(( عناقيد.. في الذاكرة))

سعد قيس

سعد الروح البيلساني قلب منتهي الصلاحية

إنضم
Jul 3, 2008
المشاركات
6,963
مستوى التفاعل
62
المطرح
الكــرســـي ..!!
(( عناقيد.. في الذاكرة))

زحمة المكان حشرتني في الزاوية..!
لملمت جسدي..
كورته وكأنني جنين.. والعيون المتلفعة بالخوف والترصد، تتابع الثغرة والضوء المغبر المنبعث منها.
الوجوه حولي ما عادت تمتلك نفس ملامحها، تغطيها أكوام من التعب، وحيرة رسمت أخاديد حادة، لم أدر متى حفرتها يد الزمن، أوْ أنها كانت موجودة أصلا، لكني لم أعرها يوما انتباهي..؟!
الزمن الضائع هاهنا، يعلن عن بطئ حركته، أوْ أنه تجمد..؟
لا أعرف..!!
ذكرني انحشارنا وجلوسنا جميعا كأجنة، يوم كنت صغيرا، أجمع رفاقي خفية عن أعين الفلاحين، وأذهب وإياهم، ويدي تمسك بيد الزهراء ابنة العم.. حبيبة طفولتي.. إلى ((كرمات العنب)) المتدلية عناقيدها كمصابيح صغيرة متلاصقة، وهي تتلألأ بألوانها القرمزية فوقنا، ونحن نقطفها بأفواهنا وهي معلقة بأغصانها، وألقم حبة العنب من فمي لفم الزهراء الصغير المكتنز، كحبة كرز حان قطافها، ونضحك مِلْءَ أشداقنا بكل شقاوة الطفولة وبراءتها من مطاردة الفلاحين لنا، نسابق الريح حفاة هربا من ضرباتهم الموجعة، ونبتلع حبات العنب بشراهة.. و نمصمص شفاهنا..
فضحكت بصوت مسموع، وأنا أردد:
- كم كنت مغرما بها.. كم كنت أعشق عناقيد العنب..!!
لكزني صاحبي، بخاصرتي، وهمس:
- صه، أجننت.. سيسمعونك.. وسيأتون؟
قهقهت بسخرية مريرة، وبالكاد استطعت أن أقول له:
- أو تظن أنهم سيسمعوننا؟ إنهم بعيدون عنا كثيرا، لكنهم... يتحسسونا..!!
ذهل صاحبي، وفغر فاهه الواسع، الذي كنت أسميه ((الحفرة)) فهو لا يفتأ يدفع بكل شيء إلى داخله دون عناء، ونضحك منه وهو يسابقنا وقت الوجبات باللقمات الكبيرة التي يحشرها بفمه حشرا، وكثيرا ما لحقنا به مهرولين خلفه وهو يحمل (( القصعة)) ويهرب منا، يجري ويأكل.. مع أنه نحيف بشكل لافِت..!!
وهل الأمس يشبه اليوم..؟؟!!
وهذه العناقيد التي تتناثر علينا من السماء، فنهرب منها إلى أي جوف.. يصادفنا!!

ساد صمت رهيب إلا من دوي بعيد عنا، فخرجنا من الفجوة، الواحد تلو الآخر، لكننا لم نستطع أن نفرد أجسامنا، نتلفت حولنا..والرهبة تقتحم أجسادنااقتحاما.
أحسست بيد صاحبي الباردة تمسك بيدي، فسَرَت بجسدي قشعريرة خفيفة.. همس واهنا، قريبا من أذني:
- أنا جائع حد الخواء.. وخائف.
ضغطت بيدي على يده المتشبثة بذراعي وهمست ، مطمئنا :
- لا تخف صديقي، الليلة نسير بلا توقف، وعند الصباح.. سنكون قد وصلنا.
خيل إليّ أني سمعت صوت تنفسه الصعداء، فابتسمت بحزن، ومضيت معه نحث الخطى ورفاقنا الباقون دون كلل.. نتعثر بخطانا والليل ستارنا، من أعين بتنا نخشاها أكثر من قصف الطائرات، وقنابل عمياء.. لا تعرفنا..!
أضاءت السماء، ومضات قوية.. تتفجر ((عناقيد)) قاتلة.. تمسك بي صاحبي أكثر، صرنا نركض بسرعة.. وفوضى.. نبحث عن مخبأ لنا..وانفلاق (( القنابل العنقودية)) حولنا ينير عتمة الليل.. كان منظر الوجوه الخائفة موجعا.
تعالت صرخات الألم المفرط، بعد أن دكت منطقتنا بالصواريخ فلم أعد أسمع جيدا، غير وشوشة قوية تدوي بأذني!!
لكني شعرت بالقنبلة حين سقطت قريبة منا، فأسقطني عصفها أرضا، وكأنه اقتلعني، وابتعد صاحبي عني وصرخة مكتومة أطلقها، جعلتني أرتعش.. ثم تلاشت مع أصوات التوجع الأخرى ..!
ما عرفت سابقا أن الألم يمكن أن يكون موجعا هكذا..!
ما عرفت..!!
رباه.. إني أتوجع كثيرا.. هذا الخدر الغريب الذي بدأ يعتري جسدي.. أثار مخاوفي بأني ربما أُحْتَضَر..!!
فتحت عيني على وسعيهما..
كان الفجر يكاد أن يولد لحظتها..
حاولت رفع يدي لأتحسس جسدي المثخن بالوجع، فوجدتها ثقيلة جدا..
أدرت رأسي نحوها لأعرف مدى إصابتها..
كان جسد صاحبي يرقد بعيدا جدا عني..
عيناه المفتوحتان تنظران بتصخر نحوي ..
ويده الباردة ما تزال تمسك .. بذراعي!!

 

آلبتول

أدميرال

إنضم
Jul 5, 2008
المشاركات
10,067
مستوى التفاعل
172
المطرح
من جزيرة العرب وبقايا بخور فرنسي !!
رسايل :

قد أكون ... فراشة تحلق في السماء ولكن في الحقيقة ... ألسع كالنحلة!

سعد قيس

سعد الروح البيلساني قلب منتهي الصلاحية

إنضم
Jul 3, 2008
المشاركات
6,963
مستوى التفاعل
62
المطرح
الكــرســـي ..!!
أعلى