mr_ops
بيلساني محترف
- إنضم
- Jan 12, 2010
- المشاركات
- 2,777
- مستوى التفاعل
- 38
- المطرح
- شامي
وماتت أمي
تقول الصديقة متحدثة عن نفسها: شخّص الطبيب الداء ووصف الدواء، محذراً الأم من مواصلة الحمل . لا بد من الإجهاض لإجراء عملية جراحية خطيرة على القلب وفريدة من نوعها آنذاك، نسبة نجاحها ضئيلة جداً . كانت الأم في حيرة شديدة من أمرها، بين موت الجنين أو موتها أو موتهما معا، عاطفة الأمومة التي تدخلت لإنقاذ الجنين من مخالب الأطباء، تجبر الأم على التمسك بحملها مهما حصل . حاول الطبيب إقناعها لكنها رفضت بشدة وسلمت أمرها لله مادام الموت آتياً لا محالة .
تقول الصديقة متحدثة عن نفسها: شخّص الطبيب الداء ووصف الدواء، محذراً الأم من مواصلة الحمل . لا بد من الإجهاض لإجراء عملية جراحية خطيرة على القلب وفريدة من نوعها آنذاك، نسبة نجاحها ضئيلة جداً . كانت الأم في حيرة شديدة من أمرها، بين موت الجنين أو موتها أو موتهما معا، عاطفة الأمومة التي تدخلت لإنقاذ الجنين من مخالب الأطباء، تجبر الأم على التمسك بحملها مهما حصل . حاول الطبيب إقناعها لكنها رفضت بشدة وسلمت أمرها لله مادام الموت آتياً لا محالة .
وهكذا ظل نموي يضاعف المرض ويزيد من آلام أمي، وقلبها يتلهف لخروجي من الجسد الذي يحويه، فسئمت مرارة الأدوية التي تصلني يومياً عن طريق الحبل السري القاسي، وقررت الخروج ذات يوم في عز الربيع . فغادرت الرحم المظلم إلى غير رجعة، وسارع الأطباء إلى استئصاله حتى لا يسكنه جنين بعدي، رأيت النور لأول مرة في حياتي، وأحسست بالغربة بين الحضور في غياب أمي انتظرتها طويلاً لكن دون جدوى، أدركت حينها أنني خرجت إلى عالم لا يعرف الرحمة وأنني سأحيا غريبة أنتظر السعادة مدى الحياة، دون فائدة . كنت أسمع حينها كلاماً غريباً لا أفهم معناه آنذاك، أحسست بالخوف الشديد واحتجت لحضن أمي حتى يذهب عني كل ذلك الشعور الموحش، لكنها لم تفعل . شعرت بالجوع والعطش، فقررت إعلان ذلك بالبكاء حتى أفوز بحضنها الدافئ، وهنا اقتحمت مسامعي كلمات أقسى من التي كنت أسمعها قبل خروجي إلى الدنيا . كان ذلك الصوت مألوفاً لأنه صوت الطبيب الذي مازال يلاحقني ليحرمني الآن من حق الرضاعة الطبيعية . ياله من يوم سيّئ! تعلمت فيه الحقد على كل الأطباء، ظناً مني أنهم لا يرغبون في وجودي بينهم في هذا العالم الخطير، وأحسست أنني مخلوق غريب ترفضه الدنيا وتنفر منه القلوب .كانت الممرضة أرحم من الجميع، حيث حملتني بلطف لكنها أبعدتني هي الأخرى عن أمي، ثم أهدتني حقنة مؤلمة جعلتني أفقد الثقة بكل من كانوا حولي . وأدركت أنه لا أحد يعوضني أمي . أخرجوني من تلك الغرفة محبطة مكسورة القلب .
لكن أبي تدخل ليحملني بين ذراعيه مبتسماً في وجهي، فرحاً مسروراً بوجودي معه لأنني سأقود معركة الحياة إلى جانبه . ارتحت له كثيراً، خاصة بعدما رفض تسليمي لبعض النسوة اللاتي رغبن في التكفل بي، وقرر رعايتي بمفرده . فتناسيت نبع الحنان وصدر أمي .
كنت أرغب في إخباره بكل ما جرى لي إلا أنني لم أستطع النطق، فسمع شكواي من خلال نظراتي البريئة، التي ترجمها ذكاؤه الحاد، فغمرني بحبه وعطفه وحنانه إلى أن عادت أمي بعد أيام إلى البيت لتعيد لي الأمل من جديد، لكنها لم تكن قادرة على حملي بين ذراعيها بسبب مرضها الشديد، وسرعان ما ساءت حالتها فعادت إلى المستشفى من جديد . وظلت صحتها في تدهور مستمر تسوء من يوم لآخر ترضعني أحياناً بعض قطرات الحليب الممزوجة بالأدوية المسمومة التي تؤذي معدتي، دون قصد منها . تصارع المرض من أجلي، وتقاوم كي تراني أكبر وأقوى على تحمل اعباء الحياة، إلى أن خارت قواها وفقدت وعيها تماماً، عندها جاء اليوم الموعود فسافرت إلى أوروبا لإجراء العملية التي قد تودي بحياتها، أو تعيدها إلينا شبه سالمة . تجمع الأهل والجيران والأصدقاء لتوديعها في فصل الثلوج .
كان البرد شديداً في غياب دفئها بعدما ودعتني وعيناها مغرورقتان بالدموع، لأن الحمى الشديدة استحوذت على جسدي الصغير آنذاك وجعلتني أهذي، وقد أموت في أية لحظة . حاولت منعها من السفر لكن دون جدوى، بينما كان بعض الجيران يتمنون موتي بدلاً منها لأنني صغيرة ولا فائدة من وجودي، وأبي فقط يدعو لنا بالنجاة .
وأخيراً بعدما تملكني اليأس، عادت أمي إلى البيت بعد شهرين كاملين، وقبل عيد ميلادي الثالث بثلاثة أشهر، فكان ذلك أسعد وأتعس يوم في حياتي، حيث بلغني أنها شفيت تماماً فركضت نحوها مسرعة لتهديني ضمة قوية لن أظمأ بعدها أبداً ولن تتركني بعد ذلك، لكنها لم تفعل وأهدتني دمية رفقة ابنتها كي أنشغل بهما عنها وقبلتني بهدوء بعدما استلقت على سريرها، لأنها لا تقوى على القيام بالكثير من الحركات . استغربت تصرفها وأحسست أنها لم تعد تحبني فرميت الدميتين، وبقيت أصر على طلبي لها كي تضمني وتحملني بين ذراعيها كما تفعل كل الأمهات، فأهدتني مجموعة من الملابس الفاخرة، لكنني رميتها وبقيت أرجوها وألح عليها أن تضمني ولو للحظات فقط . حاولت تهدئتي لكن عنادي وبكائي الشديد ولومي لها، جعلها تنزف دمعاً أحمر، ووقعت مغمى عليها لشدة تأثرها بمنظري، فتأثر البعض بالمشهد وعاتبني معظم الحاضرين . ندمت كثيراً على تصرفاتي معها، واقتربت منها لأوقظها معتذرة، فلفت انتباهي آثار العملية الجراحية الشبيهة بخطوط السكة الحديدية، ففزعت فزعاً شديداً وأجهشت بالبكاء وابتعدت عنها، بينما التف حولها إخوتي وأخواتي يبكونها، وينظرون إلي بعين الشفقة، ولم يقو أحد على تفسير ذلك لي، رغم تساؤلاتي في ما بعد عما حدث وما الذي سيحدث لأمي؟ فبقي ذلك المشهد المؤثر يطاردني في اليقظة والأحلام إلى اليوم، وهجرني قلب أمي إلى الأبد بعدما استبدلت صماماته الرقيقة الحنونة بأخرى ذهبية لا تعرف الرحمة أو الشفقة أبداً .
وتم غلق أبواب قفصها الصدري في وجهي بإحكام، ليستقبلني قلب أبي الحنون بصدر رحب مرحباً بوجودي بين مجتمع الرجال، حيث تولى شؤوني إلى أن تشفى أمي، هكذا كان يواسيني لينسيني وأنا أصدقه، بينما كانت هي تقضي معظم وقتها في المستشفيات . وتطورت الانتقادات من نظراتي الحزينة إلى ما هو أقسى، حيث شبهني الجميع بالرجال في طريقة كلامي وتعاملي ودفاعي عنهم باستمرار وحقدت علي بنات جنسي، يستغربن تصرفاتي ثم يسألنني عن سبب ذلك، فأعجز عن الإجابة وأهرب منها أجتر ذكرياتي الأليمة، رغم أنوثتي البريئة بين كيدهن .
وذات يوم رجعت من المدرسة فوجدتها في البيت، قد عادت شاحبة الوجه قليلة الحركة والكلام كعادتها، تشكر الله باستمرار على ما ابتلاها به . سارعت إليها أقبّلها وأتلهّف لحضنها لكنّني سرعان ما فقدت الأمل بعدما نظرت إلى آثار العملية الّتي مازالت تقف حاجزاً بيني وبينها، فابتعدت عنها أخفي دموعي حتى لا تتأذّى حزناً عليّ . كان ذلك بمثابة خيبة أمل أخرى تلتها أخريات .
قضت أمّي ذات مرّة فترة طويلة في المستشفى، وازداد شوقي إليها، فلم أعد أشتهي الطّعام، أو أيّ شيء يسرّ الأطفال في مثل سني، كنت حينها أدرس في الصفّ الثّالث إبتدائي . وكان أبي وحده يحسّ بكلّ صغيرة وكبيرة تحدث لي، فحاول أن يعوّضني ببعض الهدايا والأوراق النّقدية مدعياً أنّ أمي أرسلتها لي، وأنّها بصحة جيدة، لكن دون جدوى، كنت أكتم كلّ أسراري وأفكاري داخل قلبي الصّغير، فلم يعد يتسع لهموم تكبره بأعوام وبدت ملامح الحزن والكآبة على وجهي، عندها أجبرت على زيارة الطبيب، بعد عنادي الشديد وأنا جد حاقدة عليه لأنه طبيب والأطباء حرموني من أمي . وما إن دخلت عليه وألقيت التحية حتى انتقد هو الآخر نظراتي الحزينة مما أثار غضبي، لكنه نصح بزيارتي لأمي في أقرب وقت، أحببته كثيراً في تلك اللّحظة لأنّه أدخل السّرور إلى قلبي، ووصف لي أفضل علاج فحقّق حلمي في لمح البصر، وهكذا تغيّرت نظرتي تجاه الأطبّاء .
سافرت إلى المستشفى في يوم إجازتي المدرسية وأنا في قمّة السعادة، عازمة على إحضار أمّي معي إلى البيت، وأن آخذ منها وعداً على أن لا تتركني وحدي أبداً، بينما سافرت زميلاتي كلّ مع والديها للنّزهة في حدائق الألعاب والتّسلية . وصلنا إلى المستشفى فدخلت مسرعة أبحث عن أمّي وأناديها لعلّها تستقبلني، لكنّ الحارس أوقفني وصاح في وجهي: ممنوع دخول الأطفال حزنت كثيراً وتجمّدت في مكاني بلا حراك، إلا أنّ أحد أقاربي تدخّل فاستبشرت لمّا أراه تسريح الطّبيب الشّخصي الّذي سمح لي بزيارتها، واشتدّ النّقاش بينهما وأنا أراقب وأبكي بصمت رهيب يمزّق قلبي بين يأس وأمل لرؤية أمّي، ثمّ تدخّل بعض أفراد أسرتي لكنّه ظلّ متمسّكاً برأيه ليفوز في النّهاية، فدخل من دخل، وبقيت حزينة أقاوم دموعي وأفكّر في طريقة للانتقام منه، عندها أشفق عليّ أخي واصطحبني إلى حديقة الحيوانات، والتّسلية فتظاهرت بالرّضى حتى لا يذرف دموع الشّفقة ولا يراني ضعيفة .
بينما كنت أحسّ بضيق شديد وحزن يشنقني، أرغب في العودة إلى البيت في أسرع وقت لأخبر أبي بكل ما جرى . كان الحقد يملأ قلبي على الأطفال الموجودين رفقة أمّهاتهم بل حتّى على الحيوانات الّتي لها أمّ ترعاها . رغبت في الصّراخ والبكاء بأعلى صوتي لكنّني قاومت بشدّة لأبدو قوية .
في المساء عدنا إلى البيت وليتني لم أعد سألت عن أبي فبلغني أنّه نقل إلى المستشفى، وسيبقى هناك لمدّة طويلة يتلقّى العلاج، كان ذلك الخبر صاعقة قضت عليّ نهائياً، بينما الكلّ يستعدّ ويتهيأ لاستقبال العيد . لكنّ أبي عاد بعد عشرة أيام بعدما فقد بصره نهائياً، وعادت أمّي بعد ثلاثة أشهر، وبقي هذه المرّة كلّ منهما يتردّد على المستشفى من حين لآخر .
مرّت الأيام والأعوام وبدأت حالة أمّي تتحسّن يوماً بعد يوم، بينما تسوء حالة أبي إلى أن أصبح عاجزاً تماماً عن المشي، يقضي وقته على كرسي متحرك، أو مستلقياً على فراشه، بسبب ما تعرّض له من معاناة أيّام الاستعمار . استيقظت ذات يوم في وقت مبكّر على غير عادتي في أوّل أيام الدّخول المدرسي، فوجدت أمّي قد توضّأت وأدّت صلاة الفجر كعادتها، أدّيت الصّلاة والسّعادة تغمرني لأنّني سأذهب لأوّل مرّة في حياتي إلى الدّراسة مرتاحة البال فأمّي ستشفى قريبا، لكنّ حالة أبي تؤذيني وتؤلمني كثيرا، شكرت الله على ما أعطى، وما أخذ وبدأت أرسم لحياتي أحلاماً وردية بين أحضان أمّي واستلقت هي على فراشها مستقبلة القبلة، كما تفعل دائماً، خشية أن يباغتها الموت، تقرأ أذكار الصّباح فرحت كثيرا، وأدركت أنّها شفيت تماماً وفرحت هي الأخرى بأدائي للصّلاة في وقتها، كانت خالتي تجلس بجانبها فقد جاءت لزيارتنا وقضينا معاً ليلة ممتعة، بمثابة الاحتفال بتماثل أمّي للشّفاء، وأخيراً رقّ قلب أمّي ولم يعد يرفضني .
اقتربت منها أسألها إن كانت تريد منّي أية خدمة . فنظرت إليّ مبتسمة، ثمّ رفعت سبّابتها اليمنى ونطقت بالشّهادتين، ولم تردّ على سؤالي، بادلتها ابتسامة رقيقة وأعدت السّؤال نفسه لكنّها أغمضت عينيها، ولم تردّ كما تفعل في الكثير من الأحيان عندما تشعر بالتّعب، حيث كانت قليلة الكلام تكثر من الذّكر وقراءة القرءان . فتركتها لتنام ومشيت بضع خطوات نحو غرفتي أجهّز نفسي للذّهاب إلى الدراسة، وكلّي لهف وشوق للعودة إلى البيت كي أنعم بالحديث معها لعلّني أستفيد من نصائحها، وحكمها الرّائعة .
لكنّ خالتي صاحت تقاطع حلمي الجميل . وهي تنادي أختها الوحيدة، وترجوها ألا تغادر الحياة في هذه السّن المبكرة، فكلّنا بحاجة إلى رعايتها . التفتت إليها مندهشة، فوجدتها تنظر إليّ بعينين دامعتين نظرة بعيدة المدى فسّرها مستقبلي الجريح، لم أصدّق ما أرى وعمّ الصّراخ بيتنا . . لقد ماتت أمّي، وضاعت كلّ آمالي بها، شعرت بهمّ، وغمّ وإحباط يعجز قلمي عن وصفه، واسترجعت شريط الماضي المرير، في لمح البصر تجمّدت في مكاني لا أدري ماذا أفعل؟ وأين أذهب؟ وكيف أمضي؟ وإلى أيّ مدى سأظل أخسر بعد طول الإنتظار؟ و . . . و . . . و . . . واسودّ العالم من حولي .
صدمة عنيفة قضت على ناطحات أحلامي الّتي بنيتها خلال خمسة عشر عاماً، أمّي الّتي كانت تحدّثني قبل لحظات ترحل فجأة، وأنا في أمسّ الحاجة لنصائحها، لطالما وعدتني بأن لا تتخلّي عنّي أبدا وها هو الموت يخلف وعودها . لقد كان قلبها يخدعنا ويوهمنا أنها شفيت ليتوقف دون سبب . تدخّل أبي لمواساتي لكنّني لم أعد أثق به، بعدما اعترف لي أنّه كان يخفي عنّي علمه بأنّ قلب أمّي عقد اتّفاقية إعدامها مع الأطباء بعد مضي عشرة أعوام على العملية الجراحية الخطيرة، الّتي ظلّت شبحاً يهدّدنا إلى أن دمّرت بيتنا الجميل وحوّلته إلى آثار وركام وأطلال . . كان هذا السّر يؤرّق أبي منذ أعوام إلى أن جاءت سكرة الموت . وفعلاً توقّفت الصّمامات الاصطناعية عن عملها لكن بعد اثني عشر عاماً ربما تحدياً للاتفاقية الشّريرة أو رأفة ورحمة بقلبي البريء . وما هي إلا لحظات حتّى اكتظ بيتنا الفسيح بالأقارب والأصدقاء والجيران، وعمّ النّواح المكان فخيّم الحزن على أرجائه، كنت أتأمّل أبي مقعداً على كرسيه مطأطئ الرّأس، واضعاً يده على جبينه مستغرقاً في التفكير يحاول إخفاء حزنه، والتّكفير عن ذنبه لأنّه أخفى عنّا الحقيقة المؤلمة الّتي تحدّد عمر أمّي، بينما تبعثرت أخواتي في مختلف أنحاء البيت . كما تتناثر أوراق الشّجرة في فصل الخريف، كلّ تندب حظّها وحظّي . وحظ أبي المريض وأمّي الّتي عاشت في صراع مع المرض، ولم تنعم بحياتها منذ وعيت على الدّنيا .
تحجّرت الدّموع في عينيّ، فقاومتها باستمرار، ومزّقني سكّين الألم وأحسست بفراغ كبير، فكرهت الدّراسة ولم يعد لها معنى في حياتي، أفكر في المستقبل بعد غيابها تارة، وتارة أغرق في ذكريات الماضي حين كانت نوبات الإغماء تهدّد أمّي من حين إلى آخر، حيث الكلّ منشغل بنفسه، وأنا وأختي نعيش أحداث الرّعب في كلّ ليلة خوفاً عليها من الموت، بينما أبي يقاوم المرض في المستشفى فيرقّ قلب الجيران، ويشاركوننا ذرّة من المعاناة، ثمّ يعود كلّ إلى بيته وهكذا قضت أختي مراهقتها بصحبة طفولتي الشّجاعة .
وسرعان ما يقاطعني صوت بكاء الحاضرين، يؤّكد لي موت أمّي . فأهيم بين ينابيع الأحزان، الّتي تصبّ في بحر قلبي . لقد رحلت أمّي هذه المرّة لم يغم عليها كما في السّابق، انطفأت شمعة الأمل الّتي كانت تزوّدني بوقودها لأحقّق حلمي وحلمها كلّما ناولتها الدّواء في وقته المحدّد، ثمّ أسألها ببراءة عن جملة تحيّرني: ''يمنع ترك الأدوية في متناول الأطفال''، فتحدّق بعيني ثمّ تهديني تنهّدات، تخفي وراءها الكثير، وتحثّني على الاجتهاد في دروسي أكثر لأصبح طبيبة المستقبل، وليجعل الله شفاءها على يدي، رحلت أمّي الّتي شغلها المرض على الحديث معي ونصحي طيلة تلك الأعوام وتركتني في أوهام . . رغم أنّني كنت أقضي معظم وقتي معها أو مع أبي أحرسها من الموت ظنّاً منّي أنّ ذلك يطيل في عمرها، حتّى وهي نائمة كنت أستعمل المنبّه كي أستيقظ، وأطمئن عليها من حين لآخر في أوقات متأخّرة من اللّيل . رحلت ولم تنعم بملّذات الحياة . . أو طعم المأكولات . . رحل الكنز الّذي طالما حافظنا عليه بتحمّلنا أعباء الحياة، ومسؤولية البيت والأسرة ونحن في مراحل الطّفولة حتّى لا نخسر قلب الأمّ ونبعد عنه الصّدمات، والإزعاج والعصبية، والنّكبات، والهموم الّتي كثيراً ما تقاسمناها معاً، بدل اقتسام قطع الحلوى والألعاب، كما يفعل الأطفال السّعداء . سافرت إلى غير رجعة وتركتني أصارع المراهقة، على بساط الألم ووسادة الماضي، فبقيت أهيم بلا مرشد ولا قائد، أمّي الّتي لم أنعم بدفء حضنها يوماً، تتركني فريسة بين هذا وذاك، أمّي الّتي ضحّت من أجلي ولم تجهض ترحل من أمامي وأنا مكتوفة الأيدي لا أستطيع إنقاذها، أمّي الّتي طالما وعدتني بالعودة إلى البيت كلّما توجّهت إلى المستشفى لم تعدني بشيء اليوم، رحلت ولم توص أبي وإخوتي الاعتناء بي كما تفعل دائماً ريثما تعود لأنّها لن تعود هذه المرّة . خسارة لا تعوّض بدأت أستوعبها، وأستعدّ لاستقبال فصل الشّتاء، وبرودة الطّقس . أفكّر في أمّي كيف تقضي أوّل ليلتها بعيدة عنّا، بلا فراش ولا غطاء دافئ، ولا أطفال يتفقّدونها من حين لآخر في ساعات متأخّرة من اللّيل، ولاحقني انتقاد جديد بعنوان المتشائمة .
كلّ هذا لم يحرّك ساكناً في النّفوس الحقيرة، حيث شيعت الجنازة، وبدأت البلبلة ونظرات الشّفقة توجّه نحونا، كلّ ترمينا برماح كلامها القاتل الّذي لا يوحي بالخير . بينما انشغل بعض الرّجال بتحريض أبي وتشجيعه على إعادة الزّواج من امرأة تسعده بعدما يشفى، لكونه مازال شابّاً في نظرهم ولا ينقصه المال، وتحوّل بيتنا مع الأيّام إلى مكان للتّجمعات النّسوية، ونشر الفتنة والنّميمة بيننا لتفريقنا، وفعلاً نجحوا في تحقيق بعض ما يطمحون إليه، لكنّهم لم يفلحوا مع أبي الّذي ظلّ وفيّاً لأمّي ولنا إلى أن فارقنا ولحق بها .
نقلا عن الكاتبة الاخت مريم راشد من جريدة الخليج الشباب