا غبار يتسلّل عبر "الأباجورات" إنّه طقس معتدل. تغطي الغيوم جزءاً من السماء، ومن الحي والحديقة... وتختفي تحتها بعض أحلامي، وبعض مفرداتي المكرورة التي لا حاجة إليها الآن. وبين غيمة وغيمة كانت خيوط الشمس ترسل دفأها وحُبّها، ويشرق وجهها أحياناً، يضيء عتمة روحي.‏
كعادتي حملتُ قهوتي الصباحية. ركّزتُ قعدتي في الشرفة، أنتظر بفارغ الصبر، زوار الأقنعة والقَناعات المتحجّرة. ربّما غشّني المظهر الخارجي لوالد أمل، ربّما هكذا خلقه الله، قشرة متكلّسة، جامدة، جافة، لعلَّه يكون شفافاً.... سأحاول معرفته. أتمنى أن يكون قلبه كقلب طفل، كما قالت أمل عنه، لكنه يقسو عليها يُشْبعها كلاماً قاسياً في ساعة غضبه.‏
وعندما تكررت هذه الأغلاط، وساءت النوايا، ازدحمت الأسئلة في وجهه، كأنه لم يصدق أنه سيصبح وحيداً! كيف تنقطع هذه النُسغ، ويمرح اليأس والصمت في بيت ظلَّ فترة طويلة يعتزُّ بأُنسه؟ كيف وكيف، ولماذا؟ دفعتْ أمل إلى تجرّع السُّم، ففقد الأب صوابه، غامت أحلامه في أغوار الندم، فاعتذر منها، وهو يصلّي فوق رأسها في المستشفى. حَمَدَ ربّه لأنَّ السّم الذي تجرّعته كان غير كافٍ للموت!‏
مسح دموعه ودموعها. قبّل جبينها. حاولت أمل ألاَّ تلتقي عيناها بعينيه. أتذكر الآن كيف تركها تسترسل بملذّات الخوف، وخرج وهو يفتّش عن المسوّغات لمواقفه السابقة واللاّحقة، فأرخى ستائر بصره فوق بلاط الممر الطويل، النظيف. حاولتُ ألاَّ أصطدم معه، فلذتُ عنه في زاوية، ودخلت غرفة أمل، أنثر فوقها ورد الكلام. أفتح قلبي لها، علماً أنَّ علاقتنا كانت حديثة العهد، فأسرَّت إليَّ، وفتحت كل النوافذ، وفضحت كل الأسرار، في جعبتها الملأى حتى الطوفان.‏
لا داعي الآن لنبش الكلام الذي لا يروق لي في هذا اليوم، لكنّي لم أقدر إلاَّ أن أعيد الماضي بلحمه ودمه وعظامه، لأعيد ما عرفته، وما سمعته عن عبد الله، وهي طقوس تتكرر لاهثة، تصطف قبل أن أخطو خطوة واحدة في هذا المساء اللَّعين!...‏

 

mahmoud salih

Attorney General

إنضم
Jun 24, 2008
المشاركات
7,926
مستوى التفاعل
97
المطرح
الياسمين
رسايل :

ودموعي كالنجوم تأبى السقوط

دموع الورد

رئيس وزارء البيلسان

إنضم
Dec 19, 2009
المشاركات
13,384
مستوى التفاعل
139
المطرح
هنْآگ حيثّ تقيأت موُآجعيّ بألوُآنْ آلطيفّ..
رسايل :

يااارب انا في قمة ضعي وفي عز احتياجي اليك فكن معي

5 ـ‏
قبل أن ينعطف الشارع إلى بيت أمل بمئتي متر، كان مقهى النوفرة يتأجج، كأنّه لوحة مزخرفة من القشّ صنعته فلاحة ماهرة. سيَّاح يتحلَّقون على شكل نصف دائرة. تتشارق أنفاس "المؤركلين"، ثمَّ يسود الصَّمت، بينما كان الحكواتي يتلو بصوته الجَهْوَري قصصاً، سمعتُ بعضاً منها من والدي. حاولت الإمساك ببقية الأجزاء، لكنّها تناثرت كالهبوب.‏
الذكريات غير مجدية في هذا الوقت. ألقيتُ آخر نظرة. تابعتُ مشواري في زقاق ضيّق. قرأت على الأبواب العتيقة عنوانات المطاعم (ألف ليلة وليلة) ومطعماً آخر أكثر جمالاً، لـه باب واسع، تصعد إليه بوساطة سُلَّم إلى الطابق الثاني. كانت أصوات تخرج منه، وموسيقا وغناء، على الرغم من المادة العازلة التي تغطّي جدرانه من الداخل.‏
نادلان يقفان يرتديان ثياباً بيضاء، عند زاويتي الباب كأنَّهما تمثالان من الجصين. دعاني أحدهما أن أتفضّل، وهذه عادة متطبّعة في المدينة، ولغة تجارية دارجة، ليس في المطاعم، بل أثناء مرور الناس والسيّاح والغرباء أمام المحال التجارية في سوق "الحميدية". ويسمع هؤلاء كلاماً جميلاً، وترحيباً فائقاً، حتى إنَّ البعض يخجل من كثرة الدعوات المجانية التي تغتصب كلّ الرغبات، لكن الجاهل بأمور المدينة، وحركتها وصخبها، وبالعلاقات التجارية، يغمره الفرح، ويشعر بخلاف ما يسمع، أنَّ أهل المدن كرماء، مثل أهل الأرياف.‏
وتتغير صورة المدينة في ذهن القروي، ولكن بعد زمن قد يقصر أو يطول، وهو الذي يعرف مُسْبقاً أيضاً أنَّ (ابن المدينة يملك من الشطارة والدهاء، ما يجعل القادم إليها يحسد أهلها، وتبهره الواجهات البلّورية اللّماعة والأنوار الملوّنة والموديلات...).‏
القادم من أطراف المدن لم يَعْتد على تداخل الأصوات والألحان وروائح العطور. لذلك عندما يعود مساءً إلى قريته يكون مثقلاً بالمشاهد والحكايات والحاجيات، وتكون معدته ملأى بالأطعمة الشّهية والحلوى والشراب وسواها. تتقاذفه الأسئلة، وتعبث بصرره وأكياسه أيدي الأولاد، الذين يفتّشون عن الحلوى والصنادل والثياب المدرسية. وعندما يفشي سرّه إلى زوجته، عن حياة النعيم والعيش الرغيد في المدينة، يشعر أنّه يعيش خلف العالم، بعيداً عن مناطق البهجة والفرح والرفاهية. فالأرض سرقت عمره، وفيها غرس آماله، لكنّها لم تُنتج سوى المتاعب، وانتظار ما بعد سنوات القحط، ونقص الماء، وانحباس المطر. وهذا لا ينطبق على كلّ القرويين، فقد كان بعضهم أكثر معرفة، يزهو مفتخراً بأنه ما يزال يغرس فأسه في أرضه، ويرفض بشكل صارم أن يبيع منها متراً واحداً للتجار وأصحاب العقارات. وآخرون عَلَتْ قاماتهم، ومساكنهم بعد أن كانت واطئة المنحدرات.‏
وأنا في هذا الوضع، وأثناء مروري في سوق الحميدية الطويل، أتمتّع بجماله وآثاره الصامدة منذ قرون، وأحجاره المتماسكة الرائعة الأخّاذة، بخاصة بعد أن رُمّم السّوق، فكشف عن وجهه الحضاري ـ التجاري الجميل. وفي شماله انفرجت ساحة واسعة، فظهرت القلعة كصرح لـه تاريخ طويل من الصمود، والقدرة على تَحمُّل عاديات الزمن، بسُمْك جدرانها، وارتفاع سورها، وأبوابها وقاعاتها ودهاليزها.‏
انساقت الذكريات... عادت كأنّها تحدث اليوم، همهمت خيول الدرك الفرنسي في رأسي، وهي تُداهم القلعة وتحاصرها قطعان الفرنسيين، كأنَّ آثار نعالهم، وحذوات خيولهم، ما تزال تختبئ تحت قمصان الأسفلت.‏
تناسيت كلّ الأشياء الغرائبية في هذا الوقت، ولا أعرف كيف تقادمت ساخنة بهذه السرعة. إنّه المكان الذي يُفجرّ المُخبَّأ، ويدفع المنسي إلى السطح. يفوح بدفء حبيس، مُريح، مهما كان الفضاء ملوَّعاً بأشكال الاغتصاب والاحتراق والتشظّي.‏
تذكّرتُ حكاية تلك المرأة السّاذجة، الفلاحة القادمة من الجنوب في ستينيات القرن العشرين، عندما خبَّأت صُرَّة الدراهم في عُبّها، ولفتها بقطعة قماش، وخاطتها جيّداً، خوفاً من اللّصوص والنشَّالين، وهي الأرملة التي جمعت قروشها وليراتها، لتوفرها إلى حين الحاجة، والطلب. ومن كثرة ما تلقّت الوصايا والإرشادات من جاراتها اللّواتي أمضينَ عندها سهرة ممتعة، وهُنَّ يتساررنَ. حثثنها على الحرص، وأوصينها بشراء بعض الحاجيات لهنَّ.‏
دخلت المرأة بشوق إلى السُّوق. شعرت بالراحة. وهي تتفيّأ تحت السقف الطويل المقوَّس، وببرودة منعشة في نهاية صيف قائظ. تبدّلت أساريرها. تيقّظت هواجسها، نابضة، حارة... تمنَّت أن تملك المال بما يكفي لابتياع الأقمشة والثياب، بعد أن لاقت ترحيباً بها من عمال المحال، الواقفين على الرصيف ينتظرون الزُّبُن بفارغ الصبر.‏
كانت المرأة "الغشيمة" تسلّم عليهم، ولكنَّ بعضهم لا يرد على سلامها. تعجَّبت المرأة من عبث أهل المدن، وسطحيتهم... تندم على تسرّع الحُكم عليهم، تعود إلى بساطتها، وتقول: إنَّهم لطفاء وطيّبون، تتلامح فوق وجوههم علائم الصِدق، وإن كان بعضهم يلوي رأسه عنّي، بحالة قرف واستهتار وتشاؤم.‏
انتصف النّهار، ولا تزال المرأة تتنقَّل في السّوق من رصيف إلى آخر، ومن واجهة إلى واجهة أخرى، ثمَّ عبرتْ الدخلات المتفرّغة على يمين السوق ويسارها.‏
لم تبالِ بآلام قدميها ورُكبتيها ووجع ظهرها، لكنَّ موعد انطلاق الحافلة إلى القرية قد حان، وإذا تأخرت ستضطر إلى المبيت في المدينة، وهذا أمر صعب جداً.‏
حَبَكت المرأة بدهاء، ومراوغة، قصّة رحلتها إلى المدينة. وأصغت الجارات إليها بأذهان صافية، وتشوّق للاستماع إلى أخبار المدينة. وكلّ واحدة تتحرَّق، بل وتشتهي زيارتها، التففنَ حولها، حاولنَ الاستمتاع بكلّ التفاصيل. ضحكنَ طويلاً، وتهاطلت دموعهنَّ، عندما أسرَّت إليهنَّ، بأنّها كانت تُلقي التحية والسلام على مَنْ تراه في طريقها ماشياً، أو في الواجهات البلّورية النظيفة، وأنَّ أحداً من هؤلاء لم يستجب، ويكلّف خاطره، ويردُّ التحية بمثلها. ومازحتهنَّ قائلة: خرج رجل من محلّه، وشدَّني من يدي، ثمَّ من ثوبي، فَمَانعتُ، وصرختُ في وجهه، وتفلتُ عليه، وهَوَت يدي. كدتُ أصفعه، لكنّه تراجع إلى الخلف... وتجمع جيرانه. التفّوا حولي يتساءلون، وكي يُنقذ نفسه من هذه الورطة، اتّهمني بالسرقة وقالت أيضاً: التجار شُطَّار، يعرفون من أين تؤكل الكتف، فينهالون على الضحيّة بعسل الكلام. يعرضون بضائعهم، فاشتريتُ دون أن أدري.‏
أعلم جيّداً أنّني أُعيد قراءة أشياء من الذاكرة القديمة، لا تخطر على البال. وأكاد أنسى المهمة الشائكة المزمع تنفيذها، والموعد التاريخي الذي سيتقرّر فيه مصيري سأكون مغتبطاً، وفي أوج سعادتي، عندما أصل في الموعد المحدّد، ولا تزال المسافة تحتاج إلى حثّ خطواتي أكثر. ولا أعلم ماذا يُخبّئ لي عمّي من مفاجآت، رُبّما ستكون سارة!‏
المهمُّ الآن أنَّ ثقتي لا تتزعزع بأمل، وهي كذلك، تملك احتياطاً كبيراً ووافراً من المشاعر الصادقة، والرؤية الواضحة.‏
سأحصر تفكيري في فضاء ضيّق، سأبعد عنّي الهواجس الضَّارة، فيما تبقّى من أمتار، فالزّقاق يلتوي نحو اليمين واليسار، وأنا أتجنَّب بائعي الخضار الذين يدفعون عرباتهم ويسوّقون بضائعهم، ويلحّنون بأصوات رنّانة، وهم يتقاطرون وراء بعضهم.‏
ملأتْ أنفي روائح الفول النابت، وجحظتْ عيناي، وأنا أدسُّ بصري تحت ملاءات النسوة اللّواتي يمشينَ خلف أزواجهنَّ.‏
عاهدتُ نفسي ألاَّ أكرر الزيارة في هذا الوقت، وفي هذه "الزواريب". لا أعلم كيف ستسير الأمور في هذا المساء، لكنّي سأكون متفائلاً مهما كانت دواعي القلق التي تحزُّ سكّينها في روحي، وفي جسدي.‏
آخر الخطوات يبدو أنها مشوبة بالخوف، وأنا أدلف في نهاية زقاق مغلق. وبينما كانت أمل تشرق، شممتُ رائحة عطرها، وتلقفتُ ابتسامتها بمحبة. كانت تنتظرني على باب المنزل في تمام الساعة السادسة مساء.‏
* * *‏
دفعتني أمل أمامها... ودفعتني رغبة بهمّة عالية أن أخطو وراءها. أن أترك لعينيَّ حرية البحث والتجوال فوق جسدها، أن أطلق الحرية لخيوط البصر، تتسلّق كل الأشياء المرئية، ولحرية السمع أن تتلقّف كلّ الهمسات.‏
خرجت دقات قلبي المرتعبة تتساقط أمامي، مغسولة بحبّات العرق. كانت تحاول أن تخفف من وقع خطواتها فوق البلاط المزخرف ذي الأشكال الهندسية الرائعة.‏
ينتهي "الإيوان" إلى فسحة الدار الواسعة، ككل البيوت الدمشقية القديمة المحملة بروح التاريخ، ورائحة الياسمين. تتوسط بحيرة أرض الدار, تطلّ السماء عليها ضاحكة نهاراً بشمسها، تسقط النجوم ليلاً متهامسة فوقها، راقصة، وعندما تعطش، تمدّ ألسنتها البلّورية، وتشرب حتى ترتوي.‏
الوقت الآن لا يسمح بأي حديث مخالف للأعراف السائدة، والتقاليد التي نخرها تسابق الزمن والتقدم الذي يطحن الأفكار والرؤوس كحجر الرَّحى.‏
لمحته يداعب سُبْحته الأرجوانية. وجهه شاحب، ولا ينمُّ عن خطر أو نيّة للحصار، يحمل شيئاً من البؤس والصرامة والعبوس، المكسو بآثار قديمة متآلفة... ورُغم كل العلامات المميزة، المرئية، لمعت ابتسامة "زرقاء"، خرجت ملتوية من أعماق مكبوتة.‏
لا يداري في حديثه غير المشوّق أحداً. كان يحاول استنطاقي. يُحدّد الأسئلة بدقة كأنّي في امتحان آخر العام الدراسي.‏
أحضرتْ أمل صينية القهوة. قلت مدارياً صمته، بعد تواتر أسئلته الملحاحة، وكاد أن يُصدر حُكْماً غير عادل.‏
تناولت فنجان القهوة. لفت نظري أصيصٌ في زاوية الصالون الجنوبية. تطلّ منه زهرة فوَّاحة بالعطر، قطعتها أمل قبل وصولي بقليل، كما أسرَّت لي، بينما والدها كان يهاتف صديقه، فشكرتها على حُسن صنيعها، وذوقها في الراهن والمؤجل، وتصوّرها لكلّ الاحتمالات الماورائية.‏
لابُدَّ إذاً أن يتخلّل الحديث كلام أنيس، مثير، خالٍ من الدَّسِّ والوخز، كي أقترب من مُرادي، لأصل إلى غايتي الجليلة.‏
تشجعتُ، واستغللتُ انفراج ضحكة أنيسة، كانت معتقلة بين أسنانه الجوَّانية. خفت أن يهرسها، فتموت، وأحزن، وتتَّسع الفجوة بيننا، بدلاً من تقليصها، حينذاك يتعاظم ألمي، فأطفئ حرائقي بماء الأمل!‏
قلت: تفضّل يا عمّ، هذه سيجارة فرنسية. أجاب: لا أُدخّن. تركته منذ سبع سنوات، ولا يمكن العودة إليه، لأنّه لا يناسب قلبي المرهون بالدواء، وأخاف أن يرتفع "السُّكري" فأبتلي بالزعل والدّوخة، وربّما الانهيار السريع. وهذا يا أستاذ يقلق راحتي، ويرفع ضغطي. لذلك أنصحك بأن تترك هذه العادة غير الحميدة, وأنت شاب في مُقتبل العمر فالدخان لا يخفّف عنك الآلام ولا تمزّق هذا الزمن المكحّل بالسواد. أيّامكم أفضل من أيامنا. هذا واقع لا يمكن تجاهله أو القفز فوقه!‏
طال حديثه المكرور عن الماضي الشحيح بعطائه، فَفقد أنيسته التي وقفت إلى جانبه، طوال سني الجفاف والعطاء، وألحق أخوه ضرراً كبيراً به. وبعد نكوص الفرح، أسند الرجل ظهره إلى الكنبة. تطايرت أنفاسه الواخزة، المتقطّعة.‏
اكتشف سؤالي وأنا أنظر إلى صورة معلّقة على الجدار لرجل يشبهه. صورة كبيرة في صدر الصالون، على زاويتها اليسرى شريطة سوداء. حسبت أن يكون قريباً أو شهيداً يعتزُّ به.‏
قال: هذا أخي الذي يصغرني بسنتين فقط، وهو الأخ الوحيد، ولم تُنْجب أُمّي سوانا، وحرمتنا من الأخوات، ثمّ أردف: تمنيتُ، وأقولها بصدق، يا ليته لم يأتِ. كأنه من رحم امرأة أخرى. تمنيتُ أن أظلَّ وحيداً، حُرّاً، طليقاً، لا أحد يُعكّر صفاء حياتي، وعيشي، ولا يزاحمني على قطعة الأرض في أجمل منطقة في المدينة. كان داهية "لَهَط" كلّ ما ورّثه الوالد، فباع الأرض، وتركني أقتات براتب زهيد... لولا هذا البيت الذي سترني وابنتي أمل ماذا يكون قد حلَّ بنا؟‏
انطلق لسانه، تحرّر من الخوف المزمن. تأسفتُ لمقاطعته. طلبت منه أن يرتاح ويجيب عن أسئلتي: كيف؟ ولماذا؟ وأين نهاية الطريق؟‏
لم يأبه لاعتذاري، لأنه يعُدُّ أخاه في عداد الأموات. وأخرج ألبوماً من الصّور وقُصاصات جرائد عتيقة، ومجلات مهترئة الأغلفة الخارجية، كان يحشرها في صندوق مكتبه. وطلب منّي أن أقرأ. قرأتُ عديد العنوانات المؤرخة من أيام دراسته الجامعية إلى أن ترك البلد، وهاجر إلى "إقليم الكاب" في إفريقية.‏
أشار بإصبعه إلى صورة ملوّنة لشركته، يجلس وراء مكتب أنيق، وعنوان آخر بخط عريض (طلبَتْ حكومة الكاب المحلية قرضاً يُقدّر بملايين الدولارات من أكبر تاجر سوري مغترب). ثمَّ فتح صفحة من مجلّة اقتصادية باللغة العربية أيضاً، تهتمُّ بشؤون المال والصناعة، للمغتربين اللّبنانيين والسوريين، الذين يشكلون جالية كبيرة تسيطر على نسبة عالية من الاقتصاد. وكان أخوه "عطا" يترأس مجلس إدارة الشركة، وهي مختصّة في تصنيع الحبيبات البلاستيكية. وصورة أخرى وهو يُلقي كلمة في المجلس المحلّي. كُتب تحتها: (نائب الرئيس الأستاذ عطا حرمون).‏
قال أبو أمل (عبد الله حرمون): اقرأ هنا. وفتح صفحة جديدة. سأل: هل تعرف هذه الصورة؟‏
كان الرجل الذي أشار إليه من مشاهير إفريقيا والعالم "نلسن مانديلا"، ومَنْ لا يعرف أو لم يسمع باسمه. كان مانديلا في استقبال أحد الوفود الصناعية التي جاءت للتهنئة بالرئاسة لجمهورية جنوب إفريقيا، ويترأس الوفد (عطا حرمون).‏
طلبتُ منه أن يتوقف عن تفجير أكبر لغمٍ أرضي، كان عثرة في مشواره الحياتي الطويل. قلتُ: لا تُرهق نفسك، فاترك الماضي مقبوراً، فأنت ونحن أولاد الحاضر.‏
أنت رجل صبور، أعطيت وقدمت الكثير للناس والوطن، طوال عملك في شركة الكبلات، وبقيت مخلصاً وصادقاً مع نفسك. وراتبك التقاعدي بعد هذه السنين لا يكفي لسدّ الحاجيات الضرورية من دواء وكساء.‏
ـ إنني رجل كما قلت يطارد الألم... أشار إلى عينيه الذابلتين. كانت يداه ترتجفان..‏
سمعتُ أنيناً يخرج من جرح عميق في نفسه. وكي أخرجه من هذه الدّوامة حاولتُ مواساته، وتغيير سياق الكلام، واختلاق القصص المُغايرة، التي سمعت بعضاً منها في الحافلة أو من الجيران والأصدقاء.‏
عطا صورة مُسْتنسخة من عبد الله، مارس كلّ أشكال الإكراه، والاستغلال، مُذْ كان شاباً.‏
أردف عبد الله: أخطأ والدي "رحمه الله" عندما أعطاه وكالة عامة بأملاكنا، عدا الصفقات التجارية، وأعمال السمسرة مع المكاتب العقارية، وكبار المتنفذين والمسؤولين، فجمع أموالاً لا تأكلها النيران، وهاجر في ليلة مظلمة.‏
اقتصر دوري على الإصغاء، والحياء، وأحتاج إلى وقت للتفكير مليّاً بهذه المسائل الشائكة ويمكن أن تكون مُخْتلقة من الخيال، أو مبنية على أساس من الحقد والغيرة، والإكراه! لا أعلم إذا كان أخفى أموراً، تركها في الظلّ... سأتأكد من أمل غداً، وأعرف الكذب من الصّح. فهل تعترف بالحقيقة، أم أنّها تكون شاهد زور على كلام أبيها؟ أكثر من ساعة، ونحن نتجاذب الأحاديث. لم يعطِ فرصة للآخرين، كي يُدلي بدلوه، ويبيّن رأيه...‏
كانت أمل تصغي بمَللٍ للمرّة العاشرة وتسمع قصة عمها وأبيها. لم تتجرأ على التدخل، لإيقاف سَيْل الكلام، وكسر حاجز الاتهامات، لمتحدّث بارع كأبيها، القادر على صناعة حبكة روائية متماسكة.‏
تنفَّس بعمق... يبدو أنَّه رجل كريم. قال: سنكمل السهرة معاً، ونتعشَّى.‏
أدامك الله يا عمّ عبد الله، لكن...!‏
لكن ماذا؟‏
جئت أطلب يد أمل منك.‏
أعلم.‏
أريد نسبكم وحسبكم، والتقرّب منكم.‏
أنت شاب لطيف يا أستاذ شادي!‏
شكراً على الاستقبال، وحُسن الضيافة، لكن متى أحصل على الجواب!‏
أترك هذا الموضوع الآن... سأعطيك الجواب بعد أسبوع.. سأبحثه مع ابنتي!‏
أعرف أمل منذ أكثر من عام، ونحن زملاء، في مدرسة واحدة... وإذا كان الأمر لأمل، فهي موافقة حتماً!‏
أعلم.. أعلم، وأنا متيقّن من العلاقة والتفاهم بينكما.. حَكت أمل لي كلّ شيء.‏
ما المانع إذاً من الحصول على الجواب الآن (اطرق الحديد وهو حام).‏
هذا تقليد قديم يا بُني، ولا يمكنني تجاوزه بهذه السرعة، والقفز فوق العادات.‏
ونحن لنا عادات وتقاليد أيضاً، لكنَّ الحُبّ هو الفيصل.‏
كانت أمل تُجهّز العشاء في المطبخ. سمعت حوارنا كلّه. وعندما هممتُ بالرحيل، أدارت وجهها نحونا، فسقط الصَّحنُ من يدها، وتناثر قطعاً صغيرة... تمتمت متفائلة: "انكسر الشر، فأل خير.."‏
تركت المطبخ. عادت إلينا، وألحّت عليَّ بالبقاء للعشاء. هذا واجب الضيافة يا شادي أصبحتُ في موقف لا أحسد عليه، وفي موقع بين أمل وأبيها... أُصبتُ بارتباك، واعتراني الخجل، لكنّه من النوع الخفيف...‏
رافقاني إلى الباب المُطلّ على الزقاق... لم أُصدّق أَنّني خرجتُ، ومشيت الخطوة الأولى في الشارع، فسحبتُ سيجارة من عُلْبة الدخان، وأشعلتها، وبدأت أمتصها بشغف لأشفي غليلي، وأعوّض متحسِّراً، الوقت المهدور الذي ضاع هباءً...‏
انفتح الفضاء أمامي... تنشقتُ الأوكسجين، مما ساعدني على ممارسة فنّ الاغتصاب الكريه لسيجارةٍ فمزقتُ فلترها، عَصَرتها شفتاي بقوة. لفحني نسيم بارد، جفّف عرقي.. فانتعشتْ روحي، وأنا أجتاز ساحة مثلثة، تطلُّ عليها عشرات النوافذ، وعشرات البيوت، وعادت حكايات عبد الله تدور في رأسي، أزعجني خرير الساقية. بلّل المطر الرعدي جسدي، وتسرَّبت المياه عبر مسامات جلدي إلى روحي، وبقي قلبي يخفق، تعباً، وامتدت سحابة سوداء، خيمّت فوقي، أفرغت جعبتها المطرية دفعة واحدة، فصمدتُ، وأسرعت، أتنقّل تحت الشرفات حائراً، خائفاً...‏
أعترف أنني أُصبتُ بفشل ذريع، وعاهدت نفسي أن أحجز يوماً كاملاً للبحث بهدوء، في لقاء شفيف، مخملي مع أمل، دون عصبية أو تعصّب لرأيي. سأترك باب الحوار على مصراعيه، وأنتظرُ أسبوعاً كاملاً لتلقّي الخبر من عبد الله.‏
 

دموع الورد

رئيس وزارء البيلسان

إنضم
Dec 19, 2009
المشاركات
13,384
مستوى التفاعل
139
المطرح
هنْآگ حيثّ تقيأت موُآجعيّ بألوُآنْ آلطيفّ..
رسايل :

يااارب انا في قمة ضعي وفي عز احتياجي اليك فكن معي

ـ 6 ـ
أمْضتْ أمل الليل بطوله ساهرة في سريرها. ليلة عجفاء، كما قالت لي في لقائنا مساء اليوم التالي.‏
استغلتْ الوقت... رفضتْ بشدّة مرافقة أبيها لبيت خالتها. قالت لـه: لا أريد رؤية أحد من البشر. اذهب واتركني، وعندما تعود بالسلامة، سيكون العشاء جاهزاً.‏
وجهها منتفخ قليلاً من قلّة النوم، فيه مسحة من القلق والجمال، مشوبة بالإرهاق النفسي. خطفتُ يدها، كعصفور متشوِّق للطيران من قفص صاحبه، وكعصفورة مُتلهّفة للماء!‏
كالعادة لم نغيّر الطريق، فهو نفسه، اعتدنا على ناسه، وهوائه، وفضائه... الشمس تحاول أن تتمطّى، وتغرب وراء الأبنية العالية في مدينة أرهقها الازدحام.‏
همستْ بشوق... همستُ لها بدفءٍ ريحانيّ، ومشينا على رصيفنا، الذي أطلقتُ عليه اسم "رصيف الحبِّ". ويحقُّ لنا نحن عُشَّاق المساء أن نمتلك رصيفاً في هذا الشارع، ولا أحد يُزاحمنا، لأننا سَنُشْهِر أوراقنا في وجهه.‏
كلّ هذه الصفحات، قالت أمل، التي ملأناها، وحبّرناها بالدموع والصرخات والآهات، لا تذهب مع الريح، حتى أصحاب الدكاكين، أصبحوا شهوداً. وقلتُ لها، بعد أن ألقيت السلام على أوّل صاحب دكان، في أوّل الشارع: للمكان يا أمل ذاكرة. تعوّدنا منذ عام أن نمرَّ من هنا، لكن هل تعرفين كم يبلغ طول هذا الشارع، وعُمر هذا الرجل المُسن؟ الرجل الجالس على الكرسي، ينتظر صديقه كلّ مساء، قابعاً في زاوية، اعتاد الجلوس فيها، ولم يغيّرها. فهي (زاوية الرجل المسنّ). لاحظي في المرَّات القادمة، كيف لا يبرحها. هل تتذكرين قبل أسبوع، عندما كُنَّا عائدين من هنا، كيف كان يشدّ يد صديقه ليجلس مكانه، لكنّه رفض، فهو أيضاً اعتاد على الجلوس بجواره!‏
يتحوّل المكان إلى صديق أليف، حنون، ليس سهلاً إهمال الأمكنة، لأنّها تحتلُّ مساحة في الذاكرة والقلب.‏
سألتُ أمل: كم متراً يبلغ طول هذا الشارع؟‏
لماذا تُعدُّ خطواتنا؟ الزمن يشتعل في دواخلنا، ونحن نحترق، وأنتَ تبحث عن الأرقام، التي لا تساوي شيئاً بالنسبة لنا!‏
ليس المهمّ الأرقام! كلّنا أرقام يُكمّل بعضها بعضاً لا تظهر قيمتها الآن، وبهذه السرعة! وإنَّ للأشياء الصغيرة في حياتنا دوراً كبيراً أحياناً، وتمرُّ الأشياء الكبيرة دون اهتمام كالريح لا تهدأ في مكانٍ واحدٍ كلّ الأشياء الصغيرة والكبيرة أجزاء مُتمّمة لسيرتنا الذاتية ولحياتنا.‏
***‏
كافيتريا "أبو أنطون" فارغة من النزلاء، باستثناء شابين وصبيّتين، يركنون في الزاوية الشرقية.‏
رحب الرجل. نَفرت ابتسامة خفيفة على ثغر النادل الذي أصبح يعرفنا، ويعرف طلباتنا. ابتسامة فيها شيء من الاحترام، وكأنَّ يديه أيضاً تتضاحكان. وبهدوء مُصنّع قال: ماذا تريدان أن تشربا؟‏
سألتُ أمل عن طلبها ومشروبها. اقترحت، زجاجتَيْ بيرة برازيلية. فهي تحبّ هذا النوع، وتتلذّذ به، عندما تشعر بالقلق، وتريد أن تُخدِّر ما بقي حيّاً في ذاكرتها.‏
كلّ الأيام الراحلة إلى غير عودة، لم أجرد حسابها، قالت أمل، وهي تعصر عينيها وتزمّ شفتيها، فبرزت بعض التجاعيد فوق حاجبيها... هذا اليوم يا شادي لـه نكهة، ولا أستطيع تقدير وزنه، ويساوي حسب تقديري سنة بكامل فصولها.‏
لا أُشارككِ رأيك... كلّ أيامنا جميلة، حتى وإن طعنتها رياح السّموم، فأنتِ تبالغين كثيراً أو لا تُقدّرين هذه الجمالية المتعالقة بين روحين يهمسان وحيدين، ولا تعرفين لغة الأرقام!‏
أنا فرحة جداً، بعكس ما تتصوَّر!‏
لكن!...‏
لماذا سكتَّ؟‏
أعرف الإجابة سلفاً...‏
أبي يتمسك بالتقاليد التي لا تزال سارية المفعول في مجتمع المدينة، لكنها ستتقهقر أمامنا.‏
أنتِ فتاة صابرة، تتحمّلين الصدمات ولا تخافين، وعندك تجربة...‏
أنتَ تستأهل كلّ الاحترام والتقدير.‏
أنتِ تُجاملين! أو أن كلامك يعبر مسرعاً كالنسيم، كالعلاقات التي يستهلكها الشباب في بداية مشوارهم الطويل... هي خيوط سرعان ما تتقطع إذا لم نغزلها بشكل جيّد.‏
وإذا كانت هكذا، قالت أمل، فهي جميلة، ونحن بحاجة إلى شيء جديد، يدخل إلى حياتنا اليومية، بحاجة إلى بضاعة أخرى، غير ما تصنعه معاملنا المتخلّفة. أتذكّر الآن كيف كنتَ تفتّش عن القميص الأجنبي!‏
كي أظهر أمامك شاباً يبحث عن الجديد، ويملك رؤية انفتاحية.‏
ليست الشفافية في البحث عن الأقمشة الأجنبية، بل في تشجيع الصناعة الوطنية، وعودة الرساميل المهاجرة. ألم تسمع بالمرسوم رقم 10؟‏
إذا كانت صناعتنا لم تصل إلى العالمية، وتحقق "الإيزو"، وما تزال رديئة، فكيف تريدين منّي أن أرتدي قميصاً أو بنطالاً لا يليق بي.‏
شربتُ نخبها. تبادلنا الكؤوس. تقاطع ذراعانا، ثمّ مرّت لحظة واجمة... لحظة للتفكير والتأمّل. تقابل وجهانا. كانت الدنيا كلّها تغنّي في ساحتي عينيها. يتهالك وينحني بصري في عتبتيهما. حاولتُ دفع خيوط الحُبّ أكثر في أعماقها، وبين أهدابها، وفي قعرَيْ غمازتيها، وفوق صفحتي وجهها البلّوريتين المتأججتين بالنُّور، والإشعاع السحري.‏
إشراقة جديدة تسحبني، وتشدّني بسحرها... تألّقت أمل الجميلة أكثر من قبل، وكأنني ألتقيها للمرة الأولى...‏
أسرَّت إلي، أنّها عرّجت على "الكوافيرا" هندست شعرها على الطريقة الفرنسية، وبَدَت أكثر نضارة، وحضارة. ممشوقة الطول... بيضاء البشرة.. مدوّرة الوجه. خدَّان متورّدان... شفتان رقيقتان، وذراعان مسكوبتان في قالبين من الشمع الأبيض النّقي.‏
أبسط الأمور تُثيرها، وتغضبها، وأجمل شيء عندي، عندما أُثيرها، فيرتفع صوتها، وتتبدَّل ملامحها، وتتشوَّه آيات الجمال، وتغرق غمازتاها بالدموع.‏
أتدرين يا أمل إنَّ الصَّبر، يساعدنا على تحقيق النصر على أعدائنا!‏
مَنْ هو العدو الذي تقصده، وعلى مَنْ سننتصر؟‏
لا أعداء لنا، سوى مغتصبي أرضنا... لكننا سنتّفق أنَّ العدو الأول هو والدك.‏
نهضت أمل، واقتربت من النافذة. أزاحت الستارة نحو اليمين. ظهرت الأنوار في الخارج، تُثير في سكون الليل أشجان الناس... ثمَّ عادت واجمة، كصخرة حطّها السيل من علٍ.‏
إنك تُثيرني، حتى وإن كنت تمازحني! فأبي ليس عدواً لنا، إنّه عطوف وصادق ويعتزُّ بنا. ماذا عمل لك سوءاً، كي تنعته بهذه القباحة؟ إنه رجل مسالم، وضحية جشع عمّي واستغلاله، وتعلم أنّه يعاني السُّكري، وتضخّم القلب! أُداريه كعينيَّ، وإن أغضبني بكلمة أحياناً، تأتي بغير محلّها، فسرعان ما يربّت على كتفي، ويقبّلني معتذراً.‏
ألَم تلاحظي مواقفه المترجرجة البارحة! كان يكلّمني بتعالٍ وفوقية، كأنّه أحد الباشوات الكبار، وأنا أمامه صعلوك صغير. تصوّرتُ أنَّه يعاني نقصاً ما في شخصيته! أو أنَّه لا يزال يحمل آثار حزنٍ من ترمّله المبكر!‏
وعلى كلّ الأحوال أظهرت الجلسة الأولى معه، أنّه يطمئن عليك، ويثق بي، لأنه أفرغ ما عنده، ولم يبخل بمكنوناته الداخلية. وكما قلتِ إنَّ بعض الأمور تتكشّف لك الآن ولم تعرفينها من قبل...‏
بَدَت أمل أكثر سعادة، أراحتها كلماتي الودّية، وأثنت على أقوالي، وشهادتي، بأبيها، وقالت: كنتَ جدياً أكثر من أيّ وقت. وأفهمتني أنّ الخطوبة شيء حتميّ، لكنّي لم أحدس بالاطمئنان، فظلّت المواقف غائمة، وأن أمل تقابل هيجاني وإلحاحي ببرودة.‏
وعندما سألتها أن تُجيب عن قرار أبيها؟‏
قالت: انتظر... انتظر حتى تتوقف عن الكلام، فأنت عندما تبدأ لا تعرف كيف تنتهي، هو سؤال واحد، وله جواب واحد!.‏
أجيبيني بسرعة.‏
الحقيقة، عندما افترقنا، وذهب كلّ واحد في سبيله. أصختُ السَّمع إلى والدي، وهو يتمتم بعبارات (أنت رجل فهيم "يقصد شادي"، وتدرك أسرار الحياة، ومعاني الحُبّ).‏
ثمَّ قال قبل أن يضع قدميه في غرفة النوم: (إنّه شاب رائع يحبُّ أمل، وهي تبادله الحُبّ... إنّهما شابان يليقان ببعضهما، لكن! وحرَّك يديه، ثمَّ اتّجه نحو غرفتي. هل...أ.و.ا.ف.ق؟ وزمَّ شَفتيه).‏
راقبتُ حركاته، ولم أعرف. قالت أمل، شيئاً، حينما أغلق الباب، بعدها ارتميت على سريري كساقية شحَّت مياهها، تنتظر ذوبان الثلوج.‏
أيقظني أبي صباحاً، أن أنهض كي لا أتخلّف عن المدرسة... هذا ما حصل معي، وما أرويه لك، وما عليك إلا انتظار نهاية الأسبوع، فتمالك أعصابك، ولا تخف، فكلّ شيء سيتمّ كما أرغب أنا، ووالدي كطفلٍ. كلمة تأخذه، وكلمة تُعيده. يريد أن يرضيني ويسعدني، فهو لا يملك في الدُّنيا سواي، فلا تسألني في الأيام الخمسة القادمة، أيّ سؤال. انتظر نهاية الأسبوع، يا شادي، سألحّ عليه عندما يكون هادئاً، مسترخياً، أعتقد أنَّ مسألة ما تشغل أبي، وتشغلني أيضاً.‏
ماذا تقصدين؟‏
لا أملك الجواب الآن! لكن!‏
ينبغي أن تكون الأمور واضحة. وما يهمّك، يهمّني.‏
راتب والدي التقاعدي لا يكفيه ثمن أدوية وزيارات للأطباء. ماذا تساوي ثلاثة آلاف ليرة زمن الغلاء والفجور وجنون الناس والأسعار؟‏
هذا أمر بسيط... ووالدك مُحقٌ في التفكير بنفسه، وما تبقّى لـه من سنين.... فهو يحسب المستقبل التائه بالدقائق، وإذا كان ذلك هو المانع الوحيد، فالحل سيكون بسيطاً وسهلاً، ولكلّ حادث حديث... أتمنى أن يكون السبب الوحيد، وألا يكون هناك سبب آخر أكثر عمقاً!‏
فماذا تريد أن تقول. أعطِ رأيك!‏
لا أستحقُ أن أكون زوجاً لك... أتصوّر... هذا جانب هام في تفكير أبيك، يبعث على القلق... أو أنّه يريد تحنيطك، والاحتفاظ بك، ويمكن أنه يشكل امتداداً للأسر الفرعونية. وإذا كان يفكّر في اتجاه واحد، وبعد عُمر طويل، سيتركك وحيدة، لا أحد يكون بجانبك، الّلهم إلا إذا هجم النّصيب على كبر، وجاء ابن الحلال، فإمَّا أن يكون قد تجاوز الخمسين، أو ترمَّل وله أولاد. في هذه الحالة ستتجرّعين مرارة العيش، وسيزداد حقدك، ويخفتُ صوتك، ويبهتُ جمالك، وستكرهين الرجال، الآن أنتِ شابة، ناضجة، طموحة، تمتلكين الحياة، فلا تجعلي القطار يفوتك، فاركبي في المقطورة الأولى.‏
أصغتْ أمل بكلّ حواسها. قالت إنّني بين نارين. أكاد أحترق. أفتّش عن ماءٍ يُطفئ الحرائق، فلا أجد. وعن سلالم تدحرج أفكاري وأحلامي وتخيّلاتي. أنا أعرف أبي أكثر منك، ومن الآخرين، ففي أعماقه خوف مزمن...‏
عندما كان على رأس عمله، رفض أن يكون في لجنة المبيعات بشركة الكبلات، لكنّ ضغوطا المدير المتتالية اضطرته إلى القبول، فبقي فيها أقل من ستة شهور... يعرف أنّه سيسقط، وإذا ارتدى بذلة جديدة أو حذاء، فستتوجه إليه الأنظار، ويتّهمه زملاؤه بالرشوة، وإذا التقى مصادفة في الشارع بتاجرٍ، يُتَّهم بالخيانة الطبقية والعمالة للبورجوازية. أنتَ تجهل أو تتجاهل أساليب الإغراء والترغيب والمداهنة، وكلّ من اشترك في اللجنة أصبح مالكاً لمنزل أو سيارة، ولم يَعُد يشكو العَوز.‏
كان حديثاً. طويلاً وشيّقاً، يتدفّق كالنهر المحاصر من الجانبين، وينبض بالصِّدق والصراحة. ومهما درتُ وحرتُ وقرأتُ وسجلتُ ووضعتُ الاحتمالات، فالأيام القليلة القادمة ستكون لصالحنا. الزمن كفيل بتحقيق الأمل، وإشعال شمعة الميلاد، وإحياء طقوسنا.‏
لقد استهلكنا فوق طاقتنا من الكلمات والمفردات. وستتفتّح زهرة وسط الرمال، وستكذّب عديد العلماء والباحثين في شؤون التربة والزراعة. أراها زهرة، محاطة بأطياف الحُبّ، تزداد طولاً... تنثر غبار طلعها في كلّ الاتجاهات، وحتى إذا كان ما أراه سراباً، فأنا في أفضل حال، وإذا غابت يبقى ظلّها منتصباً أمامي.‏
زهرة تلقي جسدها بين أنامل النسيم، لا تأبه بالرياح، مهما كانت مثقلة بالرمال، لأنّها غُرست بيدٍ خضراء، وروح عاشقة لأسرار الحياة، لم تقف يوماً ذليلة أمام صرخات العشق، وموجات الاغتصاب، تحميها الطيور والسنونو المهاجرة، تحمل رائحتها وغبار طلعها، تنثرها في السّفوح وعلى الشواطئ، وفي حدائق المدينة.‏
لم أختر زهرة، فالرمال هي التي تختار، فمرّة تكون حمراء، ومرّة بنفسجية، وثالثة بيضاء، أو برتقالية. تفتح صدرها للعشق، وتنهض أوراقها مع الشروق. تظلّ صامدة تتمتّع بالضوء، وعند الغروب تخلد إلى الراحة. تعانق المساء. تُسامر القادمين من الأشتات، فهي تطرب لأصوات الليل، وتعشق السهر الطويل وسط الرمال، لذلك تكاثرت أعشاش العصافير حولها، وتزاحمت وهي تحمل قطرات الماء والأعواد، تترك بيوضها تحت فيئها، ثمَّ تهاجر، لتعود مرّة أخرى زاهية، فرحة، تتراقص أوراقها، وتتصاعد موسيقاها.‏
الأزهار يا أمل كالإنسان والحيوان، تغنّي، لها أصواتها الخاصة، وتعزف على أوتار الحياة. تحزن كما نحزن، وتفرح كما نفرح، فهي جسد وروح، وأنتِ جسد وحُبّ وروح وكبرياء، تعالي نلتصقْ معاً، ونصبح جسداً وروحاً، ولا تتركيني وحيداً. أنت وردة تعشق الدُّنيا والرمال، فاحتفظي بخلاصة حُبّنا، والمستقبل كفيل بأن يحتفظ برائحتك وجمالك!‏




يتبـــــع
 

دموع الورد

رئيس وزارء البيلسان

إنضم
Dec 19, 2009
المشاركات
13,384
مستوى التفاعل
139
المطرح
هنْآگ حيثّ تقيأت موُآجعيّ بألوُآنْ آلطيفّ..
رسايل :

يااارب انا في قمة ضعي وفي عز احتياجي اليك فكن معي

ـ7ـ‏
تنتظر أمل معرض الكتاب السنوي بفارغ الصبر. هاجسها أن تبني عمارة من الكتب، مثلي تماماً. نحن شريكان. تلتقي رغباتنا. تتجمع هواجسنا، وعلى الرغم من حزنها في هذا اليوم، جمعت المعلومات من الصحف، والتقطت الأخبار من الإذاعات، وهاتفتني، وهي تُطلق ضحكاتها. ألو... ألو... شادي.‏
أمل! كيف حالك. أتتذكرين هذه المناسبة!‏
الآن أتذكّر، فقبل دقائق قدّم لي أبي وردتين بمناسبة عيدَيْ الأم والربيع.‏
لماذا الورود؟‏
ماذا تعني؟ ألا أستأهل وردة منك أيضاً!‏
لقد تأجّل فصل الربيع!‏
هل تتأجل الفصول يا شادي؟‏
نعم تتأجل، لأنّنا لم نَعُد نملك الربيع...‏
أنت متشائم.‏
أبداً! حلّ اليَبَاس، وجُفِفت مستنقعات الروح، ولم تستيقظ ذاكرة الشعوب بعد...‏
تزخر مفرداتك بالرموز والألغاز دائماً... ولابُدَّ من استخدام المعجم...‏
لقد طالت التغيرات نفوس البشر، والطبيعة. وتعجز أيّة سُلْطة وحكومة في العالم أن تكبح تطلعات الناس، أو تُحاصر معارفهم.‏
يبدو أنّك مُرهق لدرجة الهذيان. وأعتذر منك سَلَفاً: إنَّ ذاكرتك بدأت تهترئ، بينما تتفتح الورود، وتتراقص مع كلّ هبّة نسيم، تتسرَّب من نافذة غرفتي.‏
يبدو أنّكِ سعيدة بوردتَيْ أبيك، ولا تُبصرين أمامك أكثر من متر.‏
ارتبكت أمل. اهتزّت حنجرتها، وارتجفت يدها... ترجرجت سمّاعة الهاتف. انتابها شعور كريه، بأنّه جادٌ في كلامه. دائماً يُحلّق، ويمدّ حباله إلى أبعد مسافة.‏
تألّمتْ وهي تفسّر ألغازه، وتعلم جيداً أنّها عندما ودّعته مساء البارحة، كان في أفضل حال... يتسلَّق القمم، ويُحلّق في فضاء صافٍ خلاق، مسكون بالحُبّ والأمل.‏
أدرك شادي سوء الاتصال، وظهور طقطقات، وخرمشات، وحروف متقطعة، وربَّما بكاء ونحيب، وأنّ السماعة لا تزال تخشَّ وتهتزُّ في يدها.‏
مرّت الدقيقة الأولى، مشوبة بالصمت والترقّب. وصلت أنفاسها ولهاثها إليه ثقيلة، فعاد إلى مخاطبتها، بلهجة مُريحة، فيها شيء من الدفء والنّدم، وكعادته قال لها: ألا تتحمّلين المزاح... أنت هكذا جديّة أكثر من اللزوم... كلمة واحدةً تُكهربك، وتسحب من أعماقك مخزون الموج المتراكم. أنا غير مسؤول عن ماضيك. أنا أحيط حاضرك بدائرة من المعلومات، وأترك المستقبل يفرش عرائشه فوقنا، وعندما تتدلى العناقيد، وتزداد حلاوةً، علينا أن نواجه الدبابير، وأن نكون حذرين من لسعها، وأن نُراقب الحشرات التي تحرمنا من اللّذة، بكلّ الوسائل الممكنة، كي نقطف ثمراً طيّباً.‏
اعتدل حكي أمل. أصبحت متوازنة، وجلَّست قعدتها على الكرسي. أبْدت سعادتها ثمَّ أطلقتْ ضحكة من أعماقها. أشارت بيدها إلى أبيها، بأن لا يقترب منها، فهو رجل غيور، لا يستسيغ المحادثة بالهاتف، ويكره المكالمات بين الرجل والمرأة، وتذكرت أمل أنّه كان يفعل هذا مع أُمّها، خوفاً من فاتورة كبيرة تلتهم ثلث الراتب.‏
انصاع الرجل لوصيّة ابنته. التزم الصمت والهدوء. تركها، وحمل جريدة، وبدأ يُقلّب صفحاتها، وهو العارف بأن أمل هي التي ستدفع فواتير الهاتف والماء والكهرباء.‏
ابتعد شادي في كلامه. أبحر في مياه أكثر عمقاً. قال: ما زال جهاز التَحكُّم عندك غير دقيق. أحياناً يدغدغك التفاؤل، وهذا من حقّك، لكن عليك رؤية الحرائق. كلّ شيء يا حبيبتي يحترق في هذا الزمن ويتحوّل إلى رماد إلا الكلمة الصادقة، ونُبل الإنسان، فيحوّلان الرماد إلى أزهار وغبار طلع... ألا تلاحظين... انظري ألسنة اللّهب التي تدور وتلفّ حولنا من كل الجهات.‏
ماذا تقصد بالحرائق أيّها الشادي الجميل؟ كلّ الأمور تُفلسفها، مهما كانت بسيطة وعادية. إنّك تعمل من الحبّة قُبّة، ومن فتيل السِراج حرائق. فَعَن أيّة حرائق، وعن أيّة ألسنة، ونيران تتحدَّث؟!‏
العالم يحترق.. رؤوسنا تحترق... يعود هولاكو إلينا من جديد... اقرئي صحف اليوم، وتابعي أخبار الفضائيات، فتشاهدي أنَّ مكتبة بغداد تحترق، وتغرق في نهر دجلة... وسرعان ما تبدّل لون مائه، وغرقت أختام العباسيين وتيجانهم عند مصب ديالى والشط العظيم. فماذا ينفع في هذا الزمن الملتهب، شراء الكتب واللوحات التشكيلية؟.‏
ألا ترين أنَّ ذلك هدر وضياع للعمر؟‏
لماذا نبني المكتبات في بيوتنا؟ وفّري قروشك لشراء الفساتين والعطور وصباغ الأظافر والشفاه وإكسسوارات المكياج، فهي أكثر فائدة من كلّ الكتب!‏
الغزو يا أمل... نتعرّض للغزو من كل حدب وصوب. ستعود حروب القبائل من جديد لكن بلا سيوف ومقاليع، فهي أكثر حداثة، تبدأ من تحريك الأزرار، وتنتهي بالكيمياء والقنابل الذّكية.‏
جاء دوري، لأكشف المغالطات والتباينات في موعظتك على جبل الوهم، فالثلج سيذوب ويجرف معه الأحجار والتربة. وإذا كُنّا نتعرّض منذ سنوات للغزو الثقافي، فكيف تنصحني بعدم اقتناء الكتب، فأنت تُهدّم البناء الذي شيّدته منذ عقدين. متى ولَّفتَ جهاز الإرسال، ودبّجتَ هذه المحاضرة القيّمة، وكتبت رسالتك التي سأحتفظ بها على "كاسيت". وما يهمّنا من الحرائق؟... إنّها بعيدة عنَّا، وإنْ وصلت فسنواجهها بماء تراثنا ونقوشنا وأوابدنا، وهذا لا يُنسينا الحداثة وما بعد الحداثة... إننا سنقابل الحداثة بالحداثة...‏
انتزع شادي العصا من الدولاب، ووضع الحصان في مقدمة العربة... ليّن عود الكلام، و"درغل" كطفل جائع، قال: تكاد رائحة الحرائق تخنقنا... الدخان يتحرَّك نحونا، فلا تخافي، لأنَّ حدودنا محصَّنة جيداً. المثقفون لا يعانون الاغتراب، إنّهم يدركون اللّعبة الحضارية الجديدة، وهذر الدول العظمى التي يصرخ أصحابها في عالمنا الوضيع، وقد نجحوا نسبياً بأن وضعوا (جنوب العالم) تحت قُبّة هيكل قُدْسية "العسكرياتية" أو ما يطلقون عليها "الليبرالية الجديدة".‏
لقد تبخرت الأفكار من رأسي التي كنتُ أودّ قولها لكَ!‏
أجمل من أفكاري!‏
لا، أبداً... لكن!‏
لكن ماذا؟‏
هي في صُلب الموضوع الذي تقرؤه الآن!‏
قولي ما هي، وسأجيبك فوراً!‏
إنه معرض الكتاب السنوي. قرأتُ الخبر والبرنامج في صحيفة تشرين. سيضمّ آلاف العنوانات العربية والأجنبية، ومئات دور النشر. وهناك برنامج ثقافي، من محاضرات وأمسيات شعرية، وندوات فكرية، وأفلام سينمائية، سيشارك فيها كُتّاب ومفكرون وباحثون عرب، من أفضل ما قدَّمته أُمتنا.‏
هذا جميل، وجميل جداً، ولكن ماذا ينفعنا؟‏
كلّ شيء ينتهي ما دام العالم على كفِّ عفريت. وما أكثر الحكي وتعدّد الأصوات التي تنبح وتهدر من كلّ الجهات، وتدعو إلى السقوط والرضوخ... وفي المقابل هناك أصوات تدعونا إلى النهوض والمواجهة، لما يجري من جعجعة وطحن فارغ...‏
ازدادت أمل ألماً وغضباً، وَدَعتْ شادي إلى نبذ التشاؤم، وعندما سألته عن دواعي هذا التحليل غير الصائب الذي يفتقر إلى الدّقة، قال لها: إنَّ عديد المثقفين ألقوا سلالهم تحت أشجار الأمريكان، ملؤوها بالثمار، ولم يعرفوا أنّها من فوائد آبار النفط، وتناسوا كلّ الكتابات والتصريحات والمقالات والحوارات والمقابلات الصحفية والتلفزيونية، عبر الفضائيات والأقمار العربية، وكيف كانوا يصدحون على مزابلهم كالديكة، ولكنهم عندما يشمّون رائحة (الأخضر) يسيل لعابهم، وسرعان ما تتبدّل حبال أصواتهم، وتتغير لكناتهم وأناقتهم وهندامهم وربطات أعناقهم وأحذيتهم. كلّ شيء جديد في عالمنا.‏
كانت أمل حذرة من الغوص في الأعماق، فهي أقلُّ شطارة من شادي، ولكنّها قادرة على سبر أغوار الأحداث في مجالات أخرى، أكثر منه... تصبر عليه، ولا تقاطعه، وفي الوقت نفسه تصوّب أخطاءه، لأنّها أوقفته عند حدوده، وأجابته: ليس كلّهم! إنك تصف شريحة محدودة العدد فقط، والنسبة الكبيرة هي الأفضل. إن الغربال لن يتوقف عن الغربلة ودائماً يأمّل الفلاّح الخير الوفير من الحَبّ الذي يتجمّع فوق الغربال، وما يسقط تحته يحوّل إلى طعام للدجاج والطيور، وعلفٍ للبقر والماعز، لأنّه لا يصلح للبذار. فالأرض المعطاءة، الطيّبة بحاجة إلى بذار معطاء، والأرض ترفض الزؤان، كما يرفض الوطن أمثال هؤلاء لأنَّ جذورهم لا تمتدُّ عميقاً فيها.‏
ورأيكَ الأخير لم تقله. هل نتّفق على موعد مساء الغد، لزيارة معرض الكتاب. يكفي أننا نتعرّف على دور النشر وعنوانات الإصدارات الجديدة، ونرى الناس، ونلتقي الأصدقاء، ونشرب القهوة، ونتنشّق هواء لطيفاً، نظيفاً، ونشارك في حضور النّدوات ونسمع الشعر الحديث...‏
وافق شادي على اقتراح أمل، واتّفقا مساء في السادسة تماماً.‏


يتبـــــع
 

دموع الورد

رئيس وزارء البيلسان

إنضم
Dec 19, 2009
المشاركات
13,384
مستوى التفاعل
139
المطرح
هنْآگ حيثّ تقيأت موُآجعيّ بألوُآنْ آلطيفّ..
رسايل :

يااارب انا في قمة ضعي وفي عز احتياجي اليك فكن معي

ـ8ـ
استغلَّ شادي انشغال أمل في شؤون المنزل، وعودة الصُّداع لرأس أبيها، فنسيتْ العالم كلّه، وما يحيط بها.‏
امتطى سيارة أجرة، واتّجه إلى مدينة معرض دمشق الدولي. وكان يرغب في التملّص من الموعد، وأن يبقى وحيداً، ويتحرَّر من المواعيد والارتباطات والهواجس، وينطلق بين أجنحة المعرض. قال: (سأتخلّص من العوائق الشائكة، وحتى هذا التاريخ، لم تكتشف أمل ما أضمره في مكامن النفس. ومن المستحيل أن تعرف. وهل هي بسيطة إلى هذا الحدّ؟ وإذا كانت سذاجتها وطيبتها ستقودانها إلى طريق مسدود، فماذا يكون دوري بعد ذلك؟).‏
وعند باب الجناح اللبناني التقى شادي مصادفة مع "بشير" الشاب المهندس، فكانا صديقين حميمين في المرحلة الثانوية، وقطعا مشواراً طويلاً خلال ثلاث سنوات، ثمَّ استمرَّا على العهد في الجامعة، وكانا يلتقيان مع مجموعة من الزملاء والأصدقاء في المناسبات والأعياد، وحفلات التعارف.‏
تعانق الصديقان عناقاً طويلاً. تدرَّجا في شوارع مدينة المعرض وساحاتها الفسيحة، ثمَّ اتَّجها إلى المقهى الذي يتوسّط الأجنحة، وإلى جانب المقهى بحرة واسعة، تَنْبجس المياه منها وتتقافز على شكل أقواس، انزويا في ركن بعيد عن الضجيج.‏
أين أنت يا رجل؟ قال لـه شادي. عندما سألتُ عنك أحد الأصدقاء، علمت أنّك تعمل في شركة إنكليزية بالخليج.‏
لم تطل سفرتي. أربع سنوات فقط، وانتهى الاستيداع، كنت في الإمارات العربية. الآن... ماذا تعمل؟‏
عُدت إلى وظيفتي في شركة "الكبلات"، مديراً للصيانة.‏
إنّه منصب عادي!‏
ماذا تريدني أن أكون؟‏
مديراً عاماً.‏
أنت تحلم!‏
هل يعقل هذا يا شادي؟‏
أنت أعرف من غيرك بأنَّ الحكومة لا تزال ملتزمة بتأمين العمل للمهندسين ولولا ذلك لما شَغَلت أيّة وظيفة.‏
ماذا تقصد؟‏
ألا تعرف شروط العمل عندنا والواجب توفرها في مدير العمل!‏
ثلاثة شروط لا غير...‏
أنت غلطان... أو أنّك تتجاهل الواقع، أو شابت ذاكرتك، ولم تَعُد تفرِّق بين الألوان... أنت يا صديقي تعلم المرحلة الصعبة التي تجتازها بلادنا!‏
ورغم ذلك، وتصحيحاً لكلامك، لا تزال الوساطة والتحزّب هما السائدين!‏
وفي أسوأ الأحوال التي يعيشها غيرك، أنت بألف خير، وأوضاعك مستورة، وقد وفّرت قليلاً من المال...‏
أكيد... فاشتريت منزلاً، وسيارة عمومية، أضمّنها لأحد أقربائي.‏
هل أنجبت الأولاد؟‏
لم يحصل أن تزوجت، وليس في نيّتي الزواج.‏
أصبحنا في الهوا سوا.‏
وأنت أيضاً؟... أعلم أنّك ستتزوج تلك الطالبة الجميلة التي كنت تطاردها في كلية الآداب.‏
ـ وقول المدرّسة أمل... فما زالت تشكل محور اهتماماتي، وتحتل معظم مساحة قلبي، لكنَّ الأمور تتعقد يوماً بعد يوم.‏
اشرح أكثر، ولو كان أمراً داخلياً، فيمكن أن أُقدّم بعض المساعدة.‏
والدها يا صديقي، يقف عثرة في طريق زواجنا...‏
ماذا يعمل؟‏
رجل متقاعد. أمضى ثلاثين عاماً بل أكثر في شركتك.‏
في الكبلات.‏
نعم...‏
قدّم شادي تفاصيل حياة عبد الله. وتبيّن أنَّ بشيراً كان معاصراً لجزء منها.‏
قبل الحصول على الاستيداع، ولكنها فترة قصيرة. وتذكّر أنّ إشكالية ما قد حصلت مع عبد الله عندما كان في لجنة المبايعات، ولولا تدخّل عطا مدير المصرف التجاري، لكان تحوّل إلى محكمة الأمن الاقتصادي؟‏
ضرب شادي كفاً بكفٍّ، وقال من اللقاء الأول مع عبد الله، شعرتُ أنّه رجل مختلس، دوّخ رأسي وهو يتلو عليَّ الآيات التي تُسبِّح حياته وإخلاصه وأمانته...‏
أجاب بشير، وهو واثق من ذلك: هكذا كانوا يتحدّثون عنه... أنا لم أرَ، لكنّي سمعتُ حكايات وقصصاً عديدة عنه...‏
ماذا تحكي؟‏
هكذا أقول لك... كلّ الوثائق والبيانات تشير بصريح العبارة إلى الرُّشا بمبالغ مُحْرزة كانت تدخل جيوبه.‏
أقول لك: بقي عبد الله سنة كاملة في سجن عذرا على ذمّة التحقيق. وقدّم أخوه عطا الوساطات الكبيرة، وعلى أعلى المستويات، للإفراج عنه بكفالة مالية تُقدَّر بمليون ليرة سورية...‏
إنّه يكذب عليَّ، فقد ادّعى أنّه ناصع كالثلج، وكفّه نظيفة، لم تدنّسها قروش التجار. كان أوّل كذاّب في الشركة. لا تُصدّق أقواله وتصريحاته، وأنَّ اتهاماً باطلاً أدّى به إلى السجن.‏
وخلال نصف دقيقة أعاد شادي شريطاً طويلاً من قصص الخيال، وحَسَب حسابات أخرى في كشف كلّ الالتباسات. تذكَّر: أقوال أمل، عن الكذبة النَّملية الصغيرة، والكذب الأبيض والأسود.‏
إنَّ عبد الله لا يستأهل هذه الصّبية الجميلة الصادقة، لكنّي سأدبّره، وسأتجاوز أخلاقياتي ومثاليّتي...‏
عاد شادي بعد هذا الفيضان، إلى صوابه، عندما وبَّخه بشير قائلاً: ما ذنبها إذا كان والدها لا يكشف عن الحقائق لابنته؟ فهو يكذب عليها وعلى غيرها.‏
تألّم بشير من هول ما سمع، وتمنّى لو أنّه لم يلتقِ به.‏
قال شادي: أنقذتني من ورطة كبيرة، دخلت في معمعانها، كأنّي في معركة من المهازل، ولا أعرف كيف سأنفض الغبار اللّعين، كأنَّ سحراً مجبولاً بالخبث والنجاسة، حطَّ بثقله.‏
لماذا اضطربت يا شادي؟ أنت لا تريد من عبد الله المال، فأمل عندك تساوي أموال الدنيا، فلا تُعلّق على ما تسمعه، و"طنّش"، ففي التطنيش راحة للنفس، فأنتما زوج يعشق الحياة... أنتما عاشقان تتعاركان وتتصارعان، وسرعان ما تتفقان، لأنَّ قلبيكما أنقى من ماء الينبوع. فكُن حريصاً على شمعتك من الذوبان، وجلّس ما اعوج، وأصلح الأمور قبل أن يحلّ الخراب، ولا تنسَ أنّك "تستشعر"، ولا يغيب ظلّها عن خيالك. دائماً تقول: (أمل زهرة في رمال عمري، وأنا زرعتها، وأنا رويتها بماء قلبي ودموعي...).‏
ودّع الصديقان أحدهما الآخر واتّفقا على لقاء آخر بعد أيام ثلاثة ليكملا جولتهما في معرض الكتاب، ليبتاعا الكتب الجديدة، فهما من المحسوبين على فئة المثقفين في البلد، لأنهما اسمان معروفان في الصحافة المحلية أيضاً، وتعرّض قلماهما في سني اليَبَاس، ومعارك الكلام إلى التكسير، لكنهما بقيا على وضعهما، ولم ينزلق قلم أي واحد، أو يبدلا الحبر. فشادي المدرّس بقي راتبه كما هو إلا أنّه اتجه إلى الدروس الخصوصية، فانتشى قليلاً، وتحسَّن وضعه المادي، وأصبح مالكاً للبيت الذي يسكنه بعد أخذ حصّته من بيت العائلة.‏
ودّعه بشير. تركه يُقلّب أفكاره، بين ماضٍ تكشَّف على أمور، أصبحت واضحة، كالشمس، وبين زواج يقف على كفِّ عفريت. تركه يُقلّب كتاباً صادراً عن "دار الكنوز الأدبية". توقّف ملياً يحدّق بعنوان الكتاب (ماذا يجري في‏
إقليم الكاب).‏
غلاف الكتاب من النوع الفاخر، بمئة صفحة من القطع المتوسط، وإحدى وعشرين صورة لصاحب الكتاب بأوضاع مختلفة... صور ملونة جذّابة، أنيقة. يبدو الرجل أنّه في أواسط عقد الخمسينيات، الشعر الأبيض يصبغ فوديه، مع تسريحة جميلة. تتصدّر صورته الغلاف الأوَّل. قرأ شادي على الغلاف الأخير، تعريفاً بمؤلف الكتاب: (كتاب عن حياة رجل الأعمال السوري، المغترب منذ ربع قرن في إقليم الكاب "عطا حرمون". ربع قرن من العمل الدَّؤوب... اقرأ ماذا حقّق الرجل...).‏
دفع ثمن الكتاب. قطع تجواله. خرج من الجناح وبين يديه، وتحت بصره عشرات الأسئلة، كأنه وجد لقية من المجوهرات الثمينة، وهو في أمسّ الحاجة إلى المزيد من المعلومات. تمتم بشرود، وذهول: لعن الله الكذب والغش... سار في شارع المتحف يلعن ساعة زيارته، وتعرّفه على عبد الله وعطا وأشباههما. وصف عبد الله بالجبان... سيّئ الصّيت والسُمْعة، لا يساوي فلساً أيام الغلاء... لم يَعُد يسيطر على أفكاره وتصوراته.‏
وصل إلى ساحة الحجاز، ثمَّ اتّجه متمهّل الخطا في شارع الفردوس، فالسَّبع بحرات، إلى بيته.‏
كان ليلاً مبللاً بالقهر والخذلان، انتشرت فيه رائحة قاذورات من الحاويات المسجّاة في أطراف الشوارع الفرعية. جلس مرتعداً، مقسوماً، مفتّتاً إلى أجزاءٍ ونتفٍ، في الشرفة التي يعتاد الجلوس فيها، بحث ونقّب في صفحات الكتاب. كان يضحك. امتلأ فمه بالضحك غير المتجانس. وتصاعدت الضحكات المجنونة، صرخت في فضاء مجنون، مصحوبة بالشتم واللّعن والهمس والرفض، والتوعّد بالاغتصاب... وتارة يبتسم، يعود إلى صوابه، فينسى عطا وعبد الله، تبرز أمل في صورة وهي تضاحكه، تظهر على شاشة روحه، تقف أمام بوَّابة فؤاده، متألقة بفستانها الأبيض، تحمل طاقة ورود، ويقف بجانبها ببذلته الجديدة. وسأل نفسه قبل أن يخلد إلى النوم: ما الذي اقترفته أمل من ذنوب؟ قال أيضاً: الآباء يأكلون الحِصْرِم، والأبناء يضرسون.‏
تقلَّب شادي فوق سرير يئنُّ ويهتزُّ، كلَّما خطرت بباله فكرة أو استفاقت غصّة. عينان ساهرتان، تُرْجَمان بالحجارة النَّارية. تحوَّلتا إلى حجرتين، ومنفضة للسجائر امتلأت بالأعقاب الصفراء... فضاء يُخزّن في جِرابه روائح الأدخنة، وأنفاساً معطوبة، ذاوية، مُحْتقنة، في فوضى التداعيات الملتاعة، الملتوية في أعماق الروح، تضاجع القهر.‏
معركة جديدة، ستكون في ساحتها مقابلات متضادّة، ولا أحد يتنبّأ بالانتصار!.‏
(سأنتصر لأنني أمتلك كلّ الأشياء)! نَفَشَ ريشه كديك جاهز للمنازلة، صرخ في وجه الريح بأعلى صوته كأنَّ عبد الله يقف أمامه عارياً، مختلساً، ثمَّ فتح النافذة. تنشَّق هواءً نقيّاً. تابع خطابه: (سأواجه الشرَّ بالشرِّ... ستكون رحلة طويلة، يمكن أن تقودني إلى "الكاب" أو أنّني سأكتفي بقراءة هذا الكتاب. مصيبتان تجمَّعتا في صحن واحد، أحلاهما أمرُّ من الصَّبر، في ليلٍ اقتات منه صَحْوَةً).‏
أفكار شتّى تنهش رأسه وروحه، رافقته دون أن تبرح سريره حتى لاحت خيوط الصباح، فنهض مُرْهقاً. بدّد جزءاً من هذه الغيمة العقيم التي نفخ فيها رعدٌ أرعن من روحه، فذبلت حبَّات المطر، وتساقطت طيناً ووحلاً، وصَبَغت حُبَّه النَّقي، كما يدّعي بلون الأرض السكنية، السوداء.‏


يتبـــــع
 
أعلى