*ياسمين الشام*
بيلساني مجند
- إنضم
- Nov 29, 2009
- المشاركات
- 1,499
- مستوى التفاعل
- 19
- المطرح
- بَيْن ثَنَـآآيآآ اليـآآسمِـينْ
الآن يمكننا تذكر تلك الفتاة التي لم تبلغ الثامنة عشرة من عمرها تقف أمام كاميرا «خلدون المالح». فبنت الصالحية المأخوذة بهواية التمثيل أدركت من اللحظة الأولى أن التحدي سيكون كبيراً في مغامرة ستحسب لها طويلاً، فـ«نجاح حفيظ» أو «فطوم حيص بيص» ستعلن منذ البدء في ذاك الفندق الخرافي المدعو بـ«أوتيل صح النوم» أنها نموذج لامرأة دمشقية خلعت أبواب حارتها، خرجت فجأةً في تظاهرات النساء ستينيات القرن الفائت لتقول على الملأ انها خارج النموذج التقليدي لتلك المرأة القابعة في حرملكها القديم، ليس هذا وحسب، بل هي «فطوم» المرأة التي يشتغل عندها الرجال والجميع يأتمر بأمرها.
هذا الكاركتير الدافق بصدقه وحساسيته الخاصة لم يكن ليأتي من فراغ، إنما كان تحدياً صارخاً لكل أشكال القمع والذي مورس على المرأة العربية، خصوصية لافتة خاضتها السيدة «نجاح» دون إثارة جلبة من شعارات أو مبالغة في الأداء، إنها هكذا صادقة وعفوية، امرأة ذات سلطة واستقلالية، طيبة القلب رغم أنها حائرة بين حيص وبيص، ورغم أننا لا نعرف الكثير عن هذه المرأة التي ظهرت لماماً في أفلام سينما القطاع الخاص، إلا أنها كانت على الدوام وجهاً وصوتاً لا يتكرران إلا نادراً، وهي مزيج من الفكاهة والأسى، الطرافة في لكنة الصوت وجرسه وهي تنهر «غوار» و«ياسين» متوددة إلى «حسني البورظان»، فهذا الأخير كان مثالاً هادراً لكوميديا سنفتقدها طويلاً.
لم يكن شغل «حفيظ» على الكاركتر بعيداً عن شغلها على بناء الشخصية، ولا أبالغ في القول إذا ما اعتبرت أن النمط الذي قدمته هذه الممثلة القديرة اقترب وبشكل نهائي من تحويل الكاركتر إلى شخصية، أجل يمكننا قراءة ذلك في اللقطات القريبة لوجه «نجاح»، إيماءاتها الذكية لكاميرا الأبيض والأسود، وموهبتها في التنقل بخفة غير معهودة من المضحك إلى المبكي، دون الإخلال بجودة الأداء ومقامات الصوت، أسلوب نادر في المعايشة الحقيقية للدور آخذةً بيده إلى غنى إنساني خاص، فمن يتذكر شخصية الأم التي قدمتها «حفيظ» مراراً وتكراراً أمام مايكروفون الإذاعة، أو حتى في مسلسل «دمشق يا بسمة الحزن» سيعرف أن هذه الصالحانية جاءت إلى الفن بحساسية غاية في الفرادة، ورغم تنحي هذه القامة وغيابها المتقطع عن ساحة الدراما السورية إلا أنها في كل مرة تثبت للجميع أنها جديدة وصادمة في آن معاً، لكن هل ظلم الكاركتر «نجاح حفيظ»؟ هذا ما أستطيع تحميل مسؤوليته لذهنية المخرجين الجدد الذين لم يستوعبوا حتى الآن أن رحيل الفنانين الأول ورغم إطلالته عبر الكاركتر إلا أن هؤلاء أغنى بكثير من الذي ينمطونه حتى للممثلين الجدد، وأكبر دليل على ذلك أن معظم المخرجين السوريين لا يغامرون خارج النمط الذي يشكله هذا الفنان أو ذاك، لذلك نرى ملابساً جاهزة على الدوام في كل مرة يوزع فيها هؤلاء المخرجون أدوارهم، ولا ريب في أن تكون «حفيظ» من الممثلات اللاتي تم إقصاؤهن عبر التنميط المزمن الذي تمارسه عقلية تفتقد للرؤية الفنية، ولا داعي الآن لذكر أمثلة على محدودية الرؤية التي تتحول يوماً بعد آخر إلى ما يشبه الأفكار المسبقة وعديمة الحيلة.
من يتذكر اليوم أغنية «غوار الطوشة» في زنزانة «أبو كلبشة» نهاية مسلسل «صح النوم» سيعرف أن «فطوم» تحولت إلى أيقونة للصورة السورية المعاصرة، إنها واحدة من النساء القلائل اللاتي شكلن مثالاً تاريخياً للتنوير بعيداً عن السلفية الاجتماعية التي ترسيها اليوم مسلسلات البيئة الممولة نفطياً، وهذا ما يفسر لنا ابتعاد «حفيظ» عن أعمال على نحو «باب الحارة»، «أهل الراية» أو سواها، فـ«فطوم» الجالسة الآن وراء كونتوار فندقها الخرافي، لاتزال في انتظار نزلائها الاستثنائيين، والغرف ما زالت تذخر بأصواتهم التي تركوها بين جدرانه، من النحات «رياض نحاس» الذي يريد إنطاق الحجر، إلى الصحفي «نهاد قلعي» الذي يريد أن يعرف ماذا حصل في إيطاليا كي يعرف ماذا حصل في البرازيل، وماذا حصل يا جماعة بهؤلاء النزلاء الذين تحولوا بقدرة قادر إلى بلطجية في أعمالنا الدرامية
التعديل الأخير بواسطة المشرف: