من مجموع قصصها
من كتاب ( عطر الحـــــــــــب )
1- عطر الحب
قوبل القرار الذي اتَّخذته زينب بالاستهجان والاستغراب معاً، لدرجةٍ شعرت أنها مطوّقة بنظراتِ أولادها وزوجها السَّاخطة،
لكنَّها في أعماقها شعرت بشيءٍ من السّخرية من استيائهم، فلن تتراجع عن قرارها حتى لو اكتشفوا كِذبَتها.
اتخذت قراراً بأن تأخذ إجازة من المؤسسةِ الزَّوجيةِ لعدةِ أيَّامٍ، لم تكن تستطع أن تقول لهم بصراحةٍ: "اسمعوا،
أنا على شفير الانهيار من الإرهاق، وأشعرُ كما لو أنَّني حمار الطَّاحون، فمنذ خمسة عشر عاماً أعمل على خدمتكم بشكلٍ متواصلٍ..".
ياه، أريد أن أرتاح، أن أفرَّ منكم بضعة أيامٍ كي أرمِّم نفسي وأشحذ بطاريتي.".
ما كانوا ليقتنعوا بكلامها، فاضطّرت لاختلاق كذبةٍ، بأن زوج أعزِّ صديقاتِ طفولتها قد توفيَ وعليها أن تسافرَ إليها في بيروت، تحديداً في قريةٍ قريبةٍ من بيروت.
حاكت كذبتها دون أن تهتمَّ بأمر افتضاحها، تحدّت زوجها الذي تعتقد أن متْعَتهُ الوحيدة في الحياة هي إدانة الناس وتقصَّى عثراتهم،
كانت تتخيل ببرودٍٍ نظرَتَهُ الشامتةٍ وهو يقولُ لها: "يا سلام، المُربّية الفاضلة تكذب!"..
بدون أسف باعت السَّوار الذهبيّ الوحيد الذي تملكه،
والذي قدمَّه لها زوجُها يوم عقدِ القران، سوارٌ مؤلَّفٌ من حلقاتٍ ثخينةٍ متشابكةٍ مع بعضها.
فكَّرت وهي تقبض ثمن السَّوار، دون أن تشعر بذرّةِ ندم، أنّ حلقات ذلك السَّوار المتداخلةِ مع بعضها تشبه سنواتِ حياتِها
التي تتلاحق في خدمة أحبّائها. شعرت براحةٍ وهي تتخلص من ذلك السِّوار كأنَّها تقطع آخر رباطٍ لها مع المؤسسةِ الزوجيةِ.
لم تكن تعرف بيروت إلا من خلال التلفاز، وبمساعدةِ صديقتها الوحيدة في العمل،
اتفقت مع سائق تاكسي ليمرَّ بها فجراً لتسافر
إلى مدينةٍ أهم مافيها أنها لا تعرف فيها أحداً ...دلَّتها صديقتها على عنوان فندق...
لم تصدِّق أنَّ كِذْبَتها نجحت إلا حين جمعت بعض ثيابها في حقيبةٍ
وأولادها متحلِّقين حولها ينظرون إليها بافتقادٍ وعتابٍ.
ابنها الصغير ماكان يستطيع أن يغفو إن لم يلامس جسدُهُ جسدَها،
طوَّق عنقها، والتصق جسدُهُ النحيلُ بجسدِها، قائلاً:
ـ "لن أغيب سوى أيّام قليلة وسأشتري لك هدايا كثيرة"...
نجحت خطَّتُها بيسرٍ لم تتوقعه، ورغمَ أنَّ كل شيء مرَّ بسلام،
فإنها شعرت بذعرٍ حقيقيٍّ حين انطلقت بها السيَّارة مبتعدةً،
شعرت أنَّ قرارها بالسَّفَرِ كان متهوِّراً وتمنَّت بحماسٍ أن تنال عقابها
لتكفِّر عن ذنبها بترك أولادها، وكي لا تأسرها مشاعرُ الإثمِ وتأنيبِ الضميرِ تجاهَ أولادِها
ذكَّرت نفسَها بأنَّها طبخت لها سلفاً عن ثلاثةِ أيامٍ، وغسلت ثيابهم وكوتها، لمَّعت الزجاج ومسحت الأرض، فلن يرهقهم أيُّ عملٍ...
كان الطريق إلى بيروت موازياً للبحر، ظلَّ نظرها معلَّقاً بالبحر طوال ساعات السفر،
وحين عبرت الحدود غاص قلبُها في أسىً عميق وهي تعي أنَّها لم تسافر أبداً طوال حياتها.
بل زاد في أساها إحساسها أنَّه كان يمكن لعمرها أن يمضي على الوتيرةِ ذاتِها لو لم تخترع كذبة لتسافر خارج سجن الحب،
عند هذه العبارة همدت أفكارُها، أجل، ما الأسرةُ، سوى سجن الحب؟!.. مطلوبٌ منها أن تعطي وتعطي وتعطي،
محرّمٌ عليها أن تتعب، يجب أن تكون كالإسفنجة التي تمتصُّ حتى لو اختنقت من السائل..
كانت متكوِّمة في مقعدِها، تسند جبينها على زجاج النافذة؛ تحبس نَفَسَها في الصمتِ
كما لو أنها في درعٍ، لم ترغب في تبادل الحديث مع الرّكابِ مكتفية بحوارها الصامت الحميم
مع البحر. لم تحدد طبيعة مشاعرها، وهي تتعرَّف للمرّة الأولى على طبيعة لبنان الساحرة،
أحسَّت أن مشاعرها عميقةٌٍ مختنقةٌ داخلها ومتشابكة لدرجةٍ يصعب عليها تحديد ماهيتها،
لم يغادر أطفالها ذهنها لحظة واحدة، كانت معهم في كلِّ تحرُّكاتهم، أثناء فطورهم، واغتسالهم وذهابهم إلى المدرسة، شعرت بغرابةٍ ودهشةٍ حقيقيَّتين
وهي تتنبهُ لأوَّلُ مرّةٍ في حياتِها كيف أنها حاضرةٌ في كلِّ شيءٍ في حياتهم..
أصابتها تلك الحقيقة التي داهمتها متكثِّفة عبر خمسة عشر عاماً بدوار حقيقيٍّ،
أغمضت عينيها مستسلمةً لدوار العاطفةِ العاصفةِ التي تربطها بأسرتها،
وَعَتْ بكلِّ كيانها المتهالك من التعبِ أنها صرحُ هذه الأسرةِ، حجرُ الأساس فيها،
وبأنَّهم لا يكونون إلاَّ بها.
أنهكتها انفعالاتِها طوال الرحلةِ، فوصلت إلى الفندق منهكة، بقلبٍ ثقيلٍ ومشاعرَ متضاربة
تُثقلُ كاهلها وتجبرها على إحناءِ كتفيها قليلاً. ا
لغرفةُ مريحة، نظيفة، ومن الشرفةِ يُطلُّ بحرُ بيروت ليزيدَ من إغوائها بالحريَّةِ، أسدلت الستائر الداكنة المضاعفة، واستلقت على سرير هروبها،
مُسلِّمة نفسها للعتمةِ الرطبةِ اللطيفةِ تجرِّدُها شيئاً فشيئاً من طبقاتٍ متراكمةٍ من القلق والتَّوتُر، وصور أولادها التي تخزها دوماً بمشاعر تأنيب الضميرِ.
عاودها إحساسها بذاتها، اكتشفت فكرةً أدهشتها، وتمنَّتْ لو تملك الهمة لتقاوم استرخائها وتسجلها: "الحب أفقدني إحساسي بذاتي".. هذا ما أكَّدته لنفسها وهي تعي كيف أنَّ الأمَّ مجرّدُ صدىً لأولادِها، تفرح لفرحهم وتحزنُ لحزنِهم، أمَّا هي فَتَفْرغُ، تصيرُ قربة جوفاء... أجل خمسة عشر عاماً من الحياةِ في جنَّةِ الحبِّ الأسريِّ فرَّغتها تماماً، إنها تُشبهُ بئراً جفَّ. غرقت في النوم بعكس توقعاتِها بأنَّها ستأرق ولن تتمكن من النوم في سريرٍ غير سريرِها، لكن حين أيقظها شعورٌ بالجوع أدركت أنَّها نامت بعمقٍ كما لو أنَّها ضحيّة سباتٍ، نظرت في ساعتِهَا، الرابعة والنصف بعد الظهر، اتّصلت بعاملة الاستعلامات لتسألها إن كان المطعم لا يزالُ يقدِّمُ وجبة الغداء.
أجابتها الموظفة بلطفٍ دافئ: "أجل"..
بدَّلت ملابسَها. كان المطعمُ في الطابق التاسع، اختارت زاويةً مطلَّةً على البحر، وتأمّلت بيروت المسترخيةِ على الشاطئ والمتسربلةِ بضبابٍ خفيفٍ، تفجَّرت فجأةً حيويّةً هائلةً في روحِها، حيوية مختزنة منذ سنواتٍ وسنواتٍ. طلبت بيرة وأكلت بشهيةٍ، مازحت نفسها بدعابةٍ: كم مرَّةً يا زينب تناولت طعامك دون أن تقومي عن كرسيِّكِ مراراً لتلبِّي طلباتِ زوجكِ وأولادكِ؟ أسعدها أن تُخدم، تذكَّرت أنَّها وعدتُهم أن تتصل بهم لتطمئنهم عن وصولها، كادت تنسى كذبتَّها، ذكرت نفسها أنَّها في قريةٍ قرب بيروت لتعزيةِ صديقةٍ بوفاةِ زوجها.
حين أتاها صوتُ ابنتِها البكرِ أحسّت أنها ترتدُّ إلى سجنِ أسرتِها، أرادت ابنتَها أن تقحمها في تفاصيل شجارها مع أخيها، حدَّثت نفسها: "يريدون إشراكي بمشاكلهم حتى لو كنت بعيدة، "ابنها الأكبر طلب رقم صديقتها فراوغت وادَّعت أنَّ الاتصالَ صعبٌ، أمّا!.. صغيرها حين حان دوره وانتزع السمّاعة فقال لها جملة وحيدة: "هيّا عودي. "ارتعش قلبُها وهي تعي كم يحتاجها، حاولت أن تطمئنه أنَّها ستعود قريباً محمّلةٍ بالهدايا، لكنَّه قالَ بحزمٍ: "أريد الماما ولا أريد هدايا"..
ابتدأت رحلةُ الحريةِ بالتسكُّع في شارع الحمرا، تتوقفُ طويلاً عند الواجهاتِ مفتتنة بالمعروضات، تقارن بين الأسعار هنا وهناك، وكلَّما مشت عدَّة أمتار تستدير للخلفِ لتذكِّر نفسَها بطريقِ الفندقِ. كانت نشوتها عميقة وغامضة في آن، وأحسَّت أنَّ جناحين نبتا لها في ظهرها، وأنَّها خفيفة كفراشة، تنبّهت بعد ساعتين من تسكُّعِها أنَّ هناك شيئاً لا يقلُّ روعة عن الحب وهو الحريّة، شعرت كما لو أنَّ روحَها أرضٌ مشققة بالجفافِ، والحريةُ أشبه بمطرٍ يملأ تلك الشقوق، وجدت نفسها أمام سينما روكسي، وبدون تردُّدٍ اشترت بطاقةً لتحضر فيلم العاصفة ليسرا ممثلّتها المفضَّلة، تذكَّرت بأسىً كيف أنها محرومة من السينما في مدينتِها الكئيبةِ، وتمنّت لو كان أولادها معها. تأثرت بقصّةِ الفيلم، وبتمثيل يسرا المتفجِّرةِ بالأحاسيس، لكنَّ بكاءها المتواصل طوال الوقت لم يكن بسبب انفعالِها بالفيلم، بل لأشياء كثيرة في حياتها ضاعت في الإهمال وفي زحمةِ اهتماماتِها الأسرية. خرجت من السينما متورِّمة العينين، مندهشة من عاصفةِ بكائها، جلست في مقهى رصيف أمَّاً وحيدةً بحاجة أن ترمم ذاتها وتحاور نفسها، طلبت كأساً من عصير الجزر، فيما لا تزال تبتلع دموعها للداخل متسائلة عن سرِّ عاصفةِ بكائها، لكن كم من الأشياءٍ تستحقُّ أن تبكي عليها، كم تشعرُ أنَّها ضيَّعت أجمل مافي روحِها في سبيل أسرتِها؟!..
هدأت بعد أن رشفت كوب عصير الجزر البارد الذي أطفأ لهيبَ روحِها، رغبت أن تتمطّى بقوَّةٍ أمام كلّ الناس، أن تتثاءب بعمقٍ وتقولَ بصوتٍ عالٍ ياه ما أحلى الحريَّة، وفي ساعةٍ متأخرةٍ من الليلِ عادت إلى الفندق، قلَّبت محطاتِ التِّلفاز بلا مبالاةٍ، استحمَّت وهي تغنِّي طوال الوقت مستعيدةً تلك الصفة التي كانت تتمتَّع بها أيَّام العزوبية، لم ترتد ملابسِها في الحمّام كعادتِها، بل خرجت إلى الغرفة تحيط جسدها بمنشفةٍ، أسقطت المنشفة أرضاً وتفرّجت على جسمها في المرآة الكبيرةِ للمدخلِ، صدمها عُريُّها، ورغم أنها لا تزال محتفظةٍ برشاقتِها إلاَّ أنَّها أحسَّت بحزن عظيم وهي تتأمل نهدَيها، أمسكت نسيجَهما الرَّخو، عصرتهما براحتَّيها، يالطعم المرارة الذي تشعره، وهي تتذكر كم كانا شامخين ومتينين، تذكَّرت سنواتِ زواجها الأولى التي قضتها مسممة بالغيظ بسبب تحوُّلاتِ جسدِها المنتفخِ بالحمل والمترهِّل بعد الولادةِ، واحتقان ثدييها المؤلم بالحليب، ثمَّ تهدُّلهما وارتخائهما. كان زوجها يضاعف غيظها. لأنّ لا شيء تبدّل في جسدهِ بعد الزواج، إنَّ الطبيعة ظالمة حقاً ومنحازة للذكور.
أفاقت في ساعةٍ متأخرةٍ من صباح اليوم التالي، طلبت الفطور إلى غرفتِها وتناولت قهوتّها على الشرفة متأمِّلةً النَّاس في سعيهم الدؤوب، فكَّرت أنّ البشر يتشابهون في كلِّ مكان، كانت تتذوق مع قهوتِها طعمَ الحريَّةِ، شعرت أنها ستعيش حالة سمَّتها "فتنة الحريةِ"..
مرَّ أطفالها بمخيَّلتها غارقين في الضباب، حيَّتهم بحب لكنَّها رجتهم أن يتركوها مستمتعة بوحدتها. تنبَّهت لمتعة الصمت، حيث يمكنها أن تسمع صوت أعماقها. حاولت أن تفحص مشاعرها تجاه زوجها، عجزت، لتعترف أنها لم تشتق لـه، وبأنَّها لم تعد تُحبُّهُ، مابالها مرتبكة هكذا؟.. فهو لن يتمكَّن من محاسبتها على أفكارها، تذكَّرت بمرارةٍ كيف تهبه جسدها كحقٍّ له، كما لو أنها مدينة له بتلك الممارسة الفارغة... لولا الأولاد لهجرتْهُ...
تنبَّهت لنظرات نزيل في الفندق تراقبها، كان يدخن الغليون في الشرفةِ، ورغم نظّارته الشمسيةِ السَّوداء فإنها شعرت أنَّ نظراته مثبتة عليها، تذكَّرتْ أنَّها التقته مساء البارحةِ عند باب المصعد وبأنه حيَّاها بإيماءةٍ من رأسِه. قدّرت أنه على أعتاب الخمسين، وأسعدها أنها لا تزال قادرةً على إدارة الرؤوس إعجاباً، وجدت أنَّها تفكَّر به في تسكُّعها الجميل بعد الغداء كاحتمال غواية.. استعادت بذاكرتها لقطاتٍ بعيدةٍ لرحلاتِ صيدٍ كان زوجها يقوم بها مع رفاقه تستمرُّ ليومين أو ثلاثة أيَّام، ترى هل كانت رحلات صيد؟.. أكانوا يلاحقون الخنازير والطيور أم النِّساء؟! وإلاَّ ما معنى الأحاديث الغامضة والتعليقات الجنسيّةِ والغمزات المبطَّنة التي كان الأصدقاءُ يتبادلونها، إنها واثقة أنَّه يخونها، وقد ساعدتها الصدف أن تكتشف كذبات كثيرة لفقها أمامها، لكنها لم تشأ أن تواجه تلك الحقيقة لعجزها عن تخيُّل انهيار أسرتِها، إنَّها تعبد أولادها، ومستعدة أن تتحمَّل كل طعنات الألم في سبيلهم...
اشترت فستاناً أنيقاً يجمع بين اللونين الأحمر والأبيض، ارتدته وأفردت شعرها الطويل الذي تعقصه دوماً في خصلة ثخينة تنسدل حتى منتصف ظهرها. قررت أن تحضر مسرحيّة، تذكَّرت أنها منذ عشرين عاماً لم تحضر مسرحيَّة، اشترت دخاناً خفيف النيكوتين رغم أنَّها لا تدخِّن، لكن بدا لها نفث سيجارة من مستلزمات ديكورات الحرية. لم تبكِ ذلك المساءِ في المسرحِ، بل استمتعت تماماً، وحين تسلَّمت مفتاح غرفتِها من عاملة الاستقبال، أحسَّت بشيءٍ يحرقها بين كتفيها، استدارت لتجده يحدِّق بها، لم يكن وجهه يعكس عاطفةً أو انفعالاً، لكنَّها قرأت رغبة عميقة في عينيه بأن يكون قربها ويحدثها، تجاهلته واتجهت بخطوات ثابتةٍ نحو المصعد، وحين رمت فستانها جانباً وأشعلت سيجارة لتنفث دخانها بتلذذ فكَّرت. ما الذي يمنعها حقاً من خوض التجربة مع رجل آخر غير زوجها، ورغم أنَّها أرادت أن تستفظع الفكرة وتزجر نفسها، إلا أن الخطيئة بدت لها فاتنة حقاً. لِمَ لا تجرّب رجلاً آخر غير زوجها؟... ألا يحقُّ لها أن تخونه مرَّةً واحدة مقابل خياناته الكثيرة لها؟ ولماذا يُنظر لخيانة المرأة كجريمةٍ، أمَّا خيانة الرجل فيجدون لها مئة مبرِّر... فتحت البرّاد وأخرجت زجاجة بيرة، شربتها مستمتعة بذلك الاسترخاء اللذيذ الذي يولده الكحول في أطرافها، تساءلت: "هل تستحق الحياة أن تؤخذ بكلِّ تلك الجديّة؟ عادت الفكرة المتحدِّيةِ التي تحاصرها؛ ما الذي يمنعها من خيانة زوجها؟!".. الخيانة تكون لرجلٍ تحبّه، أمّا هي فلم تحبّ زوجها، لكن كيف تخون مع رجلٍ غريبٍ لا تعرف عنه شيئاً؟... وجدتُ نفسَها تفكّر به قبل أن تغفو، بل أسعدها أنَّه رآها بأجمل صورها...
صباح اليوم الثالث لرحلة حريّتها، تعارفا، قدَّم لها نفسه ببساطة، وجدت نفسَها ترحِّب به ليتناولا الإفطار معاً، ارتاحت للتحدُّثِ إليه في مدينةِ الغرباءِ، أسعدها أنَّه لم يسألها أيّ سؤالٍ شخصيٍّ، فحذت حذوه، لم تمانع حين دعاها لمرافقته لزيارةِ متحف جبرانِ خليل جبرانٍ قرب إهدن، جلست بجانبهِ في السيّارة الفخمة وصوت مطربٍ يونانيٍّ يفجِّر فيها أحاسيسَ غير متوقِّعةٍ، اكتشفت أنَّ هذا الغريب يحرِّك فيها أحاسيسِ اعتقدت أنَّها ماتت بدأت جاذبيّة خجولة تنمو بينهما يتجاهلانها بقسوة. نسيت اسمها تماماً، كأنَّ دهراً يفصلها عن أحبِّائها، وتآلفت مع الغريبِ لدرجةٍ شعرت أنَّها تعرفه منذ دهر...
كانت مبهورةٍ بالطريقِ الجبليِّ الساحر، برسومِ جبران وروحها التي تطوف في المكان، تناولا عشاءً خفيفاً في مطعم يقدِّم مأكولاتٍ بحريةٍ، وحين دخلت غرفتها كانت منهكة من سعادةٍ مباغتةٍ وغريبةٍ، تذكّرت أنها لم تتصل بأولادها لتطمئنَّ عليهم، لكنَّها لم تشعر بالتقصير، فليتركوها تستمتع بحريَّتها مع الغريب، كانت تعرف أنَّ خيالاتٍ عاطفيةٍ رقيقة تجول بذهنيهما وأنهما سيستسلمان للنَّوم على أمل أن يتلامسا في اليوم التالي، لكنَّ أوّلَ شيءٍ فعلته حين استيقظت أن اتّصلت بأولادها، تبلبلت من القلق حين أخبروها أنَّ الصغير استيقظ وحنكه متورِّمٌ بشدةٍ، إنَّه النكاف كما شخَّصَ لـه الطبيب، وهو يعاني من حرارة... بلحظةٍ كانت قد جمعت ثيابها في الحقيبةِ، دفعت الحساب لعاملةِ الاستقبالِ، ورجت سائق التاكسي أن يسرع إلى محطّةِ الباصات، كانت دموعها تنهمرُ كاويةً، تمسحها بظهر يدها... دفعت للسائق أجرة راكبَين ورجته أن يسرع، سخرت من أيَّام الحرية التي قضتها في بيروت، أحسَّت أنَّها تكسو نفسها بثوبٍ مخادع، كان حبّها لصغيرها طوال طريق العودة يسيطر عليها ويغمرها بنشوةٍ تذهب بعقلها، مرَّ بذهنها الغريب يتناول إفطاره وحيداً ينتظرها، ابتسمت باستخفافٍ للأفكار العابرة والغريبة عن جوهر كيانها أم... كانت يداها المحيطتان بحقيبة يدها ترتجفان من الانفعالِ، فكّرت بأنها لن تعطي جسّدها لرجلٍ آخر لتحافظَ على نقاءِ روحها، وجسدها من أجل أطفالها، وليس لأجل زوجها، إنها تعي تماماً كيف أنَّ لا طعم لحياتها دونهم، وأنَّ تعبها الطويل في سبيلهم هو الذي يغني روحها ويجعلها صامدةً ومطلقةً وعظيمةً.؟ صار نفاذ الصَّبر يلسعُها، غاية ما تريده أن تضمَّ الصَّغير المريض إلى حضنها، ستقبِّله قبلاتها "كاسات الهوا" محاذرةً أن تسبب له الألم، سَتُدللّهُ وتحضر له المأكولات الخفيفة، وحلوى الزبيب واللوز التي يحبها، كم تتمنَّى أن تسهر بجانبه طوال الليل منصته لإيقاع تنفُّسِهِ، وأن يمدَّ يده وهو نائمٌ باحثاً عنها بقلقٍ، ليستكن ويتابع نومه حين يلمسها...
أيّة حريّةٍ مخادعةٍ أرادت أن تعيشها؟... كم تشعر بذلك اللهب المتأجّجِ من عينيها، تشعر به دون أن تراه، لهب الحب، لا يوجد أروع من أن يعيش الإنسان لهب الحب... صارت أنفاسها تتخذ إيقاعاً حماسيّاً، فجأةً غزت أنفها رائحة عطرٍ ساحرٍ، التفت تبحث عن مصدره، سألت السائق والركاب عن مصدر تلك الرَّائحة الزكيَّة، أبدوا دهشتهم، واضحٌ أنَّ أيَّاً منهم لم يشم تلك الرَّائحة. ابتسمت وهي تغمض عينيها متشنِّجةً من السَّعادة. إنَّه عطر الحب...
لم تستوقفني فاطمة لأنها طفلة تتسول، فقد اعتدتُ رغماً عَنّي على منظر المتسولين الأطفال يداهمون المارة في الأزقة والشوارع، ليشعرونني كل مرة كم أن للحياة طعماً رديئاً..
لكن فاطمة التي لا يتجاوز عمرها عشر سنوات ـ كما قدّرت ـ شلّت تفكيري، واستقطبت أحاسيسي، وجعلتني أشعر كلما التقيتها، أو زارتني في مكتبي أن صرخة خرساء تمزّق قلبي..
من اللحظات الأولى استفزتني تلك المتسولة الصغيرة، إذ لم أتّوقع أن أجدَّ متسولاً شديد الاعتداد بنفسه كفاطمة، فهذه مهنة الذل والانكسار، لكن فاطمة تملك إحساساً فطرياً عالياً بكرامتها الشخصية، إنها لم تسمع عن الكرامة، ولا تعرف ماهي، لكنها تملكها في داخلها كمن يملك جوهرة يجهل قيمتها.
سيطرت عليَّ تلك الطفلة وأملّت شروطها. كنتُ جالسةً في مكتبي أنعم بدفء الشوفاج وأتلذذ بفنجان قهوة يساعدني على تحمل جرعات الإحباط اليومية التي تقدمها نشرات الأخبار، ومن حين لآخر أهرب بنظري من شاشة التلفاز إلى النافذة، لأتفرج على الأمطار الهائجة التي سقطت بعد احتباس طويل، كدموعٍ مخنوقة فاضت بها الروح أخيراً..
دخلت عليَّ فاطمة أشبه بفزاعة عصافير، هيكل عظمي لطفلة تكسوه أسمال بالية فضفاضة ومن حذائها المهترئ تظهر أصابع قدميها القذرة المزرقة من البرد، دخلت منتصبة القامة، ترسم ابتسامة متعبة على وجهها الطفولي المدبوغ بالإعياء والألم رغم نضارته، أدهشني امتلاء وجهها مقارنة مع نحولها الشديد، كان شعرها المقصوص بطريقة مشوهة مبلولاً ويقطر ماءً على رقبتها وكتفيها. تحمل في يمناها كيساً أسود. سألتني بصوت واثق لا يحمل أي نغمة استجداء:
ـ هل تشترين هذه الكنزة؟!!..
أخرجت كنزة خضراء عتيقة من الكيس، وعرضتها علي بطريقة نزقة، عارفةً أنني لا يمكن أن أشتري هذه الخرقة..
لم أستطع أن أصرفها، علاقتي مع المتسولين الصغار كانت بالهروب منهم، أسرع بإعطائهم النقود أو أسرع خطواتي كي يفهموا ألا يتبعوني ويتعبوا أنفسهم، ماكنتُ أتحمل مظهرهم الرث فقلبي طافح بأنواع كثيرة من الغمّ والقهر.
لكن فاطمة فرضت نفسها عليَّ بطريقةٍ غامضةٍ أجبرتني أن أراها بقلبي ـ أسرتني تلك المفارقة في شخصها، فتلك المتشردة الصغيرة، البردانة والجائعة والمُهملة، شبه الحافية، تملك كرامة متحدية واعتداداً حقيقياً بنفسها، هل أردتُ أن أحلَّ لغز النظرة؟.. سألتها: من أنتِ...؟!
أجابت: فاطمة...
ـ ولِمَ تتسولين يا فاطمة...؟
هَزَّت؟؟؟؟ كتفيها ساخرة من سؤالي، ابتسمت كاشفة عن أسنان مصفّرة.
سألها: ألم تذهبي إلى المدرسة؟..
ـ أجل وصلت حتى الصف الخامس.
ـ ولِمَ تركت المدرسة يا فاطمة؟
بصوتٍ بالغ الحياد أجابت: أخرجتني أمي كي أعمل.
ـ أهي التي تدفعك للتسول؟..
ـ أجل...
كنتُ أحدّقُ بها كحالة للدراسة، كنموذج خاص لمتسول، كانت عيناها الواسعتان العسليتان تحدّقان بوجهي بنظرة نقية صافية تستحث محبتي إنما ليس شفقتي...
نظرتها تعني، لا تنظري إلي نظرة فوقية، لا تهينينني بشفقتك، فأنا إنسانة مثلك، لكن ظروفي صعبة..
وجدتني أعطيها مبلغاً كبيراً من المال، ليس لإرضائها، وإرضاء ضميري، إنما لغاية أكثر تعقيداً، فقد أردتُ ـ أنا التي وقعتُ تحت سطوتها ـ أن أسيطر عليها بهذا المبلغ الذي لم تحلم به..
أخذت المال ببساطة ودسته في جيبة بنطال واسع تحزمه بشريط ثخين، ابتسمت لي شاكرة، وعادت تمسح وجهي بحنان بعينيها الصافيتين...
سألتها: إحكِ لي عن أسرتك، أمكِ، أبيكِ؟..
قاطعتني: والدي توفيَ منذ عامين بالسرطان، لديَّ أربع أخوة يصغرونني..
ـ وأمكِ، ماذا تعمل؟..
ـ لا شيء..
ـ وكيف تعيشون..
رفعت كتفيها بلا مبالاة، وقالت: الله يعيننا، أحياناً الأقرباء يرسلون لنا طعاماً..
أغاظتني تلك الطفلة بمظاهر الرضى التام لواقعها، كأنها لا تخجل مما هي فيه، من نذالة أمها وبؤس طفولتها، أحسستها تريد أن تحب الحياة مهما كانت قاسية عليها..
قاومت مشاعر غيظي وتابعت الحوار معها..
ـ هل تعرف أمك أنك تدورين من مكتب إلى مكتب تشحذين المال؟..
ـ أجل..
ـ ألا تخشى عليك من اعتداء، أو تحرُّش أو خطف أو....
قاطعتني: لا أعرف، لا أظن..
ـ متى تخرجين من البيت؟..
ـ منذ السابعة صباحاً..
ـ ومتى تعودين؟..
ـ أعود بين الثامنة والتاسعة مساءً...
ـ وأين تقضين كل هذا الوقت؟..
هزت كتفيها مستخفة بسؤالي قائلة بثقة واعتداد: أشحذ..
لم تشعر فاطمة أن هناك ما يهين في التسول، وجدت نفسها محشورة في زقاق الفقر، محاصرة مع أخوتها في فم غول اسمه الجوع..
ـ وهل تجمعين مبلغاً جيداً..؟..
ـ ليس دوماً..
ـ ما أكبر مبلغ جمعته؟..
ـ ذات يوم جمعت سبع مئة ليرة في اليوم..
فكرتُ أنه دخل موظف خلال أسبوع؟!!..
فجأةً لم أعد قادرة على محادثتها... شعرتُ أن وادٍ سحيق يفصلني عنها ويفصلها عني، لا يمكنني عبوره مهما دفعتُ لها مالاً، يبدو أنها شعرت أني لم أعد قادرة على تحمَّل وجودها، وبأنها تسبب لي الضيق، فحملت كيسها وهمت بالانصراف..
استوقفتها لأعطيها قالب شوكولا... امتدت يدها النحيلة كغصن مقطوع تأخذه مع نظرة امتنان لكني لم أشعر بلهفتها لتذوقه ـ قلتُ لها: كُليه يا فاطمة...
قالت: لا،.. سأخبؤه لأمي فهي تحب الشوكولا...
وددتُ لو أصرخ بها: وهل تستحق أمك أن تحبُيها؟..
لكني كبحتُ صراخي، ونفثت سموم حقدي في وجه طفلة بريئة من مصيرها...
ـ هل تحبين أمك التي ترميك في الشارع يا فاطمة؟..
حدقتْ بي بعينين زائغيتن زفرت همَّاً يضيق بها صدرها الطفولي، وقالت: كيف لا أحبها... إنها أمي... كرهتُ نفسي لأنني سببتُ لها الألم، وحين استدارت لتنصرف، تأملت عظم نقرتها وعظام كتفيها وأضلاعها التي تشف عن كنزة فضفاضة مهترئة، رجليها أشبه بعودين يابسين، لكن مشيتها شامخة، كأنها لا تريد أن تنهزم أمام نحولها، وبؤس طفولتها...
تركتني فاطمة مستنفدة بذكراها لأيام، التصقت هذه الطفلة بمشاعري، أحسستُها تريد أن تعطي مغزىً آخر لأيامي، إذ أحس بحضورها وأنا في السيارة، فأتخيلها هائمة في الشوارع، تفاجؤني ترنو إلي بعينيها الواسعتين العسليتين، وأنا آكل طعامي الشهي المدروس جيداً على الفيتامينات والسعرات الحرارية أحس بجوعها المُكابر... بلبلت مشاعري تلك المتسولة الصغيرة، فما عدتُ أعرف هل أرغب بلقائها أم لا...
لكني بعد أيام فرحت حقاً حين أطلّت عليَّ كشبح طفل يتقدم نحوي بثبات... لم أكن أعرف أن حميمية خاصة ولدت بيني وبينها، استقبلتها كأنني معتادة على استقبالها دوماً...
لكنها سمّمتني بالغضب حين قالت لي بابتهاج حقيقي: كم فرحت أمي بقالب الشوكولا..
كنتُ أريدها أن تكره أمها، وأن تعرف أن تلك الأم سيئة لأنها تدفع بطفلتها للتسول، كنتُ أطلب من طفلة لم تتعلم الكره بعد أن تعكَّر صفاء روحها وتكره، وتفهم قوانين استغلال الأطفال والإساءة إليهم، وأن تتمرد على مصيرها وتحاكم أمها، وبالتالي مجتمعاً بأكمله، ينتهك طفولتها..
سألتُها بحنق: كان يجب أن تأكلين الشوكولا أنت؟..
ـ لكن أمي تحب الشوكولا كثيراً..
ـ أمك هذه غريبة، كيف ترمي بك في الشارع لتتسولين؟...
كنتُ أشعر كم ينقل الصوت شحنات الحقد المسمومة، كم استاءت من غضبي الذي لم تتوقعه لأنها دخلت مكتبي بلهفة المشتاق، فلم تتوقع عجرفتي، أعطتني فاطمة درساً لن أنساه في أن العجرفة دليل الجهل... ماذا أعرف أنا عن هذا القاع الذي تعيش فيه فاطمة كي أنظرّ عليها وعلى أمها؟!!!...
كبحتُ غضبي وأعطيتها المال، فأخذته وهي تشيح بعينيها عني بنظرة انكسار، وجدتني أرّق للحال، وأطلب إليها أن تقترب مني، تركت الكيس الأسود الذي لم أسألها ماذا يضم، واقتربت مني، احتضنتها، ياه كم هي نحيلة، إنها بالكاد تملك قواماً...
سألتها: ألا تأكلين يا فاطمة؟...
ـ أجل، آكل مساءً حين أعود إلى البيت...
ـ وأثناء النهار..
ـ نادراً ما آكل، أحياناً إذا اشتدَّ علي الجوع، أشتري فولاً...
ـ لكن كيف ستكبرين وتصيرين صبية إن لم تأكلي...
أدارت جذعها بطريقة تعمّدت أن تلصق خدها بخدي، قالت لي كأنها توشوشني .
ـ حكيت لأمي عنك..
ـ وماذا قلتِ لها؟
ضحكت: قلتُ كلاماً جميلاً...
سألتها: لِمَ لا تحاول أمكِ أن تعمل...
ـ لا أعرف، أخوتي صغار، كيف ستتركهم...
ـ ووالدك ماذا كان يعمل؟
ـ سائق باص..
ـ أكان موظفاً..؟
ـ أجل..
ـ ألا تقبضون راتبه بعد وفاته..
ـ تقبض أمي نصف راتبه، أي ألفي ليرة..
ألفي ليرة!... لا تكفي ثمن خبز تسد به أرملة أفواه أطفالها الخمسة!...
أعدتُ سؤالي الغبي: أتحبين أمك يا فاطمة؟..
كأنني توقعت هذه المرة أن تصارحني بالحقيقة وتقول :لا..
نظرت إليَّ بعتب وتساءلت: وهل يوجد إنسان لا يحب أمه؟..
كانت أمها انتماؤها ودنياها، كانت وطنها، أليس للوطن وجه أم؟!... لم أعرف كم أن فاطمة تحب أمها إلا بعد شهر من ترددها عليَّ، يوم قررتُ أن أكتب رسالة لتلك الأم ـ عساني أحثها أن ترحم ابنتها من حياة التسول، وأحرّض فيها نخوة البحث عن عمل لإعالة أولادها.
لم أتردد بشأن الرسالة، لأن ذلك اليوم كان مشحوناً ببؤس فاطمة فوق قدرتي على الاحتمال...
كنتُ قد التقيتها صباحاً، وأعطيتها مالاً على عجل، وعند الظهر كانت عاصفة قوية تهب بجنون مقتلعة بضعة أشجار، ومسقطة عمودي كهرباء، كنتُ غاطسة في معطفي، أوصي سائق التكسي أن يكون حذراً خوفاً من جنون العاصفة، حين لمحتُ عَرَضاً فاطمة كشبح تقف عند مدخل أحد البنايات، تحمل الكيس الأسود بيدٍ، وتنفخ على يدها الثانية لتتدفأ.
كنتُ في مكان بعيد جداً عن مكتبي، تساءلت بدهشة: هل تصل فاطمة إلى هذه الأحياء!.. هزّني منظر المتسولة بقوة، ولم أستطع الاسترخاء طيلة النهار، ولعظيم دهشتي زارتني في يوم جنون الطبيعة مساءً في مكتبي، فانفجرتُ بها بلا شفقة: ألا زلت خارج البيت كيف تتجولين في الشوارع والعاصفة...
لكني لم أستطع أن أكمل كلامي الذي انقطع فجأةً أمام دموع عينيها، دموع بسبب البرد أسرعت تلتصق بالشوفاج، تقبض على قضبانه بأصابعها الصغيرة المحمرة، وتمسح بكم كنزتها أنفها الذي يسيل، وتقول لي متجاهلة استنكاري: ياه، البرد فظيع اليوم...
سألتها بسخرية:وكيف كانت الغلّة اليوم؟...
ردت ببساطة مسالمة: ليست سيئة.. جمعتُ مئة ليرة لأمي..
انفجرتُ لدى سماعي كلمة أمي، تلك المجرمة، عند هذا الحد قررتُ أن أكتب لتلك الأم رسالة، لا أذكر تماماً ماذا كتبت، لكن كلماتي كانت قاسية، لدرجة أن وجه فاطمة غام وراء غيمة حزن، عكرت ملامحها العذبة، لأول مرة شعرتُ كم هي مشوشة بالخوف وعدم الأمان، قطّبت وهي تنظر إليَّ بعتبٍ وألم، لكنني ألححتُ عليها أن تعطي أمها الرسالة، وأن تطلب إليها أن تزورني، كنتُ أريدُ أن أتفرج على تلك الطينة من الأمهات اللاتي يدفعن أولادهن إلى فم الغول..
أخذت فاطمة الرسالة وانصرفت، لكني فوجئتُ وأنا أغلقُ باب مكتبي أنهامزقت الرسالة، وألقت بالقصاصات عند بابي بتحدٍّ واحتقار. كتمت غيظي وقررتُ أن أحذفَ تلك المتسولة من حياتي، فلا يمكنني أن أقدم لها شيئاً، وفعلاً تجاهلتها خلال أسابيع، لكني تنبهتُ أنها هي التي بدأت تتجاهلني، فلم تعد تزورني، وتبتعد عني حين تصدفني في الشارع...
سخرتُ من نفسي واعترفت بأنني أسأتُ لهذه الطفلة، فأنا أشجعها على التسول حين أعطيها المال بطريقة لا تحلم بها...
صرتُ أتفرج عليها وهي تدور في الشوارع حاملة الكيس الأسود، تسير بقامتها الضئيلة الشامخة دوماً، شيء ما يضحك ويبكي في منظر تلك المتسولة المعتدة بنفسها، أراها جالسةً على درج، أو تقزز لب دوار الشمس، رفاهيتها الوحيدة ربما، تتفرج على الحياة حولها بعينينها الواسعتين الصافيتين، لا أذكر أنني رأيت عينان بصفاء عيني فاطمة، لم أرها مرة تأكل...
لكن فاطمة ظلت الغائبة الحاضرة، تركت بصمتها في روحي ومضت، بقي جزء منها في فضاء مكتبي يحفّ بي على الدوام، حاصرتني نظرتها الصافية التي تنجح دوماً في مداراة ألم أكبر من سعة صدرها النحيل، سجنتني في عسل عينيها، ياه ليس هناك من سجن أصعب من سجن العيون...
حاولتُ إقناع نفسي أن فاطمة وأمثالها أمرٌ واقعٌ، يجب تقبله، كما نقبل رغماً عنا مظاهر انتهاك كثيرة، الأذى الذي يحدثه فينا منظر المتسولين الأطفال، يشبه الأذى الذي نُحسِّهُ حين نرى سيارات فارهة يقودها لصوص يمصون دم الشعب. وجهان لعملة واحدة...كما أقول لنفسي...
لم أكن أعرف إلى أي حدّ تغلغلت في روحي تلك الطفلة، إلا بعد أسابيع طويلة من القطيعة بيننا، حين كنتُ أنتظر اللّحام يدق لي قطع اللحم لتصير شرائح رقيقة كنتُ أقف خارج الدكان هرباً من رائحة اللحم النيء، فجأة لمحتُ في زجاج الواجهة صورة فاطمة على الرصيف المقابل، ترنو إليَّ بنظرة لا نهائية، لم أستدر، ولم أقم بأية حركة، كانت تقف مستمرة بالنظر إليَّ، بشوق وعذوبة، صرتُ بدوري أحدّق بها من خلال الواجهة الزجاجية لدكان اللحام..
تنبهتُ أنني أدير لها ظهري، فيما هي تفتح لي صدرها بمودة إنسانية هائلة، لم أشعر بمثلها في حياتي، كانت أعيننا تتلاقى من خلال الزجاج في نظرات لا نهائية، نظرة لا يمكن وصفها إلا أنها نظرة إنسانية، نظرة إنسان لإنسان، كأنني أتعرف على نفسي من خلالها، وتتعرف علىنفسها من خلالي.هزَّني الشوق لتلك الطفلة ودفعني للاستدارة نحوها، كانت نظرة فاطمة قادرة على الوصول إلى نخاع روحي، لم نتكلم، ولم نلوّح لبعضنا، عبرتْ الشارع العريض بمشيتها الواثقة وتركت جسدها النحيل يرتاح بين ذراعي، مسحتُ على شعرها الأجعد القصير جداً، وقلت لها مدارية دوامة مشاعر تأثر تعصف بي: ماذا فعلت بشعركِ؟...
ضحكت: قصته لي أمي...
ـ لكن لِمَ قصته بهذه الطريقة، لقد شوهتك يا فاطمة...
ضحكت بتسامح: كي لا يتحرش بي أحد...
سألتها مازحةً كي أداري تأثري: ما أخباركِ يا فاطمة، أما زلت تفتلين في الشوارع...
ـ أجل....
أدركتُ حماقتي حين كتبتُ رسالة لأمها، ما أغباني هل اعتقدتُ أنني مصلحة اجتماعية، أو ساحرة قادرة أن أقلب بؤس تلك الأسرة إلى نعيم...
أمسكتُ يدها فتركتني أقودها حيثُ أريدُ، كانت تلك الصغيرة مستعدةً أن تتبعني، وأن تتركني أقودها حتى آخر الدنيا...
في مكتبي أعطيتها نقوداً كالعادة، وطلبتُ منها كما لو أننا صديقتين أن تُريني ماذا يضم كيسها الأسود أخرجت بنطالاً بالياً تحلم أن تبيعه، أكلت فولاً وشربت كولا، حدثتني عن أسفها الشديد لأنها باعت مظلتها معتقدةً أنَّ الشتاء قد ولَّى، ضربت كفاً بكف وهي تقول: تصوري يوم بعت المظلة بدأت الأمطار تهطل غزيرة، سأذهب إلى البائع لأستردها...
أبديتُ إعجابي بحذائها الرخيص الجديد، قالت إنها اشترته على العيد...
سألتُها: وهل تسوّلت في العيد؟...
قالت: طبعاً، وجمعت مبلغاً لا بأس به...
حكت لي فاطمة وهي تطقطق أصابعها النحيلة، أن أمها دائمة الشجار مع أصحاب الغرفة التي يعيشون بها، وأنهم ينوون طردهم من تلك الغرفةِ، وبأنها لن تسمح أن تصير أمها في الشارع...
توقدت بشرة فاطمة وتألقت نظرتها وهي تخبرني عن قَسَمِها أنها لن تسمح لأحد أن يطرد أمها وأخوتها من تلك الغرفة...
حكت لي تلك الصغيرة الجبارة عن رجل عجوز يملك دكاناً، يلّوح لفاطمة بالمال كلما مرّت قرب دكانه ويبرطم بكلام غير مفهوم، حذرتها منه، فابتسمت لي تطمئنني أن لاداعي لتحذيراتي.
ذات مساء فاجأتني فاطمة في ساعة متأخرة، ما إن رأيتها حتى نظرتُ في ساعتي، قلتُ لها: فاطمة تقترب من التاسعة، ألم ترجعي لبيتكِ بعد..
ـ سأرجع، لكني أردتُ أن أخبرك شيئاً...
اعتقدتُ أن أمراً خطيراً حدث مع فاطمة أو أحد أفراد أسرتها، سألتها بقلق...
ـ خير يا فاطمة...
ـ أردتُ أن أقول لك أنني مزّقتُ الرسالة لأنني... تعثرتُ بالكلام، ثم استجمعت قواها وتابعت، لأن أمي كانت ستضربني، فذات يوم أرسلت سيدة لطيفة مثلك رسالة لأمي، فضربتني بقسوة، وقالت لي لا تتحدثي مع الناس، إطلبي منهم المال فقط.
غَشِيَ دمعٌ حار عينيها، وقالت وهي تمسح عينيها بكم كنزتها طيب أنا ما ذنبي؟؟؟
ـ ألهذا السبب جئتِ الآن...
ـ أجل. طيب أنا ما ذنبي؟!..
كانت تسأل الدنيا حولها هذا السؤال الأليم. لم أستطع أن أقول شيئاً سوى معك حق يا فاطمة...
أمسكتُ بيدها وقلتُ لها هيا آن الأوان لترجعي إلى البيت، أجبرتها أن تأكل قطعة حلوى، أرادت أن تخبؤها في الكيس الأسود، انتظرتُ الباص مع فاطمة ليحملها إلى غرفة بؤسها، حيث سترتمي على فراشٍ حقيرٍ لتنام. وقبل أن تصعد الباص التفتت إليَّ وهي تضحك من قلبها.. قالت:
ـ أتعرفين، أحب كلامك عني...
حين تسألينني أما زلت تدورين في الشوارع.. لم أفهم ما الذي يضحك فاطمة في هذا الكلام، لعل أحاسيسها ملتبسة بين ضحك وبكاء، فكرتُ بأيام فاطمة التي تقضيها في دوران مضني في الشوارع متسللة إلى المكاتب تشحذ، متعرضة لتحرشات وكلمات لن تبوح بها لإنسان. فاطمة التي تدور وتدور بلاجدوى في شوارع مدينة تنتهكها كل يوم، باحثة عن حب دافئ، عن حلم طفولة يتبدد يوماً بعد يوم، عن حلم يهترئ ويبلى، كتلك الأشياء المهترئة التي تضعها فاطمة في كيسها الأسود..
ترى كم يساوي حلمك يا فاطمة؟!...
كانت المحاكمة نهائية، والحكم قطعي غير قابل للتأجيل ولا الاستئناف ولا النقض، وقررت هيئة المحكمة الموقرة، الحكم علي بالإعدام، لأني طوحت على مدى سنوات بالتقاليد والعادات المُتعارف عليها عامةً، وشوهتُ مفاهيم الشرف والأخلاق برفضي بيت الطاعة الزوجي وإعلاني على الملأ أنني أعشق رجلاً أعيش حبه في الشمس...
وقالوا: إني ظاهرة خطرة على المجتمع، لأنَّ العشق الحر لو استشرى بين البشر، لانتهى المجتمع إلى كارثة لا أخلاقية، ولانهدمت بيوت كثيرة، ولهجرت نساء كثيرات أزواجهن، ولهجر رجال كثيرون زوجاتهم، وهكذا تنهدم بنية الأسرة التي هي حجر الأساس لبناء مجتمع سليم...
لا أذكر ماذا قالوا بعد... أغمضتُ عيني تخيلتُ بيتاً ريفياً بسيطاً وأشجاراً عالية وأطفالاً يلعبون ويتصايحون، وتبلورت هذه الصورة أكثر وأكثر، واشتد صياح الأطفال وعلت ضحكاتهم، وتبينت من خلالهم ابنتي إيمان، فخفق قلبي بشدة، كانت تضحك من كل قلبها تتكلم وتشير بيديها، كانت عيونها تلتمع فرحاً، وخدودها موردةً، وهي تقفز وتلعب مع رفاقها، صرختُ بكل قواي، إيمان، إيمان، لكنها لم تسمع، كنت أراها، ولكنها لا تراني، ولا تسمعني، وددت لو أركض أحتضنها بقوة وأقبل يديها وقدميها وشعرها.... ولكني اكتشفت أني غير قادرة على الحركة وأني مشلولة... وفجأة انطفأت الرؤية وحل الظلام، وحاولت جاهدةً استعادةً الصورة فعجزت وفتحت عيني بأسى ففوجئت بتزايد الجماهير، كيف تجمَّع كل هؤلاء، من أين أتوا؟.. رجالاً ونساءً.. حتى الأطفال، أحضروا أطفالهم ليشهدوا إعدام امرأة... ولكن لماذا يُحضرون الأطفال، وكيف تسمح هيئة المحكمة الموقرة بإحضار الأطفال؟....
ماكنتُ أشعر بشيء، ولكني كنتُ فعلاً مندهشة من هذا الحشد الكبير، ونقلت نظري في الوجوه، كنت أعرف أكثرها، وتبينت أصدقائي وأقربائي وجيراني وغيرهم كثيرون بالرغم عني ابتسمتُ لأني وجدتُ تشابهاً كبيراً بينهم... نفس النظرات، هل النظرة تعطي هذا التشابه الكبير بين البشر كانوا ينظرون إلي بثبات نظرة حيادية باردة ميتة... كأني لا شيء بالنسبة لهم كأني لم أعش وسطهم أكثر من ثلاثين عاماً... كيف يتنكّرون لي بهذه البساطة، ووجدت الأنظار كلها تتحول لأحد رجال المحكمة الذي وقف وأعلن بإصرار أنه لن يصلي على جثتي بعد وفاتي لأني كافرة، ولم أطبق تعاليم الدين... وجرى همس خفيف بين الناس، ثم سكت الهمس وحلَّ صمت كله ترقب...
سألني أحد رجال المحكمة: ماهي رغبتك الأخيرة..
قلت له: أريد أن أموت غرقاً...
دهش وقال: ولكني أسألك عن رغبتك الأخيرة، لا عن الطريقة التي ستموتين فيها، فهي من اختصاصنا...
ـ ليس عندي أية رغبة، سوى أن أموت غرقاً...
يبدو أن هذه الرغبة لم تكن متوقعة أبداً، فجرى تشاور طويل بين رجال المحكمة الثلاث، وافقوا على رغبتي... أخيراً...
ـ ولكن البحر بعيد من هنا، حسناً سنأخذك بالسيارة... كانت ثلاث سيارات سوداء فخمة تنتظر عند باب المحكمة وأشاروا إلي أن أركب إحدى السيارات، صعدت إلى المقعد الخلفي، وانطلق السائق باتجاه البحر... لم أكن أشعر بأي شيء، كانت أحاسيسي مصادرة، كأنها تجلدت أو هربت كنت أنظر إلى البيوت والناس والأشجار، وأكوام القمامة.
كان البحر ينتظرني بشوق، والموج يهمس لي بموسيقى رائعة، لم أسمع أجمل منها في حياتي... الزرقة الأبدية ستحتويني وسأرتاح، ولدهشتي وجدت حشد الناس ينتظرني على الشاطئ، كيف وصلوا بهذه السرعة؟!... هل ركبوا سيارات أم أنها جمهرة أخرى، ولكنهم متشابهون لدرجة....
وقف الرجال الثلاثة الممثلون لهيئة المحكمة، وأومؤا لرجلين ضخمين كي يدفعاني إلى الماء.. لكني لم أنتظر تلك اللحظة كان البحر يناديني بشوق لا يوصف، دبت الحياة بقدمي المشلولتين ووجدتني أركض وأركض وأرتمي في الزرقة اللامتناهية...
كانت برودة الماء منعشة، وأحسست أن أحزاني تذوب كلها... وتحررتُ من ثقل جسدي وملابسي وتنفستُ بعمق ووجدت دموعي تنسكب بغزارة وتختلط بماء البحر فيشكل اتحادهما دواءً سحرياً يداوي جروحي الكثيرة...
لم أكن أتصور أن قاع البحر جميل بهذا الشكل تعجبت كيف كنت أخشاه سابقاً، كان الموج ينقلني بخفة ويبحرني إلى عوالم رائعة، ألوانها ساطعة، لم أشاهد مثلها من قبل كنت خفيفة وحرة وسعيدة، وكانت تصدر آهات فرح من حنجرتي، ووجدت نفسي أغني وأنا أدور مع الموج.... لم أكن أقدر الزمن، كم استمر دوراني مع الموج، ثواني ساعات، أياماً، سنين... لا أدري، تعطل الزمن كنت أعيش بسعادة لا متناهية...
يبدو أنَّه لا يوجد توقيت زمني في عالم البحار، كنت مستسلمة للموج الذي ينقلني من مدينة إلى مدينة دون حدود، ودون جواز سفر، إلى أن تباطأ الدوران وتوقف، ووجدت نفسي في جزيرة خضراء رائعة، وهتفت بكل حواسي أنها الجنة، كان خيالي يعجز عن تخيل جمال بهذه الروعة أشجارها مختلفة، أزهارها بألوان لم أشاهدهما من قبل، شمسها ساطعة دوماً "تشيع الدفء والحياة وبين الأشجار الباسقة لمحت بيتاً أو بناءً جميلاً أشبه بالبيت، ولكن جدرانه شفافة واقتربت، كان الباب مفتوحاً... تعجبت هل هذه الجزيرة مسكونة دخلت من الباب وجدته، صرخت صرخةً ردد صداها الموج كله... كان حبيبي يجلس ينتظرني وعيناه تشعان حباً ووجداً... ارتميت في أحضانه وبكيتُ دهراً.... وقلتُ له: كيف أتيتُ إلى هنا، هل حكموا عليك بالإعدام أيضاً...
قال: أبداً، ولكن حبنا لا يعيش إلا في الجنة، وهذه هي الجنة التي انتظرتك فيها طويلاً، هنا سنعيش بسلام، لن نضطر للكذب، لن نضطر لتقديم أوراق رسمية مختومة وعليها طوابع ليحللوا علاقتنا أو يحرموها... في هذه الجزيرة، لا شيء ينمو دون حب الشمس هنا لا تغيب أبداً... ولكن أشعتها دافئة وليست محرقة الأشجار تظل خضراء ولا تتساقط أوراقها، الأزهار تظل يانعة، لا تذبل ولا تتبدل...
وبدأت أدور في هذه الجزيرة العجيبة، وتمددت على سجادة خضراء من العشب الطري وسط أزهار تلمع بألوان عجيبة، ومددت يدي وقطفت زهرة، ولدهشتي سال دم أحمر حار من ساقها ذهلت وأسرعت لصديقي أخبره ما حدث، فقال لي وهو متألم، ولماذا تقطعين الأزهار....
تأمليها فقط، هذه الأزهار نمت من دماء الشهداء، من دماء المظلومين والضحايا الأبرياء.... كانت الزهرة في يدي لا تزال ترشح دماءً خفيفاً، تألمت كثيراً، لماذا قطفتها، وتحول لونها إلى أصفر شاحب فرميتها جانباً..
كيف يمر الزمن في هذه الجزيرة؟ لا أدري فالشمس لم تكن تغيب أبداً... وكنتُ أستطيع أن أنام بهدوء في دفئها الرائع، وكنت أقوم بنزهات طويلة وأنا أمسك يد حبيبي بأمان، دون أن أرتجف خوفاً، ونتحدث أحاديث لا نهائية، لا يبترها تجسس ولا فضول... حتى حبنا تغير شكله، صار امتداداً لروعة الطبيعة، لا يعرف الشك ولا الفتور، ولا الغضب، صار له مسحة من الخلود والمطلق، صار نوعاً من التعبد، كأنه انصهر مع عبادة الله...
كيف لا يكتفي الإنسان بالجنة، فتشده قوى خفية إلى أن يخرج منها ولو لدقائق، قوى نحو مجهول، كله عتمة وخطر... وبدأت تنتابني هواجس وأحلام؟.. إني يمكن أن أتسلل خارج الجزيرة لدقائق لأرى إيمان... لتبحث روحي عنها، فقط لأراها... كنت أعرف أن حبيبي سيمنعني من الخروج لأننا أموات بالنسبة لأهل الأرض... ولكن الهواجس زادت وأخذ شوقي لإيمان يزداد ويتعمق حتى احتل كياني كله ولم أعد قادرة على التفكير بشيء... وفي لحظة لمحت دوار البحر يمر بالقرب من الجزيرة، فرميت نفسي فيه وحبيبي يصرخ أيتها المجنونة لماذا فعلت ذلك؟! وأصعدني الدوار إلى السطح، فرأيت اليابسة من بعد، آه كم هي بعيدة، كيف سأستطيع السباحة وحدي، ولكنني صممتُ كانت صورة إيمان ترتسم بوضوح شديد أمام عيني، لمعان عينيها، حبات العرق الصغيرة تنضح من جبهتها وهي تلعب أنفاسها وهي نائمة، آه، إيمان، كنت أسبح وأسبح بقوة لا تعرف اليأس، وشعرت أن المسافة بدأت تقصر وأني بعد وقت قليل سأضم حبيبة قلبي إلى صدري، ولمحت صخور الشاطئ، وداهمتني رغبة بالإقياء من رائحة كريهة انبعثت من هذه الصخور، كانت الشمس تقارب على المغيب وأخذ الغسق يلون الطبيعة بألوانه السحرية البديعة كنت على وشك الانهيار من التعب، ولكني قاومت وتجلدت وأخذت أسبح وأسبح، واشتدت العتمة حولي، ولمحت خيالات أشخاص أم أنها تهيؤات بصرية من تعبي الشديد... وتابعت السباحة باتجاه الصخور فسمعت أصواتاً بشرية تختلط مع أصوات البحر في أذني ودققت النظر في العتمة فلمحت عدة أشخاص كانوا يقفون بهدوء وينظرون باتجاهي، آه ليت أحدهم يساعدني ويجرني إلى الشاطئ، كنت أجرُّ نفسي لاهثة وأخذت نظراتي تزوغ من التعب والإرهاق، واقترب الأشخاص من حافة الصخور لم أتبين وجوههم لأن الشمس كانت قد اختفت في البحر... وبدأ الظلام وصرخ أحدهم بصوت جهوري: كنا واثقين انك ستحاولين العودة، وأن كل افتعالك للموت غرقاً كان حيلة منك، وأعطى إشارة بيده فرفع الرجال بنادقهم وانهال الرصاص باتجاهي وغطى على موسيقى الموج، كنت من التعب لدرجة لم أشعر بدخول الرصاص إلى جسدي وامتلأ جسدي بثقوب كبيرة سال منها دم أحمر حار امتزج بماء البحر، وسقط إلى القاع، فنمت للحال زهوراً رائعة الألوان لا تعرف الذبول...
كانت أنوار الفجر تتسلل من شقوق النافذة المغطاة بستائر مضاعفة من المخمل الأخضر والشيفون السكري، فتصبغ وجهها بلون مخضرٍ شفاف، لكنه يفشل في إخفاء معاني الإعياء والإنهاك الشديدين على الوجه البديع، كان جمالها من النوع الذي ينتزع الشهقة، ويصعب أن تحدد من أين تشع فتنتها، أمن البشرة الحريرية البيضاء، أم من العينين العسليتين الواسعتين، أم من أهدابها الكثيفة أم من شفتيها المكتنزتين، وأسنانها المنضدة البيضاء، وجه فاتن حقاً محاط بإطار بديع من الشعر المتموج الأشقر...
بدأت الحركة في الخارج تشتد، الناس يتحركون إلى عملهم، قامت عن السرير لتقطر في عينيها المحمرتين، أحرقتها القطرة، فأغمضت عينيها لتكرج بضع نقاط من الدمع على خدها، وعكست المرآة صورتها وقد ارتخى جفناها من النعاس والتعب، وغير بعيد كان يغط في النوم، وقد علا شخيره يصمّ أذنيها ويمنعها دوماً من النوم، إلا بعد تناول المنوم المعتاد، وبعد أن يكون التدخين والسهر والشراب قد تركتها كلها بحالة تلاش تنام بعدها شبه مخدرة... لكنها هذه الليلة لم تستطع النوم، رغم المنوّم، ورغم أنها شربت ثلاثة كؤوس من الويسكي، ترى ما بها؟... أي جديد طرأ عليها؟... هي التي عاشرته أكثر من سنتين فما بالها ترتعش هكذا متوترة، رغم الجرعة المضاعفة من المنّوم التي تناولتها... وقفزت إلى ذهنها صورة البيت، وارتجف قلبها، آه قصره الريفي، الذي شيّده في قريته، إنها تريده، تتمناه بكل جوارحها مستعدة لكل شيء، كل شيء في سبيل أن يهبها هذا البيت.
كان قلقها يضخّم شخيره، حتى أحست أنها ستصمّ، ونظرت إليه من خلال المرآة، وتجمدّت نظرتها طويلاً على وجهه ثم انزلقت إلى كرشه الهائل وتقلّصت معدتها بشعور غثيان مفاجئ، وكزّت أسنانها وهي تقول:
ـ كم هو مقرف وانحدر نظرها إلى قدميه البارزتين من الغطاء، وأصابع قدميه المشوهة، سرت رعشة قاسية في جسدها وذاكرتها تصفعها بصورتها تقبل أصابع قدميه واحداً واحداً، سارعت تغلق فمها براحة يدها كي لا تنطلق صرخة رفض عالية، سدّت فمها وهي تحاول أن تفرَّ من هذه الصورة الرهيبة والحقيقية والقريبة التي تعذبها بها ذاكرتها...
استنجدت بالمصحف الذهبي المعلّق بسلسلة طويلة على طرف المرآة، رَجَتْهُ أن يحميها من ذاكرتها، من الصور التي تختزنها، والتي تبدو لها الآن مرعبة، تناولت الحبة الثالثة من الفاليوم، وتمددت إلى جانبه تستنجد بسلطان النوم، سدّت أذنيها بسدادات المطاط التي أوصت عليها سراً من لبنان، لكن شخيره كان يعلو ويعلو وفمه يطلق رياحاً تطيّر خصلات من شعرها، وتجعل جلد جبهتها يقشعر، أدارت له ظهرها، لكن إحساسها به تعاظم وتركز في كتفيها وظهرها وفروة رأسها، يا إلهي ما بها، لتغفُ ساعة، ساعتين، إنها تتمنى لو تنام...
زاد توترها من وضعها مستلقية إلى جانبه، أحست أنها تتشنج وتتكهرب بوجوده، بتنفسه وشخيره الفظيع، جلست في السرير المزدوج الذي يحتل أكثر من ثلاثة أرباعه، نظرت إليه بجمود ودون أي إحساس كانت تحسه جبلاً من هلام، وقد تهدَّل وجهه وانتفخت رقبته من السمنة، تمنّت لو تبكي طويلاً، وتذكرت أنها لم تذرف الدموع منذ زمن طويل، وانهمرت دموع حارقة من السهر الطويل والتدخين والتوتر، وفي عاصفة بكائها الصامت وجسدها يرتجف، كما لو أن قشعريرة حمى تخضّه، تمنت بكل خلية في كيانها لو يموت، وكزت على أسنانها وهي تهمس آه ليته يموت، وتذكرت كم كانت تتمنى موته خاصة بعد أن ينتهيا من طقوس تمثيلية الغرام بينهما، وعاد شعور الغثيان يجتاحها متواقتاً مع أنوار الفجر الصريحة تغمرها، ولم تعرف هل غثيانها لأنها أكثرت من الشراب وضاعفت جرعة المنوم، أم لأنها تقرف منه حقاً، تقرف منه وتعاشره منذ سنتين وتتفرد بكونها عشيقته الوحيدة والفاتنة...
ولكن ألا تعتبر نفسها محظوظة كونها عشيقة رجل مهم؟ ألم يقلب حياتها رأساً على عقب؟!.. أوه نعم، وهاهي دموعها تليّن ذاكرتها، وتجعل الصور تتساقط أمامها مع كل نقطة دمع، ألم تتحول بواسطته ونفوذه إلى فتاة إعلان مشهورة وهي التي كانت شبه مشردة، تتأبط شهادتها الجامعية وتبحث عن عمل في عاصمة تبتلع الملايين، وتذيب شهاداتهم الورقية بحموضها السامة، ولا تُبقي أثراً لكلمة، مدينة تكره الكلمة والكتب والشهادات، وتذيبها كلها، لا تستثني سوى دفاتر الشيكات، تقدّسها، وتفتح أمامها الأبواب الموصدة في كل المجالات...
كان جسدها قد تخلى عن توتره، ربما من تأثير المنوم، أو بسبب عاصفة البكاء التي رأفت بها وساعدتها كي تخفف تشنجها، تذكرت لقاءها الأول معه، كيف بهرها مكتبه الفخم ذو اللونين الأسود والفضي، قدّمها خالها إليه كرجل ذي نفوذ ليساعدها في إيجاد وظيفة، هي التي تحمل شهادة جامعية في التجارة، وموهوبة في الرسم على القماش والزجاج، وبعد أن غرقت راحتها في راحة الرجل الخمسيني المهم وضغط عليها وهو يقول: أهلاً أهلاً، انخلع قلبها مؤكداً لها أنها ستتوظف قريباً، وفعلاً بعد أيام كان خالها يزف لها قبولها محاسبة في شركة قطاع خاص ضخمة، والتحقت بعملها تتنطط من السعادة، واستأجرت مع صديقة لها غرفة حقيرة في حي شعبي بائس اسمه الطبّالة، وكل يوم كانت تنحشر في الباصات وتعاني تحرشات الرجال، وتصل لعملها مغبّرة، ولا يتبقى من راتبها ليرة واحدة بعد اليوم العاشر من الشهر!!
تنهّدت بعمق وهي تمسح دموعها، وتتفرج على المحارم الورقية الملونة بالكحل الأسود والظل الأزرق، الكحل الكريستيان ديور والظل اللانكوم، وكريم البشرة كلارينس هدايا من الرجل المهم، الذي دعاها بعد أيام من تسلمها الوظيفة إلى الغداء في مطعم الشرق، وحكى لها عن تعاسته الزوجية، لا تنكر أنها أحست بالفخر وهي تجلس إلى جانبه هو الرجل المتنفذ الذي ترى صوره في الجرائد والتلفاز، رجل الكلمة التي تفعل والواسطة التي تخلق من العدم، يخصّها باهتمامه ويدعوها إلى الغداء، يطلب إليها أن تلجأ إليهِ في كل مشكلة تتعرض لها، وحين أوصلها إلى حي الطبالة بعد الغداء الأسطوري غاص قلبها خجلاً بين ضلوعها، وتهربت من مواجهة نظرته، لكنه فاجأها عندما أمسك يدها وقبّلها، أحست بشفتيه الرطبتين تلتصقان بظهر يدها، وتناوبتها مشاعر متناقضة بين قرف وفرح واعتزاز، بأن رجلاً مهماً ينحني ويقبل يدها...
بعد أيام تلقّت باقة من الورد الأحمر البديع أحضرها لها سائقه، ورد لم تِرَ مثله في حياتها، واضطرت أن تستعير إبريقاً من جارتها لتضع باقة الورد...
اتصلت به تشكره، فقال: إنه لا يقبل الشكر على الهاتف... آه هكذا كانت البداية، أغمضت عينيها كما أغمضتهما منذ سنتين حين غرقت مسحورة في الحرير الطبيعي والفرو، لكن هل تلومه؟ إنه لم يغوِها، كان بإمكانها أن ترفض لكن لعابها سال أمام الهدايا الفخمة، ... وحين عرض عليها أن تسكن إحدى شققه لم تتردد، نقلت حقيبتها الوحيدة إلى الشقة الواسعة في أفخم شوارع العاصمة واسترخت بتلذذ على دفء الشوفاج، وطردت من ذهنها إلى الأبد صورة غرفة الطبالة الحقيرة، والمرحاض المشترك المقرف، والمطبخ المُعتم القذر، كانت تحدث نفسها دوماً أنها لا تستأهل الحياة الحقيرة أبداً...
قبلت باعتزاز أن تكون عشيقة رجل مهم، وقدّمها لأصحابه الكبار مثله، والمهمين ونشأت صداقات بينها وبين عشيقات الرجال المهمين، وأذهلها أن أغلب العشيقات جامعيات فقيرات، أو مطلقات عاثرات الحظ، وكلهن على قسط كبير من الجمال..
وتعلّمت المعادلة بسرعة، بقدر ما تسعده تكون عطاءاته أكثر، فلتتقمص شخصية العاشقة، لتتعلم أن تستسيغه وتحبه، لتطرد قرفها من كرشه وأسنانه، ولتلجأ للمهدئات وهي تعاشره، كان مفتوناً بها، وكانت تحس باعتزاز وهي ترافقه إلى المطاعم الفخمة وتزور أصدقاءه المتنفذين والمهمين، وحين عرض عليه أحد أصدقائه أن تكون فتاة إعلانات، حلّق خيالها بعيداً وهي ترى نفسها فتاة الإعلان الأولى، وكانت كذلك بوساطة عشيقها، وهل تنسى يوم حاول مغازلتها، وكيف شكته لعشيقها، فأرسل الأخير رجاله يضربون مدير التصوير في مكان عمله ويهددونه، من يومها صارت بدورها تنثر الفتنة والرعب في عملها، صاروا يخشونها كأنهم يشاهدون من خلالها وفيها صورة الرجل المهم، كانت فاتنة حقاً وهي تقدّم دعايات المنظفّات والبسكويت ومواد التجميل، ويوم سألته أن يتزوجا، صوب إليها نظرة قاسية لا تنساها، وقال بصوت قاطع: الزواج لا...
لهجة جعلت دموعها تسيل وتسأل بانكسار: لماذا؟! ألا تحبني...؟!
قال بلهجة قطعية: لن أتزوج على أم أولادي، لن أجرح شعور ستة أطفال وتباكت أكثر وهي تسند رأسها الجميل إلى كرشه الهائل وتتوسل إليه بشفاعة حبهما المبطن بشهوته لها وقرفها منه أن يتزوجا بالسر، لكنه رفض بشراسته وأبعدها عنه متوعداً، وخيّرها بين أن تبقى عشيقته أو تغادر مملكة الامتيازات وتتزوج أي رجل ترغب...
وذرفت بغزارة دموع التماسيح وهي تحلف أيماناً معظّمة أنها تحبه بجنون يا إلهي من أين أتتها تلك الطاقة الإيجابية في ذرف الدموع، واستمرت حياتهما وتفننت في إغوائه، وبالغت في طقوس عشقها، وتدرّبت طويلاً على مازوات الحب، حتى تحوّلت نظرتها إلى نظرة عشق أبدي، وصارت تقبّله أمام رفاقه وتداعب كرشه وتنحشر به، وتشعل له سيجاره كلما انطفأت، وتبكي في حضنه، وكادت أن تنسى من هي؟ ومن أية قرية نبتت؟! ولماذا أتت إلى العاصمة لتعمل؟... إنها لا تعي شيئاً سوى كونها عشيقة رجل مهم، وكبحت آلامها وهي تراه كيف تحوّل مع الزمن وأخذ يعاملها أمام رفاقه بسخرية، كأنها جارية، كان يبعدها عنه بقسوة قائلاً:
أوف ضاق صدري بك، مابك ملتصقة بي هكذا، وصار يداعبها ويسميها اللزيقة، أو يناديها الدبُّة، أو الخنزيرة خاصة بعد أن ازداد وزنها وفقدت لياقتها ورشاقتها، هالتها هذه الأوصاف في البداية، وفكرت أن تتركه، ولكن الأمر ليس سهلاً، فكيف ستترك شارع الفيلات وتعود لقذارة شارع الطبالة،حارة المجارير كما كانت تسميها في سرها كيف ستترك الحرير، والذهب وتعود للشح والحرمان.
كان يغمرها بالهدايا الفخمة بمناسبة وغير مناسبة، وفي لحظات كثيرة كادت تصدّق لعبة أنها تحبه، فدموع الوجد التي تذرفها قبل سفره أو بعده كادت مع العادة أن تؤمن بصدقها، حتى أن مشاعرها صارت تلتبس في نفسها بين اشمئزاز ومتعة، خاصة أنهما لا يمارسان طقوس الحب إلا بعد أن ينطفئا في الشرب، ويمتزج دمهما بالكحول، وتحمرّ نظراتهما، وتبدأ أنوار الفجر تلوح من شقوق النوافذ، فتلتبس مشاعر قرفها منه ببقايا لذة أو باستنباط لذّة ملحّة وكيفما كانت تكون، كادت تصدق أنها اعتادت عليه وأحبت بدانته وترهله، لولا أنها أفاقت ذات صباح وحيدة على رنين جرس الباب اللحوح، وقامت نصف صاحية، ونصف نائمة لتفتح الباب، كان ابن سائقه، شاب لا يتجاوز العشرين محملاً بالأغراض لها وقد كشف قميصه المفتوح عن صدر مشدود تكسوه أشعار ناعمة كستنائية، وبان عنقه أسمر مشدوداً، لم تجد نفسها إلا وهي تشدّه من ياقة قميصه وتهمس بأذنه "أدخل"، انشد نحوها مشدوهاً، ودون أية مقدمات وأية كلمة أشارت إليه أن يضع الأغراض على الأرض، وارتمت في حضنه ساحقة نهديها بصدره، مطلقة في أذنه آهات عميقة عمرها سنوات، استسلم الشاب للإغواء، وعاشت بعدها يومين تستنشق بحواسها كلها عبق تلك التجربة، كان عقلها لا يكف لحظة عن مقارنة الشاب بالكهل، الشاب جميل وفاتن وفقير، والكهل رجل مهم ثري لكنه مقرف، ترى أية روعة لو يجتمع الشباب والنفوذ والثروة؟! ماكان عقلها يكف عن طرح هذا السؤال وهي من تكون؟
وبدت لنفسها جامعية مشردة جميلة، أطلقها الرجل المهم في عالم الإعلانات وقدّم لها أحد بيوته لتعيش فيه، كانت تتمنى لو يهبها البيت، لكنها كانت تخجل من الطلب، خاصة بعد أن لّمح أمامها ذات مرة أن مثل هذا البيت لا يقل آجاره عن مليون ليرة في السنة، وخشيت أن تلفت نظره أنها تطمع في ثروته، وأنها ليست العاشقة المتيّمة كما تمثّل أمامه، أما يكفيها أن تعيش سيدة في بيت فخم وفي أرقى شوارع المدينة وهو يغمرها بالثياب والذهب والهديا الفخمة، ويصحبها معه في أغلب أسفاره، وهل كانت لتزور باريس وروما وأثينا لولاه؟ ولكن ألا يجب أن تضمن مستقبلها؟ ألا يستأهل شبابها وجمالها أن يستحوذا على فيلا جميلة؟ فلِمَ لا تطالبه؟ كانت هذه الأسئلة لا تكف توجع وتلحّ عليها، ولكن حدساً قوياً في داخلها كان ينبئها أنها تأخرت في الطلب، فلو طلبت في بداية علاقتهما ربما وافقها لأنه كان مفتوناً بها، ومتمغنطاً بسحرها، لكنها كانت غبية، ساذجة، وقصيرة النظر، انبهرت بالهدايا والمآكل اللذيذة والأسفار والبيت الفخم، لم تفكر أنه بعد سنتين من استهلاكه لها، أصابه الملل، فما عاد متلهفاً إليها كالسابق، وسيخذلها الآن لو طلبت إليه أن يهب لها أحد بيوته، بل قد يطردها ويرميها خارج حياته، كما يطرد أصغر موظف عنده...
كانت تحاول أن توهمه أنها لا تطمع فيه أبداً، وفي أحايين كثيرة تطلب إليه وأمام رفاقه أن يكتب كل أمواله وممتلكاته باسم أولاده، كانت تداعب عنقه المتهدّل وكرشه العارم، وهي تقول له: أنا لا أريدمن الدنيا سواك أكتب كل أملاكك باسم أولادك، كانت تتساءل في سرها: ألم تقدم له بقولها هذا البرهان أنها تحبه لشخصه، ,وأنها لا تطمع أبداً بأمواله، كانت تتمنى بأسلوبها هذا أن تفلح في إثارة إعجابه بها وبنزاهتها، فيعطيها أحد بيوته مكافأة لها، لكنه كان يتجشأ لا مبالياً، وهو يشعل سيجاره دون أن يحس بوجودها، وفهمت متأخرة أنها لا تعني له سوى جسد يفتنه ويعشقه، يمتلكه ويملّ منه أما إذا حاولت أن تكون أكثر من جسد، فكرة، صوت، رأي، فإنه يطردها للحال، ويستبدل بها أخرى، تكون جديدة وأكثر إبهاراً..
لكنها لا تيأس، فعليها أن تضرب ضربتها، والبارحةحدّث رفاقه أنه ينوي أن يبيع قصره في الريف، فهاجت مشاعرها، وتيقظت حواسها، أحست أن هذا البيت حقها، ويجب أن يكون لها، ألم تقدم له زهرة شبابها ومثلت دور العاشقة، ولبّت كل طلباته الشاذة والمقرفة، وفكرت أنه لا يجب أن تتوانى في طرح هذه الفكرة أبداً، ولِمَ لا، وثروته طائلة، وأغلب أمواله في بنوك أوروبا، وما قيمة قصره الريفي تجاه ثروته، فليقدمه لها تقديراً لجهودها طوال عامين من إسعاده، هل كان لواحدة أخرى موهبة إسعاده؟ وإتقان لعبة الحب مثلها!؟ وأسرعت ذاكرتها تجيب: قطعاً لا، ألم ترقص له مراراً ساعات حتى هدّها التعب ونضح العرق من جسدها كله، وتفجّر صداع عنيف في رأسها، ومع ذلك كانت تتحامل على نفسها وتمثل أنها في أقصى لحظات النشوة وهي إلى جواره، ألم تدمن الفاليوم بسببه، ألم تلب له طلباته الشاذة، فأية غرابة لو طلبت إليه صراحة أن يهبها قصره الريفي؟
تململ المارد بجانبها، خفق قلبها ورسم وجهها باستعجال الوجد، وابتسامة البلاهة، آه هكذا يريد الرجال دوماً من النساء وجهاً مبتسماً دوماً في الصباح مهما كانوا هم مجعدين ومهترئين، لكنه لم يستيقظ بل ظل نائماً، وأخذ شخيره يتعالى مع تمتمات لم تفهمها، وقربت أذنها من فمه وتحمّلت رائحة أنفاسه الكريهة عساها أن تفهم ما يقول، وبحلقت بعينيها الحمراوين في وجهه وهي تسمع كلمة ردينة إنه يكرر هذا الاسم، من ردينة هذه؟ وهوى قلبها واخترقها سهم من نار من رأسها حتى أحشائها، تذكرت ردينة مدرسة اللغة الفرنسية الشابة التي تواسطته منذ شهر لتعمل في السفارة الفرنسية، طموحة وجميلة وتحضر للدكتوراة، أخذ جسدها يرتجف ويتقلص كأن أيدي خفية تعجنه بالألم، وأحست بحدس الأنثى الذي لا يخيب أنها صارت خارج حياته، وكرّر ذهنها هازئاً منها، لا مبالياً بوجع كلامه: يا دبة، يا خنزيرة، يا لزيقة، وتهاوت ككتلة من الرمل سحقتها يد طفلة عابثة، وصعدت آهات الاحتراق من أعماقها، ما الذي يحترق من أعماقها، ما الذي يحترق في داخلها؟.. العمر، الكرامة، الشباب؟ أوه أشياء أكبر وأكبر، هكذا كانت تردد لنفسها، وصور لها خيالها أنه يفتح عينيه فتسأله: لن تعطيني قصرك الريفي!.
فيجيب ببساطة: لا، إنه لردينة....
وفهمت لماذا صار يتغيب عنها كثيراً في الشهرين الأخيرين، لعله يلتقي بردينة، ولعلها تسكن في إحدى شققه المتناثرة في العاصمة وأحست أن ردينة أذكى منها.. وأنها لو طلبت منه إحدى بيوته لما تردد، إنه هكذا في البداية مجنون عطاء،مهووس، ألم يكن يقبل يديها امتناناً لوجودها وعصرها الندم وهي تلوم نفسها: لماذا لم أطلب منه وقتها؟! لعلّه صدَّق أنها عاشقة، ولا تطمح بماله، وعادت صورتها تخزها وهي تطلب إليه أن يكتب ثروته باسم أولاده.
قطع أفكارها رنين الهاتف، أسرعت تجيب قبل أن يوقظه الرنين، أتاها صوت نسائي دافئ يسأل عن الرجل المهم، سألت صاحبة الصوت من تريده ورد الصوت الواثق: ردينة..
هوى قلبها، وتسارعت الشتائم على لسانها خرساء مكبوتة، فتح عينيه سأل متمططاً: من على الهاتف؟
ردت وهي تتأمله بعينين مسهدتين لم تعرفا النوم..
ـ ردينة...
انتفض غاضباً: كيف تقولين لها إنني نائم. هاتي التلفون بسرعة. أذعنت لأمره، ناولته الجهاز اللاسلكي الذي قدّمه لها هدية في عيد الحب، امتدت يدها بصورة لا إرادية، بذل وانكسار لتداعب بقايا شعر رأسه، لكنه أبعدها وأمرها أن تبقى خارج الغرفة، وأن تغلق الباب وراءها جيداً،مشت تبتلع طعم الهزيمة الممزوجة بالطعم المر للفاليوم والويسكي،كان جسدها مهدوداً، أحست أنها تتهاوى، استندت إلى ظهر الأريكة،وارتخى جفناها، ولا تدري من أين حاصرتها صور حي الطبالة البائس،كثيفة متلاحقة، من أطفال حفاة إلى باعة جوالين، إلى ناس وجوههم مطفأة كجيوبهم، إلى أكوام القمامة ألبوم صور اندلق من ذاكرتها، ماكانت تجد قوة لتبكي، إنها تتهاوى كنجم، كحصاة صغيرة يلقيها طفل في البحر، فتغرق وتغرق وتصل إلى القاع قاع العهر، هكذا انفلتت منها هذه الجملة وهي من ذروة إعيائها، تمددت على الأريكة، أغمضت عينيها وسمعت صوته يعدُ ردينة أن يهديها قصره الريفي، هل كان ما سمعته صوته، أم حدسها، أم مجرد حلم، أم ماذا؟!
آه ارحمني أيها النوم، افرد سلطانك علي، ارحمني، فأنا لا أطمع بعد الآن إلا برحمتك...
وسط هذا الممر الرمادي الطويل، الذي يبدو وكأنه لا ينتهي وسط الأكفان البيض المتحركة ممرضات وأطباء تتجوّلون بين جموع المرضى المتعبة التي تتجوّل وتثرثر، وكأنَّ الثرثرة بلسم لوجع القلوب الذي لا تنفذ فيه العقاقير...
وسط هذا السديم، كانت "شيرين" تقفز وهي تركض نحوي، فأفتح ذراعي لأستقبل جسمها الضئيل، وأتلقى قبلتها التي تفيض شوقاً ومحبة، وهي تصر أن تطبعها على وجنتي الواحدة تلو الأخرى...
كانت شيرين زهرة بنفسج صغيرة آسرة بفتنتها تبتسم وتثرثر، وكانت تحدثني دائماً عن بيتهم في حلب، بيتهم الذي يطل على حديقة واسعة تلعب فيها مع أولاد الحارة تحدثني عن الأراجيح والقطط الصغيرة والأزهار الملونة، وكانت تفيض حولي كرائحة زكية، فأحسها أقرب إلى الخيال بنظافتها وأحاديثها الملونة الزاهية كانت تنتشلني للحظات من عالم آلي جامد لتجعلني أطل على عالم طفولي، فأتمنى ولو لبرهةٍ أن أرتمي فيه وأبكي بفرح وأنسى عالم الإسمنت والأجهزة التي تبلغ قيمتها أضعاف قيمة الإنسان...
ماكانت شيرين تترك يدي حتى أعدها أني سأزور بيتهم في حلب، وأني سألعب في الحديقة معها ومع أولاد الحارة، وآخر ماكانت تقوله قبل أن تفارقني:
ـ هل ستأتين غداً؟..
فأجيب مؤكدة: "بالطبع يا صغيرتي الحلوة...
كانت شيرين تهب لي أشياء كثيرة، أعظم من الكتب الفلسفية أكبر من المحاضرات القيّمة أعمق كثيراً من جدلنا، وأحاديثنا التي لا تنتهي إلا بصداع وفراغ... كانت كلماتها المتناهية في البراءة والبساطة تحرك في نفسي المثقلة آلاف المشاعر...
كنت أحتويها بمسامي، بروحي، وبحواسي كلها، وعندما سألتني ببساطتها وابتسامتها الرقيقة هل صحيح سيستأصل الطبيب عيني؟...
ذهلتُ... حاولت أن أكذب، وهالني أن أكون كاذبة أمام ملاك صغير، كان سؤالها بالبساطة نفسها، والابتسامة ذاتها وهي تسألني كعادتها: هل ستأتين غداً؟..
ـ من قال لك هذا يا شيرين؟..
الطبيب قال لأمي أنه سيستأصل عيني هذه...
وأشارت بإصبعها الصغيرة إلى عينيها المغطاة بضماد كبير على الوجه الطفولي المتألم.
قلت بأسى عميق: بلى يا عزيزتي...
آه، يا طفلتي، أي عزاء أقدّمه لك؟.. هل أُريك معنى الحقد في نفسي هل أشرح لك أن السرطان يأكل عيون أطفال أبرياء؟!...
سمعتها تقول: داخل عيني دملة صغيرة، ألا تشفى بالقطرة؟...
ـ كلا، لا تشفى يا شيرين، لا تحزني يا طفلتي، فأنت سترتاحين من مرض متعب، ثم سيضع لك الطبيب عيناً من زجاج، عيناً "جميلة جداً"، لا أحد يحس أنها من زجاج...
ـ ولكن، أنا سأشعر أنها من زجاج ولن أرى بها...
ـ ابق سعيدة يا شيرين، أنت في عمر الفرح، وتملكين عيناً أخرى تبصر، والذين يبصرون قلة يا حبيبتي...
ـ هل ستأتين غداً؟..
ـ أجل يا صغيرتي...
في اليوم التالي لم تستقبلني شيرين، لفّني الرواق الرمادي الطويل، ضغط على روحي بروائح المرض والأدوية، ومشيت بلا بسمة... لم أطل اليوم على العالم الطفولي الرائع... كانت شيرين مُخّدرة في غرفة العمليات، وكانت عينها المتهتكة المتورمة تنزف لمغادرتها الوجه الحبيب لتترك هوة، حفرة، يملؤها فيما بعد زجاج بارد ميت...
بعد أيام رأيتُ شيرين تتجول كعادتها في الرواق، ركضت صوبي، ولكن هذه المرة كأنها تحتمي من شيء وحاولت ألا تظهر ما يعتمل في داخلها وهي لا تتبين تماماً ثقل مشاعرها...
قلت لها بفرح: لأغطي حزني العميق: الحمد لله على السلامة يا شيرين...
فإذا بصوتها يأتيني حزيناً كئيباً: ولكني متعبة... وعيني التي بقيت لي حمراء... أصابني هلع، خشيت أن أنظر إليها، فقد يكون المرض الخبيث انتقل إلى العين الثانية السليمة... وحدست أن شيرين سيجري لها عملية أخرى، وأنها لن تعود قادرة على القفز واللعب في الحديقة الغنّاء مع الأولاد...
هرمتُ، هرمت أنا يا شيرين، يثقبني الحزن، خرساء أنا، وتنبهتُ لها: تقول: ولكن لماذا عيني هذه حمراء؟!...
ـ لاتهتمي يا صغيرتي، ستشفى، يجب أن تفرحي الآن فقد تخلصت من عين مريضة، كانت ستؤذيك كثيراً...؟
فرحت.... صدقتني... دائماً نحن نكذب على الصغار، ودائماً هم يصدقون، وعندما يكبرون يكتشفون أننا كنا نكذب فيهرمون..
أسرعت تحضر علبة كبيرة، وتقدم لي شوكولاتات كثيرة أخذتها منها بامتنان وتركتها وأنا أعدها أنني سأزورهم في حلب...
اعتدتُ كلَّ صباحٍ على البلسم الرقيق، على العصفور الطليق، وكان الأمل يكبر ببقاء نظر شيرين في العين الأخرى سليماً... وجرت مباحثات حول تخريجها من المستشفى... وعادت تحدثني عن شوقها إلى حلب، إلى الحديقة، إلى أولاد الحارة، وأخذت تعرب عن لهفتها للسفر في القطار وسألتني بإلحاح:
ـ لماذا لم يضعوا لي عيناً من زجاج بعد؟!..
ـ ولكن الوقت لم يحن بعد صغيرتي، ألا يجب أن يندمل الجرح أولاً؟...
ـ آه معك حق...
راحت شيرين تأخذُ من كل مريض تذكاراً، وتعطي لكل من أحبته تذكاراً منها، أعطتني أسواراً نحاسياً عتيقاً وصغيراً، رفضتُ في البداية، ولكن أمام إصرارها قبلت... وأخذت مني قلماً ملوناً بالأخضر والأحمر والأسود... فرحتُ به لأنه يكتب ثلاثة ألوان معاً... وكانت كل يوم تستقبلني وهي تحمله مزهوة..
ذات صباح لم أر شيرين، ذهبت أتفقدها في سريرها رأيته فارغاً، هل رحلتِ بهذه السرعة؟.. هكذا... ودون أن تودعني، وجاءني صوت جاف:
ـ أدخلوها إلى غرفة العمليات...
وتمثل لي الجزع سرطاناً يغزو قلبي ولا أملك شيئاً تجاهه..
وتسمرت نظرتي جامدة بلهاء على السرير الضيق الفارغ، ونتحت دموع باردة من عيني بقيت معلقة كأنها تجمدت إلى الأبد غشاوة لن تزول...
وخرجت شيرين من غرفة العمليات... وجه طفولي حلو بلا عينين!!...
لم أصدق نظري... الطفل يشيخ، كيف يشيخ الطفل بهذه السرعة؟...
كان الحزن والإعياء يحطّمان كيانها الغض، وكدت أجن غير مصدقة أنها لن تراني، وتملكني شعور بالجريمة والذنب، كانت ساهية ليست من هذا العالم... كانت غارقة في بحر من السواد لا بصيص فيه، هربت لم أستطع أن أعمل شيئاً...
في المساء كانت روحي تهيم هناك حيث ترقد شيرين ووجدت نفسي أسارع إليها... بدا الرواق أضيق مما هو وأشد عتمة، وخيم الهدوء على كل شيء هدوء كئيب كصمت الجنازة، جنازة إنسان محبوب...
وترددت قبل الدخول إلى الغرفة التي تحتوي شيرين مع عدة مريضات من العجائز، رأيتها من بعد، جسداً معذباً... روحاً يئن بصمت ويهيم في لجة من السواد لا مخرج منها، ويداها مسدلتان فوق الغطاء الأبيض المتسخ بدا صدرها يعلو ويهبط بإيقاع ثقيل... خنقتني حلقة حديد من حنجرتي، وكانت الصراعات في داخلي تنعكس على وجهي ألواناً عابسة متتالية...
اقتربت من شيرين وأمسكت يدها، وقبل أن أتفوه باسمها، أحسستها تبتسم بكل الألم الذي يعتصر روحها، كانت تفهم أكثر منا نحن الكبار، ماكانت بحاجة لأية كلمة عزاء تافهة تسمعها مني، من أي شخص كان... كان صمتها مهيباً... فلم أجسر على خدشه بكلمة واحدة...
وعندما لفظت اسمها وأنا أحاول بكل جهدي أن أبدو طبيعية، لم تقل شيئاً، ولفنا صمت ثقيل كأنه يسبق إصدار حكم بالإعدام وقالت وقد كبر صوتها بالحزن:
ـ سأرحل غداً، سيأتي أبي ليأخذني...
ولم أتمالك نفسي أن قلت: غداً؟! كلا لن ترحلي...
وبكل هدوء جاء صوتها من بعيد محملاً بأسى لا يوصف...
ـ غداً سأرحل...
ووجدتها تمد يدها تحت المخدة كأنما تبحث عن شيء، وبعد لحظات أخرجت القلم الملون بالأحمر والأخضر والأسود ومدته أمامها في الفراغ وقالت: هذا لك... سأعيده...
واختنق صوتها...
هززتها من يدها وقلت كلا: إنه ذكراي يا شيرين...
ذكرى مني لك، وبكل رصانة قالت: لم يعد له لزوم، لن ألون به...
ابتسمت هذه المرة، شعت روحها بابتسامة فاضت حولها وغمرتني... كان اللقاء موجعاً لكلينا طلبت إليَّ أن أفتح درجها المجاور للسرير، رأيت فيه كثيراً من أشياء شيرين وتذكارات عن المرض، قالت: تفضلي خذي شوكولا...
أجدر بك أن تقدمي لي خلا؟؟ يا صديقتي لأشربه...
حاولت أن أرطب الجو، قلت لها: كم أنت محبوبة يا شيرين، تملكين كل هذه الأشياء تذكارات من المرضى!...
وجاءني صوتها من وراء السحاب: وما الفائدة؟ هل سأراها بعيون من زجاج؟!..
كان الضباب يلفني ويعزلني، وحدثت نفسي: بل سترينها يا شيرين، ليس بعيون من زجاج، فأنت تبصرين يا عزيزتي، روحك تبصر، نحن الذين عيوننا من زجاج، وقلوبنا من حجارة، أنت تبصرين يا حبيبتي، أحسك ترين أكثر من هذه العيون المفتحة ببلاهة.
وتركتها بعد أن قبلتها مراراً، كانت شيرين تبكي، سمعت نحيباً، تبكي بلا دموع بلا عيون، بكاءً حقيقياً..
وقبل أن أترك يدها، سألتني بخيبة أمل وأسى:
ـ أما زلت تريدين زيارتي في حلب؟..
ـ سآتي خصوصاً لأراك..
واحتواني ا لرواق الرمادي الضيق، كان يبتلعني وسرت وحيدة وأنا أتألم... لن تقفز شيرين بعد اليوم، راكضة نحوي لتلقي بجسدها النحيل بين ذراعي، وتقبلني باهتمام وحب طفولي طاهر..
وسط هذا الممر الرمادي الطويل، الذي يبدو وكأنه لا ينتهي وسط الأكفان البيض المتحركة ممرضات وأطباء تتجوّلون بين جموع المرضى المتعبة التي تتجوّل وتثرثر، وكأنَّ الثرثرة بلسم لوجع القلوب الذي لا تنفذ فيه العقاقير...
وسط هذا السديم، كانت "شيرين" تقفز وهي تركض نحوي، فأفتح ذراعي لأستقبل جسمها الضئيل، وأتلقى قبلتها التي تفيض شوقاً ومحبة، وهي تصر أن تطبعها على وجنتي الواحدة تلو الأخرى...
كانت شيرين زهرة بنفسج صغيرة آسرة بفتنتها تبتسم وتثرثر، وكانت تحدثني دائماً عن بيتهم في حلب، بيتهم الذي يطل على حديقة واسعة تلعب فيها مع أولاد الحارة تحدثني عن الأراجيح والقطط الصغيرة والأزهار الملونة، وكانت تفيض حولي كرائحة زكية، فأحسها أقرب إلى الخيال بنظافتها وأحاديثها الملونة الزاهية كانت تنتشلني للحظات من عالم آلي جامد لتجعلني أطل على عالم طفولي، فأتمنى ولو لبرهةٍ أن أرتمي فيه وأبكي بفرح وأنسى عالم الإسمنت والأجهزة التي تبلغ قيمتها أضعاف قيمة الإنسان...
ماكانت شيرين تترك يدي حتى أعدها أني سأزور بيتهم في حلب، وأني سألعب في الحديقة معها ومع أولاد الحارة، وآخر ماكانت تقوله قبل أن تفارقني:
ـ هل ستأتين غداً؟..
فأجيب مؤكدة: "بالطبع يا صغيرتي الحلوة...
كانت شيرين تهب لي أشياء كثيرة، أعظم من الكتب الفلسفية أكبر من المحاضرات القيّمة أعمق كثيراً من جدلنا، وأحاديثنا التي لا تنتهي إلا بصداع وفراغ... كانت كلماتها المتناهية في البراءة والبساطة تحرك في نفسي المثقلة آلاف المشاعر...
كنت أحتويها بمسامي، بروحي، وبحواسي كلها، وعندما سألتني ببساطتها وابتسامتها الرقيقة هل صحيح سيستأصل الطبيب عيني؟...
ذهلتُ... حاولت أن أكذب، وهالني أن أكون كاذبة أمام ملاك صغير، كان سؤالها بالبساطة نفسها، والابتسامة ذاتها وهي تسألني كعادتها: هل ستأتين غداً؟..
ـ من قال لك هذا يا شيرين؟..
الطبيب قال لأمي أنه سيستأصل عيني هذه...
وأشارت بإصبعها الصغيرة إلى عينيها المغطاة بضماد كبير على الوجه الطفولي المتألم.
قلت بأسى عميق: بلى يا عزيزتي...
آه، يا طفلتي، أي عزاء أقدّمه لك؟.. هل أُريك معنى الحقد في نفسي هل أشرح لك أن السرطان يأكل عيون أطفال أبرياء؟!...
سمعتها تقول: داخل عيني دملة صغيرة، ألا تشفى بالقطرة؟...
ـ كلا، لا تشفى يا شيرين، لا تحزني يا طفلتي، فأنت سترتاحين من مرض متعب، ثم سيضع لك الطبيب عيناً من زجاج، عيناً "جميلة جداً"، لا أحد يحس أنها من زجاج...
ـ ولكن، أنا سأشعر أنها من زجاج ولن أرى بها...
ـ ابق سعيدة يا شيرين، أنت في عمر الفرح، وتملكين عيناً أخرى تبصر، والذين يبصرون قلة يا حبيبتي...
ـ هل ستأتين غداً؟..
ـ أجل يا صغيرتي...
في اليوم التالي لم تستقبلني شيرين، لفّني الرواق الرمادي الطويل، ضغط على روحي بروائح المرض والأدوية، ومشيت بلا بسمة... لم أطل اليوم على العالم الطفولي الرائع... كانت شيرين مُخّدرة في غرفة العمليات، وكانت عينها المتهتكة المتورمة تنزف لمغادرتها الوجه الحبيب لتترك هوة، حفرة، يملؤها فيما بعد زجاج بارد ميت...
بعد أيام رأيتُ شيرين تتجول كعادتها في الرواق، ركضت صوبي، ولكن هذه المرة كأنها تحتمي من شيء وحاولت ألا تظهر ما يعتمل في داخلها وهي لا تتبين تماماً ثقل مشاعرها...
قلت لها بفرح: لأغطي حزني العميق: الحمد لله على السلامة يا شيرين...
فإذا بصوتها يأتيني حزيناً كئيباً: ولكني متعبة... وعيني التي بقيت لي حمراء... أصابني هلع، خشيت أن أنظر إليها، فقد يكون المرض الخبيث انتقل إلى العين الثانية السليمة... وحدست أن شيرين سيجري لها عملية أخرى، وأنها لن تعود قادرة على القفز واللعب في الحديقة الغنّاء مع الأولاد...
هرمتُ، هرمت أنا يا شيرين، يثقبني الحزن، خرساء أنا، وتنبهتُ لها: تقول: ولكن لماذا عيني هذه حمراء؟!...
ـ لاتهتمي يا صغيرتي، ستشفى، يجب أن تفرحي الآن فقد تخلصت من عين مريضة، كانت ستؤذيك كثيراً...؟
فرحت.... صدقتني... دائماً نحن نكذب على الصغار، ودائماً هم يصدقون، وعندما يكبرون يكتشفون أننا كنا نكذب فيهرمون..
أسرعت تحضر علبة كبيرة، وتقدم لي شوكولاتات كثيرة أخذتها منها بامتنان وتركتها وأنا أعدها أنني سأزورهم في حلب...
اعتدتُ كلَّ صباحٍ على البلسم الرقيق، على العصفور الطليق، وكان الأمل يكبر ببقاء نظر شيرين في العين الأخرى سليماً... وجرت مباحثات حول تخريجها من المستشفى... وعادت تحدثني عن شوقها إلى حلب، إلى الحديقة، إلى أولاد الحارة، وأخذت تعرب عن لهفتها للسفر في القطار وسألتني بإلحاح:
ـ لماذا لم يضعوا لي عيناً من زجاج بعد؟!..
ـ ولكن الوقت لم يحن بعد صغيرتي، ألا يجب أن يندمل الجرح أولاً؟...
ـ آه معك حق...
راحت شيرين تأخذُ من كل مريض تذكاراً، وتعطي لكل من أحبته تذكاراً منها، أعطتني أسواراً نحاسياً عتيقاً وصغيراً، رفضتُ في البداية، ولكن أمام إصرارها قبلت... وأخذت مني قلماً ملوناً بالأخضر والأحمر والأسود... فرحتُ به لأنه يكتب ثلاثة ألوان معاً... وكانت كل يوم تستقبلني وهي تحمله مزهوة..
ذات صباح لم أر شيرين، ذهبت أتفقدها في سريرها رأيته فارغاً، هل رحلتِ بهذه السرعة؟.. هكذا... ودون أن تودعني، وجاءني صوت جاف:
ـ أدخلوها إلى غرفة العمليات...
وتمثل لي الجزع سرطاناً يغزو قلبي ولا أملك شيئاً تجاهه..
وتسمرت نظرتي جامدة بلهاء على السرير الضيق الفارغ، ونتحت دموع باردة من عيني بقيت معلقة كأنها تجمدت إلى الأبد غشاوة لن تزول...
وخرجت شيرين من غرفة العمليات... وجه طفولي حلو بلا عينين!!...
لم أصدق نظري... الطفل يشيخ، كيف يشيخ الطفل بهذه السرعة؟...
كان الحزن والإعياء يحطّمان كيانها الغض، وكدت أجن غير مصدقة أنها لن تراني، وتملكني شعور بالجريمة والذنب، كانت ساهية ليست من هذا العالم... كانت غارقة في بحر من السواد لا بصيص فيه، هربت لم أستطع أن أعمل شيئاً...
في المساء كانت روحي تهيم هناك حيث ترقد شيرين ووجدت نفسي أسارع إليها... بدا الرواق أضيق مما هو وأشد عتمة، وخيم الهدوء على كل شيء هدوء كئيب كصمت الجنازة، جنازة إنسان محبوب...
وترددت قبل الدخول إلى الغرفة التي تحتوي شيرين مع عدة مريضات من العجائز، رأيتها من بعد، جسداً معذباً... روحاً يئن بصمت ويهيم في لجة من السواد لا مخرج منها، ويداها مسدلتان فوق الغطاء الأبيض المتسخ بدا صدرها يعلو ويهبط بإيقاع ثقيل... خنقتني حلقة حديد من حنجرتي، وكانت الصراعات في داخلي تنعكس على وجهي ألواناً عابسة متتالية...
اقتربت من شيرين وأمسكت يدها، وقبل أن أتفوه باسمها، أحسستها تبتسم بكل الألم الذي يعتصر روحها، كانت تفهم أكثر منا نحن الكبار، ماكانت بحاجة لأية كلمة عزاء تافهة تسمعها مني، من أي شخص كان... كان صمتها مهيباً... فلم أجسر على خدشه بكلمة واحدة...
وعندما لفظت اسمها وأنا أحاول بكل جهدي أن أبدو طبيعية، لم تقل شيئاً، ولفنا صمت ثقيل كأنه يسبق إصدار حكم بالإعدام وقالت وقد كبر صوتها بالحزن:
ـ سأرحل غداً، سيأتي أبي ليأخذني...
ولم أتمالك نفسي أن قلت: غداً؟! كلا لن ترحلي...
وبكل هدوء جاء صوتها من بعيد محملاً بأسى لا يوصف...
ـ غداً سأرحل...
ووجدتها تمد يدها تحت المخدة كأنما تبحث عن شيء، وبعد لحظات أخرجت القلم الملون بالأحمر والأخضر والأسود ومدته أمامها في الفراغ وقالت: هذا لك... سأعيده...
واختنق صوتها...
هززتها من يدها وقلت كلا: إنه ذكراي يا شيرين...
ذكرى مني لك، وبكل رصانة قالت: لم يعد له لزوم، لن ألون به...
ابتسمت هذه المرة، شعت روحها بابتسامة فاضت حولها وغمرتني... كان اللقاء موجعاً لكلينا طلبت إليَّ أن أفتح درجها المجاور للسرير، رأيت فيه كثيراً من أشياء شيرين وتذكارات عن المرض، قالت: تفضلي خذي شوكولا...
أجدر بك أن تقدمي لي خلا؟؟ يا صديقتي لأشربه...
حاولت أن أرطب الجو، قلت لها: كم أنت محبوبة يا شيرين، تملكين كل هذه الأشياء تذكارات من المرضى!...
وجاءني صوتها من وراء السحاب: وما الفائدة؟ هل سأراها بعيون من زجاج؟!..
كان الضباب يلفني ويعزلني، وحدثت نفسي: بل سترينها يا شيرين، ليس بعيون من زجاج، فأنت تبصرين يا عزيزتي، روحك تبصر، نحن الذين عيوننا من زجاج، وقلوبنا من حجارة، أنت تبصرين يا حبيبتي، أحسك ترين أكثر من هذه العيون المفتحة ببلاهة.
وتركتها بعد أن قبلتها مراراً، كانت شيرين تبكي، سمعت نحيباً، تبكي بلا دموع بلا عيون، بكاءً حقيقياً..
وقبل أن أترك يدها، سألتني بخيبة أمل وأسى:
ـ أما زلت تريدين زيارتي في حلب؟..
ـ سآتي خصوصاً لأراك..
واحتواني ا لرواق الرمادي الضيق، كان يبتلعني وسرت وحيدة وأنا أتألم... لن تقفز شيرين بعد اليوم، راكضة نحوي لتلقي بجسدها النحيل بين ذراعي، وتقبلني باهتمام وحب طفولي طاهر..
استطاع هواء البحر أن يلطف قليلاً النار المستعرة في داخله..., هاهي الشمس قد اختفت تماماً وغابت في البحر وغشيت الطبيعة العتمة البنفسجية فتنهد من أعماقه وأدار وجهه باتجاه البحر الذي يحسه أكثر مما يراه بسبب العتمة والتمعت الكهارب الملونة عن بعد، وهفت نفسه أن يجلس في ذلك المقهى الجميل الذي طالما حرم نفسه منه وتوجه إليه.. متجاهلاً صفير إنذار انطلق من داخله يذكره أنه الأستاذ محسن أستاذ الابتدائية وأن هذه المقاهي لم تخلق له ولكنه شعر بتحدٍّ واستهتار وأسرع خطواته أكثر باتجاه المقهى............
اختار طاولة منعزلة قريبة من البحر وجلس يشبع رئتيه بهواء البحر الرطب المنعش...... وتنبه لضحكة صاخبة رنانة أتت من ورائه، فاستدار ليرى عائلة سعيدة: أب وأم وأربعة أولاد يتناولون عشاءً لذيذاً فيه كل أنواع المقبلات، ثم تنبه للنادل يحضر لهم سمكة كبيرة مزينة بشرائح الحامض والبندورة وعروق النعناع، واجتاحت رائحة السمكة المشوية أنفه فهيجت مشاعر الجوع والذل معاً..... تنبّه لصوت النادل يسأله: عفواً ماذا تطلب يا سيد.. آه... حقاً ماذا يطلب، ماذا يمكن لأستاذ الابتدائية أن يطلب، هل يحظر عليه أن يطلب سمكة مشوية من أحسن الأنواع وتنبه النادل يسأله: ماذا تريد يا سيد، فسمع صوته يقول: هات كل ماعندك من المقبلات الشهية ونصف ليتر من العرق الجيد....
شعر أن النادل يبتسم في وجهه أكثر ويحترمه أكثر بعد هذا الطلب، وهم بالانصراف فناداه على عجل... عفواً هل عندكم سجائر.... ـ نعم يا سيدي أي نوع تطلب.....
ـ آه لا يهم، إليَّ بعلبة لو سمحت...
ـ حاضر يا سيدي.....
وانطلق صوت كالهمس من داخله يتأوه: أوه ما بالك يا أستاذ محسن ماذا دهاك أهو انتحار أم جنون، لماذا تتصرف هكذا، ولكنه بقي صامداً لا مبالياً. هل تعرف ماذا يكلفك هذا العشاء.... قد يكلفك راتبك كله...؟ هل جننت؟ وضحك ضحكة صافية من قلبه ليكن... ماذا يهم... وسرح بنظره على سطح البحر المتراقص تحت الأنوار الجميلة، وتذكر فجأة أن عليه أن يتناول دواء القلب الذي يحمله دوماً في جيبه... ودسّ يده في جيبه وأخرج حبة صغيرة وضعها تحت لسانه وغزته ذكريات كثيرة عكّرت مزاجه الذي بدأ يتحسن.... وحاول الهروب من هذه الصور ألا أنها حاصرته أكثر وكأنها تتحداه، آه لو يستطيع أن ينسى من هو فقط لو يستطيع الآن أن ينسى أنه الأستاذ محسن.... ولكن عبثاً تنبه للنادل يضع أمامه علبة الدخان ويحمل في يده صينية كبيرة، وقف عند طاولته وأخذ يملؤها بأطباق شهية من أشهى المقبلات وسأله مبتسماً: أية خدمة ثانية...
ـ لا شكراً...
هل تريد إحضار السمكة بسرعة أو أتأخر قليلاً..؟
ـ كلا لا داعي للتأخير.....
تأمل المقبلات طويلاً دون أن تمتد يده لأي منها وتنهد: آه كم مضى من الزمن لم تذق مثل هذا الطعام يا أستاذ محسن...؟
وفتح زجاجة العرق وشم رائحتها قبل أن يصب كأساً، ونزع الشريط الأحمر عن علبة السجائر وتذكر وجه الطبيب وهو يهم بإشعال سيجارة... فابتسم بسخرية. قال له الطبيب، السيجارة تساوي الموت بالنسبة لحالتك عليك الانقطاع عنها تماماً...
سأل الدكتور: ألا يصح التقليل من التدخين يا دكتور...؟
ـ أبداً يجب الانقطاع عنها تماماً...
آه كم هو سعيد الآن يعود إلى صديقته الوحيدة التي أخلصت له أكثر من عشرين عاماً. استنشق الدخان بعمق فشعر بارتياح ورشف عدة رشفات متلاحقة من كأس العرق ولم يتمالك أن أغمض عينيه وهو يصغي لموسيقا البحر الرائعة... وانطلقت آه من أعمق نقطة من روحه.... وكرر هذه الآه... آه.... يا أستاذ محسن، وتمنى لو يبقى مغمضاً عينيه يدخن ويشرب العرق، ولكنه خجل أن يلحظه الناس في هذه الصورة..... وفتح عينيه وأخذ يتأمل صحون المازا الشهية دون أن يتناول منها أية لقمة. صب الكأس الثانية وعاد وجه الطبيب يغزو خياله ثانية...
ـ الكحول ممنوع خاصة العرق، إذا أردت الشراب فقليل من الويسكي...
الويسكي أنا غير معتاد عليه، وهو غالٍ جداً، أحضر النادل السمكة المشوية الشهية وأوسع لها مكاناً وسط أطباق المازا وسأله بلطف هل تأمر شيئاً آخر....؟...
ـ لا شكراً.......
بدأ خدر خفيف يسري في أطرافه ويصعد إلى رأسه ولم تعد الصور المزعجة تثيره وتنغصه بل ابتسم لها... وأخذ يدخن بتلذذ ويراقب سحب الدخان من لحظة خروجها من فمه وحتى تتلاشى في الهواء... وبدت حياته مثل هذه السحائب تتلاشى في اللاشيء... وتذكر محسن زهرة شبابه حين كان في العشرين. كان شاباً سعيداً جميلاً شغوفاً بالقراءة، وكان يحب مهنته كثيراً ويتعامل مع تلامذته الصغار وكأنهم أخوته الصغار أو أبناؤه وكم كان يسعدهم ويسعد معهم في عديد من الرحلات نظمها بنفسه وافقت عليها إدارة المدرسة وفجأة تذكر مهى، آه مهى كم مضى من الزمن لم أصادفها فيه أكثر من خمسة عشرعاماً، كانت مدرسة في نفس المدرسة التي يعلم فيها.... هل أحبها فعلاً ولماذا لم يصارحها بحبه ويتقدم لخطبتها مع أنها كانت توده وربما تشجعه وكيف يخطبها وهو يعيش في غرفة حقيرة في بيت عربي كبير... كل غرفة من غرفه مؤجرة لعائلة أو لشخص هل يرضى أن يذلها بهذه العيشة؟!، ومهى هل ترضى بالتأكيد لا... ولم يدر إلا ومهى قد تزوجت محامياً، وسافرت وبقي فترة طويلة يحاول طرد صورتها من ذهنه واسترق أمل جديد في حياته فقد تسجّل في جمعية سكنية للمعلمين وأجبر نفسه على حياة تقشف قاسية ليستطيع اقتطاع جزء من راتبه لتسديده أقساطاً للمصرف... كيف تتابع الأيام بهذه السرعة، كيف تتابع السنون.... آه كم عانى أياماً مُرّةً في سبيل هذا البيت، كم عزَّ عليه أن يبيع المصحف الذهبي الوحيد الذي يملكه ذكرى من أمه... ومع ذلك اضطر لبيعه كم تحمل هذه الغرفة الرطبة العطنة الحقيرة التي يسكنها ويشارك العديد من المستأجرين مطبخاً مشتركاً وحماماً مشتركاً.... كم حرم نفسه من أشواق كامنة غير محدودة تدفعه للحب والبحث عن شريكة لحياته وهو يقول: اصبر يا أستاذ محسن وسيصير عندك بيت جميل، وستصير مالكاً وسيداً لهذا البيت الجميل، عندها تستطيع أن تتزوج إذا شئت....
كم أرهقت الديون كاهله، فاحتار كيف يوفيها كم بحث بمذلة عن دروس خصوصية، وكان ينتقل من بيت لبيت ليعطي دروساً خصوصية لأولاد الميسورين لقاء أجر زهيد...
كيف سُرق عمره دون أن يدري إلا وهو يشارف الأربعين.... هل يعقل أن يكون الزمن أكبر غدار وحدث نفسه، البارحة كنت في العشرين. البارحة كنت أحاول كتابة الشعر وكنت أحلق بسمائه الصافية الرائعة... آه هل حقاً كان يمكن أن أكون شاعراً وأحس بألم حاد في صدره من ذكرى الشعر وأسرع يتناول حبة دواء ثانية يضعها تحت لسانه لماذا لم يتابع محاولاته في كتابة الشعر... لا يدري... كيف يتابعها، كيف سيأتي الإلهام في غرفة كغرفته لطالما هرب منها ومن ضجيج المستأجرين وشجارهم...
آه يا أستاذ محسن وبعد أن صبرت صبر أيوب كان لك بيت جميل، ودعوك لاستلامه، بعد سبعة عشرعاماً من اشتراكك في جمعية المعلمين السكنية صار عندك بيت ثمنه سبعة عشر سنة من عمرك وها أنت تصير مالكاً يا أستاذ محسن هل تصدق هذا؟ سنوات الصبر والقحط ولّت إلى غير رجعة والآن أ نت تتحسس المفتاح في جيبك وتحس أنه مفتاح الجنة... وما إن فتحت باب البيت الجديد حتى أخذ قلبك يخفق من الفرح، فرح غير معهود وغير مألوف وددت أن تصرخ أو تبكي أو تركض لا بل عليك أن تعترف أنك قفزت وركضت نعم قفزت وركضت كطفل صغير ولكن بدأ الفرح يزعجك وتحسه بلاطة ثقيلة على صدرك، آه إلى هذا الحد قلبك يخفق فرحاً وسعادة وكأنه سينخلع من مكانه... يا مسكين حين فتحت عينيك كنت في المستشفى وكنت شبه مخدر وذهلت للأمر وعرفت فيما بعد أن احتشاءاً حاداً كان يمزق القلب، وأنك توهمت، وظننته الفرح يا جاهل يا مسكين...
أسبوع بكامله قضيته في المستشفى وقبل خروجك دعاك الطبيب إلى مكتبه وحدثك بهدوء ولطف عن لزوم إجراء عمل جراحي دقيق لقلبك وأن هذه العملية مكلفة...
ـ يعني كم الكلفة يادكتور...؟
لم يُصدّقْ المبلغ الذي سمعه، آه ماذا يفعل، من أين يأتي بالمال...؟...
ـ هل العملية ضرورية يا دكتور,...
ـ جداً بل لا حلَّ في حالتك المرضية إلا الجراحة...
ـ ولماذا هي مكلفة هذه الكلفة الخيالية.....؟
ابتسم الدكتور ولم يجيب....
قال له زميله: عليك أن تجري العملية بأي ثمن كي تستمر حياتك...
ولكن كيف...؟ بإمكانك بيع البيت.... ماذا؟!!!! أبيع البيت الذي استلمته بعد صبر سبعة عشر عاماً أبيعه.... آه..... انحدرت دمعتان ثقيلتان من عينيه، آه كل الحق على العرق، فجّر أشجانه وآلامه.... وعاد ليشعل سيجارة من احتضار سيجارة سابقة... ومسح دموعه. بحذر كي لا يلحظه أحد...
ومد يده إلى السمكة المشوية يتحسسها قبل أن يهمّ بالأكل... آه ما ألذَّ هذا الطعام، السمك المشوي قمة المآكل كلها... أحب أكلة إلى قلبه ولكن كم مرة في حياتك أكلت سمكاً مشوياً يا أستاذ محسن؟...
ضحك متألماً وشعر أنه مسخ بشري وعادت ذكرى الشعر تخزه وتؤلمه هل كان يمكن أن تكون شاعراً، نعم بالتأكيد، آه من هذه الحقيقة كم كان شعره جميلاً وغنياً ينقل المستمع لعوالم سحرية... ولكن لماذا لم تثابر على كتابة الشعر... آه كيف سأثابر، أغمض عينيه متعباً... كان العرق مخدراً لطيفاً يسير في دمه ويسكن آلامه.... ورغم آلامه ابتسم وانتشى بالأكل الطيب وحين أحضر له النادل ورقة الحساب، لم يتمالك أن ضحك ضحكةعالية رغم دهشة النادل، فقد كانت فاتورة الحساب مساوية تماماً لراتبه لا تزيد قرشاً، ولا تنقص قرشاً، وأعجبته هذه الصدفة النادرة كأنهم يعرفون راتبي، كيف يتساوى الحساب مع راتبي؟!.. وقام متثاقلاً، كان الصداع خفيف يقرع رأسه وينذره بالازدياد ، وخرج من المقهى وقد اتخذ قراره بألا يبيع البيت وألا يجري العملية ولماذا يعيش أكثر وأية عيشة تنتظره... وهل يبيع البيت ليعود إلى حجره القديم بل لعله غير قادر حتى على العودة إليه... لأن الأسعار ترتفع بشكل خيالي وأحس بألم حاد يمزق أحشاءه، وغثيان... فانتحى زاوية في الشارع وأخذ يتقيأ وغضب من نفسه، وأخذ يقول: تقيأت السمكة يا بن الكلب... ومر تكسي قربه ودّ لو يوقفه لكنه تذكر أنه دفع راتبه كله ولم يبقَ معه حتى آجار تكسي...
كل صباح كان يجاهد لطرد بقايا أحلامه المغموسة بالخوف، يفرك عينيه ويمّسد وجهه المترهل، كأنه يمسح صمغ الخوف عن جلده، يقوم من سريره بصعوبة كأنه يتمنى أن ينفض عن كاهله سنواته التي قاربت الثمانين، يعدّ قهوته على نار يتقصد أن تكون ضعيفة كي يمرر أطول زمنٍ ممكن، في الواقع أدهشته قدرته على التعود على السأم والقلق لهذه الدرجة، يجلس في مقعده الأثير في الصالون يستمع لنشرة الأخبار من عدة محطات، فيشعر أن اكتئابه أصبح شاملاً...
فيما مضى كانت وحدته هي حريته، علَّمته الحوار مع نفسه، ابتدأ مرحلة التقاعد بهمّة عاليةٍ، قرر أن يبدأ حياةً جديدةً، دافناً أحزانه على زوجته التي تركته دون لحظة وداع وانتقلت إلى العالم الآخر، كل صباح كان يقصد مقهى شعبياً متأبطاً عدة جرائد، يجلس في المقهى ساعتين على الأقل يقرأ الصحف ويقحم نفسه في أحاديث مع رواد المقهى، لكن متعته الوحيدة في ارتياد المقهى تقلصت حتى تلاشت لأن راتبه التقاعدي لا يسمح بتلك الرفاهية التافهة، وحين وصف له الطبيب أدوية للالتهاب المفاصل، أصيب بعجز مادي حقيقي، وصار عليه أن يتقبل معونة أولاده راسماً ابتسامة الذل على وجهه...
أولاده أين هم؟ من يصدقه إذا اعترف لنفسه مراراً أنه لا يصدق أن لديه أبناء، يحاول أن يعذرهم فالحياة تطحنهم، يبرر لهم جفاءهم وقسوتهم، يقبل عن طيب خاطر أن يكون ساحة صراخهم وغضبهم وقهرهم من الحياة التي حولتهم وأمثالهم ـ لجيل من الجائعين ـ ذات يوم حضر شجاراً حاداً بين ابنه وزوجته، وصل حدّ الضرب بسبب كيلويين من الموز، الزوج يتهم زوجته بالإسراف لأنها اشترت كيلوين، والزوجة فجّرت كل قهرها من الزمن بزوجها متهمة إياه بالبخل، وبأنها تعيش عيشة الكلاب معه، وفي نهاية الشجار تمنى كل منهما لو لم يتزوج الآخر...
كان يغضّ النظر عن زيارات أولاده له بهدف الاطمئنان عليه، كل منهم يخرج حاملاً غرضاً من البيت، لوحة، أو سجادة، طناجر أو صحوناً، حتى شراشف الأسّرة أخذوها تاركين له شرشفين، ثم يتركونه أعزل في مواجهة أحزان قلبه مع ابتسامةٍ حزينةٍ يفاجئه بها وجهه حين يلمحه عرضاً في المرآة، لم يخطر ببالهم أن سلوكهم هذا يعني أنهم يقولون له: لم يعد لكَ لزوم، أعطنا أشياءك القليلة، فما حاجتك لها، نحن الشباب الحياة لنا...
لم يستطع أن يعاتبهم قط، رغم أنه كان يصرخ بصوتٍ متشقق بالغضب والقهر في وحدته لاعناً إياهم ومعاتباً ويتخيل أنهم يطرقون صامتين يصغون لكلامه، لكن ما إن يزوره أحدهم حتى يمتلئ كيانه بالوداعة، ويسرع محضراً السكاكر الرخيصة لأحفاده، شاعراً أنه يرشوهم ليشحذ منهم قبلة ندية يطبعونها علىعجل علىخده المتغضن بتجاعيد الطيبة...
ذات يوم طلب إليه ابنه أن يعطيه التلفزيون الملون، ووعده أن يحضر تلفزيوناً بالأبيض والأسود، صمم أن يرفض وأن يصرخ في وجه ابنه أن طمعهم به في خريف عمره تجاوز الوقاحة ذاتها، لكن حين همَّ بالكلام وجد نفسه يقول: خذه يا بني، فقد ضعف نظري، وماعدت أُميّزُ الألوان بدقةٍ...
أحس أن لسان حاله يقول: خذوا كل شيء، لكن لا تنقطعوا عن الزيارة المعتادة لأبيكم المسكين. في أعماقه كان متأكداً أنه لو رفض إعطاء ابنه التلفاز لقرر الأخير مقاطعته....
كانت أيامه تنساب في فتورٍ وصمتٍ أقرب للشل؟؟؟... فكل شيءٍ حوله يبعث على الأسى، صار عاجزاً عن لملمة أفكاره، يتأمل خشونة الحياة حوله، معاناة البشر، يحاول أن يفكر بمشاكلهم معزياً نفسه، وشاعراً بتلك الألفة المتأتية من المعاناة المشتركة بين البشر، لكن أفكاره تتبدد وتتوه كما يتوه الماء في الرمال...
تضاءلت زياراته لأولاده، ففي كل زيارة يشعر بالحرج، وبأنه ضيف ثقيل، زوجة ابنه البكر لا تكلمه ابداً، تنظر إليه بعينيها الواسعتين، نظرةً باردةً ميته، وحين تقول له جملتها الوحيدة: مع السلامة، يحس أنها تصفعه...
كلهم ينصرفون عنه لمتابعة برامج التلفزيون. يتظاهر أنه يتابعها معهم، لكن حين يصدر عنه تعليق، أو يشتاق لخلق حديث معهم يزجرونه كي لا يقاطع انتباههم لحوار الممثلين الأكثر أهمية من حديث الرجل العجوز الذي فقد حاجته الوحيدة في الحياة: الحنان...
لا ينسى يوم كان يتغدى عند ابنته البكر، كان سعيداً بدفء الوجوه التي يحبها والتي يشعر أنها الوحيدة التي تخصه فيما تبقى له من عمره، أحس بعدوى شهوة الطعام ويتأمل أحفاده يأكلون الرز مع السبانخ واللحم بمتعة وشهية وجد نفسه يتحول إلى طفل ويأكل مثلهم، إلى أن انقضَّ عليه صوت زوج ابنته يصرخ بزوجته: قلت لك أنت اسكبي لـه السبانخ واللحم، اللحم أحق بالأطفال، ألا ترين أنه التهم نصف كمية اللحم، لم يعد يسمع، توقفت اللقمة في بلعومه، وكاد يختنق، هزته نوبة سعالٍ عنيفة لدرجة أحس أن عينيه ستخرجان من حُجريهما، وأن قلبه سيتوقف...
عاد إلى بيته مهزوماً منكسراً، أحس أنه لم يتبق له سوى شرف عزلته يصونه من الأذى، تحديداً من أذى اقرب الناس إلى قلبه...
صار عاجزاً عن أن يتمنى، فماذا عساه يتمنى؟؟ أمزيداً من تراكم أيام الذل، إنه لا يريد سوى الراحة، ترى كيف هي؟ ياه كم ثقلت عليه الحياة، وكم هو مؤسف أن يكون وحيداً لهذه الدرجة ولديه أربعة أولاد، و(دزينة) من الأحفاد كان أبناؤه يحضرون لـه طعام الغداء بالتناوب، وفق بر نامج اتفقوا عليه، في البداية كانوا يجلسون معه لساعةٍ أو أكثر، يحدثونه ويطمئنون على صحته يوصونه ألا ينسى قفل جرة الغاز, لكن زياراتهم صارت أقصر، حتى انعدمت ربما ملَّوا منه لأن سمعه غدا ثقيلاً فكانوا يضطرون للصراخ ولإعادة الكلام مراراً، صاروا يدّعون المشاغل الكثيرة، ويمدون له طعامه من طاقة الباب المستطيلة...
كان يتخيل دوماً تلك اللقطة من فيلم قديم كيف تقدم فيه امرأة الطعام لكلبٍ، يحس تماماً أنه استحال إلى حيوان... كان يأخذ معه طعام الذل، إنهم لا يتركونه، أبداً بلا مؤونة لألمه، يخشون ألا يجد ألمه ما يتغذى به كل صباح!
ذات مساء أحس أن روحه تختنق، اشتاق أن يتحدث مع إنسان حديث قلب لقلب، قصد بيت ابنته الصغرى، كان يعرف أنهم في الداخل فالضوء يشفّ من شقوق الباب، وصوت التلفاز ملعلع قرب الجرس، وقلبه يختلج بشوقٍ كبيرٍ لكل تلك المعاني الإنسانية التي نسيها إنسان اليوم، لمح خيالاً يتحرك من وراء زجاج الباب، خفت صوت التلفاز وابتعد الخيال، كرر قرع الجرس مراراً، ظل الباب موصداً... تلقى الطعنة في قلبه المتعب من خيبات الحب، ورغم ألمه لم يستطع أن يرجع إلى صقيع وحدته، قصد بيت ابنه، في أعماقه كان يفتش عن طعنةٍ أخرى تتآزر مع الطعنة الأولى وتقتله، فتح ابنه الباب بوجهٍ شوهه الغضب، أحس أن ابتسامته بلهاء لأنها لم تحرك أي شيء عند ابنه، ما إن لمحته زوجة ابنه حتى تعللت بالصداع، وذهبت لتنام، ما إن هم بالكلام مع ابنه محاولاً معرفة سبب انزعاجه، حتى انفجر الأخير كقنبلةٍ، كان دوي صوته مرعباً لدرجةٍ اهتزت معها الستارة الرقيقة الوحيدة صرخ: لا أحتمل كلمة، أتفهم، أنت السبب، أنت من أخرجتنا إلى دنيا الشقاء، رجل بائس وفقير مثلك لماذا يتزوج؟ لماذا ينجب أطفالاً، ليعيشوا عيشة الكلاب، أليس كذلك..؟!..
ودّ لو يقول له: لقد علمتك حتى أنهيت دراستك الجامعية، وربيتك أحسن تربية وسحقت نفسي من أجلك و...
لكن الكلام تخثر في بلعومه وتبدد...
لم يعتذر ابنه عن عاصفةٍ غضبه التي صبها على والده، حلَّ بينهما صمت ثقيل، خرج الابن المشحون بالقهر صافقاً الباب وراءه، غير مبالٍ بنظرات الذعر والألم في عيون أولاده، أوشك للحظةٍ أن ينهار عند قدميّ حفيده ذي الأعوام الخمسة، وأن يُوسّدَ راسه في حضنه، اقترب من الصغير وأمسك يده. رفع الصغير عينين حولّهما الحزن لعيون تشبه عيون جده المنخور بالألم، أحس أن الصغير يحتمي به، مسح بكل الحنان المقموع في روحه على رأس حفيده وهمَّ أن يبكي راكعاً على قدميه ورأسه في حضن حفيده، هكذا اشتهت روحه لكنه تراجع خائفاً وهو يسمع صوت زوجة ابنه تصرخ بأولادها بخشونةٍ أن يدخلوا إلى غرفتهم...
(كل طعامك كحيوان) هذه الجملة كان يبتدئ بها نهاره وترافقه بإلحاح اليوم كله، وفي بيته الضيق العاري من الأغراض، كان يحس أنه يختبر شعور العيش في قبر، لكن مشاعر رائعة ومفاجئة كانت تتسلل إلى روحه وهو في قمة يأسه، فيحس وهو يتقبل قسوة أولاده أن روحه غنية، وأن الله يساعده بطريقةٍ خفيةً ويجعله يتذوق قطرات من العذوبة الإلهية التي تسقط في روحه من سماءٍ قصية لكنه متأكد أنها موجودة، فتحول قلبه المتورم من القهر، إلى قلب يتسع للعالم كله، بل يحس قلبه أكبرمن العالم. فيشفق على قساة القلوب الذين أفقدهم الغضب والقهر موهبة الحب. والذين أنساهم زمن المادة أبجدية الحنان...
ذات صباح وبعد أن أعطاه ابنه طعامه من طاقة الباب، ودخل إلى المطبخ، دخلت قطة من الباب الذي نسيه مفتوحاً، يبدو أنها شمت رائحة الطعام، اشتعل قلبه فجأةً بسعادةٍ من وجد حلاً لأزمةٍ عذبته طويلاً، أسرع يغلق الباب مانعاً الحيوان من الفرار، قَدّم لها غذاءه، فالتهمته بشهيةٍ عاليةٍ، كم كان سعيداً، قرفص وأخذ يأكل معها، متعمداً أن يكون لها الحصة الكبرى كان مبتهجاً كونه لم يعد وحيداً، ودَّ لو يسألها وهو يعد قهوة بعد الغذاء إن كانت ترغب بفنجان قهوةٍ، أسعده أنه لا يزال يملك بقايا دعابة يقاوم بها خشونة الحاضر، قرر أن يصون علاقته بذلك الحيوان، مغدقاً عليه الحنان المقطر قطرةً قطرةً في قلب عجوز خمرّه الحزن..
بينهما طاولة صغيرة وكأسان من النبيذ ـ مشروب الحب كما تسميه ـ. صالة المطعم فارغة فالوقت لا يزال مبكراً للعشاء، فتنها المطعم باللوحات الرائعة التي تكسو جدرانه، والمرايا الدخانية التي تهب المكان فضاءات واسعة. رفعا كأسيهما ليشربا نخباً مختلفاً. شربتْ نخب حبها له، حبها الذي تأجج قبل أن يتاح لها الوقت الكافي للتعرف إليه، وشرب نخب صديقة يهتم بها، ويسعى لمساعدتها بكل إمكانياته، ما خلا طاقة قلبه على الحب...
إنها المرة الأولى التي تزور فيها دمشق، تشعرُ بأنها تتنفس حريةً وبأن دمشق تخفق مع قلبها، تأملت صورتها معكوسةً في المرآة الدخانية، تأملتها كما لو أنهما غريبان، كما بدا لها واضحاً أن تلك المرأة عاشقةً، من حركة الضياع في يديها، من تلك الابتسامات المباغتة التي تفاجئ بها الرجل الذي تحبه، كأنها تحثه على بوحٍ ما، من تلفّتها للبحث عن شيءٍ مجهول، كأنها تنتظر إشارة أو دغماً من وسيط خارجي.
كان يحدثها عن رغبته في سعادتها، في رؤيتها مع رجل تحبه ويحبها، الحب سعادة، الرغبة أيضاً تمنح الإنسان سعادةً عظيمةً. قال: من حقك الاستمتاع بالحياة فأنت شابة جميلة و....
كانت عاجزة عن التركيز لمتابعة حديثه، إذ كانت مشغولة به، بعواطفها المثارة نحوه إلى الحدود القصوى، كانت تدرك أنها أسيرة قوّة أعلى منها تقودها إلى غواية الحب.
فكرت بحزنٍ وهي تصغي إليه، كم هو محزنٌ أن يضيع كل هذا الحب والحنان اللذان تكنهما له! لو مدَّت يدها قليلاً وأمسكت يده ماذا يحصل؟... كم تتوق للمسه، للغة الجلد، لِمَ لا تفعل؟... فالمكان معدّ لعاشقين، لكن كم يتلفها التهذيب، كم تكره هذا التهذيب الاضطراري. قالت له بأنها تؤثر الوحدة على أن تزجَّ نفسها في علاقة مع رجلٍ لاتحبه ولا يتمتع بصفات الشخص الذي يأسرها...
ـ وماهي صفات الرجل الذي يأسرك؟ سأل في بساطةٍ وجدية...
جعلها الحب شجاعة، رفعت كأس النبيذ إلى شفتيها، رشفت جرعة كبيرة من السائل المتوهج بلون الثورة قالت وهي تطلق تنهيدة من القلب: مثلُكَ.. ضحك، كم تحب ضحكته، لكنها آلامتها كثيراً في تلك اللحظة. حاصرته بنظرة وجدٍ فتهربَّ منها. وفي حنان مرتبك قال: ألا ترين كم أكبرك؟!...
تشابكت يداها حول كأس النبيذ تحاصره لأنها عاجزة عن حصار الرجل الهارب منها. عاد يحدثها عن إعجابه برسومها الشفافة، بروحها المبدعة، بقدرتها على تذويب أحاسيسها بالألوان كانت تشعر أن كلماته تنقطع حين تبلغها، كأنّ تياراً كهربائياً انقطع فجأةً في قلب الكلمات في الواقع كانت تنتظر الشرارة التي ستُحدث الانفجار العاطفي بينهما، وتعي بكل حواسها ذلك الجسد الدافئ تحت الثوب الأزرق كم يتوجع شوقاً إليه. جسدها! ياه كم مضى زمن طويل نسيت أنها امرأة. كانت تشعر وهو يحدثها في لباقته المعهودة بأنها توغل أعمق فأعمق داخل الإثم. كانت تحلم بأنهما متلاصقان فوق الفراش الضيق في غرفة وحدتها...
تمنَّت لو تقول له بأنها كدَّست الليلة الماضية رغباتها في وحشة الغرفة وأفنتها في برودة الليل...
كانت تعرف أنها ستكابد لتحرر قلبه من سطوة عقله. ودّت لو تقول له بأن للقلب أبجدية رائعة تختلف عن أبجدية العقل، وأن نشوة القلب تفوق بما لا يوصف نشوة المعرفة العقلية وأن حنانها للمسه وتقبيله يفوقان كل المتع الفكرية التي توفرها لها الكتب...
سألته فجأةً: هل أنا مجرد صديقة لك؟...
تردد قبل أن يجيب: أكثر قليلاً...
جعلتها هذه الأكثر قليلاً تتذبذب بين نوبة فرح ونوبة بكاء..
أحبك ولكن هذا التعبير يجب أن يحذف من اللغة، فمع الحب لا يوجد "لكن" و"لا" ولا أي شكل من أشكال التردد، كانت تشعر أنها رهن شفتيه، وبأن زمنها ينساب بين يديه، وبأنها في دمشق من أجله وحده، لتفنى معه في عناق حار، لتمتلئ به ويمتلئ بها..
ثقل إحساسها بالزمن، ثقل إحساسها بثوبها أيضاً، كرهته لأنه يسجن فورة الحب في جسدها.
شجعها تصريحه بأنها أكثر قليلاً من صديقة لسؤاله: لِمَ لا تزورني؟..
كان رفضه جاهزاً، فلا يزال تحت سطوة العقل، الذي يقنعه رغماً عنه بأن عليه أن يدير ظهره لعالم المرأة...
أجازت لنفسها قدراً من الغضب المكبوت، سألته في إصرار: لِمَ لا؟! عند الباب الخارجي للفندق طبع قبلة عجولة على فنها لكن هذه القبلة فتحت باباً موصداً، تمنّت في صمت وحدتها لو تملك الجرأة على السفر. ماذا ستفعل في غرفة موحشة لفندق؟ هل تقلّب محطات التلفاز؟ أم تبكي من مرارة الوصال الذي تتوق إليه بكل الحنان المختزن في روحها؟.. أم تبتلع حبة منومة لتسكّن إلحاح أشواقها؟...
رمت ثيابها على السرير.. حاذرت النظر في المرآة مدركة أنها غير قادرة على مواجهة كل هذا الحزن في عينيها، ورغم غضبها الشديد منه، فإنها كانت تتخيل بلا انقطاع ما عساه يفعل كل لحظة..
ما إن فتحت عينيها صباح اليوم التالي حتى أحسَّت كم أن الحب يملأ الجو، حزمت أغراضها وهي تقاوم دموعاً. ستعود إلى تحنيط وحدتها في تلك المدينة المنسية التي تكرهها بقدر ما تحبها، وستذوب أحزانها في الألوان لتبدع لوحات..
سيمر بها صباح الغد ليودعها فعليها أن تجتهد في كبت عواطفها..
ما إن جمعتهما الغرفة الضيقة، حتى بعث الهدوء في نفسيهما أشد الاضطراب. انقادا في لمح البصر لغواية لا يمكن مقاومتها. شعرت بأنها تتعمد بلمساته وقبلاته وبأنها ترشفه لداخلها، وبأنها تريد أن تخلع جلدها لتغطيّه..
أطلت علينا مريم حمزة بوجِهها الطفولي العذب ومشيتها المتعثرة، وحدها طفلة السنوات الست اقتحمت نافذة روحنا الموصدة منذ سنوات بعيدة، والتي عششت الطحالب والعناكب من زواياها.
تلاحق الكاميرات الطفلة التي رفعها الحصار أو سرطانُ الدم إلى عالم الشهرة، تلّوحُ مريم لجلاديها بيدها البضَّة الصغيرة، تبتسم بإعياء، تدير عينيها النجلاوين فاقدتي الرؤيةِ بقلقٍ كأنما تبحثانِ بأملٍ عن شعاع ضوء، تعرف مريم أنها لن تبصر النور أبداً، ومع ذلك تحدق بنا بعينيها المطفأتين لتقول لنا: لا فائدة في عيونكم ـ لأنك لا ترون سوى أنفسكم...
تقتحم طفلة الحصار والسرطان دفعةً واحدةً نافذةَ روحنا الموصدة، التي نسينا كيف أغلقت ولم نبذل جهداً لفتحها، تُرينا كيف نعيش بعد أن تخلّينا عن روحنا. ومن عينيها فاقدتي البصر يبزغُ شعاعٌ يكشف بلاهتنا وعقم أفكارنا، يفضح زيف حضارتنا. تصفعنا مريم بسنواتِها الستِ التي عاشتها تقاومُ السرطان الذي قدمته لها حضارتُنا البشريةُ هديةً. تسندِ رأسها إعياءً على كتفِ جدتها، تتنهّدُ متعبةً من الكاميرات التي تلاحقُها لتصورها، تشيح بوجهها عن عيوننا الميتة المتلصصةِ عليها، لا تعرفُ أن عيوناً ميتةً تقفُ في الجانب الآخر لتصورِها كيفما تحركت تُغمض عينيها هاربةً من تكنولوجيا حضارتنا، منكمشةً داخل شرنقة روحها المتآكلةِ بالخلايا السرطانية...
صرتِ طفلةً مشهورةً يا مريم ـ تتسابقُ الفضائياتُ في عرضِ صوركِ، ويتسابق مراسلوها في تعليقاتهم المؤثرة على حالتكِ، وتقدمين كنموذج لأطفال العراق الذين أهدتهم حضارة السرطان أمراضاً فتاكةً. مريم تلّوح بيدها كملاكٍ مريضٍ وتبتسم لنا. ورغم مناعةِ جسدها المعدومة ـ فإنها تقاوم أن نعديها بأحقادنا، تجد مريم نفسها وسط عالم تستعرُ فيه الأحقادُ، وتتفننُ فيه شهوةُ السلطةِ في تشويه الأطفالِ، وكي يبددَ صانعوا القرارات سأمهم، فإنهم يتسلونَ بتشويهِ أطفالٍ أبرياء كل ذنبهم أنهم أصحّاء، عليكم أن تعتذروا أيها الأطفال الأصحاء السعداء، للسّاديين الكبار، وتتحولوا إلى مسوخٍ تئنُ من الألم والمرضِ، وتستسلم بأجسادها الصغيرة لسرطان الأحقاد ينهشُ طفولتكم... تهربُ مريم من تبنِ أرواحنا الميتة. تهرب من رائحة العفن المقززة التي تشمها رغم عطورنا الفخمة التي نرشها على جلودنا الأشبه بلحاءِ شجرةٍ ميتةٍ. تجدُ مساحةً للحلمِ، ومساحةً للعبِ بين الأنقاضِ والجثث والشظايا ودخانِ الأحقادِ، تجدُ مريمُ مساحةً للعبِ، لأن أنينَ طفولتها لم يخمد تماماً، وفي نسيج حلمها الممزقِ والمتآكِلِ بالسرطانِ، تحاول مريم تصور حياةً حلوة، يرسم خيالها صوراً باهتةً بعيدةً لبلادٍ غامضةً لكنها جميلةٌ، تعيشُ فيها العصافيرُ والأطفال، فيها ساحرةٌ باهرةُ الجمالِ، تلبسُ فستاناً أبيضاً مرصَّعاً بنجومٍ مضيئةٍ، تمسك بيدها عصاً طويلةً في نهايتِها نجمةٌ، تزحفُ مريمٌ مع آلافِ الأطفالِ المصابينِ بسرطان الحصارِ، تلمسُ الساحرةُ الخيّرةُ رؤوسَ الأطفالِ بنجمتِها فتشفيهم للحالِ. تعجزُ مريمُ عن متابعةِ حلمها تنتبهُ أن الممرضةَ تقدم لها الدواءَ المرُّ في سيرنغ، تبتلع الطفلة الطعم المقزز، ترمقُ بعينيها الميتتين الكاميرات، يندلق الدواء من فم مريم، لعلها ترغب أن تتقيأنا، دون أن تعلم، بعد كيف تحتقرُنا..
في بيت جدتَها ـ ترغبُ مريم باللعبِ، تُنحّي سرطانَها جانباً، تتجاهلُ ظلام عينيها، تمدُّ يديها في الفراغِ الموحشِ حولَها، تصطدمُ بوسادةٍ وبكتفِ جدَّة هزمها الحزنُ، وأهرمها قبل أوانها، تمضغُ مريم لباناً وتبتسمُ بإعياء، مريمُ لا تزالُ قادرةً على الفرحِ! لم ينهشْ السرطانُ فَرَحَها كلَّه! فرحها أشبه بشظيةٍ مدفونةٍ في أعماقِ روحها، هناك في آخرِ مطافِ روحِها استطاعتْ مريم أن تخبِّئَ فرحَها. فلم يخنقهُ الحِصارُ، ولم تعزهُ حضارة السرطانِ.
ما أحلى عينيك يا مريم، في موتهما شيءٌ حيٌّ، شيءٌ أعظم من شعاعِ نورٍ، ومن شرنقةِ كفنهما السوداء تولد الحياة الوردية.... ليلُ عينيكِ يا مريم ينتهي بقوس قزح، يلامسُ سماءً مضيئة، حيث لا صواريخ ولا طائراتٌ تمزقُ وشاحَ زرقتها ليلُنا عقيم يامريم، ليلُنا هو عزلتنا وموتُنا..
تتكلم مريم بصوتٍ مشققٍ، مزَّقَهُ السرطانُ: أرغبُ أن أعودَ إلى أمي وأبي وأخوتي، تنهمرُ كلماتُها كالترابِ، تعيدنا كلماتها إلى الترابِ الذي منه خلقنا تديننا وتعلمنا كيف ندين أنفسنا بعد أن تغمرنا بالمرارة، كم تشعرنا مريم بالعجز والعار ترشدنا مريم من حيث لا تدري لاكتشاف ضلال نفوسِنا. ما حريتنا التي نتغنى بها يا مريم سوى عزلةٍ مريرةٍ، ما آراؤنا التي نتبجّحُ وندافعُ عنها سوى صدىً لعالمِ الموتِ الذي نعيشُهُ.
تفرزُ عيوننا الميتة التي ترى ولا تُبصِرُ دمعةً لزجةً تأثراً لحالةِ مريمَ، دمعةً تعني: الحمد لله أننا لسنا مثلَ طفلةِ الحصار هذه، وأنَّ أطفالنا لا يعانون سرطان الدم مثلها، دمعةً لزجةً تعني: دعينا يا مريم جالسين في كفننا الدافئ، وبيدنا جهازُ التحكمِ، نُقلّب الفضائيات لنسّلي أنفسنا، اعذرينا يا مريم ولا تطيلي التحديق بنا بعينيك المطفأتين، إذ أن أرواحنا المتلّبدة تخافُ العيون الميتة، عساها تخرجنا من مواتنا وتطلقنا في عالم الإحساس. نخشى الإحساس يا طفلةَ الحصارِ ـ لأنَّ معاني عظيمة ملتصقة بهِ، معاني ماعادت تملك رصيداً:
الحرية، الوطن، الشرف، الإنسانية....؟!
دعينا لاطئين هكذا ياطفلة الحصار، دعينا لاطئين على هامشِ حضارةِ السرطان، نُقّدمُ ولاءَ الطاعةِ لصانعين القراراتِ، ترّفِهُ عن أنفسنا بالإعلاناتِ المغريةِ، وتأملِّ النهودِ الضامرةِ والأفخاذِ العاريةِ لعارضاتِ الأزياءِ لكننا نعدِكُ يا مريمُ ـ كلما أطللت علينا بوجهكِ العذبِ ـ أن نذرفَ دمعةً لزجةً على بؤسِ طفولتكِ..
هذا الصباح، أخرجتني مريم من شرنقةِ موتي، دفعتني خارجَ خط يومي المقررِ سلفاً، ورغم أنني مشيتُ في الشارع ذاته الذي أجرُّ فيه قدمي كلَّ يومٍ، إلاَّ أنَّ هذا الشارع كان يقودني لاكتشافِ نفسي، تأملتُ الحجارةَ الميتةَ للمدينةِ، والوجوهَ المطفأة حولي، غمرتني الشفقة، نسيرُ تائهين في الشوارع، نحلمُ ونحن بكامل يقظتنا، كلٌّ منا يعيشُ عزلةً خانقةً داخلَ شرنقةِ روحهِ، انتبهتُ للمرةِ الأولى للمطبِّ المخيفِ الذي وقعنا فيه، نحن لسنا أحراراً بل وحيدون، نحن نخلطُ بين الحريةِ والوحدةِ كي نعزِّيَ أنفسنا؟ كنتُ أمشي وإحساسٌ طاغٍ بالعجزِ يتقمصني، أحس بثقلهِ على كفتي... إحساسٌ يدفَعُني كي أركع أمامَ طفلةِ الحصارِ وأصرخَ بكلِ طاقةِ روحي الخرساءِ: كيف سنساعدك وأمثالك يا مريم؟ وإلى متى سنظل عاجزين عن تغيير حياتنا، نحن نراكم أياماً ولا نعيش.. كيف ندّعي الإنسانية والحضارة، ونحن نُقدّم لمريم دميةً لا تتلف، تلهو بها طوالَ طفولتِها وسنواتِ عمرها: السرطان.
ماكان مقرراً أن أذهب إلى البحر هذا الصباح، لكنَّ مريم التي أطلَّتْ عليَّ مبتسمةً، ذوَّبتْ بلادةَ روحي، ودفعتني رغماً عني للذهاب إلى صديقي الوحيدِ ـ البحر ـ لأنَّه الوحيد الذي يملك موهبةَ الإصغاء لأنين الأرواحِ المعذَّبةِ. كان صوتُ البحرِ مختلفاً هذه المرة، أغمضتُ عيني لأسمعَ أنينَ طفولةِ طفلةِ الحصارِ والسرطان..
من مثلكِ يا مريم قادرٌ أن يمزِّق كفن موتِنا، عسانا نقدر بعد موتٍ طويل أن نوّلِدَ الحياة..
هذا الموقع يستخدم ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز ) للمساعدة في تخصيص المحتوى وتخصيص تجربتك والحفاظ على تسجيل دخولك إذا قمت بالتسجيل.
من خلال الاستمرار في استخدام هذا الموقع، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط.