غسان كنفاني ( أرض البرتقال الحزين )

The Hero

الأســــــــــــــطورة

إنضم
Jun 29, 2008
المشاركات
20,104
مستوى التفاعل
69
المطرح
في ضحكة عيون حبيبي
رسايل :

شكرًا للأشواك علَّمتني الكثيرَ

أرض البرتقال الحزين , مجموعة قصص قصيرة لغسان كنفاني.



أبعد من الحدود

صعد الرجل الهام الدرجات القليلة إلى بيته , فتح له الباب , القى محفظته الجلدية فوق الطاولة , قبل زوجته , نظر الى طفله النائم في الحرير الأزرق , فك رباط عنقه , ساعده الخادم على خلع حذائه , اخذت زوجته المعطف , علقته على المشجب , فرك يديه مستمتعاً بالدفء ..

أتريد أن تتناول عشاءك الآن؟

أوه نعم , أنا جائع جداً ...

استدارت زوجته ذاهبة الى خارج الغرفة , رغرغ الصغير في حريره الأزرق , أصوات الصحون تأتي اليه مخدرة من وراء باب غرفة الطعام ,

ثم صوت زوجته:

هل مسكتموه؟

من ؟

الشاب الذي قفز من النافذة أثناء التحقيق . .

ليس بعد ولكن اين يريد أن يفر؟ سيكون مآله الينا بين ساعة وأخرى ..

ماذا كانت جريمته بالضبط ؟

من اين لي ان ادري؟ لقد طلب مقابلتي ثم هرب ...

قام عن الكرسي الوثير, انتعل شحاطته ذات الفرو، اجتاز الباب الى غرفة الطعام ، جلس في كرسيه المفضل ، قرب وجهه من صحن الحساء واستمتع بالبخار المتصاعد منه . . .

هذا الحساء ساخن جداً, سيحرقي. .

عليك ان تنتظر برهة . .

انا مرهق جداً اليوم .

تراخى في كرسيه وأحس بثقل يتمدد في جفنيه, سمع صوت شباك ينغلق بعنف, زوجته تنسى دائماً شباك الحمام مفتوحاً فتلعب به الريح . . أحس برغبة جامحة في النوم . . كيف استطاع ذلك الشقي ان يثب من الشباك دون ان يؤذي نفسه ؟ كلهم شياطين مجرمون . .

-(( سوف القي خطاباً امامك ))

سمع هذه الجملة بوضوح فحاول ان يرفع رأسه ، الا انه كان مستمتعاً بالدفء ، والنعاس، سأل نفسه : تراه من يكون ؟

-(( الشاب الذي هرب من النافذة , عاد من النافذة يا سيدي!))

ومرة اخرى لم يشأ أن يرفع رأسه رغم أنه أحس بشيء من الرعب . . . كان بخار الحساء ما زال يتصاعد فيحمل الى وجهه نكهة رطوبة دافئة ، قال لنفسه (( لاشك أنهم امسكوا ذلك الشاب . . أنا أفكر به الآن لأن حاستي السادسة نامية, انا أثق بها )). .

-((لن تقاطعني يا سيدي, أليس كذلك؟ أريد أن ألقي خطاباً ))

-(( لا لن اقاطعك ))

لم يعد بوسعه ، الآن ، ان يفتح عينيه ورغم ذلك فهو لم ينم بعد. . انها اللحظات القليلة العائمة التي تسبق النوم مباشرة, هكذا فكر، انه يعرف جيداً هذه اللحظات, ويمتصها, نصف واع, حتى الثمالة . .

-(( إسمح لي يا سيدي أن ارتجف امامك ريثما يبرد الحساء, انت لن تمنعي من الارتجاف , أليس كذلك ؟ انه حق ما زال متوفراً لي حتى الأن . . شيء مؤسف ولكنه حقيقة واقعة . . ان رجالك لا يستطيعون ان يمنعوني من ذلك , اعتقد أنهم يرغبون في ذلك . . أليس الارتجاف حركة ؟ ولكن كيف يتعين عليهم أن يفعلوا؟ ايعطونني معطفاً؟ كيف ؟ يعطون الخنزير معطفاً؟ ))

هز رأسه في محاولة عنيفة لابعاد الصوت الحاد إلا أذ الحروف كانت تتكلب في صدغية كالعلق . .

-(( لا يا سيدي , لا تحاول آن تستدعي كاتبك ليحمل لك الملف الذي يحتوي على كل التفاصيل الهامة وغير الهامة لحياتي . . تريد ان تعرف شيئاً عني؟ هل يهمك ذلك ؟ احسب على أصابعلث إذن : لي أم ماتت تحت أنقاض بيت بناه لها أبي في صفد ، أبي يقيم في قطر آخر وليس بوسعي الالتحاق به ولا رؤيته ولا زيارته , لي اخ ، يا سيدي , يتعلم الذل في مدارس الوكالة ، لي أخت تزوجت في قطر ثالث وليس بوسعها أن تراني أو ترى والدي , لي أخ آخر, يا سيدي , في مكان ما لم يتيسر لي أن أهتدي اليه بعد . . تريد آن تعرف جريمتي ؟ هل يهمك حقأ أن تعرف أم أنت فضولي بريء يا سيدي؟ لقد سكبت دون أن أعي , كل محتويات وعاء الحليب فوق رأس الموظف وقلت له انني لا اريد بيع وطني ... في لحظة جنون أم لحظة عقل ، لا أدري . . . لقد وضعوني في زنزانة سحيقة العمق لكي أقول انها لحظة جنون . . ولكنني، في تلك الزنزانة ، تيقنت أكثر من أية لحظة مضت بأنها كانت لحظة العقل الوحيدة في حياتي كلها. . .

هذا صوت أسناني تصطك من شدة البرد يا سيدي ، لا تخف انا لا أحمل سلاحاً اذا كنت تعتقد أن اسناني ليست سلاحاً , إن ساقي عاريتان ممزقتان لانني قفزت من نافذتك , وقد خطرت لبالي فكرة صغيرة وأنا أمعن في الركض مبتعداً عن غرفتك وحرسك وهي أن هذا الدم الذي سال من ساقي قد تفجر من جروح هي أول جروحي , وان ذلك , للعجب ، لا يحدث على الحدود . ولا أريد أن أخفي عنك شيئاً، يا سيدي . . لقد بعث ذلك في شيئاً يشبه الخجل ولكنه كان خجلاً حزيناً بائساً ما لبث أن صار دمعاً . . ويبدو أن ذلك الخجل هو الذي دفعي لأعود اليك من النافذة ، أم تراني عدت لأن كلمتك الأخيرة ، التي سمعتها وانا أثب من النافذة وكانت آخر ما سمعت منك ، ما تزال تنخر في رأسي كالمثقب : كلمة ناشفة انهمرت ورائي وانا أقفز : (( الخنزير ... امسكوه )) !

يا سيدي ، أنا إذن خنزير حقير ... أتسمح لي أن أكونه ؟ أنا لست أشعر ذلك إذا أردت الصدق . . ولكن لو قلت الصدق هذا ، بصوت أعلى ، إذن لزجوا بي في السجن . واذا أغلقوا وراء ظهري المزلاج فمن يستطيع ان يفتحه ؟ أنت ؟ ولا حتى من هو أعلى منك قيمة ومركزاً ...! أتعرف لماذا يا سيدي؟ لأني ، في الواقع ، لست إلا تجارة من نوع نادر،

فأنت ستسأل نفسك إذا قدر لك أن تسمع بالخبر : (( . . . وماذا سأستفيد من إطلاقه ؟)) والجواب بكل بساطة : (( لا شيء! )) فأنا لست صوتاً انتخابياً, وانا لست مواطناً, باي شكل من الأشكال , وأنا لست منحدراً من صلب دولة تسال بين الفينة والأخرى عن اخباررعاياها. . وأنا عنوع من حق الاحتجاج ء ومن حق الصراخ فماذا ستربح ؟ لا شيء . . وماذا ستخسرإذا بقيت انا وراء المزلاج ؟ لا شيء أيضاً! إذن لماذا التفكير الطويل ؟ ((خذ هذه الاوراق يا ولد ولا تزعجي بمثلها مرة اخرى! )) أرأيت ؟ مشكلة لا أبسط ولا أسهل !

لقد فكرت في الامر مطولاً في المدة الاخيرة يا سيدي . . أنت تعرف ، لا بد أن الواحد منا ما زال يفكر بين الفينة والاخرى . . لقد كنت ماشياً في الشارع وفجأة سقطت الفكرة في رآسي كلوح زجاج كبيرما لبث أن تكسر وأحسست بشظاياه تتناثر في جسدي من الداخل . . قلت لنفسي : (( أوف . . ثم ماذا؟)) وأنت ترى, إنه مجرد سؤال صغير يمكن للمرء ان يطرحه ولو بعد خمس عشرة سنة . . ولكن العجيب هذه المرة أن السؤال كان صلباً وناشفاً وأكاد أقول نهائياً . . اذ انه , فور أن سقط في رأسي , انفتح خندق مظلم طويل بلا نهاية . . .

وقلت لنفسي : (( لا بد ان أكون موجوداً رغم كل شيء . . لقد حاولوا ان يذوبوني كقطعة سكر في فنجان شاي ساخن . . وبذلوا , يشهد الله , جهداً عجيباً من أجل ذلك . . ولكنني ما أزال موجوداً رغم كل شيء . . )) الا أن السؤال كان ما يزال يعوي : (( ثم ماذا؟ )) هذا النوع من الاسئلة يا سيدي عجيب للغاية , ذلك انه اذا ما أتى لن يكون بوسعه ان يبرح قبل أن يروي ظمأه تماماً!

نعم , ثم ماذا؟ دعني اقول همساً : يبدو ان ليس ثمة (( ثم ماذا )) ابداً .

دعني اقول ذلك (( ثم قولوا عني انني يائس جبان هارب . . قولوا عني حتى إنني خائن ! ليس بوسعي ان اكتم الجواب اكثر . . ان الحقيقة يا سيدي مروعة, وهي تملؤني بغزارة حتى لأحس بأني , ذات يوم ، قد أنفجر من فرط ما عبأتني . . أتسع يا سيدي؟ ليس ثمة ((ثم ماذا)) على الاطلاق . . وتبدو لي حياتي ، حياتنا كلنا ، خطاً مستقيماً يير بهدوء وذلة الن جانب خط قضيتي . . ولكن الخطين متوازيان , ولن يلتقيا

يا سيدي !

إن كنت أنا قد جمعت طوال فترة قاسية شجاعة خارقة لأقرر هذه الحقيقة , فان الشرف كله ليس لي , انا لي شرف القول فقط وانتم تحتفظون بكل شرف التأليف. . ألست ترى أنكم انتم الذين اعددتموني ساعة اثر ساعة ويوماً اثر يوم وعاماً اثر عام لهذه النتيجة ؟

لقد حاولتم تذويبي يا سيدي ! حاولتم ذلك بجهد متواصل لا يكل ولا يمل يا سيدي . هل اكون مغروراً فأقول بأنكم لم تفلحوا؟ بلى ! افلحتم الى حد بعيد وخارق ، الست ترى انكم استطعتم نقلي ، بقدرة قادرة , من انسان الى حالة ؟ انا اذن حالة . . لست اعلى من ذلك قط ، وقد اكون ادنى . . ولانني حالة , لاننا حالة ، فنحن نستوي بشكل مذهل ! انه عمل رائع يا سيدي , عمل رائع جداً رغم انه احتاج الى فترة طويلة ، ولكن يا سيدي ، ان تذويب مليون انسان معاً , ثم جعلهم شيئاً متوحداً ليس عملاً سهلاً، ولذلك ا عتقد انك تسمح له ان احتاج ذلك الوقت الطويل . . لقد افقدتم اولئك المليون صفاتهم الفردية المميزة . . ولستم في حاجة , الآن ، الى تمييز وتصنيف ، انتم الآن امام حالة . . فاذا خطر لكم ان تسموها لصوصية , فانهم لصوص . . خيانة ؟ كلهم ، اذن ، خونة ! فلماذا الارهاق والتعب والنظرات البشرية المعقدة ؟
سيدي . . لا تتعجل على فهمي البطيء, انا اريد ان اقول ايضاً انهم من ناحية اخرى، (( حالة تجارية )) . . انهم ، اولاً، قيمة سياحية ، فكل زائر يجب ان يذهب الى المخيمات , وعلى اللاجئين ان يقفوا بالصف وان يطلوا وجوههم بكل الاسى الممكن , زيادة عن الاصل , فيمر عليهم السائح ويلتقط الصور, ويحزن قليلاً. . ثم يذهب ان بلده ويقول : (( زوروا مخيمات الفلسطينيين قبل ان ينقرضوا )) ثم انهم , ثانياً. قيمة زعامية , فهم مادة الخطابات الوطنية واللفتات الانسانية والمزايدات الشعبية . . وانت ترى, يا سيدي, لقد اصبحوا مؤسسة من مؤسسات الحياة السياسية التي تدر الربح يميناً ويساراً!

سيدي ، ليس هناك اي ((ثم)) ! هذه حقيقة مروعة , ولكنها حقيقة على اية حال . . لقد تقولب دوري في الحياة بشكل حاسم . انا , كفرد, مجرد خنزير، وانا , كجماعة ، حالة ذات قيمة تجارية وسياحية وزعامية . . لقد فكرت طويلاً قبل ان اصرح بهذا الاكتشاف ، وانا اعرف بأن المنابر ستمتلىء بمن يقول : هذا خائن جبان متخاذل هارب ، لا بأس , لن ينالني العار اكثر مما نالني , وبعد خمسة عشر عاماً لا بأس ان تكونوا كلكم زعماء الاخلاص ورجال المعركة والابطال الصناديد الذين لا ييأسون ولا يهربون . . .

سيدي! إن مؤسستنا تقدم خدمات اخرى لا يحصيها العد .....

نحن مثلاً اكثر جماعة ملائمة من اجل ان تكون مادة درس للبقية ... الاحوال السياسية مستعصية صعبة؟ اذن , اضرب المخيمات! اسجن بعض اللاجئين ، بل كلهم اذ استطعت ! اعط مواطنيك درساً قاسياً دون ان تؤذيهم .. ولماذا تؤذيهم اذا كان لديك جماعة مخصصة تستطيع ان تجري تجاربك في ساحاتها؟

اريد ان الفت نظرك يا سيدي الى امور كثيرة اخرى, انت تستطيع ان تؤكد ولاء مواطنيك عن طريق الادعاء بأن المتذمرين انما هم بعض الفلسطينيين , وإذا فشل مشروع من مشاريعك فقل ان الفلسطييين سبب ذلك الفشل ، كيف ؟ انه امر لا يحتاج الى تفكر طويل ، قل انهم مروا من هناك مثلاً. . اوانهم رغبوا في المشاركة . . او اي شيء آخر، إذ ما من أحد سينبري لمحاسبتك . . ولماذا ينبري؟ من يملك ، بعد خمسة عشر عاماً، جرأة التطويح بنفسه في القضاء دون هدف ؟

يا سيدي, انت ترى، نحن رحمة احياناً. . انت تستطيع ان تشنق واحداً منا فتربي بجسده الميت الفاً من الناس دون ان تحمل هماً او خوفاً اوتأنيب الضمير. . الا اننا يا سيدي, نقمة في كثيرمن الاحيان ، نحن لصوص, نحن خونة ، نحن بعنا ارضنا للعدو. . ونحن طماعون ، طماعون نريد ان نمتص كل شيء هنا، حتى التراب ..

هذا هو الدور الذي رسم لنا . . وعلينا ان نقوم به شئنا ام ابينا . .

ولكن ، يا سيدي ، هنالك مشكلة بسيطة تؤرقي واشعر ان لا بد لي من قولها . . ان كثيراً من الناس ، اذا ما شعر انه يشغل حيزاً في المكان ,يبدأ بالتساؤل ، (( ثم ماذا ؟)) وابشع ما في الامر انه لو اكتشف بأن ليس له حق ((ثم)) ابداً . . يصاب بشيء يشبه الجنون , فيقول لنفسه بصوت منخفض : : (( اية حياة هذه ! . الموت افضل منها)) ثم ، مع الايام يبدأ بالصراخ : (( اية حياة هذه ! الموت افضل منها)) والصراخ ، يا سيدي عدوى ، فاذا الجميع يصرخ دفعة واحدة: (( اية حياة هذه ! . الموت افضل منها )) ولأن الناس عادة لا يحبون الموت كثيراً فلا بد ان يفكرو بأمر آخر .

سيدي ..

اخشى ان يكون حساؤك قد برد، فاسمح لي ان انصرف ! )) .


 

The Hero

الأســــــــــــــطورة

إنضم
Jun 29, 2008
المشاركات
20,104
مستوى التفاعل
69
المطرح
في ضحكة عيون حبيبي
رسايل :

شكرًا للأشواك علَّمتني الكثيرَ


قبل ان يصل الى رأس السلم وقف ليلتقط انفاسه . . لا, لا يمكن ان يكون مرهقاً الى هذا الحد . . انه يعرف جيداً انه ليس مرهقاً ابداً . . لقد انزلته السيارة على باب الفندق ، ثم انه لا يحمل سوى سلة صغيرة والسلم لم يكن طويلاً كما تصور. . ولكن هذه الدرجات الثلاث الاخيرة هي التي تحطمه دائماً وتذوب ركبتيه وتهدم اصراره . .

وضع السلة على السلم واتكأ بكتفه الى الحائط . . هل يعود ادراجه ؟ بدا له السؤال عجيباً ولكنه لم يستطع ان يتخلص منه , كان يدق في رأسه كالناقوس . . . هل أعود؟ وفي دوامة التردد التي اخذت تطوف في عروقه تذكر فجأة انه كان قد وقف نفس هذه الوقفة قبل عامين وسأل نفسه ذات السؤال, وبعد لحظة واحدة كرّ عائداً الى السيارة ، ثم غادر القدس . . هل يعود ادراجه الآن مرة اخرى؟ مد كفه الى السلة فقبض على ذراعها بعنف واندفع الى فوق كأنه يقتلع نفسه اقتلاعاً من بحيرة طين ..

لا! هذه المرة لن اعود! انه من العار ان اكون جباناً الى هذا الحد . . لقد حملت على كتفي قدراً قميثأ ثقيلاً طيلة عشر سنوات طويلة . . وعليّ الآن ان اغسله في ظل بوابة مندلبوم ، التي ترتفع فاصلاً من حجارة بين الارض المحتلة والارض الباقية ...

لا، هذه المرة لن اعود . . يجب ان اضع حداً للكذب الطويل الذي مارسته مختاراً او مرغماً، لست ادري ، طوال عشر سنوات . .

حين وصل قبل عامين الى القدس كان قد عقد عزمه على ان يقابل امه ويقول لها كل شيء. . ولكنه في لحظة وقوفه على سلم الفندق شعر بأنه لن يستطيع ان يمسح الكذب الطويل الذي ساقه على أمه عندما كان يراسل الاذاعة قائلاً: (( انا ودلال بخير، طمنونا عنكم . . )) لقد نمت الكذبة طيلة هذه السنوات العشر نمواً فظاً حتى انه لم يجد مبرراً ليقول الحقيقة مرة واحدة حاسمة وقاسية وربما قاتلة ايضاً. . ولذلك فضل يومها ان يكف عن صعود السلم ، وكرّ عائداً الى السيارة . . وما من شك في ان امه قد قضت طيلة ذلك الصباح واقفة في حلق البوابة تتطاول بعنقها باحثة بين الجموع . وما من شك فى انها اصيبت بخيبة امل مريرة وفاجعة . . ولكن ذلك كله يبقى اسهل بكثر من ان يقف امامها، هناك ، بعد عشر سنوات, ليقول لها الحقيقة القاتلة . .

استلقى في سريره وصالب ذراعيه تحت رأسه . . كانت العتمة قد بدأت تبسط كفها فوق المدينة النائمة ولم يكن ثمة في الغرفة الا فكرة واحدة حاسمة : لا بد من الذهاب غداً الى مندلبوم . !

وغداً سوف تلوّح له بكفها المعروقة وسوف تندفع اليه بشعرها الاشيب ووجهها العجوز المبتل بالدموع ، سوف تنهمر فوق صدره وترجف كما يرجف طير صفير على وشك ان يموت , سوف تمرغ رأسها المكدود على وجهه دون ان تجد الكلمة التي تستطيع ان تشحنها بحبها المخذول فماذا عساه يقول لها وهي تخفق فوق صدره كالقلب الذي يخفق في صدره ؟ من اين يتوجب عليه ان يبدأ ؟

تقلب في فراشه وخيل اليه انه يسمع وجيب قلبه يضرب في جسده كله كالوتر المشدود , سوف يبدأ من البدء , منذ ان غادر يافا الى عكا ليرى الفتاة التي كانت امه تزمع ان تخطبها له : انه يذكر تلك اللحظة بكل دقائقها , كيف وقفت أمه على السلم تدعو له بالخير والتوفيق , وكانت خالته تقف الى جانبها تشير له مطمئنة ، هو يعرف انها ستلازمها طيلة فترة غيابه , وكان يشد على ذراع اخته دلال التي رغبت في مرافقته , فتاة غضة في العاشرة من عمرها تغادر الدار مع اخيها لاول مرة في حياتها .

ولكن الامور جرت على غيرما اشتهى وغير ما اشتهت فبعد ان غادر يافا بأيام قليلة انقطع الطريق واستحالت العودة ، لقد عانى كثيراً من القلق في تلك الايام السوداء التي امضاها بعيداً عن امه ، ليسى بسببه هو ولكن بسبب ،دلال التي تعني لامه كل شيء في البيت , هي اتي تعطي المرأة العجوز نكهة الحياة حين يكون الموت في الجوار, وهي التي تعني الحياة كلها حين تعني الاشياء كلها الموت .

لا . . هذا القسم من القصة لم يهم امه بأية حالة ، انها تريد بلا شك ان تعرف اموراً أكثر غموضاً من هذا الجزء من القصة .

ومرة اخرى تقلب في فراشه محتاراً ، كانت الغرفة تنوس بضوء شاحب مريض ، وكانت السلة الصفيرة تتكىء على الجدار مثل شيء حي ، لماذا لا يبدأ بالقصة من نهايتها؟ لماذا لا يحكي لها كيف دخل اليهود عكا وكيف جرت الأمور بعد ذلك ؟

كان في الغرفة حين تفجرت جهنم في وجهه . . ارتد مع من ارتد حين بدا الظلام يطوي عكا , قاءت بندقيته القصيرة كل ما في جوفها ثم تحولت الى عصا ، مجرد عصا ناشفة لا تصلح لشيء ، ذهب الى غرفته وعانق دلال , كانت تبكي في ظل الرعب الذي خيم فوق المدينة , وقبل ان يعي ، كانت الاكتاف قد انهدت فوق الباب , وانفتح رشاش ثرثار فزرع في الغرفة رصاصاً كالمطر, ثم انكشف الدخان عن اربعة رجال يسدون امام عينيه باب الغرفة الخشبي , ولكنه لم يتحرك ، كانت دلال ترتعش في دمها بالخفقات الاخيرة من انفاسها , وعندما شدها الى صدره كأنه يريد ان يسكب فيها قلبه ودمه ، حدّقت اليه ثم رفعت حاجبيها لتقول شيئاً ولكن الموت سد الطريق امام الكلمة .

هل بكى؟ انه لا يذكر شيئاً الآن ، كل الذي يذكره انه حل اخته القتيل بين ذراعيه وانطلق الى الطريق يرفعها أمام عيون المارة ليستجدي دموعهم كما لو ان دموعه وحدها لا تكفي ، ليس يدري متى تيسر للناس ان ينتزعو الجسد الميت من بين ذراعيه ، ولكنه يعرف انه حين فقد اخته الميتة , حين ضيع جسدها البارد المتصلب، احس بأنه فقد كل شيء : ارضه واهله وامله, ولم يعد يهمه ان يفقد حياته ذاتها ، ومن هنا مضى يضرب في الجبال , تاركاً ارضه , هارباً من القدر الذي لاحقه كالسوط .

لو قال ذلك كله لانمحت الاكذوبة الكبرى التي بناها في عشر سنوات , ستصير امه في تلك اللحظة تعرف ان دلال قد ماتت , منذ عشر سنرات وان ابنها قد كذب عليها طويلاً حين دأب على تكرار تلك الجملة الباردة عبر اسلاك الاذاعة : (( انا ودلال بخير طمنونا عنكم )) .

نهض الى النافذة ففتح الستائر القاتمة واخذ يحدق الى الطريق ..

يجب ان يحررها من الكذبة ويحرر نفسه من القدر الاسود الذي حمله وحيداً ، يجب ان يقول لها ان دلال مدفونة هناك ، وان قبرها الصغير لا يجد من يضع عليه باقة زهر في كل عيد , وانها , امها ، على بعد اشبار من قبر عزيز لا يتيسر لها ان تزوره .

- 2

كان اللقاء في ظل البوابة الكبيرة باكراً صباح اليوم التالي , لم ير عليّ امه فيما كان يتفرس بالوجوه , خالته فقط كانت هناك , لم يعرفها بادىء الامر، لكنها عرفته واستطاعت ان تدله على مكانها بين الجموع , وفي غمرة اللقاء سألته السؤ ال الذي أتى خصيصاً ليجيب عليه :

أين دلال ؟

وفي العينين الصغيرتين المترقبتين ذاب كل الاصرار الذي حمله معه, كأن قوة خفية تمسكت بحلقه واخذت تهزه بلا هوادة :

وتلاقت العيون مرة اخرى , نقل عليّ السلة من يد الى اخرى وحاول ان يقول شيئاً , ولكن حلقه كان مسدوداً بغصة عريضة كأنها نصل معقوف ، مدت خالته يدها فوضعتها فوق ذراعه, واتاه صوتها مشحوناً بأسى لا يصدق :

- أين دلال ؟

- دلال ؟

ومرة أخرى احس بالضعف يأكل ركبتيه وبدا كأنه يدفع عن نفسه احساساً بالاغماء، رفع يده ومد السلة باتجاه خالته :

- خذي هذه السلة لأمي، فيها بعض اللوز الأخضر. .

ولم يستطع ان يكمل , كانت نظرة فاجعة قد انسكبت من عينىّ المرأة العجوز، وبدأت شفتها ترتجف ، نظر وراء كتفها واكمل بوهن :

- ... كانت تحبه .

وفي فترة الصمت الواسعة التي انفتحت بينهما كالقبر احس برغبة هائلة تدفع به الى الفرار وكانت خالته تدوّر اصابعها في الحقيبة الصغيرة التي وضعت فيها رداء دلال الاخضر، كان احساس مباشر يصل بين صدريهما, هي واقفة هناك تأتلق عيناها بدمع صامت وهو يحس النصل اللامع يجرح حلقه ، مد يده ورفع اليه وجهها ثم انتشل نفسه بسؤال خافت :
- كيف تركت يافا ؟

حاولت خالته ان تقول شيئاً ولكنها لم تستطع ، تزاحمت سيول من الكلمات في حنجرتها فسكتت وابتسمت ابتسامة باهتة لا معنى لها, ثم مدت يدها الراجفة تمسح على كتفه بحنو كسيح فيما اخذ هو ينظر بهدوء الى الأفق الذي يقع خلف بوابة مندلبوم .
 

The Hero

الأســــــــــــــطورة

إنضم
Jun 29, 2008
المشاركات
20,104
مستوى التفاعل
69
المطرح
في ضحكة عيون حبيبي
رسايل :

شكرًا للأشواك علَّمتني الكثيرَ

بدأت القصة كما يلي : كان ابو علي عائداً إلى داره ، لقد أقفل دكانه قبل المفيب بسبب توعكه واراد ان يذهب الى البيت فيستريح على الكرسي الصغير امام الباب قبل ان يتناول عشاءه ويأوي إلى فراشه، ليس يدري سبباً لتلك الوعكة , ربما كان الغداء الذي حمله معه في الصباح بعد ان وضعته ام علي في طاسة نحاسية كبيرة قد فسد , لأنه من طبخ امس , ربما كان الطقس الذي يتباين بين ساعة واخرى هو السبب ، وعلى اي حال فضل ابو علي أن لا يبقى في الدكان, واذا كان لا بد من حدوث اي حادث, لا سمح الله, فليكن اذن بين الأهل, بين ذراعي ام عي، وعلى مرأى من علي .

هذا هو السبب الذي جعله يمر بساحة القرية في ذلك الوقت بالذات، ولو لم يصبه التوعك اذن لما كان مر من هناك واذن لما حدثت القصة كلها. .

على بعد خطوات منه في الطرف الآخر للساحة المبلطة , كان بعض شباب القرية ورجالها يلتفون حول شيء ما بصورة دائرية ملتحمة ، لقد حاول ابوعلي ان يخمن الحقيقة من مكانه, الا انه لم يفلح, لو كان الامر عادياً اذن لما وقف عبد الله الى جانب فاروق, فانهما يكرهان بعضهما كراهية مقيمة . لا بد اذن ان يكون الأمر خطيراً ، وهنا ايضاً ، لو لم يسيطر عليه الفضول ، لما حدثت القصة كلها ، ولكنه غير اتجاهه وسار، رغم توعكه ، الى حلقة الرجال يستطلع الخبر ، وقبل ان يصل اليها تماماً شاهد ، من بين الاكتاف المتمايلة ، سيارة جيب يقف الى جانبها جندي اجنبي بلباس الميدان الكاملة معلقاً على كتفه بندقية جديدة .

وتذكر ان هذا الجندي كان قد أتى مراراً الى القرية بغية ان يقيم فيها، الا ان اهل القرية كانوا يرفضونه دائماً. ليس لشيء آخر الا لآنه كان يحمل معه سلاحه ، وكان اهل القرية يقولون ان السلاح بيد الانسان اغراء للقتل , ومن الذي يستطيع ان يضمن هذا الجندي فلا يطلق الرصاص ذات يوم على الناس اذا ما داعبه غرور التفوق والمقدرة ؟ الرصاص يجب ان لايطلق على الناس ، الرصاص يجب ان يطلق على الضباع , كان هذه هي الفكرة التي قادته الى الحلقة ، وفي تلك اللحظة بالذات فهم كل ثسي ء، ورغم ذلك ، فقد بادر اقرب الناس اليه بالسؤال كأنه يريد ان يبرر انضمامه الى الحلقة :

- ماذا يحدث هنا ؟

قال الرجل الواقف الى جانبه :

- لقد ذهب الضابط الى بيت المختار وبقي الجندي واقفاً هنا.

- اذن لقد احضر الضابط معه ؟

- نعم ، ذهب يتحدت الى المختار ... عله يقبل هذه المرة ...

- وانتم ؟

- الرجال يريدون خطف بندقيته .

اندس في الصف فوسع له الرجال موطئ قدميه ، الا انه خطا الى الامام ودافع الرجال بكتفيه وكفيه حق صارفي الصف الامامي ، وصار الجندي امامه مباشرة على بعد ثلاثة او اربعة امتار، ومن مكانه ذاك استطاع ان يقيس البندقية ، انها من طراز حديث ، مشطها يتسع لثماني طلقات , وتبدو جديدة لا مجروحة ولا صدئة ، وقال في نفسه ان ثمنها لا بد وان يكون فوق المئة جنيه.

قال للرجل الواقف الى جانبه :

- من الذي يريد خطفها ؟

- لم يقرر احد بعد, انظر الى عينيه الزرقاوين كيف تغزلان، انه ملعون حذر ككلب الصيد.

فكر ابو علي قليلاً ثم قر قراره فجأة ، لقد هبط العزم هبوهاً داوياً في رآسه فنسي وعكته وتذكر شيئا واحداً فحسب , هو ان هذا الجندي المسلح يجب ان لا يبقى هنا, واذا ما خطفت البندقية منه ، فلا بأس ان يبقى, لانه ، عند ذاك ، لن يختلف عن البقية ولن يكوذ ذا ضرر منه . . اذن , يجب اذ تخطف البندقية ء لقد كاذ القرار نهاياً. . .

ولكن الأمر لم يكن سهلاً ، صحيح ان السكين الطويلة غير مثبتة في ماسورة البندقية الا انها تتأرجح هناك على حزام الجندي واذا اراد ان يصل اليها فانه لا يحتاج الى وقت طويل ، ثم ان الضابط قد يرجع بين لحظة واخرى . . ولذلك فالقضية ليست قضية لعب . . واذا اراد المرء ان يقوم بعمل ما فيجب ان يحسب للامور حسابها من كل الزوايا .

وقبل ان يسوي ابوعلي الامور في راسه ، قرر ان يستشير الجماعة , فصاح بأعلى صوته كي يسمعه كل الرجال:

- يا شباب من الذي سيتقدم . . ؟

الا ان احداً لم يجب ، وكل الذي حدث هو ان جيع العيون صوبت اليه , بما فيها تلك العينان الزرقاوان للجندي الواقف في وسط الدائرة . . كان خائفاً لأنه كان يعرف ان اية حماقة قد تسبب له نهاية عاجلة على ايدي اولئك الرجال الملتفين حوله كالاسورة .

صاح ابو علي مرة اخرى:

- سأخذها انا يا شباب.

واتاه صوت من طرف الحلقة المقابلة :

- انت سيدها يا ابا علي .

كرر بصوت اعلى كأنما ليبعث الحماس في نفسه:

- سأخطفها منه . .

قال نفس الصوت :

- انها حلالك . .

صاح مؤكداً:

- انها حلالي ، سآخذها. .

وفكر قليلاً, ثم نظر حواليه وقال بصوت خفيض:

- حين تصيرالبندقية في يدي وسعوا لي طريق الهرب ، واذا حاول ان يلحق بي سدوا الطريق بوجهه .

- معقول يا ابا علي . اعتمد علينا.

- ساعتمد عليكم . .

ثم قال في نفسه : (( والآن الى العمل )), وحين نظر الى الجندي وجده يحدق به ، وكانت لحظة خوف واحدة ما لبثت ان عبرت بسرعة : انحنى وخلع نعليه ثم سلمهما الى رجل كان يقف الى جانبه دون ان يقول له حرفاً واحداً ، لقد بدأ الجد الآن , والنعل لا شغل له الا عرقلة الركض حين يكون الركض في اوجه , شال الكوفية والعقال عن راسه ثم اسقط العقال في عنقه وربط الكوفية حول خاصرتيه , وانحنى فرفع طرف ردائه وثبته تحت الحزام في وسطه ، ذلك حري بأن يعطي اتساعاً لمدى ساقيه حين يبدأ العدو, اما السروال الابيض الطويل الضيق عند رسغي الساقين فانه لن يعوق شيئاً .

على بعد ثلاثة امتار او اربعة كان الجندي الواقف مع بندقيته قد فهم كل ما يجري , الا انه بقي يحدق , دون ان يقدر على عمل ايما شيء . . وكان ابوعلي يعرف بأنه لن يستعمل سلاحه الذي , ربما , لم يكن محشواً ايضاً . . لقد كان واقفاً هناك بشكل لا يحسد عليه ابداً . . غير قادر على اكتشاف ماذا يتعين عليه ان يفعل , مكتفياً بالنظر الى ابي علي وهو يقوم باعداد العدة على اكمل وجه , وحين شبك ابو علي طرف قنبازه الى وسطه رفع الجندي بندقيته عن كتفه , وثبت كتفها على الارض , امامه مباشرة , ثم لف حزامها الجلدي الخشن حول ساقه لفتين محكمتين ،

وصفق كعبي حذائه الضخم ببعضهم متفرغاً لمراقبة ابي علي من جديد .

قال ابوعلي للرجل الواقف الى جانبه والذي كان قد وضع النعلين تحت ابطيه وشبك اصابعه وراء ظهره :

- لقد افسد الامور هذا النحس، انظرماذا فعل ! الملعون يريدني ان اخطفه مع البندقية ! .

قال الرجل بهدوء:

- فكها من حول ساقه . .

- اطرحه ارضاً. .

الا ان ابا علي لم يعد بوسعه ان يغير رأيه , لقد قطع نصف الطريق تقريباً , ومن العار الآن ان يفك طرف قنبازه عن وسطه ويستعيد نعليه ، وكان الجندي ما زال يحدق اليه وشفتاه ترتجفان والخوذة تلمع فوق رأسه المحروق . .

فرش ابو علي ذراعيه على وسعهما ودفع الرجال الواقفين حواليه الى الوراء خطوة , ثم اندفع بخطوات ثابتة الى وسط الساحة , كان الجندي قد ادرك ان المعركة قد بدأت فشد كفيه على ماسورة البندقية وادناها من صدره دون ان ينزع بصره عن وجه ابي علي الذي صار امامه مباشرة ، عل بعد خطوة واحدة فحسب ، وقف , ونظر اليه مباشرة في عينيه وخيل اليه ان صوتاً باهتاً قد رجف وراء ظهره صائحاً :

- آه يا ابا علي يا سيد الرجال !

مد ذراعيه: صلبتين مستقيمتين , وشّد كفيه حول ماسورة البندقية فوق كفي الجندي ثم جذب جذبتين خفيفتين ليقيس قوة الجندي , وحين لمس تشبثه بسلاحه شد بعنف , الا ان الجندي قاوم الشد بأن قرب البندقية الى صدره وقد تصلب جسده اكثر فاكثر واحمر وجهه, وحين شد أبو علي بكل قوته انزلق حذاء الجندي على بلاط الساحة ووقع على ظهره , وبسرعة شديدة دور أبو علي البندقية دورتين فانفك حزامها عن الساقين الملوحتين في الهواء, وتلقف البندقية بكفيه الكبيرتين الخشنتين, وبسطها امام صدره محدقاً اليها بجذل, ثم صاح بصوت عال:

- وسعوا الطريق يا شباب !

ومن خلال الفرجة الضيقة التي انفتحت في المكان الذي كان يقف فيه انسرب ابوعلي بخفة ورشاقة ، ثم انغلقت الفرجة بأكتاف الرجال من جديد، فيما كان ابو علي يطوي الازقة الموحلة متجها الى داره .






ولكن ابا علي لم يصل الى داره.

اخباره واخبار البندقية ضاعت , ولو كان ابو علي رجلاً عادياً والحادث حادثاً عادياً اذن لما اهتم احد قط ، ولكن الموضوع هو ان ابا علي ليس رجلاً عادياً, فبيته مترع بزوجه واولاده ، وهو رب عائلة مستقيم , ليس ذلك فحسب ، بل ان بيت ابي علي هو البيت الاول في القرية , انه يقع على الحافة الغربية , فوق تلة مزروعة بالزيتون , ولقد كان هناك ، منذ وعى الناس هناك ، قبل ان يولد ابوعلي نفسه , بل قبل ان يولد جده ، ولقد توارثوه واحداً عقب الآخر بصمت وانتظام ، وارثين معه كل تلك الواجبات التي التصقت بالبيت منذ ان وعى الناس البيت .

كان بيت ابو علي باب القرية وحدّها الغربي , وفي الاحراش الممتدة تحت تل الزيتون كانت تكثر الضباع التي كانت تزحف الى القرية اذا ما اشتد البرد في حمأ الشتاء بحثاً عن الطعام وربما الدف , ، وكان بيت ابو علي قد حمل - دون ان يكلف من قبل اي انسان - مهمة صد الضباع في كل شتاء ذلك لانه الحد الفاصل بين الاحراش وبين القرية وقد سلم سكان القرية بذلك لانهم لا يعون متى لم تكن الامور كذلك . .

والآن تأتي قصة البندقية من جديد , لقد ارتاح الناس لتلك الصدفة التي جعلت من ابي علي صاحب بندقية جديدة ، لقد آن الآوان لابي علي ان يمتلك بندقية يستعيض بها عن الفأس التي كان يستعملها في محاربة الضباع كل شتاء , فالشتاء, الآن صار على الابواب ؟ ولا بد لابي علي ان يمتلك تلك البندقية .

ولكن الامور لم تسر كما اشتهوا واشتهى , فبعد يومين من الحادث تمكن بعض الضباع من الوصول الى البيت والتحويم حوله طول الليل , وفي لمحة خاطفة تغير كل شىء .
 

The Hero

الأســــــــــــــطورة

إنضم
Jun 29, 2008
المشاركات
20,104
مستوى التفاعل
69
المطرح
في ضحكة عيون حبيبي
رسايل :

شكرًا للأشواك علَّمتني الكثيرَ

ام علي خافت على اولادها فارسلتهم الى القرية ليكونوا بعيدين عن ذلك الرعب وبقيت هناك تنتحب على زوجها وعلى مصيرها, وكانت الضباع تتكاثر ليلة بعد ليلة كحّومة حول البيت, مرسلة عواءها الحاد في صمت القرية , باعثة فيها الرعب . .

على ان لغز ابي علي لم يكن اقل وطأة , وكانت الاحاديث كلها - في الدواوين المغلقة وفي بيت المختار تدور حول ابي علي : اين ذهب ؟ ماذا حدث له ؟ تراه ذهب الى قرية اخرى فباع بندقيته وتزوج امرأة اخرى؟ ام تراه قتل ودفن دون ان يعرف الناس ؟

بقيت الاسئلة تدور في اجواء المدينة بلا كلل ولا توقف , حق أن الامور الاخرى كلها ضاعت في حمأ الشك والتساؤل , لم يعد احد يهتم بموضوع البيت او عائلة ابي علي التي توزعت ازقة المدينة ، وحين ذهب علي الى بيت المختار يسأله النصح وجد القاعة مليئة بالرجال الذين كانوا يتصايحون ويناقشون قصة ابي علي بكل دقائقها , وعبثاً حاول أن يصل الى المختار، لقد كان الرجال يسدون عليه طريقه كلما خطا خطوة , واخيراً لم يجد بداً من ان يعود ادراجه الى الطريق .








ضم ابوعلي البندقية الى صدره واخذ يعدو في الازقة الموحلة متجهاً الى داره . كان العرق قد بلل ظهره وصدره وكان يحسه يصفعهما بالبرودة كلما اصطفق الهواء بينهما وبين ثيابه ، الا ان ذلك لم يقلل من عزمه على المضي بها الى البيت ، كانت ثقيلة ، وكان يحس ثقلها يزداد بين ذراعيه كلما دار حول منعطف او عبر قنطرة ، وحين بدأ صدره يخفق بسعال مجروح عميق تذكر انه مريض وانه اغلق دكانه مبكراً كي يستريح من عناء وعكته ، ولكنه حين احس الثمن بين ذراعيه : بندقية جديدة ذات مشط يتسع لثماني طلقات , تبسم برضا , وتذكر تلك الليالي الباردة الصامتة التي كان يقضيها جالساً وراء الشباك محدقاً في الظلمة كالقط ، حتى اذا ما شاهد شبح الضبع اوشم رائحته الكرية قام اليه خفيفاً محني الظهر وقد تصلبت كفاه على ذراع الفأس , من الباب الخلفي ، فيصر الضبع محصوراً في الحديقة الصغيرة غير المزروعة الا بكوخ صفير لايواء الدجاج ، ثم يقع العراك , لحظة او لحظتان وتخرج ام علي لتسحب جثة الحيوان الكريه وتقذفه من اعلى التل الى الغابة مرة اخرى . . لا , لن يحدث ذلك مرة اخرى الآن ، من النافذة الخشبية سيطلق رصاصة واحدة حين يبدو الشبح المخيف , ولن نخاف الخروج الى الحديقة الجرداء حين تتكاثر الضباع , كما حدث في الشتاء الماضي , لا ! ها هي ذي بندقية يتسع مشطها لثماني طلقات . . ضمها الى صدره بحنو دون ان يكف عن الركض بكل ما في وسع ساقيه ان تنفرجا , ورغم لهاثه وسعاله فقد كان يسمع صوت حذاء الجندي الضخم يخفق وراءه غير بعيد , متجاوبة اصداؤه الثقيلة بين جدران الطين الحانية على بعضها فوق رأسه ، وفجأة اعترض طريقه شبحان فوقف , وكان صفير لهاثه المبحوح يرتفع وينخفض بانتظام . .

- هاتها . !

قال احد الرجلين بصوت جاف ومدّ ذراعيه باسطاً كفه على وسعها كما لو انه كان يتوقع ان يضع ابو علي البندقية فيها . . الا ان ابا علي ارجع البندقية الى جنبه ووضع كتفه الآخر في الطريق بينها وبين كف الرجل المبسوطة .. ومنعه لهاثه من الكلام , بينما كرر الرجل بجفاف:

- هاتها ... الا تسمع ؟

بلع ابو علي ريقه وقال بصوت واهن:

- انها حلالي ....

- لقد رأيناك تسرقها ... هاتها ...

- انها حلالي .

- هاتها ..

رجع ابوعلي الى الوراء خطوة , كان صوت حذاء الجندي قد علا حتى ملأ كل صمت الزقاق .

استطاع ان يميز اصوات خطوات اخرى ترافق الجندي، ربما يكون الضابط قد انضم الى جنديه , بل ربما انضم اليهما المختار ذاته , لعنة الله عليك , ربما كانت القرية كلها ماضية بملاحقته . .

تلفّت بسرعة الى الوراء ثم عاد يحدق الى الرجلين الواقفين في الظل . .

- لقد عرفتكما. . افسحا الطريق , انهم ورائي.

تقدم احد الرجلين فامسك به من عنقه , بينما ابعد ابوعلي البندقية على مد ذراعه الى الوراء, واحس بأنه على وشك ان يختنق . .

- هاتها او خنقتاك .

- عرفتكما . .

وفكر بوجل : (( كيف حدث ان اتفقا معاً رغم كل الكراهية التي يحملانها لبعضهما )). ؟ وصاح بكل ما بقي في حنجرته من متنفس:

- عرفتكما , اتركاني ..

- اعطنا اياها والا قتلناك ..

تلفت ابو علي الى الوراء ، وخيل اليه انه رأى اشباحاً تتمايل في اول الزقاق فقام بمحاولة عنيفة للخلاص الا انه لم يستطع ان يتحرك انملة , وكان في الوقت ذاته واثقاً من ان يده القابضة على البندقية لن تفلتها شياطين الارض مجتمعة الا اذا فلتت يده , من اعلى الكتف و معها . . ولذلك وضع كل قوته في صوته :

- ولسوف نموت جيعاً . . اتركاني !

- اعطنا اياها.

- مستحيل .

نظر الرجلان خلفهما, ثم قال احدهما للآخر:

- والآن ماذا ؟




اجاب الآخر بسرعة :
- حاول أن توقفهم , تحدث معهم , ابق هنا .
تركه احد الرجلين بينما امسكه الآخر من مؤخرة عنقه ومن ذراعه ودفعه امامه بعنف فانطلق يركض مرغماً تحت وطأة القبضات المتحكمة في عنقه وذراعه .
كان ابو علي مرهقاً ، وقد زاد التوقف والرعب من ارهاقه وكانت القبضات تشد على عنقه وذراعه بلا رحمة , ورغم ذلك فقد ميز فجأة بأن الطريق الذي يعدو فيه ليس طريق بيته ، حاول ان يلتفت ، الا ان قبضة الرجل لم تسمح له . كان يحس بأنه قد استنزف , وان السعال المجروح المنطلق من اعمق اعماق رئتيه سوف ينتزع حنجرته ويلقي بها الى الارض , لا , ليس طريق بيته هذا الطريق . . مرة اخرى حاول ان يتملص او يقف الا ان وطأة القبضتين ازدادت حدة وعنفاً وشراسة ، واحس - فيما كان على وشك ان يبكي _ بأن لا مناص .
 
أعلى