عمر رزوق
بيلساني مجند
- إنضم
- Nov 12, 2008
- المشاركات
- 1,395
- مستوى التفاعل
- 45
مثقَّفون ومثقَّبون
لا يمكن أن نحصر ونحوّط الثقافة بمن كتب بالأنواع الأدبية وأجناسها وأشكالها, ولا بمن بفرشاته أبدع لوحة تشكيلية , إن الثقافة ما هي إلا منظومة سلوكية وفكرية تضم تحتها أمة أو مجموعة من الناس , من هذا المنطلق , ستنأى الثقافة بنفسها تجيير نفسها لكاتب رواية أو قصة , قصيدة أو لوحة تشكيلية , مقال سياسي أو بحث نقدي وما شابهها من المسميات , لتصبح الثقافة نمطا وأسلوبا حياتيا كاملا شاملا لأمة ما أو مجموعة ما . إذاً وبناءا على ما تقدم يمكننا أن نعرّف المثقف , بأنه المنتج الثقافي الذي يؤثّر ويغيّر بالمجتمع فكرا وسلوكا من خلال تحويل وتغيير الادعاء الثقافي لمنتج فعلي يبادر هو به غير منتظر الآخرين , إلى مرتبة أعلى ومنزلة أرفع , عندها سيأخذ عنه الآخرون ويقتدي به الناظرون , لينشأ وينمو , ليكوّن منظومة ترنو للتكامل والشمول , يتلاقح داخل محيطها فكر , مزج قِيَم الماضي وحضارته مع عصريته , وسلوك إنساني متحضّر .
عندما ننظر من هذا المنظار على المثقف , تبدو لنا الفروق الكبيرة والفوارق الضخمة واضحة جلية على أرض من واقع , عندها يبدوا مثقفونا بعيدين وليس قليلا عن الإنتاج الثقافي العملي الفعلي , ونرى قربهم شديد من الادعاء الثقافي الكبير , وهذا الوضع هو عكس ما يتطلبه وضعنا خاصة كأقلية وعامة كعرب , حيث أن المثقف هو من يكتب أدبا أو يحلل حدثا أو يرسم لوحة , ولا علاقة له بتفعيل وتنشيط الواقع المجتمعي بشكل ملموس محسوس لا مقروء أو منظور , أو قل أن دور المثقف هو دور أداء فردي شكلي يعاني من عضال أحادية التأثير بسبب توافر المفردات أو المعنى وغيرها وقتوم الفعل الثقافي التجسيدي المحسوس .
بسبب قتوم بل أغباش غياب دور المثقف التجسيدي الطوعي الإرادي , تستشري بين عامة الناس أفكار وسلوكيات لا تمت لواقع العصر بصلة , وكأنها تنتمي لأحقاب درستها الرياح , حيث يأنف ويترفع " المثقف " عن الهبوط من عليائه , علياء " القول المجرّد " أو الكتابة الجامدة الخاملة المكررة , إلى ساحة الممارسة والتطبيق والتفعيل المحسوس لأفكار وسلوكيات متطورة , لهذا لا أستغرب البتة أن أرى عقب سيجارة يقفز هاربا من نافذة سيارة أو صوت مطرب قد أطلق صوته بكل ما أوتي من صراخ من مذياع السيارة , وقد لا أشعر بالحرج إن رأيت أكواما من القمامة تتكدس أمام بيوت العامة ومن يدّعون الثقافة على وجه الخصوص . كيف يستغرب واحدنا حين يرى أناس يبصقون وهم يسيرون في الشارع العام أو يخدشون الحياء بمفردات لغوية ألبسوها ثيابا من سقوط . كيف يستعجب واحدنا عندما يرى مَن يتمتع بنزعة ذاتية متجبرة تمنعه مد يد العون لمحتاج . وكيف لا أُشْدَهُ أن تجلس عائلة من أب " مثقف " وأم وطفلين في سيارة فارهة ثم تُنزل النافذة ويلقي الطفل بعلب مشروب إكس إل إلى وسط الشارع ؟! إن مثل هذه الفعال لا تأتي اعتباطا ولا يمكن وصفها بالعفوية , لأنها قائمة على منظومة سلوكية فوضوية متردّية تفتقر لدور المثقف والثقافة كليا , وليس القصد هنا مثقف وثقافة الادعاء إنما ثقافة التجسيد والعطاء , التجسيد الفعلي للمنتج الثقافي وعطائه . حبذا لو حصلنا في تكويننا الاجتماعي على مثقفين فاعلين مؤثرين بمن يحيط بهم من الناس وتتجسد أقوالهم وكتاباتهم لواقع محسوس , لنصل إلى ما نبتغيه في هذا المجال .
مع إيماني بنظرية التدرّج والتطور الهادئ السليم , غير أن ذلك لا يبرر قسوة الغياب المخيف لشخصية المثقف المؤثرة بالآخر , وهنا يحق لي أن أتساءل : أين نحن مِن أولئك العظماء من سلفنا , الذين حوّلوا مجتمعاتهم من واقع الحظيرة إلى تحضّر يليق بقامة الإنسان بوصفه كائن معنوي عملي متفرّد متميّز عن مخلوقات الأرض ؟!
ليس من الخطأ بشيء أن نبيّن نواقصنا وسالبنا , فالبدء بإصلاح النفس هو الخطوة الضرورية الأولى باتجاه الهدف , أي حين نؤشر اتجاه مدعي الثقافة وغياب المجسّد لها , لا أراه تجاوزا ولا تطاولا على أحد , بل لفت نظر وتنبيه لخطر يربض بيننا , وحين ننبّه ونلفت نظر لغياب المثقف المؤثر , فلنبدأ بأنفسنا أولا , على أن نتفق أولا على أن المثقف قد يكون لا يحسن الكتابة والقراءة ولكنه يحسن السلوك والتفكير اكتسابا واحتكاكا .
عمر رزوق
أبوسنان
أبوسنان