قصص قصيره....للكاتب الراحل ابراهيم خريط

ندى القلب

المحاربين القدماء

إنضم
Jul 14, 2009
المشاركات
16,493
مستوى التفاعل
151
رسايل :

كالسجناء نلتقي وعيوننا معلقة على الزمن الهارب _ العائم مثل طائرة ورقية يلهو بها طفل لا مبال

الصفقة


عندما هل العريس المنتظر وأطل برأسه الكروي من فتحة الباب،اكفهرت الوجوه التي كانت مشرقة قبل قليل...

ساد الوجوم،انقطع اللغو،انطفأت الابتسامات،ماتت الكلمات وخيّم الصمت.

قفزت الى ذاكرة الشاب،شقيق العروس،حكمة صينية قرأها مرة في كتاب(طائر يحط من الجو فتكف جميع الطيور عن الشدو).وابتسم عندما تذكر العبارة الثانية التي وردت في ذات الكتاب وتساءل:هل سيردد كما ردد بطل الحكاية(شدوا اليكم الحمار،شدوا اليكم الحمار.)

كان العريس الذى تجاوز الخمسين،بدينا أسمر البشرة،يميل الى السواد،عيناه ثقبان صغيران،في وجهه ندوب وبثور،وقد غاص رأسه بين كتفين مكتنزين كأنما ليس له رقبة.

أحبطت العروس وأصيبت بصدمة ،تساءلت وقد تهاوت أحلامها دفعة واحدة:هل هذا هو شريك العمر؟!هل هذا فارس الأحلام الذى طالما تخيلته شابا رشيقا وسيما،يأتي اليها كبطل أسطورى؟كإله من آلهة اليونان يحملها على حصان أبيض وينطلق بها الى عالم من السحر والجمال؟!كيف تستطيع أن تعيش معه وهي الصبية الفاتنة مثل وردة متفتحة في ربيع العمر؟!

قالت في نفسها وهي تشعر بالاختناق:أموت قبل أن يجمعني واياه بيت واحد.

همس الشاب بصوت مرتجف:غراب ، غراب أسود ليس الا.وحش في صورة انسان،مستحاثة من مخلفات العصر الحجري..الحلقة المفقودة في سلسلة التطور.

أما والد الفتاة وأمها فقد وقفا مذهولين أمام هذا المخلوق البشري الغريب.

أيقظهم صوت المرأة التي كانت ترافقه:

-ما بكم ياجماعة.ألا تدعونا للجلوس؟!

ردوا دونما رغبة:نعم،نعم،تفضلا.

مرت دقيقة صمت،ثقيلة،مملة،قاتلة،ولم يفلح أحد من الحاضرين في أن يرسم على وجهه ابتسامة أو أن يبدى شيئاً من البشاشة.

فحصت المرأة المرافقة محتويات الغرفة..أثاث قديم باهت اللون،مقاعد بالية،ستائر رخيصة،ثقوب وشقوق في الجدران،بساطة متواضعة تنم عن مدى العوز والحاجة الذي تعاني منه هذه الأسرة،وهذا شجعها وهي التي لاتنقصها الشجاعة في مثل هذه المواقف على أن تقول دون مقدمات:

-من أين نبدأ الكلام.السعادة تدق بابكم،لاحلم ولا منام..الرجل أمامكم،والرجل لايعيبه الا جيبه وجيبه والله عمران..صحيح انه متزوج وله أولاد،ولكن مامن مشكلة،زوجته وأولاده في بلدهم،بينكم وبينهم قفار وبحور،ولديهم مايكفيهم ويزيد.أما عروسنا الحلوة..

واشارت بيدها الى الفتاة واستطردت:لها أن تختار تسكن هنا أو في مدينة أخرى..بيت باسمها ورصيد في البنك.والمهر..بأية عملة تريد .أما الحلي والجواهر فما عليها سوى أن تشير باصبعها.

تجشأ العريس..أثار الاشمئزاز في نفوسهم،وردد بصوت أجش:

-نعم ،نعم كما تقول أم محمود.

وأم محمود هذه،امرأة قاسية الملامح ، خشنة التقاطيع تعيش وحيدة بعد أن تزوجت ثلاثة رجال وقبرتهم جميعا دون أن تنجب.تمارس أعمالا عديدة،فهي تاجرة تبيع في بيتها ثيابا وأقمشة مهربة أو تطوف بها على البيوت،وهي ندّابة يدعوها الناس لتتولى قيادة حلقات المآتم والعزاء،حيث تنشد قصائد الرثاء والمديح،تثير أحزان النساء..

تبكيهن دون أن تنحدر من عينها دمعة واحدة .وهي خاطبة،يقصدها الراغبون في الزواج..الا ان نشاطها في السنولت الأخيرة قد تقلّص واقتصر على خدمة الغرباء القادمين من وراء الحدود.

نظرت الأم الى ابنتها بطرف عينها..غابت الفتاة ثم عادت تحمل القهوة..دارت بها.تناول العريس كأس الماء،شرب منه قليلا،دقّ بيده على صدره ثم تجشأ مرة ثانية،أثار نفورهم وقرفهم.أما أم محمود التي لم ترَ في سلوكه ما يسيء فقد التفتت اليه وقالت :صحة.

اعتدل في جلسته،أراد أن يضع رجلا فوق رجل..صرّت مفاصل المقعد الخشبي وكُسرت إحدى قوائمه فسقط على الأرض.هبوا واقفين..

ابتسم الشاب،تذكّر العبارة الثانية في الحكاية الصينية وهمس:شدّوا اليكم الحمار..

رفعوه عن الأرض..انتقل الى مقعد آخر.

قدّم الرجل للعريس لفافة تبغ.نظر اليها باستهجان واعتذر،تناول علبة تبغ أجنبي من جيبه،اخذ منها واحدة ورمى العلبة أمامهم،ثم قال مخاطبا الرجل:

-سمعت انك تبيع الخضار على عربة في سوق الهال.رد الرجل بخجل:

-نعم،نعم،هذا عمل،والعمل ليس فيه ما يعيب

.سكت لحظة ثم أضاف:ان دخلي الشهري يزيد عن دخل أى موظف بشهادة.

قال العريس:أنا لاأقصد..ولكن،ما رأيك بدكان كبير..سوبر ماركت.

شهق الرجل،التفت الى محدثه وسأل بدهشة:لي أنا؟كيف؟من أين؟

دق العريس على صدره.

قفز الرجل كطفل،رحب به بحرارة،وحدث نفسه:انه كريم وابن كرام،هذه صفات الرجل الأصيل..رجل يقدر الرجال ويحترم العائلة التي يصاهرها..أفضل من شباب هذا الجيل الذين يشبهون طبولا فارغة،لاتأخذ منهم الا الوعود ومعسول الكلام.

أضاف العريس وقد التفت الى الشاب:

-وأنت ..طالب،ثانوية عامة،أدبي..أليس كذلك.لقد حدثتني عنك أم محمود.ما رأيك أن تدرس الطب أو الهندسة.

نظر الشاب بدهشة وتساءل:

-كيف.هل هذا ممكن.

رد العريس:أرسلك الى أي بلد أجنبي تختاره،الدراسة هناك بالمال.لايسالون عن الفرع أو المجموع،المال يفعل كل شيء.وهدية النجاح سيارة.

فغر الشاب فمه.هل صحيح ما يسمع؟هل هو في حلم؟هل....؟!

دارت الصور في مخيلته..انتعشت الآمال،غمره فرح لم يعرفه من قبل.

نظر الى محدثه،تأمله ،تفحصه..همهم:هذا الرجل نبيل،والله نبيل،سيد بمعنى الكلمة..رجل والرجال في هذا الزمان قليلون.أرجو أن توافق شقيقتي على الزواج منه،أرجو أن لاترفض بل يجب أن لا ترفض .. سأقنعها ، سأضغط عليها.ما الذى يعيبه؟دميم؟جاهل ؟متخلف؟كبير في السن؟هذه أمور ثانوية.

التفت العريس الى والدة العروس التي كانت تنتظر نصيبها بلهفة:

-وأنت ياحماتي العزيزة..اعتبري نفسك عروسا واطلبي ما تشائين.

شع الفرح من عينيها..تساءلت:هل صحيح اننا سنقبر الفقر الى الأبد؟ننسى أيام الجوع والفاقة والحرمان؟!ياللرجل الطيب المكتمل الوقور.سيعوضني عما قصّر عنه زوجي..هكذا يكون الرجال.

صمتوا جميعا،هاموا في خيالاتهم،العريس يسـتأثر بالشباب والجمال..تستهويه الفتيات الصغيرات،يتلذذ بامتلاكهن ..لايشبع أبدا.

الرجل يتصدر السوبر ماركت..

المرأة..يزين الذهب عنقها وصدرها ويديها حتى الكوعين. الشاب..يقود سيارته وسط نظرات الاعجاب والحسد.وأم محمود باتت عمولتها في متناول اليد.أما الفتاة فهي أميرة من اميرات الشرق.

تبدلت معالم الوجوه..تغيرت النفوس..

نظرت العروس الى الرجل،فحصته بعين غير التي رأته منذ قليل..حدثت نفسها:لابأس به..شكله مقبول لاعيب فيه لولا سنه وسمرته الشديدة وزرقة شفتيه وبثور وجهه وقصر رقبته و..ولكن كما تقول أم محمود الرجل لايعيبه الا جيبه.

أجزموا أنهم تسرعوا في الحكم عليه أول مرة أو هكذا أرادوا أن يقنعوا أنفسهم.غابت عن أذهانهم المآسي التي حلت بفتيات تزوجن مثلها أو هم غيبوها .. الوحدة ، السأم،الحصار، الذل والهوان، العبودية، زيف الوعود وفساد الأخلاق.

ارتسمت في أذهانهم صورة أخرى..ما زال شابا قويا،سمرته عادية مألوفة،عيناه جميلتان،كعيني طائر جارح،والندوب تضفي على وجهه مسحة من الهيبة والوقار.قالت أم محمود وقد أدركت أنهم فقدوا كل مقاومة:هل نقرأ الفاتحة.

رفعوا أيديهم الى الأعلى..

وتمت الصفقة.
 

ندى القلب

المحاربين القدماء

إنضم
Jul 14, 2009
المشاركات
16,493
مستوى التفاعل
151
رسايل :

كالسجناء نلتقي وعيوننا معلقة على الزمن الهارب _ العائم مثل طائرة ورقية يلهو بها طفل لا مبال

المقبرة



في اليوم الثالث ظهرا انفض مجلس العزاء..

قوضت الخيمة الكبيرة التي كانت تحتل مساحة واسعة من الشارع..تفرق المعزون والمقرئون والمرتزقون ، بعد أن شربوا آخرفنجان قهوة مرّة،ودخنوا آخر لفافة تبغ.ولما لم يبق إلا نفر قليل من الأقارب والأصدقاء حملتنا بضع سيارات صغيرة وانطلقت بنا نحو المقبرة.

كان الطريق يتلوى صعودا نحو الجبل..هكذا كنا نسمي ذلك المرتفع الذى يحاصر المدينة من جهة الجنوب.وعلى جانبيه تلال من الركام والبقايا والأقذار،تمتد وتتطاول وتتناثر فتصادر مساحات منه حتى يكاد أن ينغلق. شعرت بالضيق والغيظ..استعرت نار في صدري وقلت في نفسي مستنكرا:كيف يجعلون من الطريق مزبلة . هذا الدرب الذي سوف نمشيه يوماً مرة أخيرة لا رجعة بعدها.أليس للمقبرة حرمه؟!أليس للموتى كرامة؟!استدركت بشيء من السخرية المرة:ماذا أقول أنا!وهل للأحياء حرمة أو كرامة!.توقفت السيارات في المقبرة ،وقفنا بخشوع،لم ينبس أحدنا بكلمة،كان الصمت سيد الموقف.أكاليل الورد بدأت بالزبول الا أن أحداً لم يعبث بها.قلت في سري:مازال للموت رهبته وللقبور قداستها،أو لعل الخوف من هذا المصير الذى لامفر منه هو الذي قيد أيدي العابثين والمتطفلين،اذ أن المرء عندما يقف هنا ويرى شواهد جديدة تغرس كل يوم ، في هذا الامتداد اللامتناهي يصبح شخصا آخر..يتبدل كليا..يشعر بالرهبة والخشوع،يترفع عن الدنايا ويسمو الى عالم تتجلى فيه الانسانية في أنقى صورها.

هممنا بالعودة بعد أن قرأنا الفاتحة..هدرت محركات السيارات وتحرك بعضها على عجل.

فاجأني صوت ضعيف خافت:

-هيه..أنت،انتظر..

شدني الصوت،تلفت يمينا ويسارا،نظرت ورائي،سمعت دقات قلبي،سرت رعشة في بدني..تساءلت:ماذا أصابني هل أنا أتوهم ؟!

كرر مرة أخرى:أنت ابق قليلا..أريدك.

تلكأت في المسير،تعثرت خطواتي..

نادى على صاحب السيارة التي أقلتني:ما بك؟ماذا تنتظر؟

قلت وأنا أحاول أن أخفي دهشتي واضطرابي:لاشيء،أنا آت.

جاءني الصوت مرة أخرى:هيه..أنت أيها الرجل،نعم أنت ..ألا تسمعني؟!قلت لك انتظر.

كان الصوت ينسرب من أسفل القبر الذى وقفنا عنده قبل قليل.

وهنت قواي،تسمرت قدماي في الأرض.التفت الى الوراء،رماني رفيقي صاحب السيارة بنظرة دهشة واستنكار وقال لائما معاتبا عندما وصلت اليه:

-لم نبق إلا نحن ،أنا وأنت ،ما بك.

تهاويت بجانبه فكرر سؤاله:مابك؟وجهك شاحب،وأطرافك ترتجف.؟لم هذا كله؟الموت علينا حق ،والميت كما اعلم ليس من ذويك ولا هو من أصدقائك المقربين.

ما كان عليك أن تنهار هكذا.

صمت لحظة ثم أضاف مستغربا:

-عيناك ذاهلتان دامعتان..هل بكيت؟

قلت وأنا أحاول أن أبرر موقفي:كلٌ يبكي على موتاه.

رد قائلا:هذا صحيح،ولكني ما عهدتك هكذا.

ظل الصوت يلاحقني.صداه يتردد في أذني، راجياً، معاتباً راجياً : لماذا انصرفت تنتظر وتسمعني.لماذا...لماذا..؟

انتبهت الى نفسي وأنا أقول بلهجة من يريد الاعتذار: سأعود، سأعود.

ظن صاحبي اني أتحدث اليه فالتفت الي وقال مستفسرا:الى أين..الى المكتب أم الى البيت؟ أيقظني سؤاله من ذهولي فقلت دونما تفكير:لاأدري.ثم أضفت:خذني الى البيت.

ساعات بعد الظهيرة كانت ثقيلة مرهقة.أحاول أن أبعد عن خيالي ما حسبته وهما فلا أفلح.الصوت يتردد في مسامعي وصداه يثير الرعشة في بدني وأنا بين واثق وحالم.قلت

محاولا أن أبدد سحابة سوداء في خيالي : هذا وهم أنا أتوهم . لقد هزني الموقف الى درجة كبيرة سدت علي مسالك التفكير فخلطت بين الوهم والحقيقة.

ضحكت ضحكة ساخرة..لم أقتنع بما قلت فأضفت:ما الفرق بين الوهم والحقيقة..ما الفاصل بينهما؟خيط رفيع،رفيع جدا.لقد التبست علينا الأمور وتداخلت المعايير،فلماذا لايكون ما سمعته حقيقة؟!لماذا يكون وهما وفي كل يوم،بل في كل ساعة يطلعون علينا بحقائق جديدة وأوهام جديدة حتى تهنا وتاهت بصائرنا..

قبل الغروب عقدت العزم واتجهت صوب المقبرة..ابتعدت عن البيوت وسلكت الطريق نحو الجبل.شعرت برعدة في أوصالي..ترددت الاانني لم أتراجع.وصلت القبر الذي وقفت عنده منذ ساعات..درت حوله..تأملته،حجارة جف طينها تكللها باقات ورد ذابل،وعلى مد البصر تناثرت آلاف القبور الكبيرة والصغيرة بغير انتظام..

ثمة بقاع أخرى خالية تنتظر أصحابها من بين الأحياء.

ساورني شك بما سمعته هنا،قبيل الظهيرة، فهدأت نفسي وشعرت بشيء من الارتياح.

نظرت حولي..

كانت الشمس قد بدأت تتكئ على الطرف الغربي للمقبرة ، حمراء كبيرة، والظلال الرمادية تمتد شرقا، تتطاول، تحاصر مساحات الضؤ الصغيرة المتبقية ثم تغطيها تماما.

ساد المكان سكون موحش تخللته أصوات طيور مهاجرة، وقبل أن أسلك طريق العودة فاجأني الصوت:

- ها..لقد جئت.كنت أعرف أنك ستأتي.

سرت قشعريرة في بدني.. انتفض قلبي بقوة .. ارتعبت .. التفت .. لم أر أحدا.

جاءني الصوت من القبر ذاته..رزينا هادئا وقد غلبت عليه رنة حب وحزن:لاتخف..أريد أن أسألك.. قاطعته متظاهراً بالجرأة والشجاعة : أنا لست خائفا ولكنني مندهش .. أنا لا أصدق . رد قائلاً : لاتصدق أنا لا ألومك .

قلت:ماذا تريد أن تسأل؟

سكت لحظة ثم قال بصوت خفيض متهدج:رأيت في عينيك دموعا حقيقية، نعم حقيقية،كنت تبكي بحرقة ، كنت حزيناً جداً .لاتقل انك بكيت علي. معرفتنا قصيرة ومحدودة،لاتدعو إلى هذا القدر من التأثر والانفعال على من كنت تبكي؟

قلت:عليك وعلى غيرك ممن غيبهم الموت وصاروا تحت التراب .. على الاخوة..على الأصدقاء الذين فارقونا ..علىالأبناء الذين اختطفهم الردى وهم في زهو الشباب..

ضحك ضحكة ساخرة حزينة ثم قال:

- أنت لاتبكي عليهم..أنت تبكي على الأحياء، نعم أنت تبكي على الأحياء. نحن هنا في مأمن، لاخوف علينا، الخوف والبكاء عليكم أنتم،يامن تدعون أنكم أحياء.بالله عليك قل لي:هل أنتم أحياء حقا؟! انظر اليكم ،أتأمل مساحات الحزن واليأس والخوف على وجوهكم.أنتم تموتون كل يوم،كل ساعة،منذ الصباح حتى الصباح،لاتقل لسنا جميعا كذلك،أنا أعرف هذا فلكل قاعدة استثناء،ومن تعنيهم ليسوا منكم..انهم بشر من نوع آخر..انهم غرباء عنكم ،لا أنتم منهم ولا هم منكم.أنا أعنيكم أنتم..يامن مازالت عيونكم تذرف دموعا ساخنة صادقة على كل ما ضاع وسيضيع..أنتم تستحقون البكاء ،نحن هنا نستطيع أن نجتمع ونلوم ونعتب،نقول ما نريد،لانخشى شيئا ولا نخاف أحدا..لابغضاء ولا كراهية ولادسائس ولا مؤمرات..كلنا متساوون،ليس بيننا حاكم أو محكوم ولا ظالم أو مظلوم،فلا تحزن علينا بل احزن عليكم.

تهدج الصوت ثم خفت، كأنه آت من بئر عميقة..

كأنه الصدى يتردد في فضاء المقبرة هادئا رتيبا متقطعا:احزن عليكم أنتم..احزن عليكم..ثم سكت تماما.اختلجت جوارحي..عصفت بي مشاعر عنيفة..

تلفت حولي..بعد قليل يهبط الظلام ويعم الكون سكون موحش.

أسرعت بالعودة،وعندما انحدرت من المرتفع الجنوبي الذي كنا نسميه جبلا،ظهرت معالم المدينة التي ترقد عند السفح بصمت وهدوء.مسحت بناظري تلك الكتل من الحجارة الرمادية والنوافذ الصغيرة والأبواب الموصدة..خلف هذه الأبواب والنوافذ ترقد كتل بشرية،هياكل عظمية يكسوها جلد متغضن..أفواه فاغرة لم تعرف الشبع يوما..عيون غائرة،ألسنة خرساء،أحلام مصادرة،رغبات مكبوتة،كلمات لاتقال الا همسا..عبارات نتبادلها بالاشارة.

وعندما تغلغلت في الشوارع والأزقة المعتمة،وهبطت درجات القبو الرطب الذي يأويني خيل الي أن مقبرة أخرى قد بدأت تبتلعني.
 

ندى القلب

المحاربين القدماء

إنضم
Jul 14, 2009
المشاركات
16,493
مستوى التفاعل
151
رسايل :

كالسجناء نلتقي وعيوننا معلقة على الزمن الهارب _ العائم مثل طائرة ورقية يلهو بها طفل لا مبال

القيد​



أذكر فيما أذكره اليوم انني كنت تلميذا في المدرسة الابتدائية،كأي واحد من أبناء بلدتي الراقدة على ضفاف الفرات..أجر قدمي صباحا الى المدرسة على درب ترابي مثيرا ورائي سحابة من الغبار أيام الجفاف،أما في الشتاء عندما يتساقط المطر وتتحول الطرقات الى غدران ماء وطين،تغوص قدماي في الوحل ويتسرب الماء عبر ثقوب الحذاء ويبلل جواربي فأظل أرتجف من البرد وأنا على المقعد الخشبي.

وأذكر انني عدت يوما من المدرسة وقد أنهكني التعب والجوع،وجمّد البرد والصقيع أطرافي..دفعت الباب بيدي فسمعت صريرا كأنين المرضى،ثم دخلت.

نظرت حولي..بحثت عما يمكن أن يقضي على الرتابة في حياتنا ويبعث الأمل في نفوسنا..وجبة شهية،زائر يحمل هدية،مفاجأة..خبر..

لا جديد..

أمي تقبع في زاوية من زوايا الغرفة، تخيط بالابرة قطعا من القماش مختلفة الشكل واللون لتصنع منها غطاء نتدثر به في ليالي الشتاء.أخي يلعب في باحة المنزل، أما أختي الصغرى فهي تحاول أن تقلد والدتي التي كانت تنهرها كلما مدت يدها لتأخذ خيطا أو ابرة.

صورة ميتة هذه التي أراها أمامي ..قاتمة ..سوداء، كل شيء تنقصه الحركة..ينقصه اللون والبريق،ينقصه نبض الحياة.

رميت كتبي على مقعد قديم ونظرت الى نفسي في المرآة،انني صورة منهم..عيناي غائرتان ذابلتان،شعري أشعث مغبر، وجهي شاحب،جسمي هزيل..لوني يميل الى الاصفرار.سألت:ماذا لدينا على الغداء؟

ودون أن ترفع أمي رأسها قالت: لا شيء.

انتابني ضيق شديد،شعرت بألم في بطني وكدت أن أتقيأ.

صرخت:لا شيء.كيف؟ انني أموت من الجوع.

ردت بغضب:لاتصرخ في وجهي.ماذا أفعل لك؟!

وقبل أن أغادر الغرفة جاءني صوتها:

-عندك الخبز والزيت والزعتر..

قلت بضيق:خبز! خبز.!لاشيء الا الخبز! يا أمي حرام،والله حرام..رفاقي في المدرسة يأكلون اللحم والبيض والفاكهة..وأنا..

قالت مستنكرة:كلهم..؟!

استدركت:لا..ولكن..

قالت بلهجة صارمة:اسكت اذا..لا تكفر بالنعمة،قد يأتي عليك يوم تركض وراء اللقمة فلا تجدها ،وتنظر الى القمر فتحسبه رغيفا أحمر..ثم..ما ذنبي أنا ؟!قل هذا الكلام لأبيك.

سألتها:أين أبي؟

أجابت دون اهتمام: لاأدري.

تساءلت: ترى . ألم يجد عملا بعد أن سرحّ من وظيفته لعجز صحي؟ ألم يدفعوا له التعويض الذي وعدوه به؟ لقد وعدنا بوجبة شهية وحلوى وهدايا وألبسة.أذكر أنه قال لأمي: البرد قارس يامرأة،والجوع كافر، والأولاد محرومون من كل شيء.ومنذ أن سمعنا ذلك ونحن نحلم باليوم الموعود، ونترقبه بفارغ الصبر.

هممت أن أسأل والدتي عندما دخلت جارتنا الأرملة وأسرعت تقول وقد ألقت بجسمها الثقيل إلى جوار أمي:

-مبروك..مبروك.

فتحت أذني وعيني وفمي،ووقفت مذهولا تتملكني حيرة وتتصارع في نفسي مشاعر شتى..فما الذي تعرفه الجارة ولا أعرفه أنا.

سألت بلهفة:ماذا جرى ياأمي؟

لم أسمع جوابا.

ابتسمت والدتي وقالت تخاطب جارتها:

-بارك الله بك،عسى أن يرزقك بابن الحلال.

قالت الجارة كمن تتمنع وهي راغبة:

-لا..أنت تعلمين اني لا أفكر بالزواج..المهم،دعينا من هذه السيرة وأرني اياها.

رفعت أمي كمي ثوبها فرأيت بريق الذهب الأصفر،كاصفرار وجوهنا..كلون الدم الذي يجري في عروقنا..رأيت سوارين من الذهب يحيطان بمعصمي أمي..استغربت،هل أصدق ما أرى..وكيف؟! يدفعني الفضول للمسهما وتأملهما عن كثب،ويصدني عنهما شعور بالقهر والحرمان يتأجج في صدري.

أدركت أن والدي قد قبض تعويضه فاشترى لأمي هاتين الحديدتين.

سألت الجارة مستفسرة:كيف..كيف استطعت أن تقنعيه..؟!

ردت والدتي:

-هي دين لي بذمته..لقد وعدني بهما منذ زمن طويل..عندما باع سواري القديمين وسدد بثمنها بعض الديون.

قالت الأرملة وعيناها معلقتان بالذهب:

-خيرا فعلت والا..

تلفتت حولها واستطردت بصوت منخفض:أنت تعرفين،الدهر خوان والرجال ليس لهم أمان.

كل هذا حدث أمامي..أرى وأسمع وكأنني لا أرى ولا أسمع .لا أدري..ربما اعتقدتا انني لا أفهم أو أن الأمر لا يعنيني ولن ينطبع في ذاكرتي ويترك بصماته على مسيرة حياتي.

التفتت الي والدتي تلومني بنظراتها ثم أشارت الى السوارين وقالت مثل طفلة تفرح بلعبة جديدة:

-يجدر بك أن تراهما منذ اللحظة الأولى .ان بريقهما يخطف البصر..أم انك لا تريد أن تبارك لأمك.

جمدت في مكاني عاجزا عن الكلام.

واستطردت أمي تقول مؤنبة:

-منذ زمان وأنا أقول انك تختلف عن بقية الأولاد..

لايعجبك العجب ولا الصيام في رجب.

ردت الجارة ،ولا أدري ان كانت تتهمني أو تدافع عني:لا عليك،ما هو الا ولد.

نظرت الى يدي أمي اللتين طوقتا بسوارين من ذهب.

صنعا على شكل ثعبانين..رأيتهما يكبران ويكبران...

يمتدان،يلتفان،يحيطان بأعناقنا ثم يضغطان..يضغطان بقوة..أكاد أختنق،لاأستطيع أن أتنفس..جسمي يرتعد..يداى ترتجفان،قلبي يدق بقوة،شفتاى ترتعشان،لساني يتلجلج في فمي ولا أستطيع الكلام.

ثم..

هدأت ثورتي وتصبب العرق مني باردا،بلل جسمي وثيابي،فشعرت بالوهن والاعياء..لفتني غمامة قاتمة،سالت من عيني دمعتان ساخنتان،ثم لملمت أفكاري المشتتة..

قاومت ضعفي،استجمعت ما بقي عندي من قوة وقلت ببرود وقد أشحت بوجهي عنها:

-أجل يا أماه..مبروك.

ثم انطلقت أعدو..

وأذكر فيما أذكره اليوم انني سألت أمي بعد أيام وأنا أطيل النظر الى السوارين:

-ما جدوى أن يملك الانسان ذهبا،ومعدته فارغة من الطعام.

أجابت وهي تشير اليهما:هذان ذخيرة للمستقبل،أمان من غدر الزمان،نحتفظ بهما لوقت عوز وحاجة..للأيام،حلوها ومرّها..سوف ترى اني على حق فيما أقول وتتذكر كلماتي هذه،وتقول..أمي قالت.

لم أنطق بكلمة..لم أجد ردا مناسبا،فسكت ولم اقتنع.

مرت شهور واعوام..

تجرعنا المر وعانينا من الحرمان..

أيامنا الحلوة قليلة..لم تكن أياما،كانت لحظات عابرة.لاندري ان كنا نسرقها في غفلة من الزمان أو ان الدهر يتصدق بها علينا.

كبرنا وكبرت معنا الهموم والمآسي،وكلما قلت لأمي وأنا أشير الى السوارين:

-أليس هذا يومها.

كانت تقول:لا..قلت لك نحتفظ بهما لوقت عوز وحاجة.

نمنا على الطوى مرارا،تعرينا،صبرنا على البلاء وظلت أمي تردد عبارتها الشهيرة.

مات أبي ..لاأدرى كيف تدبرنا النفقات الا انني أذكر فيما أذكره اليوم اننا بعنا بعض الأثاث وتراكمت علينا ديون جديدة.أما السواران فقد كانا يلمعان في يدي أمي وهي تتقبل التعازى.

قلنا لأمي..أنا واخواتي وقد عصرتنا الأيام:

-نبيع السوارين ونستثمر ثمنهما..الحياة تتغير والناس يتطورون ونحن كما كنا .

هزت رأسها وقالت بأسى وهي ترمقني بنظرة زاجرة : أنت أنت،لم تتغير.

بعد أيام فوجئنا بعساكر وموظفين يحملون سجلات ودفاتر، يدقون بابنا بعنف..وكان بينهم ذلك الرجل البغيض الذى وفد الى قريتنا منذ أعوام وامتلك أرضا فيها وبلغونا قرارا بالحجز،اذ ادعى انه دفع ثمنها لأبي،وان لديه سندات بذلك،طلبوا منا أن نوقع..رفضنا،فلصقوا صورة القرار على بابنا،واتهمونا بالممانعةو..وأنذرونا أن نمتثل للأمر،وان كان لنا حق فما علينا الا أن نطرق أبواب المحاكم.

كان علينا أن نفعل شيئا فقلنا لأمي وكنا نعتقد أنها قد صحت بعد غفلة،واستيقظت بعد غفوة:

-أما حان يومها؟

رمتنا بنظرة استنكار وقالت بغضب:

-لا..قلت لكم هذه للأيام..حلوها ومرها.

سألت بصوت منكسر والألم يعصر قلبي:وهل أكثر مرارة يا امي....؟

اختنقت ولم أكمل كلامي.

حاولنا إبطال الحجز أو ايقافه،ولكنا كمن يصرخ في قوم لا يسمعون..كل خطوة نخطوها تحتاج الى المال..المحامي، والدعوى،والشهود،فقلنا لها وقد تحلقنا حولها وعيوننا معلقة بالسوارين:

-أما حان يومها؟

رفعت الينا عينين تبرقان وقالت بحزم:لا.

ثم أضافت ساخرة:يارجال.

قلنا:الرجولة وحدها لاتكفي.

ردت:هل ترون ذلك؟

سكتنا ولم نعرف ماذا نقول.

مرضت والدتي ورقدت في الفراش،تحملت الألم...

قاومت..صبرت وكابرت..

قلنا لها:نبيع السوراين..هذا يومها.

ردت بصوت كأنه آت من بئر عميق:لا..ليس بعد.

وكررت وهي تختنق:قلت لكم نحتفظ بها لوقت عوز وحاجة.بعد أعوام ماتت والدتي،والموت مكلف كما هي الحياة،أصبنا بالذهول.وقعنا في حيرة..تساءلنا:ماذا نفعل وكيف نتصرف.؟!تبادلنا النظرات..كانت عيوننا تقول شيئا واحدا..

بعنا السوارين وتفرق ثمنها بين الكفن والمقرئ،وحفار القبور والمأتم ،والبائسين الذين اعتادوا العيش على الصدقات،والسيارات التي حملتها الى مثواها الأخير.
 

i love life

بيلساني سنة رابعة

إنضم
Apr 14, 2011
المشاركات
732
مستوى التفاعل
7
المطرح
السعودية
عزيزتي



أسلوبوا رائع

جاري القراءة والنسخ

بتشكرك يا مميزة انتي
 
أعلى