لعبة البيت


إنضم
Jul 29, 2016
المشاركات
5
مستوى التفاعل
0
لعبة البيت --- يوسف إدريس





قصة قصيرة للكاتب الكبير د. يوسف إدريس من مجموعته " آخر الدنيا ".
من طبعة دار الشروق 1991 للأعمال الكاملة ليوسف إدريس




شب سامح على أطراف أصابعه و نط و دق الجرس ، و سمع صوتا طويلا ممدودا يقول : مين ؟ فاحتار و خاف و سكت.
و فتح الباب ، و وقفت على عتبته سيدة ضخمة مهيبة ترتدى قميص نوم خفيف جدا ، لونه أصفر باهت كقشر الليمون، و وجم سامح و كاد يجرى ، و لكنه تماسك و عرف أن التى فتحت هى أم فاتن ، رغم وجهها الخالى من المساحيق.
و قبل أن يحدث أى شيىء ابتسمت له السيدة ابتسامة كبيرة ، و انحنت ناحيته و قالت :
يه .. هو أنت يا حبيبى ؟! .. أنا رخره بقول مين اللى بيضرب الجرس ده و مالوش خيال .. عايز أيه يا حبيبى ؟ عايز الهون .. ماما بتعمل كفتة؟
و لم يجب سامح فى الحال .. مد بصره من خلال وقفة الأم العريضة و قميصها الشفاف و ما بقى فى الباب من فراغ ، محاولا أن يرى فاتن .. و لكن لم يجد لها أثرا ، لا فى الصالة و لا فى الحجرة القريبة المواربة للباب ، و لا بجوار الراديو تعبث بمفاتيحه ..
و قال بجرأة منقطعة :
- عايز .. عايز فاتن تلعب معايا ..
و ضحكت الأم و انحنت و قبلته و قالت :
- كده ؟ طيب حاضر يا حبيبى ..
و انبسط سامح ، و انبسط أكثر حين التفتت إلى الخلف و نادت :
- فاتن . سيبى الغسيل أحسن تبلى هدومك .. و تعالى .. عشان تلعبى مع ابن أم سامح ..
ثم التفتت إلى سامح قائلة :
- بس أوعى تزعلها يا حبيبى .. لحسن ماخليهاش تلعب معاك بعد كده أبدا ..
و قال سامح بحماس وعيون ذكية صغيرة تبرق :
- إن زعلتها يا تانت ما تخليهاش تلعب معايا تانى ..
فقالت أم فاتن و هى تتركه و تستدير :
- و ما نتساش تسلم لى على مامتك و تقول لها ما بتزرناش ليه؟
ثم دخلت السيدة إلى الحمام وهى تهتز و تتدحرج ..
و وقف سامح يترقب ظهور فاتن و يتأمل الصالة ، كان فيها طرابيزة سفرة مثل صالتهم ، غير أن كراسيها قديمة موضوعة فوق الطرابيزة.
و كان هناك كرسى غريب الشكل مسنده عال جدا يحتاج إلى سلم للصعود عليه ، و الكرسى ترقد فوقه قطة ذات ألوان جميلة : ملفوفة على نفسها و نعسانة.
و ظهرت فاتن فجاة و كأنما خرجت من تحت الأرض ، ترتدى فستانها الأبيض القصير الذى يرتفع ذيله عن الركبة ، و توجهت إلى التسريحة الموضوعة فى الصالة و انحشرت بينها و بين الحائط ، ثم أخرجت سبتا صغيرا مثل الأسبتة التى يباع فيها حب العزيز غير أنه مصنوع من البوص ، و علقت السبت فى يدها و اتجهت إلى الباب حيث يقف سامح ، و ابتسم لها سامح و سار فى اتجاه السلم و تبعته فاتن.
و فى منتصف السلم قال لها فجأة :
ـ إذا كنت جدعة امسكينى قبل ما أوصل باب شقتنا.
و جرى أمامها فوق الدرجات ، و لكنه حين لم يسمعها تجرى خلفه توقف و قال :
- أخيه عليكى .. مش قادرة تجرى ورايا يا خايبه ..
فقالت و فى ملامحها ثبات و تأفف و رزانة :
- أنا مبحبش الجرى ده ..
و تضايق سامح قليلا من تأففها ، و وقف ينتظرها وهو معلق بدرابزين السلم و نصفه خارج عنه.
و دخلا الشقة من بابها المفتوح ، و تأكد سامح أن أمه مشغولة فى المطبخ إذ كانت لا ترحب أبدا بإحضاره فاتن ليلعب معها.
و عبر سامح الصالة و فاتن وراءه و عيناها لا تغادران السبت المعلق فى يدها.
و أصبحا فى الحجرة الداخلية ذات السرير الحديدى القديم و الدولاب و الكنبة.
و قال سامح و هو يهلل و يشير إلى ما تحت السرير :
- أهو ده بيتنا .. أهو ده بيتنا .. يالله بقى نعمل بيت ..
و رفع داير السرير الأبيض الذى يحيط به من من كل الجهات و دخل تحت السرير و دخلت فاتن وراءه .. و بينما بقيت هى على رزانتها بدأ سامح يصنع زيطة كبيرة و يصرخ و يدور و يهلل ، ثم أخذها إلى ركن السرير الداخلى حيث صندوق الشاى القديم الذى يحتى على كل ممتلكاته و ألعابه الخاصة .. مجموعة كبيرة من علب السجائر الفارغة ، و أغطية الكازوزة ، و أرجل كراسى مصنوعة بالمخرطة ، و علب تونة و سالمون بمفاتيحها ، و قطع صغيرة كثيرة من أقمشة جديدة متعددة الألوان سرقها من درج ماكنة الخياطة ، و جرّ الصندوق و أخذ يستخرج محتوياته و يفرج فاتن عليها .. و بدأت الرزانة تغادر فاتن فجلست على الأرض و تربعت ، و أخذت تخرج من سبتها لعبها هى الأخرى و ممتلكاتها و تفرجه عليها ..
و فى هذه المرة أعجب سامح بالحلة الألومنيوم الصغيرة ، و الوابور البريموس الصغير و طرابيزة المطبخ التى فى حجم علبة الكبريت ، و استكثر على فاتن أن تكون هى مالكة هذه اللعب الجميلة كلها ..ثم انتابته الخفة و الحماسة فقام و أخذ ثلاثة ألواح خشبية كانت ساقطة من "الملة القديمة" و مضى يضعها على حدها و يقسم بها ما تحت السرير إلى أقسام و يقول :
- دى أوضة السفرة .. و دى أوضة النوم .. و ده المطبخ. و بدأت فاتن تنقل أشياءها إلى المطبخ ، و وضعت الطرابيزة فى ركن و وضعت فوقها الوابور ، ثم وضعت الحلة فوقه و قالت :
- أحنا تأخرنا قوى .. نطبخ أيه النهارده ؟!
فقال سامح فى حماس :
- نطبخ رز.. يالله نطبخ رز ..
و ما لبث أن غادر تحت السرير فى الحال و جرى إلى المطبخ حيث أدعى لأمه أنه يبحث عن كرته المفقودة فى الدولاب و عاد و قبضته الصغيرة مضمومة و موضوعة فى جيب بنطلونه ، و حين أصبح تحت السرير فتحها و وضع محتوياتها من حبات الأرز القليلة فى الحلة.
و قالت فاتن و هى تتنهد :
- أنت تروح الشغل و أنا أطبخ ..
فقال سامح :
- أروح الشغل أزاى ؟
فقالت :
- مش أنت تروح الشغل.. و أنا أطبخ ؟
فقال :
- ااييه .. أنتى عايزة تلعبى لوحدك .. يا نطبخ سوا سوا يا بلاش
فقالت فاتن :
- لا يا سيدى .. هيا الرجالة تطبخ ؟ .. أنت تروح الشغل و أنا أطبخ .. يا كده يا بلاش ..
فقال سامح :
- دى بواخة منك دى .. عايزة تطبخى لوحدك و تقوليلى روح الشغل ؟ . و الله مانا رايح ..
و احتقن وجه فاتن غضبا و قالت :
- طب هه ..
و أنزلت الحلة من فوق الوابور و وضعتها فى السبت.
فقال سامح بغضب :
- هاتى الرز بتاعى .. هو بتاعك ؟
فأخرجت فاتن الحلة .. و قلبتها على الأرض .. و قالت :
- رزك أهه .. جك قرف.
و نشبت خناقة حادة .. و كل يحاول أن يجمع حوائجه ، هذه لى و ليست لك .. و شتمته و لعنت أباه ، و غضب سامح و دفعها فسقطت منها العروسة .. و أخيرا جمعت فاتن أشياءها و وضعتها كلها فى السبت الصغير ، و علقت السبت فى يدها و رفعت داير السرير و اختفت.
و اغتاظ سامح كثيرا و هو يراقبها ، و تمنى لو يلحقها قبل أن تغادر شقتهم و يضربها .. بنت مثلها صغيرة و مفعوصة تريد أن تمشى عليه كلمتها ، دائما تغيظه هكذا كلما لعب معها ، و كل مرة يلعب معها فيها يصمم على ألا يعود للعب معها .. فى المرة القادمة سيضربها بالقلم لو فتحت فمها .. و لكن لا .. لن تكون هناك مرة قادمة .. لن يلعب معها أبدا حتى لو أحضرتها أمها و رجته أن يلعب معها .. بنت مفعوصة ذات سن أمامية مكسورة تغضب لأتفه سبب ، و ما أسرع ما تعلق سبتها فى يدها و تتركه .. هى حرة ، و هو حتى ليس فى حاجة إليها ليلعب .. يستطيع أن يلعب وحده و لا الحوجة إليها ..
و هكذا بدأ سامح يحاول أن يلعب لعبة البيت وحده ، فراح يقيم الحواجز الخشبية التى هدمتها الخناقة ، و يكلم نفسه بصوت عال و كأنه يريد أن يقسم نفسه إلى قسمين أو شخصين يلعبان معا ، أحدهما يتكلم و الآخر يسمع ، و مضى يقول :
- و دى أوضة السفرة ، و ده المطبخ .. نطبخ أيه النهارده ؟
و أجاب على نفسه :
- رز .
و لكنه غير رأيه بسرعة و قال :
- لأ .. فاصوليا
و فكر أن يذهب و يسرق فاصوليا من المطبخ ، و لكنه لم يجد لديه حماسا كافيا لتنفيذ الفكرة .. كان قد بدأ يدرك أنه يضحك على نفسه حين يقسم نفسه قسمين يلعبان مع بعضهما .. و بدأ يتبين أنه يلعب وحده فعلا ، و بدا حينئذ كل شيىء ماسخا و قبيحا إلى درجة أنه لم يعد يصدق أن ما تحت السرير كما كان منذ دقائق مضت .. بدأ يرى الألواح الخشبية مجرد ألواح ، و الدواية التى كان ينوى استعمالها حلة مجرد علبة ورنيش فارغة ، لم يعد ما تحت السرير بيتا ، و لا عادت الألواح الخشبية حجرة نوم و جلوس و سفرة.
و اغتاظ سامح .. فمن دقائق قليلة و حين كانت فاتن تلعب معه كان يعتقد فعلا أن المطبخ مطبخ ، و الصالة صالة ، و حجرة السفرة حجرة سفرة ، لماذا حين ذهبت و أصبح وحده بدأ يرى كل شيىء سخيفا تافها و كأن لعبة البيت لا تنفع إلا إذا لعبها مع الست فاتن ؟
و فى غمرة غيظه غادر ما تحت السرير ، بل غادر الحجرة كلها ، و مضى يلف فى الصالة يبحث لنفسه عن لعبة أخرى يتسلى بها ..
و فى درج مكتب أبيه عثر على حنفية قديمة ، استغرب كيف كانت موجودة طوال هذه المدة فى ذلك المكان و لم يعثر عليها سوى اليوم.
أخرج الحنفية و مضى يفتحها و يغلقها و ينفخ فيها ، و مضت فى ذهنه فكرة : لماذا لا يستعملانها هو و فاتن فى لعبتهما فيركبها فى رجل السرير و يصنع لها حجرة صغيرة و تكون هى الحمام ؟ ألا يصبح حينئذ كالبيوت الحقيقية ؟ و لكن .. لا .. إنه لن يلعب أبدا معها ، حتى و لو جاءت من تلقاء نفسها و حاولت تلعب معه .. سوف يقول لها بكل احتقار :
- جاية هنا ليه يا باردة ؟ .. روحى يالله على بيتكم ..
و طبعا هى قادمة عما قليل ، فهى الأخرى لن تجد أحدا تلعب معه.
و انتظر سامح أن تأتى ، و لكنها لم تأت ، و تذكر حينئذ كيف كانت غلبانة و هى تنحنى و ترفع داير السرير و السبت معلق فى يدها .. كانت غلبانة صحيح . لماذا لا يذهب و يصالحها ؟ و ذهب إلى الباب و فتحه ، و تلفت هنا و هناك و لكن الطرقة كانت خالية و ليس فيها أحد ..
و عاد مغموما إلى الحجرة الداخلية ، و اتجه إلى السرير و نظر من الفرجة الكائنة بين الداير الأبيض و المرتبة .. بدا ما تحت السرير واسعا جدا و خرابا ، و الألواح الخشبية و لعبه و أشياؤه المبعثرة شكلها كئيب ، و ليس هناك أبدا أثر لذلك العالم الصغير الذى كان أحب إليه من كل عوالم الكبار و سيمائه و مباهجه.
و ترك الحجرة متضايقا و ظل يدورفى الصالة ، و فجأة أحس أنه ضاق ببيتهم كله و أنه يريد الخروج منه و الذهاب لأى مكان .. و هكذا وجد نفسه واقفا فى الطرقة خارج باب الشقة وحده ، أمه تناديه و هو يكذب و يقول أنه ذاهب ليلعب مع الأولاد فى الحارة.
و فى الطرقة بدأ يفكر .. لابد أن فاتن ذهبت إلى أمها باكية ، و لابد أن أمها أخذتها و أغلقت الباب و لن تسمح لها أبدا باللعب معه مرة أخرى .. أن أخوف ما يخافه لابد قد حدث .. ياله من غبى سخيف ! لماذا أغضبها ؟ لماذا لم يقل لها مثلا : أنا رايح الشغل أهه ، و يصل لباب الحجرة مثلا ثم يعود و يقول لها : أنا رجعت م الشغل أهه. لماذا عاندها ؟ و ماذا يصنع الآن ؟
و هبط درجات السلم تائها ، محتارا ، مترددا بين أن يهبط و يحاول أن يجد طفلا من أولاد الحارة يلعب معه أسخف لعب ، فهو لا يريد إلا أن يلعب مع فاتن لعبة البيت بالذات ، و فاتن ذهبت إلى أمها و لن تعود أبدا ، أو أن يصعد و يدعى لأمه أنه سخن و مريض.
و حتى لم يجد فى نفسه أى رغبة أو حماس لكى يهبط أو يصعد أو يتحرك من مكانه أو أى شيىء. كل ما أصبح يتمناه من قلبه و هو يهبط درجة و يتوقف درجات أن تزل قدمه رغما عنه فيسقط و يتدحرج على السلم و يظل رأسه يتخبط بين الدرجات ، و كل خبطة تجرحه و تسيل دماءه.
و حين وصل فى هبوطه إلى باب شقة أم فاتن كان الباب مغلقا و مسدودا و كأن أصحابه سافروا أو عزلوا .. ألقى نظرة واحدة على الباب و لكنها جعلته يحس بالرغبة فى البكاء ، و يسرع بالهبوط.
و قبل أن ينتهى السلم عند آخر بسطة ، توقف حزينا حائرا ، و كأن شيئا ثمينا جدا قد ضاع منه ، و أخرج رأسه من درابزين السلم و تركه يتدلى فى يأس مع حديد الدرابزين .. و مضى يجلس على الأرض و يفرد ساقيه بلا أى اهتمام بملابسه أو بما يلحقها ، ثم يقف فجأة و قد قرر أن يكمل الهبوط و لكنه يجد نفسه قد عاد للجلوس و إدلاء رأسه من حديد الدرابزين، و كلما تذكر أنه لولا عناده لكانت فاتن لا تزال تلعب معه ، و كلما تصور أنه قد حرم اللعب معها إلى الأبد ، تمنى لو مرض فعلا أو أصبح يتيما من غير أم أو أب.
و لم يصدق عينيه أول الأمر ، و لكنه كان حقيقة هناك - على آخر درجة فى السلم - سبت فاتن الصغير نائما على جنبه و الحلة الألومنيوم ساقطة منه. و هبط السلالم الباقية قفزا ، و تدحرج و عاد يقفز ، و على آخر درجة وجد فاتن هناك .. هى بعينها جالسة و رأسها بين يديها ، و كانت تبكى و دموعها تسيل ، و سبتها الصغير راقد بجوارها و الحلة قد تبعثرت منه.
و أحاطها سامح بذراعيه و احتضنها و راح يطبطب عليها بيديه الصغيرتين ، و يقبلها فى وجهها و شعرها و يقول لها و كأنه يخاطب طفلة أصغر منه بكثير و يصالحها ، و هو فرحان لأنها لم تذهب لأمها و لا اشتكت : معلش معلش معلش ..
و جذبها برفق لينهضها ، و نهضت معه بغير حماس و دموعها لا تزال تتساقط .. دموع حقيقية ، و أعاد الحلة إلى السبت و علقه فى يدها ، و مضى يصعد بها السلم و ذراعه حولها ، و هى مستكينة إليه لا تزال تدمع و جسدها ينتفض ، و لكنها لا تقاومه و لا تتوقف عن الصعود.
انتهت القصة.
 
أعلى