mr_ops
بيلساني محترف
- إنضم
- Jan 12, 2010
- المشاركات
- 2,777
- مستوى التفاعل
- 38
- المطرح
- شامي
كنت في ما مضى سليل عائلة كريمة أعيش في جو من المحبة والألفة والفرح ضمن شبه دويلة أنشأها ويرأسها جد العائلة الأكبر الذي كان مرجعنا جميعنا، كان لا يقبل أن يبتعد أحد منا عنه وعن عائلته الكبيرة التي تتألف من عشرين ولداً وبنتاً أنجبوا بدورهم جيلاً آخر من الأحفاد له ومن بينهم والدي، فكنا بالفعل نؤلف مجتمعاً بحد ذاته وكان يجب أن يسكن كل من يتزوج ضمن ذاك المحيط، فقد كان يملك تقريباً جميع الأراضي الموجودة في تلك المنطقة وكنا نحن الصغار نطلق عليه اسم المعسكر وجدّنا الكبير القائد وشقيقه النائب والآخر الوزير كل حسب عمله وقربه منه، كانت الشرطة لا تعرف طريقها إلى معسكرنا لأنهم كانوا يعلمون بأن جدي يحل كل شيء بين أولاده كلمته مسموعة ومطاعة، كان ملكاً غير متوج لا يتجرأ أحد على أن يقف في وجهه، ليس بسبب بأسه وبطشه بل بسبب حكمته وحبه للجميع والذي كان يحيرنا أنه كان يحفظ أسماءنا واحداً واحداً لم يخطئ مرة بنا مع أن آباءنا كانوا يفعلون فنحن ما شاء الله حوالى تسعين حفيداً، فهو قد تزوج عشر نساء وأنجب منهن وأولاده كانوا مثله، فكان من لم يتزوج بخمسة يعد عاقلاً بينهم، أما أولادهم فكانوا قد بدأوا يرضون بثلاث أما أبي فقد تزوج اثنتين، جدي قد تخطى التسعين بسنوات لكن عقله كان كما هو، لا يزال يسير كل يوم لساعات كان يأخذ معه لبن الناقة الذي لا يشرب غيره ويمسك عكازه وينطلق عند الرابعة فجراً ليعود حوالى السادسة والنصف، كان مجمل طعامه من الحشائش والأرز مع الأعشاب ويتحلى بالتمر، لم يزره الطبيب إلا مرة واحدة عندما غرز مسماراً بعمق في قدمه فأتى ليسحبه ويعطيه حقنة .
هذا هو جدي الكبير أو جد والدي كان اسمه هزاع، كنت أنا منذ صغري متمرداً لا يعجبني شيء ولا تعجبني الحياة التي نعيشها، كنت أكره أن يفرضوا علي من أتزوج ومتى فكلنا نتزوج من بعضنا بعضاً حتى أنه ولد لنا الكثير من الأبناء المعاقين فهذا عنده التوحد وذاك الثلاسيميا وغيرهما من الأمراض الوراثية أو التي تأتي من زواج القربى، لذلك قررت أن أبتعد وأتزوج من خارج المعسكر، كنت أتخيل حياتنا كحياة تلك الجماعة التي تعيش في أمريكا وكندا وهم الأميش لكن مع تطور وكهرباء وحياة رغيدة كنت أول من قرر السفر ليتابع دراسته في الخارج قامت قيامة العائلة علي ووصل الخبر إلى جدي الكبير فأرسل يطلبني ذهبت إليه وقد قررت أن أقف في وجهه للمرة الأولى لكن الهالة التي كانت تحيط به جعلتني أرتجف، كنت كمن ارتكب ذنباً كنت أقف وسطهم في الغرفة الكبيرة في القصر المهيب الذي هو بيت العائلة الأصلي والملاحق تتصل به، وقف أعمام والدي أو ما نطلق عليهم ألقاب الوزراء والنواب قربه فقال: اجلس يا سيف وأخبرني ما عندك . . قلت: لا شيء يا جدي فأنا فقط أريد أن أسافر لأكمل دراستي في الخارج قال: لماذا ومما تشكو جامعاتنا هنا فكل أولاد أعمامك خالاتك وعماتك الجميع درسوا هنا فلماذا أنت تريد السفر إلى الخارج، إذا كانت قصة سفر عادية لتبديل الأجواء ولتتعرف إلى بلدان جديدة وثقافات أخرى فلا بأس لك ما تشاء، لكن أن تبقى في الخارج لأعوام فهذا من رابع المستحيلات، قلت بنبرة قوية زيادة: لماذا لا أستطيع أن أكون مثل غيري فزملائي سيكملون دراستهم في الخارج وهم أقل منا ثروة ومعرفة، قال جدي: لكنهم ليسوا نحن، قلت: وما الفرق بيننا وبينهم؟ قال: العائلة وترابطها نحن يا ولدي سلسلة مترابطة وإن فقدنا حلقة واحدة منها ستنفرط، قلت: أنا فرد صغير لا أقدم ولا أؤخر فيكم دعني أذهب يا جدي أرجوك فهذا حلمي الذي أود تحقيقه منذ زمن طويل، قال: وماذا تريد أن تدرس؟ أجبته: الطب قال: ونعم الاختيار لكنني حسب علمي فإن درجاتك لا تسمح لك بذلك فأنت لست جيداً في دراستك . . صمتُّ ووضعت رأسي أرضاً فقال: لماذا صمت هل كنت تكذب علي؟ ألا تعلم بأنني أتابعكم من كبيركم حتى صغيركم؟ أنا هنا المسؤول عنكم وكل ما تفعلونه أعرفه أولاً بأول هيا قل لي الحقيقة، قلت: يا جدي أنا لا أحب طريقة حياتنا فأنا أشعر بأنني أعيش في سجن ذهبي كل شيء مؤمن لنا ولله الحمد، أنا لا أشكو من هذا لكنني أريد اختبار الحياة خارج هذا السجن أريد أن أعيش كما يعيش باقي الناس، لا أريد أن أقدم تقريراً بما أفعله لتتم الموافقة عليه . أريد أن أكون حراً في قراراتي وتصرفاتي . ألا ترى العالم كيف أصبح؟ ألا ترى كيف يعيش باقي خلق الله؟ قال: بالطبع أرى، لذلك أعلم أنهم لا يعيشون، ألا ترى المسلسلات التي تعرض عبر التلفزيون؟ ألا ترى التفكك الأسري؟ إنها آفة العصر فلا الآباء يرون أبناءهم ولا الشقيق يرى شقيقه، أصبح كل واحد منهم يعيش على هواه والأهل لا حكم لهم عليهم، ألا تسمع عن الطلاق فمن بين كل عشر حالات زواج هناك ثماني حالات طلاق، ألا ترى كيف يكره الأخ أخاه من أجل الدرهم ألم ترَ حين يدخل الغرباء بين الأشقاء ماذا يجري؟ ألا ترى المجتمع الفاسد الذي وصلنا إليه فالشيشة أصبحت في كل قهوة ومطعم والكحول يباع علناً على الطريق وبعض المناطق والأخطر من ذلك المخدرات التي تقتل شبابنا وتقضي على مستقبلهم، أنا يا ولدي لا أريدك أن تعيش تجربة من تلك التجارب لتعرف قيمة ما أفعله معكم، أنا أحاول أن أجنبكم الهّم والقهر العذاب والحزن أنا لا أؤسس للمدينة الفاضلة التي كان يتكلم عنها سقراط لكننني أحاول أن أجعلها قريبة منها قدر المستطاع وأريدكم أن تكملوا فيها من بعدي فأنا لن أدوم لكم، أرى أن مجتمعنا وحياتنا هذه سفينة نوح التي خلصت الكثير فقلت له: أنت يا جدي تساوينا بالبهائم قال: إذا كانت هذه هي العبرة التي أخذتها من كل كلامي وهذا الذي تراه فالأفضل لك أن تسافر ولا تعد نفسك بهيماً في سفينتي لكن اسمع جيداً ما سأقوله لك: إن أنت خرجت من هنا لتعيش كما تريد فاعلم أنك لن تعود فالذي يخرج لا مكان له بيننا لن نقف معك أو نساعدك، لن نساندك ولن نمد يدنا إليك، إن أردت أن ينتشلك أحد فأنت ستكون وحدك، قلت له: هذه ديكتاتورية قال:
اعتبرني ديكتاتورياً اعتبرني ما تريد لكن هذا كلامي الأخير ولن أتراجع عنه مهما كانت الأسباب قلت: لكن يا جدي أنت هكذا تصعب الأمور علي فأنا لا أستطيع العيش من دونكم أنا أريد فسحة من الحرية قال: أنت لست مسجوناً يا سيف فأنت تخرج كالجميع وتذهب أينما تريد وتسافر عندما تشاء لكن القواعد الأساسية هنا لا تتبدل ويجب أن تقبل بها لكنك انتفضت عليها فأنت لا تريد الزواج بفتاة من مجتمعنا وإن فعلت فلا تريد أن تسكن هنا وهذا شيء لن أسمح به طالما أنا على قيد الحياة انظر كم نعيش بسعادة وراحة بال تكفي سهراتنا سوياً في الحديقة الكبيرة، نحن فعلاً عائلة مثالية لا أحد مثلنا، ضحكت وقلت: في الحقيقة نعم لا أحد مثلنا فنحن لا نعيش مثل باقي خلق الله، حاول عم والدي أن يتكلم والشرر يتطاير من عينيه منذ بداية نقاشي مع جدي إلا أنه أسكته بحركة من يده وقال: اسمعني جيداً يا سيف أنا سأعطيك ستة أشهر كاملة لتفكر، سافر لو أردت السفر اذهب إلى فندق من اختيارك هنا في البلاد قم باستئجار منزل، افعل ما يحلو لك سأعطيك من المال ما يسمح لك بأن تعيش حياة كريمة كما لو أنك بيننا أو حتى أكثر، سأعطيك ما يكفيك ويزيد عليه لفترة الأشهر الستة أنت حر في أن تصرف المبلغ في يوم أو في شهر هذا يعود لك لكن في المقابل ممنوع عليك أن تتصل بنا أو تأتي لزيارتنا فأنا لا أريدك أن تتأثر بكلام أحد، أريدك أن تأخذ قرارك عن قناعة ذاتية وليس عن عاطفة، عِش الحياة التي تحلم بها ستة أشهر كاملة ومن ثم عد إلى هنا وأخبرني بقرارك وأنا سأحترمه وسأدعك ترحل إن أنت اقتنعت بحياتك الجديدة فما رأيك؟ فرحت وقلت بسرعة: طبعاً أنا موافق، ابتسم ابتسامة باهتة لم أفهم إن كانت ابتسامة سخرية أم صدمة أم أنه كان يرى أنني سأتردد قبل أن أوافق لكنني لم أقف عندها كثيراً فاقتربت منه أقبل رأسه وأشكره قال: انتبه يا ولدي لكل خطوة واحذر من عدوك مرة . . ومن صديقك مئة مرة كن حكيماً في تصرفاتك وقراراتك وعسى أن تعود وأنا لا أزال على قيد الحياة كي أموت وأنا مرتاح قلت: أطال الله عمرك يا جدي لا تتكلم هكذا، قال: إن الأعمار بيد الله يا بني هيا اذهب في أمان الله ورعايته ولا تنسَ أنك بتصرفك هذا ستكون الحلقة المفقودة التي ستبدل كل شيء .
لم أصدق وأنا أضع ملابسي وأغراضي الشخصية في حقيبتي أنني سأخرج وأعيش كما يحلو لي، كانت والدتي تبكي وكأنها لن تراني مرة أخرى ووالدي يحاول أن يثنيني عما أفعله لكنني كنت مصراً على أن أكمل للآخر ودعتهم وودعت أشقائي وشقيقاتي أعمامي عماتي أولادهم وبناتهم كانوا كلهم واقفين يلوحون لي بأيديهم والدموع تملأ أعينهم فأنا أول شخص أتجرأ وأخرج من هذا المكان إلى غير عودة، صدقوني لم أنظر إلى الوراء لم أشعر بالحزن أو تأنيب الضمير كان كل همي أن أبتعد عما كنت أعده سجن الباستيل المشهور، اتصلت بأصدقائي أزف لهم الخبر ففرحوا وقالوا: سنقيم لك حفلاً كبيراً بالمناسبة أين؟ سألتهم قالوا: في منزل أحد الشباب الذي يمتلكه على البحر ذهبت إلى الفندق وحجزت غرفة هناك لشهر قابل للتجديد وضعت حقيبتي خلعت الكندورة ورميتها بعيداً أخذت حماماً وارتديت الجينز والتي شيرت وخرجت بسيارتي أسابق الريح لأصل بسرعة إليهم وجدتهم ينتظرونني وفرحوا جداً برؤيتي كان صوت الموسيقا يصم الآذان، زجاجات الكحول هنا وهناك الفتيات شبه عاريات يرقصن على الطاولات والكنبات قلت: هذه هي الحياة فبدأت بالشرب والرقص دون خوف لأنني لن أعود إلى المنزل وأنا خائف من أنني تأخرت أو خائف من أن يشموا رائحة الكحول والسجائر، سهرنا رقصنا وشربنا حتى الفجر شعرت بالنعاس فنمت على الكنبة حتى الظهر حيث أيقظوني لنتناول الطعام الذي طلبوه من المطعم فقلت: لقد كانت سهرة رائعة شكراً لكم يا شباب قالوا: أنت لم ترَ شيئاً بعد فالليلة سيقيم سالم حفلاً آخر في منزل صديقته أكبر من هذا وأيضاً على شرفك، فرحت جداً وقلت: بعد غد أنتم مدعوون إلى الفندق الذي أقيم فيه وسنسهر في المرقص على حسابي وهكذا مر شهر على حياتي تلك سهرات جنونية كنت خلالها أعيش كما لو أنني لم أعش في حياتي، كنت أشرب بطريقة جنونية أدخن السجائر والشيشة إلى أن أعطوني أول سيجارة ملغومة بما يسمونه حشيش الكيف، فشعرت بأنني أحلّق شعرت بسعادة غامرة لم أشعر بها من قبل والسيجارة أصبحت اثنتين ثم عشراً لأنتقل بعدما تعودت عليها ولم تعد تشعرني بالنشوة إلى المخدرات فبدأت أتنشقها بأنفي كما ترون في الأفلام مر شهران وحالتي تزداد شراهة لتلك الأشياء المحرمة وفي إحدى تلك الجلسات تعرفت إلى فتاة تعيش مثلي فرّت من منزل ذويها وتعيش على الهامش ومع من يدفع لها ثمن المخدرات فأخذت شقة لأبقى فيها معها دون حسيب أو رقيب كنا نقضي وقتنا ونحن تحت تأثير المخدر لا نعي شيئاً وبدأنا مرحلة الحقن وغيرها من المخدرات التي تضرب الدماغ وتحيله إلى فراغ، نسيت أهلي ومجتمعي نسيت من أنا بدأت أتشاجر مع أصدقائي لأنهم كانوا قد بدأوا ينصحونني فقلت لهم: أنتم من عرفتموني إلى هذه الأشياء والآن تلومونني، والله لو اقتربتم مني سأبلغ عنكم للشرطة وأخرب بيوتكم، خافوا مني وحقدوا علي فابتعدوا عني، أصبحت أعيش مع الفتاة بكل ما للكلمة من معنى دون زواج دون حواجز فعلت كل ما يغضب الله والمجتمع، أصبحت في طريق اللاعودة فلم أعد أستطيع أن أبتعد عن الفتاة ولا عن السكر ولا المخدرات إلى أن أتى يوم ورفض الشاب الذي كان يمدني بالمخدرات أن يعطيني ما أريد فقلت له: لماذا أنا أملك المال قال: لا لأنك هددت بأن تفضحنا فاذهب وابحث عمن يمدك بها فنحن لا مكان للخونة بيننا وخرج، تبعته كالمجنون وبيدي سكين كبير أمسكته من رقبته وقلت له: أعطني ما أريد وإلا قتلتك، نظر إليّ وضحك قائلاً: أنت أيها الجبان السكير ستقتلني؟ هيا حاول أمسكني من يدي التي مددتها لأطعنه بها وشد عليها فوقعت مني السكين وأخذنا نتعارك بالأيدي كاد يغلبني حين وضع يديه على رقبتي وصديقتي تصرخ وتولول فصرت أبحث بيدي عن المدية هنا وهناك إلى أن أمسكتها وقمت بطعنه بكل قوتي في خاصرته فقام عني وهو يصرخ من الألم فركضت وعاجلته بعدة طعنات في قلبه وبطنه ظهره وعنقه حتى خّر صريعاً على الأرض مضرجاً بدمائه ووقعت أنا بجانبه وبقيت ممداً وأنا ألهث من التعب ثم قمت من مكاني وذهبت إلى سيارته أبحث فيها عن المخدرات .
أنا الآن أعيش في سجن حقيقي حيث حكم علي بالمؤبد لأنهم اعتبروه قتلاً عن غير عمد دون سابق تصميم وترصد وكنت في حالة تخدير لا أعرف ماذا أفعل، لم تمر علي فترة الأشهر الستة لكي أعود إلى أهلي ومعسكري إلى حيث كنت أعتقد أنه سجني، تعالوا وانظروا حالي الآن أنا منهار محطم كئيب حزين نادم تائب أتمنى العودة إلى الوراء لأصلح ما فعلته بحق نفسي أحمل ذنوب العالم فقد زنيت وسكرت، سرقت وقتلت أنا أستحق هذا العقاب وأكثر لن ألوم أحداً على ما وصلت إليه سوى نفسي لكن الذي يحز في نفسي، ويقتلني هو أن جدي قد توفي عندما سمع بما حصل معي مات الملك . . مات القائد الذي كان بالفعل الأب الحنون للجميع حاول جعل مجتمعه كالمدينة الفاضلة وكاد ينجح لولاي، كلمة ليتني لا تفيدني الآن، أما ماذا أتمنى فهو أن أرى والدّي وأشقائي وشقيقاتي وأبناء أعمامي، أتمنى أن أزور مجتمعي ولو ليوم واحد لأطلب منهم السماح وأرجو أن أكون عبرة لهم، لذلك أقول للجميع: سامحوني إن استطعتم لما سببته لكم من ألم وخيبة أمل .
منقولة من جريدة الخليج الشباب للكاتبة مريم راشد