دموع الورد
رئيس وزارء البيلسان
- إنضم
- Dec 19, 2009
- المشاركات
- 13,384
- مستوى التفاعل
- 139
- المطرح
- هنْآگ حيثّ تقيأت موُآجعيّ بألوُآنْ آلطيفّ..
زهرة في الرمال ـــ باسم عبدو
رواية ـ منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق 2006
ـ 1 ـ
رواية ـ منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق 2006
ـ 1 ـ
أسندتُ رأسي إلى وسادة ملأى بالذكريات، والشحنات المتجمّدة في سواقٍ شرَّدها الجفاف، وقهرتها فؤوس الفلاحين، وشوَّهت فضاءاتها "كاسيتات" المطربين، وفضحت أسرارنا الهمسات والرغبات والوصايا، فنضبت مياه الذاكرة، غارت في حَلْق الأرض، ونسيت محبَّتنا وعشقنا لها ولدروبها.
كنتُ ألتقط شذرات باردة، حمقاء، تعصف بلوثات النسيان. وحينما تحضر أمامي صورة وجهها، وتتراقص بغضب تعابيره المتأفّفة، تصعب عليَّ قراءة سرّ أنفها الصغير، وسفحيه المنحدرين إلى غمَّازتيها. أنف صغير شامخ، أبيّ، يرتفع قليلاً نحو الأعلى، فتسمو به ومضة جمالية متأهّبة للانقضاض في أيّة لحظة انسيابية على غُصن مقاوم، لكنّه سَرْعان ما ينحني بخشوع.
حاولتُ ممارسة سياسة الإقناع بمبدأ الحوار، الذي قرأت عنه في الصحف والبيانات. حاولتُ أن أتلو عليها أسئلتي بطريقة سرية جدّاً. وعندما تكتشف ما كنت أُخبّئه، تهزّ كتفيها، غير راضية عن هذا الإعلان. كانت تقول: (كلَّما وجدتُ الوقت المناسب، أخرج معك إلى شارع الصمت). تُطلق رأيها، تبدو في جمال هدوئها رائعة، ساخنة. أخاف عليها من نسمة باردة تلفح وجهها، وتقهر أنفاسها الدافئة، المتصابية.
أقرأ في نفسي قدرتها على التضحية. أعلم أنَّها لا تحرم نفسها من إغفاءة بعد الظهيرة التي لا تُضّحي بها إلاَّ عندما أُهاتفها، فتُسرُّ، وينتفخ وجهها، ويلمع، يُصْدر تموجات مغناطيسية، تجذبني نحوها، فأقيّد الوجع الدَّاخلي، أتأبَّط ذراعها، ونمشي في أقرب شارع يطمئنها على ذكريات طفولتها ومراهقتها، تحت زخَّات المطر. تلتصق بجسدي كلّما حاولت الريح دفعنا إلى الخلف.
قالت: أكره الحوار مع الرجال.
قلت: لماذا؟
أجابت: لأنَّه لا يهمُّني! ولست مسؤولة عن فشل الحوارات.
هذا مبدأ العصر، و"موضة" جديدة ملأت البيوت والمؤسسات والإعلانات والصحف والمنتديات.
كلّ جنس يتحاور مع جنسه... هذا التقابل بين الذكورة والأنوثة، هو تلاقٍ بين جسدين ولذتين فقط، فاترك رؤوسنا فارغة، ولا تُحمّلني أكثر من قدرتي.
توقفتُ عن الهذر. صممتُ أن أُلغي هذا اللغط الاستهلاكي، رغم إيماني الكُلّي بأنّهُ أقصر الطُرق لتحريك العقل، ونقل كلّ ما يختفي من الدَّاخل إلى الخارج، ودون أدنى شكّ بشفافية عصرنا.
هزَّتْ رأسها رافضة بقوّة استمراري بالكلام. وكلَّما حاولتْ الإفلات من يدي، شددتُها نحوي، فتبتسم راضية، ويخرج زفير أنفاسنا الشتائي متهالكاً. أفرح لأنَّ حرارة الحوار تلاشت، وخفَّ توهّجه، بعد أن ردعتني بأجوبتها، فانخفض منسوب الكلام إلى أدناه، وارتفع جبل الصمت، وتسلَّقت ضحكاتنا دروبه الصخرية، بينما كُنَّا نفتّش عن طاولة في أول "كافتريا" قبل أن ينعطف بنا الشارع إلى جهة أخرى.
كعادتي أزحت الكرسي، وكان آخر ما أملك من طقوس الذَّوق والاحترام، فأحسَّتْ بالكبرياء والنشوة. تحوّلتُ بعد أن تقابلنا حول الطاولة إلى رجل بليد. خبَّأت الكلام الجميل، ربّما كنتُ أحوج في هذه الساعة إلى مراجعة لنظريتي "المستوردة" التي عَبرت الحدود واجتازت كلّ المخافر ونقاط التفتيش.
كانت أمل تحترق ببطءٍ، وهي المتشوّفة، الغيورة. وبين لحظتي صمت وقهر، كنت أُعيد النظر إلى أنفها، وتحضر أمامي أنوف عائلتها، وما أعرفه من أعمامها وأخوالها.
توصلتُ في النهاية إلى أنَّ أمل ورثت أنفها من عمّها، علماً أنّها تعرفه بالصورة، فهاجر الرجل وهي طفلة، لا تتذكّر إلاَّ أنّه كان مديراً لأحد المصارف، وقرأت الخبر المنشور في صحيفة محلية، لا يزال والدها يحتفظ بها. وعندما كبرت، وأصبحت في الجامعة، في قسم اللغة الإنكليزية، تفهَّمت ما يدور حولها، وهي ابنة الموظف البسيط في شركة "الكبلات".
عادت ذاكرتها تتحرَّك في دائرة واسعة. لعنت ساعة التخرّج والتدريس وهذا الانسحاق أمام موجة عارمة من القرف والضياع والتقهقر الروحي
بين الناس.
كانت كلّما دار الحوار بينها وبين زملائها، قبيل الولوج إلى المدرَّج، تفطن بذكاء، تستمع بإصغاء إلى عُمر الذي ينطّط مفاتيح السّيارة في كفّه.
تتذكّر سهام صديقتها الوديعة التي انقلبت بين ليلة وضحاها إلى فتاة أخرى. رفعتْ أمل رأسها. ارتشفت قهوتها، رفعتُ رأسي، وارتشفتُ أيضاً ما تبقّى في فنجان القهوة. تقابل الوجهان في هذا الفضاء الضيّق، وفي هذا الزمن المقتطع من مشوارنا، ومن حياتنا، الذي ينبغي أن نستثمر كلّ دقيقة منه.
تنفَّستْ أمل بعمق. خرجت من صمتها. تأفّفت كأنَّها تُمثّل مشهداً. وتعتصر ذكرياتها، بينما كنتُ أفتح لها درباً للحكي.
سألتها: هل تريدين أن تأكلي أيَّ شيء يُذوّب المرارة، ويرطب حلقك؟
لم تكترث لسؤالي. قالت: سأبدأ أولاً ولو أنّني ضلع من أضلاعك، علماً أنَّها، تعرف أنَّ الكذبَ والغشَّ صديقان قديمان، يعودان إلى مستنقع آسن، وكلّما انتهى عقد الصداقة بينهما، يجدّدانه على ورق أبيض ناصع، وحبر من هذا العصر، يُطلق عليه أصحابه "العقد الاجتماعي". ووصل الأمر أنَّ الكذب تحوَّل إلى عادة جميلة، يكتسبها الناس بالتدريج، وتغلِّف الصِّدق بقشور الجوز، وتعفَّن. وكلَّما كسرت غلافاً، ولامس الصِّدق الهواء، تفتَّت قطعاً ونتفاً صغيرة، وتبعثر على الأرض كالبذار، والناس ينتظرون المواسم، والجفاف يزداد، وتنحبس الأمطار، وتتقلَّص الفصول، وتتبدَّل النفوس. وهذه التحوّلات والانقسامات والاصطفافات، هي من صناعتنا، ولم تأتِ عبر الحدود. وبالعكس كلَّما ازداد الكذب، وغاب الصّدق، تراجعت الحقيقة، وذبلت أوراق الحُبّ. وتقابلت الأغصان المُحمَّلة بثمار، تُحقن بالإبر كي تنتفخ، وتتحوَّل بقدرة قادر إلى أصناف من الدرجة الأولى، يصفُّها الباعة في الواجهات، ويرتِّبونها حبَّة حبَّة، وهكذا إنسان هذه الأيام، لا تعرف كذبه من صِدْقه. فعندما يكذب الموظف أمام مديره، يفرح المدير، لأنّه يكذب أمام رئيسه.
وكان عمّي رجلاً كذَّاباً من الدرجة الممتازة، وهو الحاصل على إجازة في إدارة الأعمال من جامعة دمشق منذ ربع قرن، وهو الذي كذب على أبي، ودفعه إلى العمل مُبكّراً بعد حصوله على الشهادة الثانوية العامة، في معمل "الكبلات"، وكان يقدّم لـه كل ما يحتاج إليه من كتب وثياب ومصروف، مُطْمئناً أنّه سيقابله بالمثل، ويُعطيه مقابل ذلك حصَّته من الأرض.
فرح والدي لأنّه سيصبح مالكاً، فهو رجل يحبّ الأرض، وهو الذي وقف في وجه جدّي عندما همَّ ببيعها. مات جدي، وبقيت الأرض، ثمَّ فقدها بلحظة ابتهاج، فباعها عمّي ليكمل دراسته في أوربا. وكان قد حوَّل ثلاثة ملايين ليرة من المصرف التجاري الذي يعمل فيه مديراً إلى أحد البنوك الأوربية.
وجَّهتْ أمل سؤالها قائلة: كيف أبدأ الحوار معك؟ الآن أريد أن أحاورك. أريد أن أعرف مصيري ومصيرك في أجواء تتفحَّم وتزداد غَلَساً ورعونةً.
قلت لها: فكرة واحدة أثارتك إلى هذه الدرجة، لكن أشكرك لأنَّك أعطيتني فرصة صغيرة، أو أنَّكِ فتحتِ كوّة في جدار العبث، وغليان النفوس، وعدم القدرة على إصلاح ما خرَّبه عمُّكِ، وكيف استطاع خلط الأوراق مع والدك، والنفاذ عبر مسامات الكذب. وتحيَّن كلّ الفُرص للفوز به وقهره وتركه ينتظر مشاريع المستقبل التي وعده بها... وتركه يتخبَّط في أحلامه.
كيف تراني أتحاور معكَ على بناء كذبة جديدة! ألا ترى أنَّ كلَّ السلال مملوءة بالفواكه والخضار المغشوشة! ألا ترى أنَّ أجمل التفّاحات وأكبرها تغطّي وجه الصندوق هذا هو الظاهر، المكشوف، وما يختفي تحت أفكارنا الجميلة، كالتفَّاح المصاب بالجرب، فأفسده السَّماد والدّواء، وكبَّر أحجامه، وخلَّصه من المذاق اللَّذيذ.
مذاقاتنا وأفكارنا أصبحت مهووسة بالكلام، في ظلّ فراغ الأمكنة التي أخلاها الصِّدق، وعدم الأمان لهذا الزمان، وما يعتريه من شرذمة وعزلة ويَباس.
لا تعرف أمل أنّني شاب مشتّت الأفكار، تتنازعني في مدٍّ وجزر أمواج صاخبة، فأعتلي موجة، وتهبط أخرى إلى القيعان. ورغم ارتطامها بالشاطئ، لا أصحو من وهج القرف الحاصل في كلّ شيء. فالهواء أُفْسِدَ، وزحف الأسمنت، والتهمَ جمال المدينة. لم أعد أملك القدرة على استيعاب هذه الدفاتر المخزونة في ذاكرة عائلتك، فتثلَّج صدري، وانغسلت مسامات يدي بعرق يدك.
انتفضتْ أمل، وسحبت يدها كأنَّ نَحْلة لسعتها، أو أنَّ أصابعي اللَّجوجة نتفت أرياش إلحاحها المتعاظم، فرشقتها بابتسامة، لأنّني أعرف أنّها تحبّ الابتسامات الخفيفة اللّماحة، وتكره الخشونة.... تعرف مهنتي طبعاً، فما زلنا منذ ثلاث سنوات نُدرِّس في الثانوية نفسها، وشدَّنا خيط التقارب إلى هذا الانسجام الذي يُغطي يومنا ويظهر عدم الانسجام أحياناً، حينما نختلف على قضايا أعدُّها كبيرة. أمّا الأمور الصغيرة، إذا توقفتُ عندها، فسَرْعان ما ننساها بعد فنجان قهوة "سادة". دائماً كانت تؤكّد على مظهري الخارجي. وكنتُ أُراعي شعورها، وأوافق على الألوان التي تختارها. وهذا أحد أبرز نقاط التقاطع والتلاقي والانسجام بيننا. وكانت تتقبّل مشورتي واقتراحاتي، بتبديل أحمر الشفاه، أو لون الحذاء والشَّال، وموديل الثياب، والتخفيف من وزنها، لتظهر أناقتها، ورشاقتها أكثر.
وفي هذا اللقاء الذي تكرَّر كثيراً، بخاصة في أماسي العُطل الأسبوعية والرسمية، حاولتُ قاصداً إثارتها. أردتُ أن أُجرّبها، لعلَّ التجربة تدلّني على اكتشاف مخزونها الدَّاخلي، ودرجة الغضب عندها.
قلتُ: هل تذكرين عندما كنتِ برفقة سهام، وأوصلكما عُمر إلى ساحة "الإطفائية" بسيارته. ونزلتما هناك عند محال "البالة". ومررتُ بجانبك، لكنّك لم تنتبهي إليَّ. وكانت سهام تختار ما يناسبها من القمصان، وكنتِ تقلّبينها بين يديك.
سحبتْ أمل محفظتها بغضب بعد أن استمعت إلى هذا الخبر، كأنّها تريد الانقضاض عليَّ. وازداد غضبها وغيظها حينما لمست أصابعي قميصها الزيتي.
كررتُ إثارتها، وقلت: رائحة البالة تعشّش في القميص. ثمَّ قرَّبتُ طرف معطفها الجلدي من أنفي، وأظهرتُ تقزّزي، وقرفي!
ظلَّ الصمتُ يُمزِّق انسجامنا، وازداد خوفي. أحسستُ أنّني أثقلتُ عليها كلاماً لستُ بحاجة إلى البوح به الآن، وفي هذا الوقت بالذَّات. أنا مثلك تماماً تمتصُّ الأيام العشرة الأوائل من الشهر كلّ راتبي، فلا تحزني... انظري إلى قميصي، وربطة العُنق، وهذا الحذاء اللَّماع، كلّها ابتعتها من دكان أبي قيصر، جارنا الذي كلَّما فتح "بالة"، أوَّل ما يحسب حسابي، فيعزل لي القطع الجيّدة، وكذلك يتعامل مع الجيران، ويتردّد على دكانه زُبُن كُثُر.
كنتُ ألتقط شذرات باردة، حمقاء، تعصف بلوثات النسيان. وحينما تحضر أمامي صورة وجهها، وتتراقص بغضب تعابيره المتأفّفة، تصعب عليَّ قراءة سرّ أنفها الصغير، وسفحيه المنحدرين إلى غمَّازتيها. أنف صغير شامخ، أبيّ، يرتفع قليلاً نحو الأعلى، فتسمو به ومضة جمالية متأهّبة للانقضاض في أيّة لحظة انسيابية على غُصن مقاوم، لكنّه سَرْعان ما ينحني بخشوع.
حاولتُ ممارسة سياسة الإقناع بمبدأ الحوار، الذي قرأت عنه في الصحف والبيانات. حاولتُ أن أتلو عليها أسئلتي بطريقة سرية جدّاً. وعندما تكتشف ما كنت أُخبّئه، تهزّ كتفيها، غير راضية عن هذا الإعلان. كانت تقول: (كلَّما وجدتُ الوقت المناسب، أخرج معك إلى شارع الصمت). تُطلق رأيها، تبدو في جمال هدوئها رائعة، ساخنة. أخاف عليها من نسمة باردة تلفح وجهها، وتقهر أنفاسها الدافئة، المتصابية.
أقرأ في نفسي قدرتها على التضحية. أعلم أنَّها لا تحرم نفسها من إغفاءة بعد الظهيرة التي لا تُضّحي بها إلاَّ عندما أُهاتفها، فتُسرُّ، وينتفخ وجهها، ويلمع، يُصْدر تموجات مغناطيسية، تجذبني نحوها، فأقيّد الوجع الدَّاخلي، أتأبَّط ذراعها، ونمشي في أقرب شارع يطمئنها على ذكريات طفولتها ومراهقتها، تحت زخَّات المطر. تلتصق بجسدي كلّما حاولت الريح دفعنا إلى الخلف.
قالت: أكره الحوار مع الرجال.
قلت: لماذا؟
أجابت: لأنَّه لا يهمُّني! ولست مسؤولة عن فشل الحوارات.
هذا مبدأ العصر، و"موضة" جديدة ملأت البيوت والمؤسسات والإعلانات والصحف والمنتديات.
كلّ جنس يتحاور مع جنسه... هذا التقابل بين الذكورة والأنوثة، هو تلاقٍ بين جسدين ولذتين فقط، فاترك رؤوسنا فارغة، ولا تُحمّلني أكثر من قدرتي.
توقفتُ عن الهذر. صممتُ أن أُلغي هذا اللغط الاستهلاكي، رغم إيماني الكُلّي بأنّهُ أقصر الطُرق لتحريك العقل، ونقل كلّ ما يختفي من الدَّاخل إلى الخارج، ودون أدنى شكّ بشفافية عصرنا.
هزَّتْ رأسها رافضة بقوّة استمراري بالكلام. وكلَّما حاولتْ الإفلات من يدي، شددتُها نحوي، فتبتسم راضية، ويخرج زفير أنفاسنا الشتائي متهالكاً. أفرح لأنَّ حرارة الحوار تلاشت، وخفَّ توهّجه، بعد أن ردعتني بأجوبتها، فانخفض منسوب الكلام إلى أدناه، وارتفع جبل الصمت، وتسلَّقت ضحكاتنا دروبه الصخرية، بينما كُنَّا نفتّش عن طاولة في أول "كافتريا" قبل أن ينعطف بنا الشارع إلى جهة أخرى.
كعادتي أزحت الكرسي، وكان آخر ما أملك من طقوس الذَّوق والاحترام، فأحسَّتْ بالكبرياء والنشوة. تحوّلتُ بعد أن تقابلنا حول الطاولة إلى رجل بليد. خبَّأت الكلام الجميل، ربّما كنتُ أحوج في هذه الساعة إلى مراجعة لنظريتي "المستوردة" التي عَبرت الحدود واجتازت كلّ المخافر ونقاط التفتيش.
كانت أمل تحترق ببطءٍ، وهي المتشوّفة، الغيورة. وبين لحظتي صمت وقهر، كنت أُعيد النظر إلى أنفها، وتحضر أمامي أنوف عائلتها، وما أعرفه من أعمامها وأخوالها.
توصلتُ في النهاية إلى أنَّ أمل ورثت أنفها من عمّها، علماً أنّها تعرفه بالصورة، فهاجر الرجل وهي طفلة، لا تتذكّر إلاَّ أنّه كان مديراً لأحد المصارف، وقرأت الخبر المنشور في صحيفة محلية، لا يزال والدها يحتفظ بها. وعندما كبرت، وأصبحت في الجامعة، في قسم اللغة الإنكليزية، تفهَّمت ما يدور حولها، وهي ابنة الموظف البسيط في شركة "الكبلات".
عادت ذاكرتها تتحرَّك في دائرة واسعة. لعنت ساعة التخرّج والتدريس وهذا الانسحاق أمام موجة عارمة من القرف والضياع والتقهقر الروحي
بين الناس.
كانت كلّما دار الحوار بينها وبين زملائها، قبيل الولوج إلى المدرَّج، تفطن بذكاء، تستمع بإصغاء إلى عُمر الذي ينطّط مفاتيح السّيارة في كفّه.
تتذكّر سهام صديقتها الوديعة التي انقلبت بين ليلة وضحاها إلى فتاة أخرى. رفعتْ أمل رأسها. ارتشفت قهوتها، رفعتُ رأسي، وارتشفتُ أيضاً ما تبقّى في فنجان القهوة. تقابل الوجهان في هذا الفضاء الضيّق، وفي هذا الزمن المقتطع من مشوارنا، ومن حياتنا، الذي ينبغي أن نستثمر كلّ دقيقة منه.
تنفَّستْ أمل بعمق. خرجت من صمتها. تأفّفت كأنَّها تُمثّل مشهداً. وتعتصر ذكرياتها، بينما كنتُ أفتح لها درباً للحكي.
سألتها: هل تريدين أن تأكلي أيَّ شيء يُذوّب المرارة، ويرطب حلقك؟
لم تكترث لسؤالي. قالت: سأبدأ أولاً ولو أنّني ضلع من أضلاعك، علماً أنَّها، تعرف أنَّ الكذبَ والغشَّ صديقان قديمان، يعودان إلى مستنقع آسن، وكلّما انتهى عقد الصداقة بينهما، يجدّدانه على ورق أبيض ناصع، وحبر من هذا العصر، يُطلق عليه أصحابه "العقد الاجتماعي". ووصل الأمر أنَّ الكذب تحوَّل إلى عادة جميلة، يكتسبها الناس بالتدريج، وتغلِّف الصِّدق بقشور الجوز، وتعفَّن. وكلَّما كسرت غلافاً، ولامس الصِّدق الهواء، تفتَّت قطعاً ونتفاً صغيرة، وتبعثر على الأرض كالبذار، والناس ينتظرون المواسم، والجفاف يزداد، وتنحبس الأمطار، وتتقلَّص الفصول، وتتبدَّل النفوس. وهذه التحوّلات والانقسامات والاصطفافات، هي من صناعتنا، ولم تأتِ عبر الحدود. وبالعكس كلَّما ازداد الكذب، وغاب الصّدق، تراجعت الحقيقة، وذبلت أوراق الحُبّ. وتقابلت الأغصان المُحمَّلة بثمار، تُحقن بالإبر كي تنتفخ، وتتحوَّل بقدرة قادر إلى أصناف من الدرجة الأولى، يصفُّها الباعة في الواجهات، ويرتِّبونها حبَّة حبَّة، وهكذا إنسان هذه الأيام، لا تعرف كذبه من صِدْقه. فعندما يكذب الموظف أمام مديره، يفرح المدير، لأنّه يكذب أمام رئيسه.
وكان عمّي رجلاً كذَّاباً من الدرجة الممتازة، وهو الحاصل على إجازة في إدارة الأعمال من جامعة دمشق منذ ربع قرن، وهو الذي كذب على أبي، ودفعه إلى العمل مُبكّراً بعد حصوله على الشهادة الثانوية العامة، في معمل "الكبلات"، وكان يقدّم لـه كل ما يحتاج إليه من كتب وثياب ومصروف، مُطْمئناً أنّه سيقابله بالمثل، ويُعطيه مقابل ذلك حصَّته من الأرض.
فرح والدي لأنّه سيصبح مالكاً، فهو رجل يحبّ الأرض، وهو الذي وقف في وجه جدّي عندما همَّ ببيعها. مات جدي، وبقيت الأرض، ثمَّ فقدها بلحظة ابتهاج، فباعها عمّي ليكمل دراسته في أوربا. وكان قد حوَّل ثلاثة ملايين ليرة من المصرف التجاري الذي يعمل فيه مديراً إلى أحد البنوك الأوربية.
وجَّهتْ أمل سؤالها قائلة: كيف أبدأ الحوار معك؟ الآن أريد أن أحاورك. أريد أن أعرف مصيري ومصيرك في أجواء تتفحَّم وتزداد غَلَساً ورعونةً.
قلت لها: فكرة واحدة أثارتك إلى هذه الدرجة، لكن أشكرك لأنَّك أعطيتني فرصة صغيرة، أو أنَّكِ فتحتِ كوّة في جدار العبث، وغليان النفوس، وعدم القدرة على إصلاح ما خرَّبه عمُّكِ، وكيف استطاع خلط الأوراق مع والدك، والنفاذ عبر مسامات الكذب. وتحيَّن كلّ الفُرص للفوز به وقهره وتركه ينتظر مشاريع المستقبل التي وعده بها... وتركه يتخبَّط في أحلامه.
كيف تراني أتحاور معكَ على بناء كذبة جديدة! ألا ترى أنَّ كلَّ السلال مملوءة بالفواكه والخضار المغشوشة! ألا ترى أنَّ أجمل التفّاحات وأكبرها تغطّي وجه الصندوق هذا هو الظاهر، المكشوف، وما يختفي تحت أفكارنا الجميلة، كالتفَّاح المصاب بالجرب، فأفسده السَّماد والدّواء، وكبَّر أحجامه، وخلَّصه من المذاق اللَّذيذ.
مذاقاتنا وأفكارنا أصبحت مهووسة بالكلام، في ظلّ فراغ الأمكنة التي أخلاها الصِّدق، وعدم الأمان لهذا الزمان، وما يعتريه من شرذمة وعزلة ويَباس.
لا تعرف أمل أنّني شاب مشتّت الأفكار، تتنازعني في مدٍّ وجزر أمواج صاخبة، فأعتلي موجة، وتهبط أخرى إلى القيعان. ورغم ارتطامها بالشاطئ، لا أصحو من وهج القرف الحاصل في كلّ شيء. فالهواء أُفْسِدَ، وزحف الأسمنت، والتهمَ جمال المدينة. لم أعد أملك القدرة على استيعاب هذه الدفاتر المخزونة في ذاكرة عائلتك، فتثلَّج صدري، وانغسلت مسامات يدي بعرق يدك.
انتفضتْ أمل، وسحبت يدها كأنَّ نَحْلة لسعتها، أو أنَّ أصابعي اللَّجوجة نتفت أرياش إلحاحها المتعاظم، فرشقتها بابتسامة، لأنّني أعرف أنّها تحبّ الابتسامات الخفيفة اللّماحة، وتكره الخشونة.... تعرف مهنتي طبعاً، فما زلنا منذ ثلاث سنوات نُدرِّس في الثانوية نفسها، وشدَّنا خيط التقارب إلى هذا الانسجام الذي يُغطي يومنا ويظهر عدم الانسجام أحياناً، حينما نختلف على قضايا أعدُّها كبيرة. أمّا الأمور الصغيرة، إذا توقفتُ عندها، فسَرْعان ما ننساها بعد فنجان قهوة "سادة". دائماً كانت تؤكّد على مظهري الخارجي. وكنتُ أُراعي شعورها، وأوافق على الألوان التي تختارها. وهذا أحد أبرز نقاط التقاطع والتلاقي والانسجام بيننا. وكانت تتقبّل مشورتي واقتراحاتي، بتبديل أحمر الشفاه، أو لون الحذاء والشَّال، وموديل الثياب، والتخفيف من وزنها، لتظهر أناقتها، ورشاقتها أكثر.
وفي هذا اللقاء الذي تكرَّر كثيراً، بخاصة في أماسي العُطل الأسبوعية والرسمية، حاولتُ قاصداً إثارتها. أردتُ أن أُجرّبها، لعلَّ التجربة تدلّني على اكتشاف مخزونها الدَّاخلي، ودرجة الغضب عندها.
قلتُ: هل تذكرين عندما كنتِ برفقة سهام، وأوصلكما عُمر إلى ساحة "الإطفائية" بسيارته. ونزلتما هناك عند محال "البالة". ومررتُ بجانبك، لكنّك لم تنتبهي إليَّ. وكانت سهام تختار ما يناسبها من القمصان، وكنتِ تقلّبينها بين يديك.
سحبتْ أمل محفظتها بغضب بعد أن استمعت إلى هذا الخبر، كأنّها تريد الانقضاض عليَّ. وازداد غضبها وغيظها حينما لمست أصابعي قميصها الزيتي.
كررتُ إثارتها، وقلت: رائحة البالة تعشّش في القميص. ثمَّ قرَّبتُ طرف معطفها الجلدي من أنفي، وأظهرتُ تقزّزي، وقرفي!
ظلَّ الصمتُ يُمزِّق انسجامنا، وازداد خوفي. أحسستُ أنّني أثقلتُ عليها كلاماً لستُ بحاجة إلى البوح به الآن، وفي هذا الوقت بالذَّات. أنا مثلك تماماً تمتصُّ الأيام العشرة الأوائل من الشهر كلّ راتبي، فلا تحزني... انظري إلى قميصي، وربطة العُنق، وهذا الحذاء اللَّماع، كلّها ابتعتها من دكان أبي قيصر، جارنا الذي كلَّما فتح "بالة"، أوَّل ما يحسب حسابي، فيعزل لي القطع الجيّدة، وكذلك يتعامل مع الجيران، ويتردّد على دكانه زُبُن كُثُر.
:10::10::10::10: