نظرية العمران عند ابن خلدون

عمر رزوق

بيلساني مجند

إنضم
Nov 12, 2008
المشاركات
1,395
مستوى التفاعل
45







نظرية العمران عند ابن خلدون




نظرية العمران كما تصورها ابن خلدون تبدو متشبعة النواحي متزاحمة الموضوعات، عسيرة الهضم إلا إذا قرأت مع الصبر والتزام الأناة ودقة المتابعة بين فصول كتاب العمران والمقدمة، ذلك لأن ابن خلدون عميق الفكر، متدفق الإنتاج.
ويمكن تلخيص نظرية ابن خلدون في العمران في العناصر الآتية:
التاريخ خبر:
التاريخ خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو العمران البشري ومن ثم فإن تنقيته من الزيف، وتصويب أحداثه يشكلان المنطلق الأول لتصور العمران البشري، ولذلك فقد وضع ابن خلدون منهجًا لكتابة التاريخ ولتصحيح أحداث التاريخ وأخباره، يقوم على الجرح والتعديل والتحليل واستنطاق الأحداث للوصول إلى صواب الاستنتاج.
الإنسان مدني:
الإنسان مدني بالطبع، ومن ثم كان لا بد من أن يصنع مجتمعًا يجري في نطاقه التعاون على إنتاج القوت الذي يهيئ له العيش والأدوات التي تهيئ له أسباب الدفاع عن حياته، وإلا انتفى وجوده وما أراد الله من اعتمار العالم، واستخلافه فيه.
أصل العمران:
العمران البدوي أصل العمران الحضري، ولكل من المجتمعين ألوان من العادات والسلوك وأنماط في الحياة تفرضها طبيعية كل منهما، وهي في المجتمع الحضري أكثر قابلية للتطور الذي يؤدي إلى قمة العمران ثم ما يتبع ذلك من تقلص وانحسار في أحقاب زمنية متلاحقة متكررة تكاد تكون قانونًا ثابتًا.
العمران والصنائع:
لا يتم العمران، ويرقى إلا بوجود الصنائع متمثلة في الفلاحة والصناعة والتجارة، فعليها جميعًا يتوقف رخاء المجتمع ورفاهيته. وكلما ارتقت الصناعة، وراجت التجارة، وعم الرخاء وانتعش الاقتصاد كان لذلك أثره في رفاهية المجتمع البشري ورقيه وبلوغه مراحل الترف والنعيم.
العلم والتعليم:
العلم والتعليم أمران أساسيان في العمران مرتبطان به إيجابًا وسلبًا، فحيث يزدهر العمران تكاد تكون سوق العلم نافقة، فإذا لم يتوفر العلم في المجتمع صارت الرحلة في طلبه أمرًا ضروريًا، ومن ثم فحيث يزدهر العلم يرقى العمران، والعكس صحيح.
مواقع المدن:
حسن اختيار مواقع المدن والأمصار ضروري لاستدامة العمران؛ وذلك من حيث المنعة، وسهولة الدفاع عنها، ومن حيث توفر الخيرات وكثرة الأرزاق كالقرب من الماء العذب، وضمان المراعي للسائمة ومراعاة وجود المزارع حولها لتزويدها بأنواع الطعام.
ضرورة العمران:
الملك المنظم ضرورة العمران للحفاظ على المجتمع وتنظيم شؤونه وحماية الثغور، وبعث البعوث، وجباية الأموال، ودفع الظلم، ونشر العدل، وعمران الأرض، وإسعاد الناس في دنياهم، وتهيئة ما يسعد آخرتهم، وذلك بحملهم على اتباع الشريعة.
الحكم إسلامي:
نظام الحكم في العمران الخلدوني إسلامي يقوم بشئونه خليفة أو إمام يحكم بمقتضى الشريعة التي يصفها ابن خلدون، بعد أن رفض أساليب الحكم الأخرى، بقوله: ( وإذا كانت -أي الشريعة- مفروضة من الله بشارع يقررها ويشرعها، كانت سياسية دينية نافعة في الحياة الدنيا، والآخرة، وذلك أن الخلق ليس المقصود بهم دنياهم فقط فالمقصود بهم إنما هو دينهم المفضي بهم إلى السعادة في آخرتهم، صراط الله الذي له السماوات وما في الأرض، فجاءت الشرائع بحملهم على ذلك في جميع أحوالهم من عبادة ومعاملة حتى في الملك الذي هو طبيعي للاجتماع الإنساني، فأجرته على منهاج الدين ليكون الكل محوطًا بنظر الشارع ).
الملك والعصبية:
العصبية تؤدي إلى المنعة، والغلبة تسمو إلى الرياسة، والرياسة تبعث على التطلع إلى الملك، ومن ثم فإن الملك لا يقوم أصلاً بغير العصبية، ويظل قويًا بقوتها، ويضعف بضعها.
أعمار الدول:
للدول أعمار كأعمار الأشخاص، تبدأ قوية تحت قيادة منشئيها، ولا يكاد ينتهي الجيل الثالث حتى تكون قد أشرفت على الزوال. وللعمران في نطاق الدولة مرحلة تألق وازدهار تكون قمته في الجيل الثاني، ومن ثم يكون العمران البشري بكل مكوناته الأساسية والجزئية مرتبطًا بحركة الكائن الحي الذي هو الإنسان، في تطوره من حيث المولد والنمو والارتقاء والضعف والانحلال والزوال.
إن ابن خلدون يلخص هذه النقطة الأخيرة التي تشكل وحدها نظرية عنده، وتشكل قانونًا عند المعنيين بفكره في هذه الكلمات: إن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر، وإنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة وانتقال من حال إلى حال، وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار، فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول.
لقد لقيت نظرية العمران وغيرها من أفكار ابن خلدون الكثير من العناية من قبل مئات الدارسين على مستوى العالم المتحضر خلال القرنين الأخيرين سواء نطاق القبول أو المعارضة، ولكن الحقيقة التي لا شك فيها أن أحدًا قبل ابن خلدون سواء من علماء المسلمين أو غير المسلمين لم يعرض لدراسة الظواهر الاجتماعية دراسة تحليلية أدت إلى نتائج ومقررات مثل التي أدت إليها دراسة ابن خلدون.
ابن خلدون في مرآة الغرب:
لقد تابع كثير من علماء الغرب من مفكرين ومستشرقين ومؤرخين أعمال ابن خلدون ودرسوا أفكاره بإعجاب كبير، ولكن عددًا كبيرًا منهم نزع عنه صفته الإسلامية، وبعضهم الآخر جرده من هويته العربية، مستكثرين على العرب والمسلمين أن يكون منهم عالم ومفكر مثل ابن خلدون، مع وجود مئات العلماء والمسلمين أمثال ابن خلدون كل في ميدانه مثل: ابن النفيس وابن الهيثم، والبيروني، والرازي، والكي، وابن سينا، والفارابي، وغيرهم كثير.
فيلسوف التاريخ:
وقد أطلق الفيلسوف الأسباني (خوسيه أورتيجا أي جاست) على ابن خلدون لقب فيلسوف التاريخ الإفريقي، كما تعتبر المقدمة من حيث الزمن أول كتاب يؤلف في فلسفة التاريخ.
أما المستشرق الأسباني بونس بويجس Pons Bigues يؤكد أن ابن خلدون من أعظم الشخصيات تمثيلاً للتاريخ الفلسفي البعيد المدى، وينسبه إلى أصل أسباني، ويذهب المستشرق الأسباني (ريبيرا) في الفخر به قائلاً: (إن الوطن الأسباني يستطيع بحق أن ينسب إليه أعظم إنتاج تاريخي في العلوم الإسلامية).
نظرية للحضارة:
وهناك مؤرخ إسباني آخر هو رافائيل ألتاميرا Rafael Altamira يجري تعقيبات على آراء ابن خلدون في افتتاحية المقدمة ووصفه لعلم التاريخ، والشروط التي ينبغي توفرها في المؤرخ، ثم يقول: إن المقدمة هي نظرية للحضارة حقيقية وكاملة، ثم يجري بعض التحفظات على المغالاة في تقدير قيمة ما أسماه بابتكارات ابن خلدون، ولكنه يصف ابن خلدون بأنه قوة عقلية جبارة، ومخترع عبقري، يبني فوق سوابق ضئيلة عمل هو في معظمه جديد.
ويضع (استيفان كلزيو) ابن خلدون في مقدمة فلاسفة التاريخ والاقتصاد والاجتماع على حد سواء، يقول: (إذا كانت نظريات ابن خلدون عن حياة المجتمع المعقدة تضعه في مقدمة فلاسفة التاريخ، فإن فهمه الدور الذي يؤديه العمل والملكية والأجور يضعه في مقدمة علماء الاقتصاد المحدثين، كما استطاع في العصور الوسطى أن يكتشف مبادئ العدالة الاجتماعية والاقتصاد السياسي قبل كونسيدران الفرنسي الاشتراكي (1808-1893) وكارل ماركس الألماني (1818-1883) وباكونين الاقتصادي الاجتماعي الروسي (1814- 1876)
مكتشف ميدان التاريخ:
ويفرد ناتانيل شميث N.Schmid الأستاذ السابق بجامعة كورنل بأمريكا دراسة عن ابن خلدون كمؤرخ اجتماعي وفيلسوف، ويرى إمكان وضعه في صف مؤرخين عالميين مثل تيودور الصقلي ونقولا الدمشقي، وتروجويومبيو من مؤرخي القرن الأول الميلادي، أو جاتيرر وشلستر من مؤرخي القرن الثامن عشر.
كما يقرر شميت أيضًا أن ابن خلدون هو الذي اكتشف ميدان التاريخ الحقيقي وطبيعته، وهو أول من استطاع أن ينظر إلى التاريخ كعلم خاص يبحث الحقائق التي تقع في دائرته، بل إن أحدًا غير ابن خلدون لم يقل إن التاريخ علم خاص موضوعه بحث جميع الظواهر الاجتماعية في حياة الإنسان، ثم يستطرد قائلاً: إن ابن خلدون برغم طابعه الإسلامي، فهو فيلسوف مثل أوجست كونت وتوماس بكل، وهربرت سبنسر.
ويكتب المؤرخ الألماني ( فون فيسيندونك Von Wesendonk بحثًا عن ابن خلدون في مجلة دويتشه رونتشاور بعنوان: ( ابن خلدون مؤرخ الحضارة العربي في القرن الرابع عشر) يقرر فيه أن أبن خلدون من أصل عربي نزح إلى الأندلس، ويشيد بالمبادئ التي توصل إليها، والتي يرى أنها تدعو إلى التأمل الصادق الدقيق، ثم يقول: ( يقف مؤرخ الحضارة الإسلامي العظيم وحيدًا في المشرق لم يعقبه خلف، ولم ينسج على منواله ناسج، ويستطرد قائلاً: وتدوي ميول المفكر السياسي الإفريقي في معترك الحوادث مهما كانت وجهتها دويًا يتردد صداه في عالم عصرنا).
عمل الحياة:
ويتحدث المؤرخ البريطاني الشهير المعاصر آرنولد توينبي Arnold Toynbee عن ابن خلدون حديث الثناء والإعجاب بشخصه وريادته العلمية، يقول توينبي عن ابن خلدون: ( إنه آخر عضو من نجومنا المؤرخين)، وأطلق عن المقدمة، باعتبارها العمل الجليل الذي قام به ابن خلدون (عمل الحياة)، وكما يبدو أن آرنولد توينبي الذي شن حملة شعواء على الحضارة الإسلامية قال بحتمية التاريخ متأثرًا بقانون السببية عند ابن خلدون، ولكنه لم يشر إلى ذلك.
وتقف باحثة روسية معاصرة هي (سيفيتلانا باتسييفا) من ابن خلدون وفكره موقف الإعجاب والانبهار من حيث منهجه التاريخي، وهدفه منه، وتبدي رأيها على هذا النحو: هدف ابن خلدون أن يجعل من التاريخ وعاء ضخمًا يستوعب سائر ما يحدث في العمران، وهو ما تسعي إليه المحاولات الحديثة في كتابة التاريخ، تلك النزعة التي تجلت في المؤتمر الدولي للتاريخ الذي عقد في باريس سنة 1950م، وبها التزمت المجلة التاريخية الفرنسية. وتمضي الباحثة الروسية قائلة: ( ويكفي ابن خلدون فخرًا أن يكون حدسه ألهمه هذا التصور العريض للتاريخ، وهداه إلى رسمه كفاية عبر عنها بدقة مدهشة سابقة لعصره وإمكاناته).
ومن علماء الغرب الذين درسوا ابن خلدون من فطن إلى أثر الإسلام في فكره، وربط بين شخصه وعقيدته الدينية ربطًا واضحًا مباشرًا، ومن هؤلاء الباحثين العالم الاجتماعي المرموق ( لفيج جمبلوفتش) الذي يعلي من قدر ابن خلدون ويسجل له قصب السبق في ابتكار علم الاجتماع على شخصيات كبيرة من أمثال ( كونت وفيكو) يقول جمبلوفتش: ( لقد أردنا أن ندلل على أنه قبل أوجست كونت، بل قبل فيكو الذي أراد الإيطاليون أن يجعلوا منه أول اجتماعي أوربي، جاء مسلم تقي، فدرس الظواهر الاجتماعية بعقل متزن وأتى في هذا الموضوع بآراء عميقة، وإن ما كتبه هو ما نسميه اليوم علم الاجتماع ).
أما المستشرق البريطاني هاملتون جيب يقرر أن ابن خلدون أنه كان من كبار علماء المسلمين، ومن الشخصيات المرموقة في مذهب الإمام مالك، وأنه على سعة أفقه لم يصدر رأيًا وحدًا يجافي تعاليم الإسلام بل إن مفاهيمه المتطورة كانت تطويعًا للمجتمع من منطلق روح المبادئ الإسلامية.
وهكذا نجد كيف استطاع ابن خلدون بفكره الفذ ونظرياته العبقرية أن ينال كل هذا الاعتراف من كبار مؤرخي العالم وباحثيه على عبقريته وابتكاراته وسبقه لعلماء الغرب فيما ابتكره في التاريخ والسياسة والاقتصاد والاجتماع.












 
أعلى