التخطّي والالتزام

DE$!GNER

بيلساني محترف

إنضم
Apr 4, 2011
المشاركات
2,637
مستوى التفاعل
44
المطرح
بين الأقلام والألوان ولوحات التصميم

ما من مبدع إلاّ ويحاول في لحظات التّجلّي وانفتاح الخيال أن يوسّع مساحات الرّؤية, فيغدو كائناً خارقاً للمألوف, يرى ما لا يراه الآخرون, ويسمع ما لا يسمعونه.
وفي اللحظات ذاتها تتكاثر في الأفق كائنات وأشياء لم تكن مُدرَكة من قبل, طيور وغيوم وأشجار وبشر, وفي هذا المناخ يولد النّصّ الإبداعيّ, تتّسع المساحات أكثر, وتزداد المفردات على غير ما كان يتوقّع المبدع ذاته, فيجد نفسه حائراً, تنتابه الرّغبات بأن يضيف, ليغدو العالم أكثر جمالاً, أو أقلّ بشاعة, وتصير المُدركات أقرب بكثير ممّا هي عليه في الواقع, يسرع في القراءة والسّفر أكثر في هذا العالم المُتخيّل قبل أن يعود إلى واقع ملزِم, حيث لا مجال للسّفر أو التّخيّل. هكذا حال كلّ مبدع, وإلاّ لماذا يُسمّون تلك الأزمنة القصيرة بلحظات التّجلّي؟! ولماذا يصير «ديوجين» المحبوس في برميل ـ على رأي تشيخوف ـ أسعد من كلّ قياصرة العالم؟! ‏
إنّها متعة الانفلات من القيود الذّهنيّة, والانطلاق نحو عالم يراه المبدع بكراً, فيدخله محمّلاً برغبات لا حصر لها في أن يُنشئ عالماً على هواه, كما يريد هو, لا كما يراه الآخرون. من ذلك العالم ينسج المبدع عوالمه الخاصّة ورؤاه المختلفة لتغدو بدورها نصوصاً غير قابلة للنشر, لا لشيء سوى أنّ القائمين على النّشر لم يدخلوا مع صاحب النّصوص عوالمه تلك, وربّما لم يُجرّبوا متعة الانفلات تلك. فالأمكنة الّتي رآها «ديوجين» هي خارج الجغرافيا بامتدادها وتشعّبها, خارج جغرافية البرميل, الواقع الضّيّق, والمحصور بالعتمة والاختناق, فهل استطاع العالم مصادرة نصوص ديوجين وأفكاره, ومنع نشرها؟! ‏
ولأنّ خلق العالم اقتضى وجود البشاعة والجمال, الخير والشرّ, ثنائيّات ومتناقضات, ولأنّ في ذلك تأمُّلاً وإدراكاً لوجود خالق مبدع, ينتمي المخلوق إليه بمقدار ما يحمل من جمال وخير, من محبّة وإيثار يخفّف البشاعة ويزيد من مساحات الجمال. وما المُبدعون إلاّ من أولئك الّذين تذوب أرواحهم على الورق دون أيّ خيارات أمامهم, فالغشاوة مُزاحة عن العيون حيث لا ترى سوى الحقائق, تدرك الأشياء على حقيقتها, تعيش بحقيقتها الواقعيّة فيلتزم أصحابها واقعيّة الوجود, ويرون وَهْمَ البدائل فيتأرجحون بين الحقيقة والوهم, يلتزمون الحقيقة الواقعيّة فيقتاتون مرّها, ثمّ يتخطّونها في لحظات التّجلّي تلك راسمين للعالم جمال الوهم دونما أيّ اعتراف منهم بأنّه وهْمٌ, بل يُصرّون على أنّه الحقيقة المثاليّة المعادلة لحقيقة الواقع. وبين الالتزام والتّخطّي مشيٌ على الصّراط, أو طيران أو غوص, وما الصّراط في حقيقته إلاّ فضاء يُصار إليه بالطّيران, أو لجّة يُنال عمقها بالغوص. ‏
 
أعلى