«جزيرة» تحدُّها دماؤنا من جهات القتل الأربع

DE$!GNER

بيلساني محترف

إنضم
Apr 4, 2011
المشاركات
2,637
مستوى التفاعل
44
المطرح
بين الأقلام والألوان ولوحات التصميم

الدم المتسرب من شاشة التلفزيون في صالون بيتي العشوائي المخالف للأمل وللمدينة، كان يزداد كل يوم، فبغير توقف كانت قطرات الدم ترشح من بلور الشاشة،.
تنقّط رويداً رويداً على سجادة الصالة، بداية الأمر كنتُ أظن أن القصة ربما تعود إلى صدأ في أحشاء تلفزيوني السيرونيكس، لكنني اكتشفتُ أن الحكاية ليست حكاية صدأ، فاتجهتُ فوراً إلى محاولة معرفة منابع الدم الذي بدأ يتحول من نظام الريِّ بالتنقيط إلى نظام الرش، إذ طفقتْ في الفترة الأخيرة نوافيرَ حمراء من الشاشة ومن علبة المفاتيح، وصارت الصور كلها حمراء بطريقة تبعث على الدهشة. كانت الدماء تتصاعد من رأس جهازي الكهربائي كلما أدرتُ التوليف على قناة «المجزرة» فنشرات أخبارها العاجلة كانت قانية باستمرار على نحو فاقع للغاية، حتى خلتُ أنها في عيد حب دائم, لم يكن حبها شيوعياً، على الإطلاق, بل كان دموياً بامتياز، نوافير الدم هذه كانت تنبلج من كلمة «خبر عاجل» عن موتى يقضون في شوارعٍ عربية، عن موتى يجوبون الأحياء قبل أن يتحولوا بإيعازات خفية إلى مادة أولية للونها المفضل، فالمطلوب حسب ما طالعت عن قواعد الإعلام الهوليودي هو ثماني عشرة ساعة من العنف المتواصل، وبأي ثمن كان..
نوافير الدماء كانت تتصاعد من «نافوخ» تلفزيوني القديم دونما توقف، ولذلك حاولتُ أن أضع طِستاً تحت طاولة التلفاز منعاً من تسربها إلى الغرف الأخرى، لكن وبعد استخدامي لكل الأواني الفارغة المتوافرة لدي في البيت، فكرتُ في طريقة أخرى لتوزيع الدم بحيث لا ينتقل إلى طوابق البناء وشقق الجيران المجاورة، وبالفعل قمتُ بحفر مصبات لأقنيةٍ و مساكب تنظم حركة الدماء المتدفقة من الشاشة، حتى إذا أنهيتُ هذا العمل أكون قد أحكمتُ سيطرتي على مسيل الشلالات الحمراء الغزيرة، لكنني فوجئتُ بأن الدم لم يتوقف عن فورانه، حيث كانت قناة «المجزرة» تحت عناوين..«التغطية مستمرة، الشعب يصنع ثورته، إرادة التغيير» تصر على زيادة إنتاجها ذي اللون الأحمر، ولذلك سارعتُ إلى إخبار قسم الطوارئ في الحيّ لنجدتي من هذه المشكلة، لاسيما أن الدماء خرجت عن السيطرة و كادت أن تغمر البناية متابعةً طريقها إلى حديقة الحي، لكن المفاجأة كانت كبيرة هذه المرة، فما إن اتصلت بقسم الطوارئ حتى شاهدتُ اسمي على شاشة القناة على النحو التالي.. «مواطن سوري يطلب النجدة من دماء تحاصره في شقته..» وأردفتْ: «وذكرتْ مصادر عن شهود عيان أن المواطن م.ع في حالة خطرة نتيجة تعرضه لطلق ناري من مجهولين..». كدتُ أنسى أن الدماء تخطتْ الشارع الذي أعيش فيه نحو الطريق الرئيس الذي يربط حيّنا بالأحياء الأخرى، وما هي إلا دقائق معدودة حتى عرفتُ شيئاً هاماً، وهو أن شلالات الدم كانت تتدفق من الأحياء المجاورة نحو ساحات المدينة، وأن هذه الشلالات كانت أيضاً تنبع من شاشات تلفزيون في بيوت أخرى أيضاً، حتى أن أصحابها على ما يبدو طلبوا الإغاثة من أقسام الطوارئ بعد أن يئسوا من معالجتها على النحو الذي عجزتُ فيه عن إخفائها، فالدم كان يدلف من عتبات المنازل و ونوافذ الأبنية كنهر هادر، فيما تتابع طاحونة الصور الحمراء على القناة ذاتها بث أخبارها العاجلة بلونها القاني الفاقع. ‏
لم يكن الدم بصرياً فقط بحضوره المدوّخ، بل كان حسيّاً بطريقة تبعث على الغثيان، كان مالحاً و ساخناً، عندمياً وصارخاً في جريانه، ولم يكن من السهولة بمكان تجاهله وهو يطفو من الشاشة ذاتها على هيئة وجوه أحبة، وبأصواتٍ غيّروا لها أصواتها وأقوالها، وفي جراح تم التمثيل بها وقطع رؤوسها وأطرافها على نحوٍ لا يمكن تجاهله، حتى أن جرحاً قطعوا له يده وهو لا يزال حيّاً يرزق، ثم أطعموا يده للكلاب أمام عينيه قبل أن يذبحوه من الوريد إلى الوريد. ‏
سيارات الطوارئ التي وصلتْ أخيراً إلى المكان غرقتْ في أنهار الدم بعد أن استهدفتها وجوه ملثمة كانت تقعي لها قبالتها تماماً، وما هي إلا لحظات حتى عادت «المجزرة» إلى بث صور جديدة عن الحوادث التي شاهدتُها قبل قليل ولكن بشكل آخر تماماً، محولةً إياها إلى دماء خالصة، فمن الشوارع السورية عملت فضائية «المجزرة» على ابتكار صناعاتها التحويلية، معتمدةً على رؤوسنا الساخنة، وفتوّتنا الشعبية الأصيلة، ورغباتنا الحقيقية في الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية، لتكرير دمائنا على موائدها البصرية، هكذا، ومن دون وازع من ضمير تمت إحالة أوراقنا إلى مفتيها الملقب ب «ومالو».. ‏
في لجة عباب دمائنا حاولنا كثيراً الوصول إلى أجهزة التحكم الخاصة بأجهزتنا التلفزيونية، مددنا أيدينا لنقلب على قناة أخرى، فلم نرى سوى نسخٍ عنها، لقد كانت دمائنا تحاصرنا، حتى أننا غرقنا في عبابها المتضارب، والغريب أننا كنا نطفو فوق دمائنا، وتطفو معنا أثاثات منازلنا، ووجوه أحبائنا، ودفاتر ذكرياتنا، ولكن رغم ذلك لم نيئس من التجديف بأيدينا العارية نحو يابسة تحمينا من فيضان دمائنا، وبالفعل وجدناها، رأيناها من بعيد رغم تخبطنا في هذه اللجة الحمراء العدمية، صرخنا من حلاوة أرواحنا..من ملوحة ما تدفق من شراييننا بهذه الغزارة غير المسبوقة، وهرعنا بما تبقى لدينا من جهد ونفَس وأمل للحاق بأرضٍ تنتزعنا من غرقنا المحتوم هذا، من طفوّنا على جثث بعضنا البعض، فضربنا بأيدينا وأقدامنا؛ متنكبين على ظهورنا زوجاتنا وأطفالنا نحو ما لا نأمل أن يكون من أمراض إدراكنا كبشر، وسبحنا نحوها، فكانت أجسادنا هناك على يابسة تحيط بها دماؤنا من كل حدب وصوب، كانت «المجزرة» تهبط على إيقاع موسيقا أوبرالية في بحر من دم لتخرج بشكل خطها الديواني الفخم، زحفنا لنرى، لنطلع على المعمل من الداخل، وبالطبع أرشدتنا نوافير أخرى من الدم نحو أستوديو الأخبار الرئيسي، ويالهول ما رأينا.. ‏
رأينا دماءً تقفز، مراجل عملاقة لطبخ الدم و صناعته وتعليبه وتحضيره لسوق المشاهدة، ولم نعجب عندما شاهدنا بأم العين بساط الدم الدائر من أفواه نجوم «المجزرة» من دهاقنتها وغربانها، من رئيس طباخيها الوضّاح.. من أرضية مسالخها الزلقة، وعرفنا بعد تلصص على كواليس هذا المعمل العجيب لماذا سموها «الجزيرة» على شبه جزيرة أخرى، فلقد كان دمنا يحدُّها من جهات القتل الأربع.. ‏
 
أعلى