السيرة النبويَّة : شمائل الرسول صلى الله عليه وسلَّم

The Hero

الأســــــــــــــطورة

إنضم
Jun 29, 2008
المشاركات
20,104
مستوى التفاعل
69
المطرح
في ضحكة عيون حبيبي
رسايل :

شكرًا للأشواك علَّمتني الكثيرَ

الدرس 01 / 32 من الشمائل لفضيلة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي .

الموضوع : السيرة النبويَّة : شمائل الرسول صلى الله عليه وسلَّم . أهمية دراسة السيرة وحكمتها في الإسلام .

تفريغ المهندس : عبد العزيز كنج عثمان .

التدقيق اللغوي : الأستاذ احمد مالك .

التدقيق النهائي: المهندس غسان السراقبي .





بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً ، وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

أيها الإخوة الكرام ؛ في دروسٍ سابقة تحدَّثنا عن التابعين رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، وفي عشرين درساً تحدَّثنا عن عشرين تابعياً ، حيث عُرضت جوانب من شخصياتهم ، ومن مواقفهم ، ومن سموِّهم ، وقبلها كان الموضوع حول الخلفاء الراشدين ، وقبل الخلفاء الراشدين كان الموضوع حول صحابة رسول الله .

والآن ننتقل إلى نوعٍ جديد من ألوان السيرة النبويَّة ، ألا وهي شمائل النبي صلى الله عليه وسلَّم .

وقبل كل شيء يمكن أن نتناول حياة النبي بحسب التسلسل الزمني ، وهذا هو المنهج عند أكثر كُتَّاب السيرة ، وهناك منهجٌ آخر ، وهو أن نتناول من شخصية النبي جوانبه المتعدِّدة ؛ رحمته ، وعلمه ، وأخلاقه ، وحلمه ، وشجاعته ، وعفوه ، وما إلى ذلك ، لذلك نبدأ الدرس الأول من دروس شمائل النبي صلى الله عليه وسلَّم ، وقبل أن ننتقل إلى شمائله واحدةً واحدة لابدَّ من مقدِّمةٍ دقيقةٍ حول وجوب دراسة سيرة النبي ، ودراسة شمائله ، وما الدليل على ذلك ؟

إخواننا الكرام ؛ ما من حركةٍ يتحرَّكها الإنسان إلا ولها حكمٌ شرعي ؛ إما أنها فرض ، وإما أنها واجب ، وإما أنها سُنَّة ، وإما أنها مباحة ، أو مكروهة كراهة تنزيهيَّة ، أو كراهة تحريميَّة ، وإما أنها حرام ، فالمؤمن أيَّة حركةٍ يتحرَّكها ينبغي له أن يعرف حكم الشرع فيها ، يا ترى قراءة سنة النبي ، وسيرته ، وحضور هذا المجلس ، يا ترى مباح ، أم واجب ،أم مستحب ، أم فرض ؟ وما الحكم الشرعي في معرفة سُنَّةِ النبي ؟

وإذا قلنا : سنة النبي ، فيجب أن تعلموا أن النبي صلى الله عليه وسلَّم له أقوال ، وأفعال ، وإقرار ، فإذا حصل شيء أمامه ، وبقي ساكتاً فهذا صحيح ، لأن النبي مشرِّع ، وسكوت النبي دليل إقراره لما يجري .

عَنْ أُمِّ الْعَلَاءِ وَهِيَ امْرَأَةٌ مِنْ نِسَائِهِمْ بَايَعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ : ((طَارَ لَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ فِي السُّكْنَى حِينَ اقْتَرَعَتْ الْأَنْصَارُ عَلَى سُكْنَى الْمُهَاجِرِينَ فَاشْتَكَى فَمَرَّضْنَاهُ حَتَّى تُوُفِّيَ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ فِي أَثْوَابِهِ فَدَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ فَشَهَادَتِي عَلَيْكَ لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ قَالَ وَمَا يُدْرِيكِ قُلْتُ لَا أَدْرِي وَاللَّهِ قَالَ أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ إِنِّي لَأَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ مِنْ اللَّهِ وَاللَّهِ مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ قَالَتْ أُمُّ الْعَلَاءِ فَوَاللَّهِ لَا أُزَكِّي أَحَدًا بَعْدَهُ قَالَتْ وَرَأَيْتُ لِعُثْمَانَ فِي النَّوْمِ عَيْنًا تَجْرِي فَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ ذَاكِ عَمَلُهُ يَجْرِي لَهُ)) .

( البخاري)

إذاً النبي عليه الصلاة والسلام أقواله ، وأفعاله ، وإقراره سُنَّة ، فيا ترى معرفة سنة النبي في أقواله وأفعاله وإقراره ، وصفاته ، مجموع هذه الأشياء اسمها سُنة النبي عليه الصلاة والسلام ، ويا ترى الحكم الشرعي هل من المستحب أن نقرأها ، أو أن نستمع إليها ، أم أنه واجب ، أم أنه فرض ؟ سأبيِّن لكم في هذا الدرس أن معرفة سُنة النبي صلى الله عليه وسلَّم بكل أنواعها من أقوالٍ ، وأفعالٍ ، وإقرارٍ ، وصفات فرض عين .

الآن إذا قلنا : فرض ، فما معنى الفرض ؟ أي يعاقب تاركه ، ويثاب فاعله ، والفرض له أدلَّة في القرآن الكريم ، فما الدليل على أن معرفة سنة النبي فرض ؟ والفرض نوعان كما تعلمون ؛ فرض عين ، وفرض كفاية ، فلو فرضنا أنّ مؤمنين مسلمين في بلد يفتقرون جميعاً إلى اختصاص معيَّن ، وتعلُّم هذا الاختصاص فرض كفاية ، إذا قام به البعض سقط عن الكُل ، فعلم المواريث فرض كفاية ، يكفي الشام خمسة علماء مواريث ، وعلم التجويد فرض كفاية ـ والتبحُّر في علم التجويد ـ لكن تلاوة القرآن تلاوةً صحيحة فرض عين ، لقوله تعالى :


( سورة المزمل )


( سورة البقرة : من الآية " 121 " )

لكن التبحُّر في علم التجويد فرض كفاية ، إذا قام به البعض سقط عن الكُل ، فالفرض له مرتبتان ؛ فرض كفاية وفرض عين ، وستفاجؤون أن معرفة سنة النبي صلى الله عليه وسلَّم بكل أنواعها ؛ أقوال ، وأفعال ، وإقرار ، وصفات فرض عينٍ على كل مسلم ، والآن طالبوني بالدليل ؟ يقول الله سبحانه وتعالى :


( سورة الحجرات : من الآية " 7 " )

واعلموا أن هذا الذي يدعوكم إلى طاعة الله هو رسول الله ، يا ترى إذا قال الإنسان : هذا رسول الله ، فهل انتهى العلم ؟ وهذا ليس علماً ، هذه إشارة ، وهذا تقليد ، وثمة فرقٌ كبير بين التقليد وبين العلم ، والله عزَّ وجل قال :


( سورة محمد : من الآية " 19 " )

هل يكفي أن تردِّدها ؟ لا ، لا يكفي ، وهل يكفي أن تشهد أنه لا إله إلا الله ، ولا تعلم فحواها ومضمونها ؟ لا يكفي ، إذا قال الله عزَّ وجل :


ينبغي أن يكون علمك يقينياً مع الدليل الإجمالي والتفصيلي ، وبإمكانك أن تردَّ الشبهات ، فما معنى العلم ؟ العالِم يعرف الحقيقة ، ويعرف البرهان عليها ، ويستطيع أن يردَّ الشبهات التي تُطرح فيها ، فهذا العالم ، وقياساً على :




يقول الله عزَّ وجل :


( سورة الحجرات : من الآية " 7 " )

علم ، والعلم يقتضي البحث ، والدرس ، والتأمُّل ، والأدلَّة ، والبراهين ، والقدرة على رد الشبهات ، وهناك آلاف الشبهات يطرحها أعداء الإسلام على النبي عليه الصلاة والسلام ، ومن هذه الشبهات أنه مزواج يحب النساء ، فهل عندك القدرة على أن ترد هذه الشبهة عن النبي صلى الله عليه وسلَّم ؟

لقد تزوَّج السيدة خديجة ، وهي أكبر منه بخمسة عشرَ عاماً ، وعاش معها ربع قرن ، ولم يفكِّر في امرأةٍ أخرى ، فلو أنه كان مزواجاً -كما يقولون - أو يحب النساء لاختار من أجمل فتيات قريش ، وهو من أرومتها عليه الصلاة والسلام ، إذاً قوله تعالى :


( سورة الحجرات : من الآية " 7 " )

وهذا دليل أن معرفة رسول الله فرض عين على كل مسلم ، فيجب أن يحصل لك العلم ، والعلم لا شك ، ولا وهم ، ولا ظن ، ولا تقليد فيه ، فعلاقةٌ بين شيئين مقطوعٌ بصحَّتها عليها دليل يطابق الواقع ، فإن لم تطابق الواقع فهي الجَهل ،و إن لم يكن عليها دليل فهي التقليد ، وإن لم يكن مقطوعاً بها فهي الشك ، والوهم ، والظن ، وهذا العلم ، فإذاً لابدَّ من معرفة رسول الله معرفةً يقينيَّة ، حيث إن كل خليَّةٍ في جسمك تؤمن أن هذا الإنسان رسول الله .

هناك افتراءات كثيرة كقولهم : هذا الإنسان عبقري ، لا ليس عبقرياً ، بل هو نبي ورسول ، ذكي ، لا ، هو ذكي ولكن هذا الوصف لا يليق به ، يليق به أنه رسول الله يوحى إليه ، فالأجانب دائماً يريدون أن يخلعوا عن النبي صفة النبوَّة والرسالة ، وأن يصبغوه بصفة الإصلاح ـ مصلح كبير ، عبقري ، شخصيَّة فذَّة ـ هذا كله لا نقبله ، إنه عبدٌ من عباد الله سبق الخلق طُرًّا ، وكان في قمة البشريَّة معرفةً ، وطاعةً ، وإنابةً وإقبالاً ، فاصطفاه الله على علم ، وجعله سيِّد الخلق ، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ((إِذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ فَمَنْ سَأَلَ لِي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ لَهُ الشَّفَاعَةُ)).

( رواه مسلم )

الآن الدليل الآخر على أن معرفة النبي صلى الله عليه وسلم فرض عين قوله تعالى :


( سورة المؤمنون )

هذا دليل ثانٍ ، فالله عزَّ وجل يحضُّنا بهذه الصيغة ، الأولى : واعلموا ، فعل أمر ، وكل فعل أمرٍ يقتضي الوجوب ، أما الدليل الثاني :


هناك حضٌ على معرفة سيرة النبي عليه الصلاة والسلام .

والدليل الثالث ، يقول الله عزَّ وجل :


( سورة التغابن )

فالنور الذي أنزلنا هو القرآن الكريم ، إذاً الله عزَّ وجل يأمرنا أن نؤمن به ، وأن نؤمن برسوله ، وأن نؤمن بكتابه .

وشيء خطير أقوله لكم : العقل البشري ضمن إمكانيته أن يوصلك إلى الله ، وإلى كتابه ، وإلى رسوله ، بالعقل ؛ أن تؤمن بالله من خلال هذا الكون الذي هو مظهرٌ لأسماء الله الحسنى ، أن تؤمن بكتاب الله من خلال إعجازه ؛ الإعجاز العلمي ، والبياني ، والإخباري ، والتشريعي، والتربوي ، الإعجاز هو أكبر دليل على أن هذا الكلام كلام الله .

هناك إعجاز إخباري ، وفي القرآن غيب الماضي ، وغيب الحاضر ، وغيب المستقبل ، وإعجاز علمي ، و سمَّاه العلماء : ( السبق العلمي ) ، أي إن القرآن أشار إلى حقائق ما كان يعرفها أحدٌ إلى الآن ، هذه الحقائق يستحيل على البشر الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلَّم أن يصلوا إليها ، فأنت تؤمن بالقرآن من خلال الإعجاز ، وتؤمن بالنبي من خلال القرآن ، فالذي جاء بهذا القرآن المُعجز هو رسول الله ، إذاً عندما قال ربنا:


( سورة التغابن : من الآية " 8 " )

أي أنتم مؤهَّلون بعقولكم أن تؤمنوا بالله وكتابه ورسوله ، وهذا دليل ثالث .

وعندنا دليل رابع :


( سورة هود : من الآية " 120 " )

فالنبي عليه الصلاة والسلام حينما يقصُّ الله عليه من أنباء الرسل ، جميع الرسل دونه ، وهو في قمَّتهم ، يثبتُ قلبه بأنبائهم ، فكيف بقلوبنا إذا تُلِيَت عليها أنباء النبي عليه الصلاة والسلام؟

الدليل الخامس :



( سورة سبأ : من الآية " 46 " )

إذاً الله عزَّ وجل يعظنا أن نجتمع ، ونتدارس فحوى دعوة النبي .

الدليل الأول :


( سورة الحجرات : من الآية " 7 " )

والدليل الثاني :


( سورة المؤمنون )

والدليل الثالث :


( سورة التغابن : من الآية " 8 " )

والدليل الرابع :


( سورة هود : من الآية " 120 " )

هذا أسلوب خبري .

والدليل الخامس :


( سورة سبأ : من الآية " 46 " )

وهذا النبي عليه الصلاة والسلام رعاه الله عزَّ وجل رعايةً مباشرة ..


( سورة الضحى )

وتولَّى الله تعليمه ، وكل إنسان دخل جامعة ، وتخرَّج منها يزهو بها ، ويفتخر ، ولاسيما إن كانت هذه الجامعة عريقة ، ويقول لك : أنا خريج السوربون ، فلان معه مثلاً بورد ، وكل إنسان يزهو بجامعته التي علَّمته ، بل ربَّما يزهو بالأساتذة الكبار الذين علَّموه ، فإذا زها كل عالمٍ بأستاذٍ من بني البشر ، ألا يحق للنبي عليه الصلاة والسلام أن يزهو بأن الله خالق الأكوان هو الذي علَّمه ؟


( سورة النجم )

ألا يحق لهذا النبي العظيم أن يزهو أنه أُمِّي ؟ والأميَّة في حقِّه كمال ، لأن الله سبحانه وتعالى حجزه عن ثقافات العصر ، وجعل علمه خالصاً من الله عزَّ وجل ، فإذا تكلَّم لم ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحيٌ يوحى ، وعندما يدرس الإنسان كثيرًا ، وتكون له ثقافة واسعة ، يتكلَّم أحيانًا كلامًا فينزلق إلى عرض ثقافته ، وقد تكون كلماته غير صحيحة ، أو لم يتحقَّق منها ، أو تفتقر إلى البُرهان ، لكنه قرأها وهي طريفة ، فالإنسان إذا أراد أن يتكلَّم من ثقافته فإنه يخطئ ويُصيب ، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام كلُّ الذي قاله لأمَّته وحيٌ يوحى ، ولهذا علماء الأصول قالوا : هناك وحيٌ متلو هو القرآن ، ووحيٌ غير متلو هو السُنَّة .


( سورة العلق )


( سورة الأعلى )


( سورة النساء )


( سورة فصلت : من الآية " 6 " )

انظر إلى هذه الآيات كلِّها ، فإنّ الله عزَّ وجل تولَّى رعايته ، والعناية به ، وتعليمه بشكلٍ مباشر ، وهذا جانب من جوانب شخصية النبي عليه الصلاة والسلام ، وكان يقول عليه الصلاة والسلام : ((إِنِّي يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِ)) .

( من صحيح البخاري عن أبي هريرة )

أي له من الله خاصيَّةٌ ليست لبني البشر ، وهذا أول وجه ، وعندنا خمس أدلَّة من الكتاب والسُنَّة ، كلها تؤكِّد أن معرفة سنة النبي صلى الله عليه وسلَّم فرض عينٍ على كل مسلم .

وعندنا دليل من نوع آخر ، وهو قاعدة أصوليَّة : ما لا يتم الفرض إلا به فهو فرض ، الوضوء فرض ، والوضوء ليس صلاةً ، ولكن لأن الصلاة لا تتم إلا به ، والصلاة فرض ، فالوضوء فرض ، هذه قاعدة : ما لا يتم الفرض إلا به فهو فرض ، وما لا تتم السنة إلا به فهو سنة ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب .

والآن يقول الله عزَّ وجل :


( سورة الحشر : من الآية " 7 " )

فالأدلَّة الأولى أدلَّة مباشرة ..


( سورة التغابن : من آية " 8 " )


( سورة الحجرات : من آية " 7 " )

الأدلَّة الأولى أدلَّة غير مباشرة ، إذا قال الله عزَّ وجل :


( سورة الحشر : من الآية " 7 " )

كيف ، نأتمر وكيف ننتهي إن لم نقف على أقوال النبي وأوامره ؟ وحينما قال الله عزَّ وجل :


( سورة الأحزاب : من آية " 12 " )

كيف يكون النبي أسوةً حسنة إن لم نعرف هذه السيرة ؟ إذاً فنحن الآن مأمورون بشكلٍ غير مباشر بمعرفة أقواله ، وأفعاله كي نطبِّق قوله تعالى :


( سورة الحشر : من الآية " 7 " )

وكي نطبِّق قوله تعالى :


( سورة الأحزاب : من الآية " 12 " )

والآن بشكلٍ أوضح قال تعالى :


( سورة آل عمران : من آية " 13 " )

أي إن الله جعل علامة حبِّه اتباع نبيِّه ، لأنه كَثُرَ مُدَّعو محبَّته ، فطُولِبوا بالدليل ..


أما كل الدعاوى التي تقول : إن فلانًا يحب الله ، ولا يتبع سنة النبي ، فهذه دعوى باطلة زائفة ، وهذا نوعٌ من الدجل ، بل إن الله سبحانه وتعالى يقول :


( سورة الأعراف )

فربَط الهدى باتباعه ، وربط محبَّته باتباعه ، فاتباعه علامة الهدى ، واتباعه علامة محبة الله عزَّ وجل .

وأصحاب النبي عليهم رضوان الله أقبلوا على النبي إقبالاً عجيباً ، وتعلَّقوا بمحبَّته تعلُّقاً شديداً ، بل إنهم كانوا حريصين حرصاً لا حدود له على تقليده في كل أفعاله ، لذلك قالوا : " عادات السادات سادات العادات " أي أن أرقى عادة أن تقلِّد نبياً أو رسولاً ، وعاداته ، وأحواله ، أطواره ، في بيته ، ومع إخوانه ، وحتى العادات ، لأنّ عادات السادات سادات العادات ، فكيف بعادات سيِّد السادات النبي عليه الصلاة والسلام ؟

أيها الإخوة ؛ الوجه الأول هناك أمرٌ مباشر لمعرفة النبي ، وهناك أمرٌ مباشر لاتباع النبي ، واتباع النبي يقتضي معرفة سنته ، ويقتضي معرفة سيرته .

وعندنا أمر ثالث ، وقد يبدو لكم غريباً ، أما فهو مألوف عندكم ..


( سورة التوبة : من آية " 24 " )

هذا كلام خطير ، لأنك مكلَّف أن تحب الله ورسوله أكثر من آبائك ، وأبنائك ، وزوجتك ، وعشيرتك ، والأموال ، والبيوت ، والتجارة ، والمساكن ، ولكننا نريد أن نكون واقعيين ، فكيف تحب النبي أكثر من أهلك ، وأولادك ، وأهل بيتك ، وآبائك ، وأبنائك ، وتجارتك ، ومن دخلك الكبير ، ومن بيتك الواسع ، كيف تحب النبي أكثر من كل ذلك ؟

لذلك فالحقيقة لن تحب النبي أكثر من هذه الأشياء إلا إذا عرفته ، أما إذا لم تعرفه فلن تحبه ، وإذا أحببته باللسان ، فالمعوَّل على ما في القلوب ، وما يقوله اللسان لا قيمة له إطلاقاً ، لذلك ربنا عزَّ وجل في أكثر الأحيان يقول : [إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمُ] ، عقب آيات الدعاء ، أي إنه سميعٌ لأقوالكم ، ولكنَّه عليمٌ بما تنطوي عليه القلوب ، إذاً ما دام الله عزَّ وجل يأمرنا أن نحب النبي أكثر من آبائنا فكيف ذلك ؟

هذه المرأة الأنصاريَّة تبدو غريبة ، فقد بحثت عن أبيها عقب معركة أُحُد ، فإذا هو مقتول ، ورأت ابنها مقتولاً ، وأخاها مقتولاً ، وزوجها مقتولاً ، وتقول : " ما فعل رسول الله ؟ " ، إلى أن وصلت إليه وأمسكت بطرف ثوبه وقالت : " يا رسول كل مصيبةٍ بعدك جلَل)) .

(تاريخ الطبري(2/74) ، والسيرة النبوية لابن هشام(4/50) عن سعد بن أبي وقاص)

أي هيِّنة .

هذا الوضع يبدو لكم نادراً ، وهذا هو الأصل في الإيمان ؛ أن تحب الله ورسوله أكثر من آبائك ، وأبنائك ، وزوجتك ، وعشيرتك ، وتجارتك ، ومسكنك ، وأموالك كلها ، لكن كيف تحب النبي أكثر من هذه كلها ؟ لابدَّ من معرفته .

لو سألنا علماء النفس هذا السؤال : الإنسان من يحب ؟ من الذي يحبه ؟ لقالوا : الإنسان يحب الكمال والجمال والنوال .

أي إن الإنسان الأخلاقي محبوب ، فالعفو محبوب ، والكريم محبوب ، والعدل محبوب ، والإنسان يحب مكارم الأخلاق ، وإنْ لم يكن له علاقةٌ مباشرة مع هذا الإنسان الكامل ، فلو سمعت عن رجلٍ في أعلى درجات القوة ، واستفزَّه إنسان ، وعفا عنه ، سوف تعجب من هذا الخُلُق ؟ فالإنسان يحب الكمال ، ويحب الجمال ، ويجب النوال ، ولو أنّ إنسانًا دميمًا أعطاك ثمن بيت ، وقال لك : اسكن في هذا البيت ، يمكن أنك لن ترى أجمل منه ، بل تحبه حباً لا حدود له ، فما دام الإنسان يحب الكمال ، ويحب الجمال ، ويحب النوال فالنبي عليه الصلاة والسلام كمالٌ ، على جمال ، على نوال.



و َأحْسَنُ مِنْكَ لم تَرَ قَطُّ عَيْني وَ أجْمَلُ مِنْكَ لَمْ تَلِدِ النّسَاءُ

خُلِقْتَ مُبَرَّأَ مِنْ كُلّ عَيْــبٍ كَأنّكَ قَدْ خُلِقْتَ كمَا تَشـاءُ

* * *

وهو بهيُّ الطلعة ، يتلألأ وجهه نوراً ، لكن ماذا فعل مع أمته ؟ أدخلهم في سعادةٍ لا تنتهي ، أي إن خيره عمَّ الخلائق ، وجعله الله رحمةً مهداة ، ونعمةً مسجاة ، وأرسله للعالمين قاطبةً ، فالنبي عليه الصلاة والسلام يجمع في شخصيَّته بين الكمال ، والجمال ، والنوال ، فلذلك من أجل أن تحبَّه كما أمرك الله عزَّ وجل يجب أن تتعرَّف إلى كماله ، وإلى أخلاقه ، وشمائله ، ويجب أن تكتشف مقدار الخير العميم الذي أصابك منه.

فالآن أنت مسلم ، أي إن عقيدتك صحيحة ، فهذا النبي الكريم عرَّفك بالله ، وبالمنهج ، وبالطريق الموصلة إلى الله عزَّ وجل ، وبمكارم الأخلاق ، فكان قدوة لك بالعفو ، والرحمة ، والصبر ، والشجاعة ، وبالبذل ، والسخاء ، فإذا كنتَ على شيء من الكمال ، وعندك عقيدة صحيحة ، وتصوُّر صحيح ، ومنهج قويم ، وشعور بالرضا ، هذا كله من فضل النبي عليه الصلاة والسلام ..



( سورة النور : من الآية " 21 " )


( سورة النساء )

إذاً أنت الآن مكلَّف أن تعرفه ، ومكلَّف أن تتبعه ، فينبغي أن تعرفه ، لأنّ المحبَّة تحتاج إلى معرفة .

وهنا أمرٌ رابع ، هؤلاء الذين لم يشاهدوا النبي ، ولم يلتقوا معه ، ولم يُتَح لهم أن يروه رأي العين ، هؤلاء الذين سمعوا به ، كيف يمكن أن يأخذوا الحد الأدنى من معرفته ؟ إذا قرؤوا سيرته ، وأوصافه ، وشمائله فكأنك تراه بعينك ، فصارت معرفة سيرة النبي هي البديل من أن تراه بعينيك ، أو أن تلتقي به .

هذه أيها الإخوة ، بعض الأدلَّة التي يمكن أن تكون أدلَّةً قطعيَّةً تدفعنا إلى معرفة النبي ، وفي الأخير دليل عملي ، يقول الله عزَّ وجل يخاطب النبي :


( سورة التوبة : من الآية " 103 " )

وفي آية أخرى :


( سورة الأحزاب )

فهاتان الآيتان تشيران إلى أنك إذا اتصلت بالنبي بأي نوعٍ من الاتصال ؛ بأنْ ذكرته ، أو زُرت قبره ، أو قرأت سُنَّته ، أو قرأت شمائله ، أو تصوُّرته ، فأي نوعٍ من أنواع الاتصال يعود عليك بالسكينة والسرور ..


( سورة التوبة : من الآية " 103 " )

فإذا ذكرته أفاض عليك من أنواره ، وأفاض عليك من تجليَّاته ..


وقال تعالى :


( سورة الأحزاب )

فاجتمع عندنا خمسة وجوه لمعرفة شمائل النبي صلى الله عليه وسلَّم ، فرض عين ، أي إنك إذا أتيت إلى مسجدٍ كي تتعرَّف إلى النبي فأنت ما زدت عن أن فعلت الفرض ، ونحن يوجد عندنا خطأ كبير هو أن معظم المسلمين يتوهَّمون أن الفرائض هي فقط الصلاة ، والصوم ، والحج ، والزكاة ، غير أنّ كل أمرٍ في القرآن الكريم يقتضي الوجوب ، وأنت أمام مئة ألف أمر في القرآن الكريم ، فإذا كنت مؤمناً حقاً ، قال لك :


( سورة الحجرات : من الآية " 7 " )

هذا دليل .



( سورة التغابن : من الآية " 8 " )

ودليل ثانٍ .



( سورة المؤمنون : من الآية " 69 " )

ودليل ثالث .



( سورة سبأ: من آية " 46 " )

طبعاً اسمحوا لنا لنصف درس فقط أن نتحدَّث عن شكل النبي ؛ عن لونه ، عن وجهه ، عن طوله ، إنه شيء لطيف ، ولأن العلماء قالوا : إذا رأيت النبي في الرؤيا الصالحة ، ولم يكن على هذه الصفات فهذا ليس النبي ، ومن شرط أن تكون رؤيتك للنبي رؤيةً حقيقيَّةً له أن تراه وفق الصفات التي وردت في السيرة ، أمَّا أن يشاهد النبي أسمر طويلاً طولاً بائنًا ، فهذا ليس النبي ، إنه يتوهَّم ذلك ، إذاً لابدَّ من معرفة شكل النبي عليه الصلاة والسلام .

عَنِ الْبَرَاءِ يَقُولُ: ((كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ النَّاسِ وَجْهًا وَأَحْسَنَهُ خَلْقًا لَيْسَ بِالطَّوِيلِ الْبَائِنِ وَلَا بِالْقَصِيرِ)) .

( رواه البخاري)

وعنه رضي الله عنه : ((كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا مَرْبُوعًا بَعِيدَ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ ـ كتفه بعيد ما بين المنكبين ، أي عريض المنكبين ـ عَظِيمَ الْجُمَّةِ إِلَى شَحْمَةِ أُذُنَيْهِ عَلَيْهِ حُلَّةٌ حَمْرَاءُ مَا رَأَيْتُ شَيْئًا قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)) .

( رواه مسلم عن البراء )

وعن عليٍ رضي الله عنه أنه قال : ((كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ بِالطَّوِيلِ وَلا بِالْقَصِيرِ ضَخْمُ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ شَثْنُ الْكَفَّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ مُشْرَبٌ وَجْهُهُ حُمْرَةً طَوِيلُ الْمَسْرُبَةِ ضَخْمُ الْكَرَادِيسِ إِذَا مَشَى تَكَفَّأَ تَكَفُّؤًا كَأَنَّمَا يَنْحَطُّ مِنْ صَبَبٍ لَمْ أَرَ قَبْلَهُ وَلا بَعْدَهُ مِثْلَهُ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)) .

(رواه الإمام أحمد)
 
التعديل الأخير بواسطة المشرف:

§ أبو المر §

بيلساني فعال

إنضم
Jun 28, 2008
المشاركات
110
مستوى التفاعل
87
المطرح
مع احلى قمر بلبلد
120%20%28114%29.gif
 

The Hero

الأســــــــــــــطورة

إنضم
Jun 29, 2008
المشاركات
20,104
مستوى التفاعل
69
المطرح
في ضحكة عيون حبيبي
رسايل :

شكرًا للأشواك علَّمتني الكثيرَ

أمين أبو المر

وشكر لمرورك :24:
 

The Hero

الأســــــــــــــطورة

إنضم
Jun 29, 2008
المشاركات
20,104
مستوى التفاعل
69
المطرح
في ضحكة عيون حبيبي
رسايل :

شكرًا للأشواك علَّمتني الكثيرَ

الدرس 02 / 32 من الشمائل لفضيلة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي .

الموضوع : السيرة النبويَّة : شمائل الرسول صلى الله عليه وسلَّم نظافته صلى الله عليه وسلَّم .

تفريغ المهندس : عبد العزيز كنج عثمان .

التدقيق اللغوي : الأستاذ احمد مالك .

التدقيق النهائي: المهندس غسان السراقبي .







بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

أيها الإخوة المؤمنون ؛ مع الدرس الثاني من دروس شمائل النبي صلى الله عليه وسلَّم ، والموضوع اليوم عن نظافته صلَّى الله عليه وسلَّم وأمره بالنظافة .

فقد كان صلى الله عليه وسلم أنظف خلق الله تعالى بدناً ، وثوباً ، وبيتاً ، ومجلساً ، فلقد كان بدنه الشريف نظيفاً وضيئاً ـ وضاءة النظافة ـ وكان كما وُصِف أنور المُتجرِّد ، أي أن الأعضاء المجرَّدة من الثياب مُنيرة ، وهذه الإنارة أسبابها كثرة النظافة ، متألِّقة .

وفي الصحيحين عن أنسٍ رضي الله عنه أنه قال : ((مَا مَسِسْتُ حَرِيرًا وَلا دِيبَاجًا أَلْيَنَ مِنْ كَفِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلا شَمِمْتُ رِيحًا قَطُّ أَوْ عَرْفًا قَطُّ أَطْيَبَ مِنْ رِيحِ أَوْ عَرْفِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)) .

وعن أبي قِرْصافة قال : ذهبت أنا وأمي وخالتي فأسلمن وبايعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصافحن ، فلما بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وأمي وخالتي ورجعنا من عنده منصرفين قالت لي أمي وخالتي : يا بني ! ما رأينا مثل هذا الرجل ، ولا أحسن منه وجها ، ولا أنقى ثوبا ولا ألين كلاما! ورأينا كأن النور يخرج من فيه ـ أي من فمه ـ " .

(من كنز العمال : عن " قرصافة " )

فهو صلى الله عليه وسلَّم أنظف خلق الله بدناً ، وأنقاهم ثوباً ، وكان صلى الله عليه وسلَّم يستاك حين خروجه من منزله ، وحين دخوله .

وهذه صفة النبي في نظافة بدنه ، وثيابه ، وبيته ، ومجلسه . والتألُّق الذي ورد في هذه الأحاديث تألُّق العناية ، وتألُّق النظافة .

الآن سيكون الدرس من الآن حتى نهايته في التوجيهات النبويَّة التي وجَّه بها النبي أصحابه الكرام في شأن النظافة ، لتروا معي أن النظافة جزءٌ من الدين ، وأن النظافة لا تُجزَّأ ، نظافة القلب ، ونظافة السريرة ، ونظافة النيَّة ، ونظافة الهدف ، ونظافة البدن ، ونظافة الثياب ، ونظافة المَجلس ، ونظافة البيت ، فالنظافة جزءٌ من الدين لا يتجزَّأ .

فقد روى الترمذي عن سعدٍ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلَّم قال : ((إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ يُحِبُّ الطَّيِّبَ نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ كَرِيمٌ يُحِبُّ الْكَرَمَ جَوَادٌ يُحِبُّ الْجُودَ فَنَظِّفُوا أَفْنِيَتَكُمْ وَلا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ)) .

والأفنية ساحات الدور ، فالإنسان النظيف يجذب الناس إليه ، والمحل النظيف يجذب الزبائن إليه ، والبيت النظيف مُريح ، والثوب النظيف مريح ، والنظافة شيء وفخامة الثياب شيءٌ آخر ، فالأغنياء يشترون أغلى الثياب ، ولكن الفقراء يستطيعون أن ينظِّفوا ثيابهم ، فنظافة الثوب دليل التديُّن ، أما ارتفاع ثمن الثوب فدليل الغنى ، أما علامة تديُّنك الصحيح نظافة الثوب ، وعلامة غناك ارتفاع ثمن الثوب ، والذي يرفعك عند الله لا ثمن الثوب ، ولكن نظافته .

وعن سليمان أن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال : استاكوا ، وتنظفوا ، وأوتروا ؛ فإن الله عز وجل وتر يحب الوتر)) .

( من الجامع الصغير : عن " سليمان بن صرد " )

أي الدلك ثلاث مرَّات ، والاستياك ثلاث مرَّات ، والتنظيف ثلاث مرَّات ، وغسيل الآنية ثلاث مرات .. ((استاكوا ، وتنظفوا ، وأوتروا ؛ فإن الله عز وجل وتر يحب الوتر)) .

( من الجامع الصغير : عن " سليمان بن صرد " )

فأحياناً أرى نفسي أميل إلى توسيع معنى النظافة ، لأنه قد يكون الكافر نظيفًا فيقال : كل يوم يغتسل مرَّتين مثلاً ، ولكن النظافة شعورك الداخلي ، النظافة الداخليَّة ؛ نظافة السلوك ، نظافة المبدأ ، نظافة الأهداف ، من غير علاقات شائنة ، ولا أشياء تستحي بها ، هذا واضح كالشمس ..((قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ)) .

( ابن ماجه عن العرباض )

حملني على توسيع معنى النظافة ليشمل نظافة الهدف ، ونظافة الباعث ، ونظافة القلب ، ونظافة السريرة ، ونظافة العلاقات ، حملني على هذا التوسيع هو أن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم يقول : ((لن يدخل الجنة إلا كل نظيف)) .

( من الجامع الصغير : عن " أبي هريرة " )

لو حملناه على المعنى الضيِّق لكنا مُحْرَجِين ، لأن عندنا قاعدة في الحديث : السبب الصغير لا يؤدي إلى نتيجة كبيرة ، ((لن يدخل الجنة إلا كل نظيف)) .

( من الجامع الصغير : عن " أبي هريرة " )

معنى ذلك أنّ النظافة شرطٌ لدخول الجنَّة ، فهل يعقل أن تكون النظافة بمعناها الضيِّق ؟ نحن أحياناً نقول : فلان نظيف ، ولا نقصد نظافة بدنه ، ولا ثوبه ، ولا بيته ، ولا مجلسه ، ولا دكَّانه ، ولا مركبته ، بل نقصد بالنظافة نظافة أخلاقه ، وأهدافه شريفة ، وعلاقاته كلها نظيفة واضحة ، ليس ثمة أشياء يستحي بها .. ((لن يدخل الجنة إلا كل نظيف)) .

( من الجامع الصغير : عن " أبي هريرة " )

لكن النبي صلى الله عليه وسلَّم إذا فصَّل يحث على نظافة البدن ، ونظافة الثوب ، وهناك أحاديث تفصيليَّة تشير إلى النظافة بالمعاني الضيِّقة.

روى النسائي والإمام أحمد عن جابرٍ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلَّم قال : ((عَلَى كُلِّ رَجُلٍ مُسْلِمٍ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ غُسْلُ يَوْمٍ وَهُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ)) .

فغسل يوم الجمعة هذا واجبٌ على كل مسلم ، ويوم الجمعة يوم عيد ، أنا مُعجب ببعض الأُسَر الذين ينجزون أعمالهم يوم الخميس ، فقد تجد بعض الأشخاص يقومون بالأعمال المتعبة ، من التنظيف ، وترتيب أركان البيت كله يوم الجمعة ، هذا يوم عيد ، وهذا يوم تحضر فيه صلاة الجمعة ، وتجلس مع أهلك ، فينبغي أن يكون هذا اليوم أجمل يوم في حياة المسلم ، يوم تفرُّغ ، ونظافة ، وتألُّق ، ويوم تزوُّد بالعلم ، ويوم لقاء مع الأهل ، فلذلك من صفات المسلم أنه يعتني عنايةً بالغةً بيوم الجمعة ، ومن لوازم هذا اليوم أن تكون في أعلى درجات النظافة ، فالحد الأدنى أن تغتسل يوم الجمعة ، هذا الغُسل واجب ديني .. ((عَلَى كُلِّ رَجُلٍ مُسْلِمٍ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ غُسْلُ يَوْمٍ وَهُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ)) .

( من سنن النسائي : عن " جابر " )

بالمناسبة أحد إخواننا الكرام أطلعني على نشرة من منظَّمة الصحَّة العالميَّة ، ثلاثمئة مليون إنسان مصابون ـ قبل عامين في العالم كله ـ بأمراض أسبابها القذارة ، وانتشار هذه الأمراض أقل ما يكون في العالَم الإسلامي بسبب الوضوء ، والطهارة ، والخِتان ، وبسبب تنفيذ تعليمات النبي صلى الله عليه وسلَّم ، والآن موضوع الإيدز ، الشيء الذي يحيِّر العالم أن نِسَب هذا المرض أقل ما تكون في العالم الإسلامي ، لأنه يعيش في ضوابط ، والدين منهج .

روى مسلمٌ عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال : ((عَشْرٌ مِنَ الْفِطْرَةِ قَصُّ الشَّارِبِ وَإِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ وَالسِّوَاكُ وَاسْتِنْشَاقُ الْمَاءِ وَقَصُّ الأَظْفَارِ وَغَسْلُ الْبَرَاجِمِ وَنَتْفُ الإِبِطِ وَحَلْقُ الْعَانَةِ)) .

هذه كلُّها من الفطرة ، والبراجم هي الأماكن التي بين الأظفار واللحم ، فإذا بالغَ الإنسان في تنظيف البراجم ، ففي الأعم الأغلب البراز يحمل الجراثيم ، وهناك أمراض كثيرة تنتقل عن طريق البراز ، فكيف تنتقل ؟ حينما ينظِّف الإنسان نفسه ، ربما لا يبالغ في تنظيف أصابع يده ، والمكان الذي يمكن أن يستقر فيه آثار البراز هو البراجم ، فلذلك النبي عليه الصلاة والسلام كان يبالغ في تنظيف البراجم وقايةً وطهارةً .

وقد وقَّت لنا النبي صلى الله عليه وسلم في قص الشارب ، وتقليم الأظافر ، ونتف الإبط ، وحلق العانة ألاّ تترك أكثر من أربعين ليلة ، والسُنَّة كل أسبوع ، ولكن في أحوال قاهرة ، في سفر ، أو عمل ، أو انشغال يجب ألاّ تزيد عن أربعين يوماً ، عندئذٍ يقع في الإثم ، مع أن الأظافر لو أخَّرتها إلى أسبوعين لظهر أنك مهمل في تقليم الأظافر .

الآن من توجيهاته صلى الله عليه وسلَّم ، حثُّه على التنظُّف من آثار الطعام والشراب ، فقد روى الحكيم الترمذي عن عبد الله بن بُسْرٍ عن النبي صلى الله عليه وسلَّم أنه قال : ((قصوا أظافيركم ، وادفنوا قلاماتكم ـ القلامة الظفر المقصوص ـ ونقوا براجمكم ، ونظفوا لثاتكم ـ اللثَّة ـ من الطعام ، واستاكوا ، ولا تدخلوا علي قحرا بخرا)) .

( من الجامع الصغير : عن " عبد الله بن بسر " )

قحراً أي بأسنان صفراء من شدة الإهمال ، بخراً رائحة فم كريهة .

وروى الترمذي عن سلمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلَّم قال : ((بَرَكَةُ الطَّعَامِ الْوُضُوءُ قَبْلَهُ وَالْوُضُوءُ بَعْدَهُ)) .

والوضوء هذا وضوء لغوي ، وهناك وضوء شرعي ، الوضوء الشرعي وضوء الصلاة ، أما الوضوء اللغوي غسل اليدين والفَم ، فالإنسان في أثناء النهار أمسك حاجة ملوَّثة ، أمسك حذاءه بيده ، أو صافح إنسانًا غير نظيف ، أو وضع يده على مكان غير طاهر ، فإذا أراد أن يأكل فعليه أن يغسل يديه غسلاً جيداً قبل الطعام وبعده ، وأن يغسل فمه ، هذا وضوء الطعام ، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول : ((بَرَكَةُ الطَّعَامِ الْوُضُوءُ قَبْلَهُ وَالْوُضُوءُ بَعْدَهُ)) .

( من سنن الترمذي " عن سلمان " )

ولا تنسوا أن أكثر الأمراض المعدية أسبابها عدم العناية بالنظافة . ولعلَّ أصحاب النبي صلَّى الله عليه وسلَّم فهموا من الوضوء الوضوءَ الشرعي ، فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ((أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مِنْ الْخَلَاءِ فَقُرِّبَ إِلَيْهِ طَعَامٌ فَقَالُوا أَلَا نَأْتِيكَ بِوَضُوءٍ قَالَ إِنَّمَا أُمِرْتُ بِالْوُضُوءِ إِذَا قُمْتُ إِلَى الصَّلَاةِ)) .

( من سنن الترمذي)

المعنى بالوضوء هذا غسل اليدين والفم فقط ، أما الوضوء الشرعي فهو وضوء الصلاة ، أما للطعام فغسل اليدين غسلاً جيداً .

ويقول عليه الصلاة والسلام فيما رواه أبو نعيم عن عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلَّم قال : ((من كرامة المؤمن على الله تعالى نقاء ثوبه ، ورضاه باليسير)) .

(الطبراني في الكبير عن ابن عمر)

وروى أبو نعيمٍ عن جابرٍ أن النبي صلى الله عليه وسلَّم رأى رجلاً وسخة ثيابه فقال : ((أما وجد هذا شيئا ينقي به ثيابه ؟)).

( من كشف الخفاء : عن " جابر " )




فعلى الإنسان أنْ يراقب ثيابه ، فقد يكون فيها بقعة تثير الانتباه ، وقد تكون جواربه غير مغسولة ، أو أسنانه غير منظَّفة ، فإذا دخل بيت الله عزَّ وجل ، ودخل في الصلاة ، كان أصحاب النبي يستاكون للصلاة ، لأن هذا القرآن سيخرج من فمهم .

مرَّة قرأت أن الإمام مالك بن دينار - وكان من كبار العارفين بالله - كان يمشي في الطريق ، فرأى إنساناً مخموراً قد أغمي عليه ، والزبد حول شفتيه ، ويقول : الله الله ، فكَبُرَ عليه أن يخرج هذا الاسم العظيم من هذا الفم النَجِس ، فما كان منه إلا أن غسل فمه ، وهو في سكرةٍ ، فلما أفاق قيل له : أتدري من غسل فمك ؟ . قال : لا ، قالوا : الإمام مالك بن دينار ، فمن شدة تأثُّره وخجله تاب من توه توبةً نصوحا .

والإمام مالك فيما تروي الكتب أنه سمع وهو في المنام صوتاً يناديه ويقول :" يا مالك طهَّرت فمه من أجلنا ، فطهَّرنا قلبه من أجلك " ، وفي صبيحة اليوم التالي ذهب الإمام مالك إلى المسجد فرأى رجلاً يصلي ويبكي ، ولفت نظره شدَّةُ بكائه فقال :" يا هذا من أنت ؟ " فقال :" إن الذي هداني أخبرك بحالي ، شاهدنا في هذه القصَّة أن الإنسان لا ينبغي أن يلفظ اسم الله تعالى من فمٍ غير نظيف .

عَنِ الْأَشْعَثِ عَنْ عَمَّتِهِ رُهْمٍ عَنْ عَمِّهَا عُبَيْدَةَ بْنِ خَلَفٍ قَالَ : ((قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ وَأَنَا شَابٌّ مُتَأَزِّرٌ بِبُرْدَةٍ لِي مَلْحَاءَ أَجُرُّهَا فَأَدْرَكَنِي رَجُلٌ فَغَمَزَنِي بِمِخْصَرَةٍ مَعَهُ ثُمَّ قَالَ أَمَا لَوْ رَفَعْتَ ثَوْبَكَ كَانَ أَبْقَى وَأَنْقَى فَالْتَفَتُّ فَإِذَا هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا هِيَ بُرْدَةٌ مَلْحَاءُ قَالَ وَإِنْ كَانَتْ بُرْدَةً مَلْحَاءَ أَمَا لَكَ فِي أُسْوَتِي فَنَظَرْتُ إِلَى إِزَارِهِ فَإِذَا فَوْقَ الْكَعْبَيْنِ وَتَحْتَ الْعَضَلَةِ)) .

( من مسند الإمام أحمد )

فإنسان يمشي في المدينة وثيابه طويلة ، يجرُّها على الطريق ، يكنس بها الطريق ، فقال له: ارفع إزارك فإنه أنقى ـ أنظف ـ وأتقى ـ أي أكثر تواضعًا ـ وأبقى ـ لهذا الإزار من التلف ـ " ، فقال : " إنما هي بردة ملحاء " ، قال : " وإن كانت بردة ملحاء ، أما لك في أسوتي؟ ، إنما هي بردةٌ ملحاء ، أي مالها قيمة عندي ، فقال عليه الصلاة والسلام : " أما لك في أسوتي ؟ " ، فنظرت فإذا إزاره إلى نصف ساقيه عليه الصلاة والسلام .

ويقول عليه الصلاة والسلام في تنظيف البيوت والأفنية : ((فَنَظِّفُوا أَفْنِيَتَكُمْ وَلا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُود)) .

( من سنن الترمذي : عن " ابن أبي حسَّان " )

ومن توجيهات النبي صلى الله عليه وسلَّم في تنظيف المساجد ما رواه أبو داود والترمذي عن أنسٍ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلَّم قال : ((عُرِضَتْ عَلَيَّ أُجُورُ أُمَّتِي حَتَّى الْقَذَاةُ يُخْرِجُهَا الرَّجُلُ مِنَ الْمَسْجِدِ وَعُرِضَتْ عَلَيَّ ذُنُوبُ أُمَّتِي فَلَمْ أَرَ ذَنْبًا أَعْظَمَ مِنْ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ أَوْ آيَةٍ أُوتِيهَا رَجُلٌ ثُمَّ نَسِيَهَا)).

( من سنن الترمذي)

فإذا رأى الإنسان قشَّة على أرض المسجد فوضعها في جيبه ، هذا من العمل الصالح ، وإنّ تنظيف المسجد عملٌ عظيم ورد في السُنَّة المطهَّرة .

كان في المسجد حصاة ، هي إيذاء في المسجد ، وأحيانا تقام حضرات فيأتون بسندويش ، ويوزِّعون الحليب ، فهذا بيت الله عزَّ وجل ، أنا يؤلمني أن يُتخذ المسجد مكانًا للطعام ، هو أرقى من ذلك ، وأنا في العمرة الأخيرة لفتَ نظري أن الوضوء في المسجد الحرام أُلْغي ، والوضوء والطهارة خارج بناء المسجد ، لأن هذا المكان أقدس من أن تدخل إلى دورة مياه تغيِّر الوضوء ، والوضوء خارج المسجد الحرام ، وخارج المسجد النبوي الشريف، هذا تعظيم للمسجد.

وتميم الداري من أصحاب النبي صلَّى الله عليه وسلَّم ، كان في الشام فاشترى قناديل لمسجد النبي عليه الصلاة والسلام ، فلما وصل إلى المدينة أمر غِلْمَانه فركَّبوا هذه القناديل ، وأسرجها يوم الجمعة ، فدخل النبي عليه الصلاة والسلام فرأى المسجد قد نوِّر فقال : " من فعل هذا ؟" فقالوا : تميم ، فما كان عليه الصلاة والسلام إلا أن دعا وقال : " اللهمَّ نوِّر قلبه كما نوَّر بيتك ، وقال له :" لو أن عندي بنتًا لزوجتكها " . فقال أحد الصحابة : عندي فتاة يا رسول الله أنا أزوِّجه إيَّاها " ، فزوَّجه إيَّاها .

وستار الكعبة يُعطَّر دائماً ، فإذا اقترب الإنسان من ستار الكعبة ، ووضع يده على الملتزم يشم رائحة طيِّبة ، وهذا من تعظيم شعائر الله عزَّ وجل ، فكلَّما كان المسجد نظيفًا ، فهذا شيء يدل على الإيمان ، فإذا كان مهملاً دلَّ على ضعف الإيمان .

والشيء اللطيف في هذا الدرس عن عائشة رضي الله عنها قالت : ((أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ فِي الدُّورِ وَأَنْ تُنَظَّفَ وَتُطَيَّبَ)) .

( من سنن الترمذي)

إنّ الإنسان يصلي قيام الليل في بيته ، ويصلي السنة في بيته ، ويصلي الفرض أحياناً مع أهله وأولاده ، وكأن النبي أراد أن تكون أجمل غرفة ، وقد تكون غرفة الضيوف فيها سجادة مريحة نصلي عليها ، فهذا المكان في البيت سمَّاه النبي مسجدًا ، وفي كل بيتٍ مسجدٌ لصلاة النوافل ، وصلاة السنن ، وصلاة الليل ، فأمرنا النبي صلى الله عليه وسلَّم ببناء المساجد في الدور ، وأن تنظَّف وتطيَّب .

وعن سمرة بن جندب : ((أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ فِي الدُّورِ وَأَنْ تُنَظَّفَ وَتُطَيَّبَ)) .

( من سنن الترمذي)

تحدَّثنا إذاً عن البيوت ، وعن نظافة البدن ، وعن نظافة الثوب ، وعن نظافة الفم ، وعن نظافة المسجد .

ويحث النبي صلى الله عليه وسلَّم على نظافة الطرق والساحات العامَّة ، وينهى عن تلويثها ، والآن ترى إنسان يركب مركبة مثلاً ، ويأكل حاجة فيرميها من النافذة ، ومثله من الموز كثير ، ورمي هذه القشرة قد تسبِّب كسر إنسان ، أليس كذلك ؟ وغير الكسر ، شارع نظيف ، فالإنسان يخجل أن يرمي ورقة في ساحة نظيفة ، فلذلك المُسلم لا يؤذي الطرقات ، ولا يؤذي الساحات العامَّة ، وأحياناً يضعون براميل أو أماكن لوضع المهملات ، فكأن الإنسان يحافظ على نظافة هذه البراميل ، لا على نظافة الطرق ،تجدها فارغة ولا يستعملها أحد ، فكل شيء يلقى في الطريق . وأحياناً الإنسان يقوم بنزهة فيترك قشور الفواكه ، والأكياس ، وبقايا الطعام ، ويمشي ، وكل مكان جميل تجد فيه بقايا الطعام ، وبقايا علب مفتوحة ، إنه منظر بشع ، فهذا المكان الجميل أيعقل أن يكون هكذا ؟ .

ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال عليه الصلاة والسلام : ((الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ)) .

أنتم تعرفون أن أكثر الحرائق في الغابات أساسها سجارة ، ولقد حدَّثني أخ عن طائرة تقل أربعمئة وخمسين راكبًا في موسم الحج ، تنطلق إلى شرق آسيا ، وثمة حاج أراد أن يشرب الشاي الساخن مِن صُنعِه في الطائرة ، فأشعل الغاز ، ووضع إبريق الشاي ، فاحترقت الطائرة ، فلما حلَّق الطيار في الجو وجد حريقًا فأخبر المطار ، والحريق عطَّل الدارات الكهربائيَّة في الطائرة ، وهبط على أرض المطار ، واحترقت الطائرة ولم ينجُ أحد ، أربعمئة وخمسون راكبًا احترقوا ، لأن هذا الحاج أراد أن يشرب كأسًا من الشاي في الطائرة ، أمسلم هذا ؟ .

فإيذاء الناس ، والاستخفاف بالممتلكات العامَّة ، وإيقاع الأذى من أجل كأس شاي ، أو يشوي لحمًا فيحرق غابة ، ويقول لك : كل احتراق الغابات - خمسة آلاف دونم - الآن جبال بأكملها محروقة أسبابها سوء انضباط ، وجهل ، فالمسلم يجب أن يكون أرقى إنسان .

والحمد لله رب العالمين
* * *


 
التعديل الأخير بواسطة المشرف:

The Hero

الأســــــــــــــطورة

إنضم
Jun 29, 2008
المشاركات
20,104
مستوى التفاعل
69
المطرح
في ضحكة عيون حبيبي
رسايل :

شكرًا للأشواك علَّمتني الكثيرَ

الدرس 03 / 32 من الشمائل لفضيلة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي .

الموضوع : السيرة النبويَّة : شمائل الرسول صلى الله عليه وسلَّم : تجمله صلَّى الله عليه وسلَّم .

تفريغ المهندس : عبد العزيز كنج عثمان .

التدقيق اللغوي : الأستاذ احمد مالك .

التدقيق النهائي: المهندس غسان السراقبي .





بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

أيها الإخوة المؤمنون ؛ مع الدرس الثالث من دروس شمائل النبي صلى الله عليه وسلَّم ، وموضوع درس اليوم تجمُّله صلى الله عليه وسلَّم.

فكان صلى الله عليه وسلَّم يتجمَّل ، ويأمر أصحابه بالتجمُّل ، ويأمرهم أن يكونوا بمظهرٍ حسن ، وهذا يعني نظافة البدن ، ونظافة الثوب ، وترجيل الشعر ، وقصَّ الأظافر ، وأناقة الثياب ، هذا هو التجمُّل ، وكل إنسان يتجمَّل بقدر إيمانه ، فكان عليه الصلاة والسلام يتجمَّل ، ويأمر أصحابه بالتجمُّل ، فقد روى البيهقي أنه كانت له حُلَّةٌ يلبسها للعيدين والجمعة .

فبصراحة المؤمن الكامل له ثياب جديدة يرتديها في المناسبات ، لأن المؤمن لا يمثل شخصه ، بل يمثِّل هذا الدين الذي ينتمي إليه ، فلا ينبغي أن يكون في ثيابه خطأ فاحش ، ولا في ثيابه سبب للازدراء ، والنبي عليه الصلاة والسلام كانت له حلةٌ يلبسها للعيدين والجمعة ، وثياب خاصَّة ، الآن لابدَّ من ثياب في عقد قِران ، وفي احتفال ، وفي يوم العيد ، وفي زيارة ، وفي اجتماع ، وفي مقابلة مع شخص ، لأنك حينما تدخل على مجتمع ، أو حينما تلتقي بإنسان ، وأنت ساكت يقيِّمك من ثيابك ، فإذا تكلَّمت نسي ثيابك ، فإذا عاملته نسي كلامك .

مظهر ، ثم كلام ، ثم معاملة ، والمعاملة تنسي الكلام ، والكلام ينسي الهَيْكَل ، فإنسان أنيق تكلَّم كلمات بذيئة لا قيمة لأناقته ، أذكر مرَّة إنسانًا يرتدي ثياب جميلة ، وتكلَّم كلامً بذيئًا ، فقال له واحد من وجهاء الأحياء : " إما أن تحكي مثل لباسك ، أو تلبس مثل كلامك " ، فلا يتناسب كلامك مع لباسك ، إما أن تتكلَّم مثل لباسك ، فلباسك أنيق فتتكلَّم كلامًا أنيقًا ، وإما تلبس لباسًا مبتذلاً مثل كلامك المبتذل ، فالمؤمن يمثِّل هذا الدين ، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول : ((كل رجل من المسلمين على ثغرة من ثغر الإسلام ، اللهَ اللهَ لا يؤتى الإسلام من قبلك)) .

(كتاب السنة للمروزي(28) عن يزيد بن مرثد)

فكل مؤمن صادق يشعر أنه يمثِّل هذا الدين ، وسفير هذا الدين ، واللِه الذي لا إله إلا هو ستحاسب من نظافة بدنك ، ومن نظافة ثوبك ، و من مواعيدك ، ومن أمانتك ، ومن دقة كلامك ، سبحان الله ! المؤمن بالذات دائماً أعداء الدين يسلِّطون عليه الأضواء ، فالأضواء الشديدة كلُّها مسلَّطة عليه ، فإذا ارتكب صغيرةً أقاموا عليه القيامة ، وأقاموا عليه النكير ، فإذا أردت أن تكون سفيراً لهذا الدين فكن في المستوى اللائق ، وقد ورد في الحديث القدسي : ((إن هذا الدين ارتضيته لنفسي ولا يصلحه إلا السخاء وحسن الخلق فأكرموه بهما ما صحبتموه)) .

( من المأثور : عن " جبر بن عبد الله " )

قصَّة سأرويها لكم : كنت أصلي صلاة المغرب إماماً في جامع النابلسي ، وسيارتي بالمنطقة الصناعيَّة أريد أن أذهب لأستلمها ـ كانت بالتصليح ـ فصلَّى وراءنا أخ صاحب سيارة عمومي ، قلت له : أتوصلني إلى المنطقة الصناعيَّة ؟ وقد صليت به إمامًا ، كمد ، واضطرب وارتبك ، ماذا ذهب إلى ظنِّه ؟ أنني لن أعطيه أجرة ، فلما حُرِج أوصلني على مضض ، فكان المبلغ سبع عشرة ليرة ، فناولته خمسة وعشرين ، فصغر ، فإذا كنتَ رجل دين تركب من غير أجرة ؟ تعطي أقل من حق الناس ؟ هكذا هو أخذ الفكرة ، فعندما أعطيته ثلث المبلغ زيادة صغر .. : ((كل رجل من المسلمين على ثغرة من ثغر الإسلام ، اللهَ اللهَ لا يؤتى الإسلام من قبلك)) .

(كتاب السنة للمروزي(28) عن يزيد بن مرثد)

((إن هذا الدين ارتضيته لنفسي ولا يصلحه إلا السخاء وحسن الخلق فأكرموه بهما ما صحبتموه)) .

( من المأثور : عن " جبر بن عبد الله " )

فأنت تمثِّل هذا الدين فكن سخيًّا ، كريمًا ، صادقًا ، لأن كل الكلام لا قيمة له ، ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام كان يتجمَّل ، ويأمر أصحابه بالتجمُّل ، وروى البيهقي أنه صلى الله عليه وسلَّم له حلةٌ يلبسها للعيدين والجمعة ، إذاً فواجب على كل واحد من إخواننا المؤمنين أن تكون له ثياب أنيقة ، أنا لم أقل غالية ، أنيقة ، أي نظيفة ، فإذا كان يلبس ثيابًا عاديَّة مكويَّة ، نظيفة ، فيها تناسب في الألوان ، حتى إذا دُعي لعقد قران أو لاحتفال ، قيل : فلان مؤمن ، وثيابه مقبولة ، فلا أطالبكم بثياب غالية الثمن ، ولكن ثياب فيها شيء من الذوق ، وشيء من النظافة .

تروي السيدة عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلَّم خرج ذات يومٍ إلى إخوانه ، فنظر في كوز الماء ـ لم يكن وقتها مرآة - أين نظر ؟ في كوز الماء إلى جمَّته ، أي إلى شعره وهيئته ، فشيء لطيف من الإنسان قبل أن يخرج أنْ يقف أمام المرآة ، يا ترى شعره منتظَم ، وثيابه منتظمة ، فيها خطأ ، أو فيها شيء ، فهذا من السُنَّة ، قالت : خرج ذات يومٍ إلى إخوانه فنظر في كوز الماء إلى جمَّته ـ أي إلى شعره وهيئته .

وقال عليه الصلاة و السلام : ((إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ)) .

( من مسند أحمد : عن " عبد الله بن مسعود " )

((إذا خرج أحدكم إلى إخوانه فليتهيأ في نفسه)) .

أنا أحياناً واللهِ أعجب أنك كمسلم هل من الممكن أن تستقبل ضيفًا بالقميص الداخلي ـ الشيال ـ بالصيف ؟!! فهذه إهانة للضيف ، وهذه ثياب مبتذلة لا يجوز أن تصلي بها ، فكيف تستقبل بها الضيوف !! حتى في بيوت المسلمين من يقوم بالثوبين الداخليين فقط أمام أخواته البنات ، أو أمام بناته ، فهذا ليس من السنة في شيء .

فلذلك عندما نظر النبي في كوز الماء إلى لمَّته ـ أي إلى شعره ـ وإلى هيئته قال : ((إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ)) ، و : ((إذا خرج أحدكم إلى إخوانه فليتهيَّأ في نفسه)) .

فعلى الإنسان أنْ يغسل ، ويرجِّل شعره ، ويضع عطرًا ، ويتأنَّق بثيابه ، ويجعل هندامه مقبولاً ، وسأقول لكم كلمة : أحياناً الإنسان ينطلق في حديثه إذا كانت ثيابه جيِّدة ، فإذا كان في ثيابه خطأ اضطرب في حديثه ، لأنّ الثياب الأنيقة تعطي الإنسان ثقة بالنفس ، ولو دعي إنسان إلى عقد قران ، وكانت ثيابه غير جيِّدة ، تجده مرتبكًا ، ومضطربًا ، ومنكمشًا ، ومتطامِنًا ، لا ، أنت مؤمن .

والحقيقة هناك تعليق لطيف : الجمال في البساطة لا في التعقيد . وأحياناً تجد في الألوان تناسقًا ، مع أن الشيء رخيص ، والشيء الرخيص وفي ألوانه تناسق تجد فيه راحة نفسيَّة ، فليس شرطاً أن ترتدي أغلى الثياب ، إنما الشرط أن ترتدي ثياب مقبولة .

وكان إذا قدِم عليه وفدٌ لبس أحسن ثيابه ، وأمر أصحابه بذلك ، فرأيته وفَدَ عليه وفد كِنْدَة وعليه حُلَّةٌ يمانيَّة ، وعلى أبي بكرٍ وعمر مثل ذلك .

وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلَّم أن حُسْنَ السمت والزيِّ الحسن من شمائل الأنبياء وخصالهم الأصيلة .

وقد روى أبو داود عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ((إِنَّ الْهَدْيَ الصَّالِحَ وَالسَّمْتَ الصَّالِحَ وَالِاقْتِصَادَ جُزْءٌ مِنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ)) .

وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ : ((خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ بَنِي أَنْمَارٍ قَالَ جَابِرٌ فَبَيْنَا أَنَا نَازِلٌ تَحْتَ شَجَرَةٍ إِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْبَلَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلُمَّ إِلَى الظِّلِّ - أي شجرة ظلُّها وارف - قَالَ فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُمْتُ إِلَى غِرَارَةٍ لَنَا - غرارةٍ ظرفٍ شديد العِدْلِ ، أي محفظة - فَالْتَمَسْتُ فِيهَا شَيْئًا فَوَجَدْتُ فِيهَا جِرْوَ قِثَّاءٍ - أي خيار وقته - فَكَسَرْتُهُ ثُمَّ قَرَّبْتُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مِنْ أَيْنَ لَكُمْ هَذَا قَالَ فَقُلْتُ خَرَجْنَا بِهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنْ الْمَدِينَةِ قَالَ جَابِرٌ وَعِنْدَنَا صَاحِبٌ لَنَا نُجَهِّزُهُ يَذْهَبُ يَرْعَى ظَهْرَنَا - أي نجهِّز صاحب لنا ليرعى الغنم - قَالَ فَجَهَّزْتُهُ ثُمَّ أَدْبَرَ يَذْهَبُ فِي الظَّهْرِ وَعَلَيْهِ بُرْدَانِ لَهُ قَدْ خَلَقَا قَالَ فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ فَقَالَ أَمَا لَهُ ثَوْبَانِ غَيْرُ هَذَيْنِ فَقُلْتُ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ لَهُ ثَوْبَانِ فِي الْعَيْبَةِ كَسَوْتُهُ إِيَّاهُمَا قَالَ فَادْعُهُ فَمُرْهُ فَلْيَلْبَسْهُمَا قَالَ فَدَعَوْتُهُ فَلَبِسَهُمَا ثُمَّ وَلَّى يَذْهَبُ قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَهُ ضَرَبَ اللَّهُ عُنُقَهُ أَلَيْسَ هَذَا خَيْرًا لَهُ قَالَ فَسَمِعَهُ الرَّجُلُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ فَقُتِلَ الرَّجُلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)) .

( رواه مالك في الموطأ)

إلى أين يذهب ؟ إلى الجبال ليرعى الغنم ، ومع ذلك ما رضي النبي له هذين الثوبين ، ليس هناك لقاء ، ولا احتفال ، ولا عقد قران ، ولا عيد ، ولا جمعة ، راٍع يذهب إلى الجبال ليرعى الأغنام ، وعليه ثوبان خَلِقان ، فلما نظر النبي إليه قال: " ((أَمَا لَهُ ثَوْبَانِ غَيْرُ هَذَيْنِ ؟ فقلت : بلى يا رسول الله ، له ثوبان في العَيْبَة كسوته إيَّاهما ـ أي في البيت ـ قال : " فَادْعُهُ فَمُرْهُ فَلْيَلْبَسْهُمَا " ، قال : فدعوته فلبسهما ثم ولَّى يذهب ، فقال عليه الصلاة والسلام : " أَلَيْسَ هَذَا خَيْرًا لَهُ ؟ " .

النبي عليه الصلاة والسلام لا يرضى للراعي ، وهو يرعى الغنم في شعف الجبال ، وليس معه أحد ، لم يرض له هذه الثياب المبتذلة المهترئة ، فكيف إذا كنت مع الناس وفي المدينة ، ومع علية القوم كما يقولون ؟

درسنا اليوم التجمُّل ، فكان عليه الصلاة والسلام يتجمّل ، ويأمر أصحابه بالتجمل ، وكان له ثوب يلبسه في العيدين وفي الجمعة ، وكان إذا وفد عليه الوفد لبس أحسن ثيابه ، وأمر علية قومه بذلك .

وعَنْ مَالِك أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ : ((إِنِّي لَأُحِبُّ أَنْ أَنْظُرَ إِلَى الْقَارِئِ أَبْيَضَ الثِّيَابِ)) .

( موطأ مالك)

قارئ القرآن من كمال قراءته أن يرتدي ثوباً أبيض ، والحجاز بلادٌ حارة ، واللون الأبيض يتناسب مع الطقس الحار ، ولكن كأن النبي يقول : هذا الذي يقرأ القرآن عليه أن يتجمَّل.

وسيدنا عمر يقول : (إذا أوسع الله عليكم فأوسعوا على أنفسكم) .

وهناك حديث : ((ليس منا من وسع الله عليه ثم قتر على عياله)) .

(مسند الشهاب للقضاعي(1192) عن عائشة)

وروى أبو نعيم في الحلية عن أبن عمر مرفوعاً : ((إن العبد آخذ عن الله تعالى أدبا حسنا ، إذا وسع عليه وسع، وإذا أمسك عليه أمسك)) .

(البيهقي في شعب الإيمان(6591) عن ابن عمر)

لأن الله عز وجل يحب أن يرى أثر نعمته على عبده ، وأوضحُ أثر في الثياب ، وأحياناً الإنسان يرتدي ثوبًا جديدًا ، وهذا من إكرام الله له ، فلذلك النبي عليه الصلاة والسلام كانت تعظم عنده النعمة مهما دقَّت ، وكان إذا ارتدى ثوبًا جديدًا ، هناك دعاء خاص للثوب الجديد .

وروى الحاكم بإسناده عن سهل بن الحنظلية عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ((أحسنوا لباسكم ، وأصلحوا رحالكم ، حتى تكونوا كأنكم شامة في الناس)) .

( من الجامع الصغير)

هذه شمائل النبي صلى الله عليه وسلم ، فإذا سافر الإنسان فيجب أن يأخذ معه إبرة ، وخيطًا حتى إذا انقطع زره أصلح المشكلة ، وأحياناً يسافر ببنطال واحد ، ويمكن أن ينفتق البنطال ، فيأخذ معه بنطالاً آخر احتياطًا ، فدائماً فكر ، إبرة ، وخيط ، وقميص احتياط ، وهكذا كان النبي اللهم صلِّ عليه ، لأنه مشرع .

وروى الطبراني والبيهقي ، عن عمران بن الحصين رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((إن الله تعالى إذا أنعم على عبد نعمة يحب أن يرى أثر النعمة عليه، ويكره البؤس والتباؤس ـ الهيئة القذرة ، والهيئة المبتذلة ،و الخنوع ، والمسكنة ، والتذلل ، واليأس ، يا حسرتي علينا ، لماذا هذا التحسُّر ؟ أنت مؤمن ، وتعرف ربك ، ولك منهج ، والله هو الرزاق ، وهو الكريم ، فالله يكره البؤس والتباؤس ـ ويبغض السائل الملحف، ويحب الحيي العفيف المتعفف)) .

( من الجامع الصغير : عن " أبي هريرة " )

يكره البؤس والتباؤس ، ويبغض السائل الملحف ، ويحب الحيي العفيف المتعفف ، اسأل لكن مرة واحدة ، فالإلحاح ليس له فائدة ، فإذا أراد أن يعطيك يعطيك من مرة واحدة ، فإن لم يعطِك لا تبذل ماء وجهك ، ولا تذل نفسك ، ولا تهينها ، لذلك لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه .. ((ابتغوا الحوائج بعزة الأنفس فإن الأمور تجري بالمقادير)) .

سمعت قديماً قصة إنسان دخل بستانًا ، وهو يتجول في أنحائه رأى شجرة من أرقى التفاح ؛ حجمًا ، ولونًا ، وخدًا أحمر ، ورأى تفاحةً تلفت النظر ، وصاحب البستان صديقه ، قال : فهممت أن أقطفها لآكلها ، فقلت : لا يجوز ، ثم جلسنا إلى الطعام ، وبعد الطعام جاء طبق التفاح ، وفي مقدمة هذا الطبق تِلك التفاحة بالذات ، فلما هممت أن آخذها قلت : لا يجوز ، فما كان من صاحب الدعوة إلا أن أمسك هذه التفاحة ، وقدمها إليّ ، انظر إلى الإنسان ، منعه حياؤه أن يقطفها ، ثم وضعت على الطبق ، فمنعه حياؤه أن يأخذها ، حتى قدمت له ضيافة .

وأنا لي في هذا الموضوع تعليق لطيف ؛ فالرزق مقسوم ، وهذه التفاحة في هذا البستان ، بالشجرة الثالثة ، في الغصن الرابع ، والتفاحة السابعة ، وهذه التفاحة لفلان ، فطريقة وصول هذه التفاحة لفلان باختياره ؛ يمكن أن يسرقها وهي له ، ويمكن أن يتسوَّلها وهي له ، ويمكن أن يشتريها وهي له ، ويمكن أن تقدَّم له ضيافة وهي له ، ويمكن أن تهدى له وهي له ، هدية ، ضيافة ، شراء ، تسول ، سرقة ، فهذه باختيارك ، أما هي لك ، لذلك : اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك .

((إن الله يكره البؤس والتباؤس ، ويبغض السائل الملحف، ويحب الحيي العفيف المتعفف)) .

( من الجامع الصغير : عن " أبي هريرة " )

لذلك مرة سيدنا عمر رأى إنسانًا يطلب بإلحاح فقال له : (يا هذا لقد ضيعت من نفسك أكثر مما ضاع منك) ، ضيعت ماء وجهك ، وكرامتك ، وضيعت أثمن شيء تملكه .

إذاً القسم الأول من الدرس كان عليه الصلاة والسلام متجملاً ، ويأمر أصحابه بالتجمُّل ، وكان له ثياب لا يرتديها إلا في أيام الجمعة والأعياد ، وكان إذا وفد عليه الوفد لبس أحسن ثيابه ، وأمر عليَّة قومه بذلك ، وكان يقول : ((أحسنوا لباسكم ، وأصلحوا رحالكم ، حتى تكونوا كأنكم شامة في الناس)) .

( من الجامع الصغير : عن " سهل بن الحنظلية " )

والآن ننتقل إلى : حلاوة منطق النبي عليه الصلاة والسلام ، فقد كان عليه الصلاة والسلام حلو المنطق ، لأن الدعوة أساسها المنطق ، وأساسها الكلام الموزون ، وأجمل ما في الرجل فصاحته ، وأجمل ما في الآداب ضبط اللسان ، ولا يستقيم إيمان عبدٍ حتى يستقيم قلبه ، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه ، فمن سمات المؤمن ضبط اللسان ، يقول لك : عشت معه ثلاثين سنة ، ولم أسمع كلمة بذيئة منه ، فأحياناً من أجل أن نعظ الناس نتحدث عن الفجور في الطُرقات ، وعن النساء ، وبعض الدعاة يقول لك : العضو الفلاني ظاهر ، والعضو الفلاني ، هذا الكلام فيه إثارة ، فعَنِ ابْنِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ أَبَاهُ أُسَامَةَ قَالَ : ((كَسَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُبْطِيَّةً كَثِيفَةً كَانَتْ مِمَّا أَهْدَاهَا دِحْيَةُ الْكَلْبِيُّ فَكَسَوْتُهَا امْرَأَتِي فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَكَ لَمْ تَلْبَسْ الْقُبْطِيَّةَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَسَوْتُهَا امْرَأَتِي فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْهَا فَلْتَجْعَلْ تَحْتَهَا غِلَالَةً إِنِّي أَخَافُ أَنْ تَصِفَ حَجْمَ عِظَامِهَا)) .

لم يقل : ساقها ، لم يقل الكلمات الثانية ، فقد كان النبي عليه الصلاة والسلام ينتقي أعف الكلمات ، حيث لا يخدش حياء المستمعين ، وهذا أدب قرآني ، قال لي أحدهم : ما حكم كذا ؟ ـ سلوك جنسي ـ قلت له : الله عز وجل قال :


( سورة المؤمنون )

فكل الانحرافات في هذه الكلمة ، وهذه الكلمة لا تخدش حياء طفل ..



( سورة النساء : من الآية " 43 " )


( سورة الأعراف : من الآية " 189 " )

تغشاها ، فأنت انظر إلى الآيات التي تشير إلى العلاقة الزوجية في القرآن ، كلمات لطيفة ورائعة ، كلمات لا تخدش الحياء ، فأنت لا تتكلم بكلمات أمام أولادك ، ولا أمام إخوانك ، ولا أمام من هم صغار ، كلمات تخجل ، تصف العلاقات الزوجية ، تتكلم كلام يستحيا منه ، فهذا ليس من صفات المؤمن ، أنا أقول لكم ملخصًا : الذي عنده مزح فاحش ، هذا المزح الفاحش يقلل من إيمانه ، هذا إذا لم يكن يعبر عن ضعف إيمانه أو عن انعدام إيمانه .. (لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ وَلا اللَّعَّانِ وَلا الْفَاحِشِ وَلا الْبَذِيءِ)) .

( من سنن الترمذي : عن " عبد الله " )

والحقيقة تجد من رواد المساجد في أدب يلفت النظر بكل المصالح ، والمعامل ، والمحلات ، فإذا التقى مؤمنًا ، فليس عنده كلمة مغشوشة ، ومزحة سافلة ، لأنّ هذا يتنافى مع أخلاقه .

فكان عليه الصلاة والسلام حلو المنطق ، حسن الكلام ، إذا تكلم أخذ بمجامع القلوب ، وسبى الأرواح والعقول ، وإذا تكلم خرج النور من بين ثناياه ، فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : ((كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْلَجَ الثَّنِيَّتَيْنِ إِذَا تَكَلَّمَ رُئِيَ كَالنُّورِ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ ثَنَايَاهُ)) .

(الدارمي)

إنه كلام لطيف، كلام متصل وفيه سيولة ، وبحة خفيفة ، فكان النبي حلو المنطق.

وعن أبي قرصافة أنه قال : لما بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وأمي وخالتي ، ورجعنا من عنده منصرفين، قالت لي أمي وخالتي : ((يا بني ما رأينا مثل هذا الرجل أحسن منه وجهاً ولا أنقى منه ثوباً ، ولا ألين كلاماً ، ورأينا كأن النور يخرج من فيه صلى الله عليه وسلم)) .

(الطبراني في الكبير(2518)

والآن تجد البيوت كلها مرايا ، وراء كل باب مرآة ، وغرفة النوم فيها مرآة ، والمدخل ، فكان ينظر إلى جمته من الكوز من صفيحة ماء ساكنة ، ومع ذلك كان متجملاً ، ولم يكن عندهم قديماً حمام ، وأنت تفتح الماء الساخن فينزل رأساً ، ونحن الآن ننعم بشيء لا يتصوره الإنسان ، ماء ساخن دائماً ، تقريباً الحمام فيه ماء جار ، وقد كانت الأمور بدائية ، وكان عليه الصلاة والسلام في أعلى درجات التجمل والنظافة ، والأمور بدائية .

وكان عليه الصلاة والسلام أفصح خلق الله لساناً ، وأوضحهم بياناً ، أوتي جوامع الكلمة ، وبدائع الحكم ، وقوارع الزَجر ، وقواطع الأمر، والقضايا المحكمة ، والوصايا المُبرمة ، والمواعظ البليغة ، والحجج الدامغة ، والبراهين القاطعة ، والأدلة الساطعة .

فأنت كمؤمن إذا أردت أن تكون داعية إلى الله ، فرأس مالك المنطق ، واللغة ، والفصاحة ، والنصوص ، وأنا لا أعتقد مؤمنًا حريصًا على الدعوة إلى الله عزَّ وجل ولا يسجل ما سمع ، سمع حكمة والله شيء جميل ، لِمَ لَم تكتبها لتحفظها ، فإذا أردت أن تحفظ فاكتب ، ولمجرد أن تكتب فاحفظ ، فالإنسان لما يهتم ، فأنا أنصح كل إخوانها بوضع دفتر صغير في جيبه ، أحياناً وهو يركب سيارة عامة سمعت تعليقًا ، أو حكمة فسجِّلها ، وكلَّما سجلت ، وبوَّبت ، وصنفت ، فإذا قرأته فهذا كتاب بمكتبتك ، انتهى العام الدراسي باع الكتب ، فما هذا الكلام ؟ هذه مكتبة ، كتاب قرأته احتفظ به ، تصفحه من حين إلى آخر ، قرأت كتاب اعمل تعليقات ، اعمل حواشي ، اعمل خطوطًا حينما تجعل الخطوط ، والتعليقات ، والحواشي تحفظ ، فإذا حفظت ألقيت ، هذا نص قرأته فأعجبك ، فاحفظه ، وأول لقاء تكلم فيه ، على مرتين حفظته نهائياً .

فبصراحة إذا لم يكن للإنسان إمكانية أن يتكلم لفترة طويلة كلامًا منضبطًا ن ونصوصًا صحيحة دقيقة ، كيف يدعو إلى الله ؟ هو بصراحة الحق مثل الشراب الثمين ، واللغة مثل وعاء للحق ، فهل من المعقول أن تقدم شرابًا ثمين في وعاء قذر ؟ هذا غير معقول ، فالفصاحة وتعلم العربية جزء من الدين ، فيجب أن يكون عندك قاموس في البيت ، وكتاب نحو ، يكون لك مرجع ، في درس عربي أحضره معك .

نحن بعد أسبوع إن شاء الله ستعود دورة الدعاة ، في درس اللغة العربية ، وفي درس مصطلح حديث ، ودرس أصول فقه ، ودرس تاريخ الفقه ، ودرس الفقه المُقارن ، وعلوم القرآن ، والعقيدة ، وأصول الدعوة ، بعد أسبوع إن شاء الله سنعود إلى التدريس في معهد الدعاة ، فإذا كنتَ في درس اللغة العربية أحضره ، وتعلموا العربية فإنها من الدين ، وهذه لغتك ، ولغة قرآنك ، ولغة أمتك .

وجاء في المسند وغيره عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو يَقُولُ : ((خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا كَالْمُوَدِّعِ فَقَالَ أَنَا مُحَمَّدٌ النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ قَالَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَلَا نَبِيَّ بَعْدِي أُوتِيتُ فَوَاتِحَ الْكَلِمِ وَخَوَاتِمَهُ وَجَوَامِعَهُ وَعَلِمْتُ كَمْ خَزَنَةُ النَّارِ وَحَمَلَةُ الْعَرْشِ وَتُجُوِّزَ بِي وَعُوفِيتُ وَعُوفِيَتْ أُمَّتِي فَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا مَا دُمْتُ فِيكُمْ فَإِذَا ذُهِبَ بِي فَعَلَيْكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ أَحِلُّوا حَلَالَهُ وَحَرِّمُوا حَرَامَهُ)) .

( رواه أحمد)

المتهوكون هؤلاء الذين يلوون ألسنتهم بالكلام ، فلا توجد فصاحة ، والتقعر تشدق بالألفاظ ، فكن فصيحً ، وكن طبيعيًّا ، وأتقن اللغة من دون تقعُّر ، ومن دون تكلُّف ، ومن دون تزمت .


وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ((بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ وَبَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الْأَرْضِ فَوُضِعَتْ فِي يَدِي )) ، قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ وَبَلَغَنِي أَنَّ جَوَامِعَ الْكَلِمِ أَنَّ اللَّهَ يَجْمَعُ الْأُمُورَ الْكَثِيرَةَ الَّتِي كَانَتْ تُكْتَبُ فِي الْكُتُبِ قَبْلَهُ فِي الْأَمْرِ الْوَاحِدِ وَالْأَمْرَيْنِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ .

(متفق عليه)

مرة جاءه وفد وسأله عن الصيام ، فتكلم النبي لفصاحته بلغة أو بلهجة هذا الوفد ، فلما سئل :" هل من أمبر أمصيام في أمسفر ؟ فقال : ليس من أمبر أمصيامٌ في أمسفر "،. أي ليس من البر الصيام في السفر ، فكان يتكلم بلغة السائل ، وهذا من فصاحته .

ومر معي حديث في الجامع الصغير : ((من أصاب مالاً من نهاوش أذهبه الله في نهابر)) .

(كشف الخفاء(2374) عن أبي سلمة الحمصي)

هذه لغة ، النهاوش أي بالاحتيال ، وروي مهاوش بالميم ، والنهابر يذهب ماله في مهالك ، ((من أصاب مالاً من نهاوش أذهبه الله في نهابر)) .

بجهات الجنوب ، يقول أحدهم للآخر : أنطِه حقه ، أي أعطه ، فلما سأل واحد النبي اللهم صل عليه وهو عطية بن عروة السعدي الذي قال : حدثني أبي أن أباه أخبره قال : قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس من بني سعد بن بكر وكنت أصغر القوم فخلفوني في رحالهم ثم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى من حوائجهم ثم قال : ((هل بقي منكم من أحد قالوا : نعم خلفناه في رحالنا ، فأمرهم أن يبعثوا إلي ، فأتوني فقالوا : أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتيته ، فلما رآني قال : ما أغناك الله فلا تسأل الناس شيئا ، فإن اليد العليا هي المنطية ، وإن اليد السفلى هي المنطاة ، وإن مال الله تعالى لمسؤول ، ومنطي)) ، قال : فكلمني رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغتنا .

( الحاكم في المستدرك(7930 )

هذه القبيلة تلفظ العين نوناً ، وهذه القبيلة موجودة ، فبالجنوب ، يقول له : أنطه ، وليس أعطه حقه ، أنطه حقه ، فكان عليه الصلاة والسلام يخاطب الأقوام بلهجاتهم .

أما آدابه في الكلام فعَن عَائِشَةَ قَالَتْ : ((أَلَا يُعْجِبُكَ أَبُو هُرَيْرَةَ جَاءَ فَجَلَسَ إِلَى جَنْبِ حُجْرَتِي يُحَدِّثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسْمِعُنِي ذَلِكَ وَكُنْتُ أُسَبِّحُ فَقَامَ قَبْلَ أَنْ أَقْضِيَ سُبْحَتِي وَلَوْ أَدْرَكْتُهُ لَرَدَدْتُ عَلَيْهِ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَسْرُدُ الْحَدِيثَ كَسَرْدِكُمْ)) .

(رواه مسلم)

كلمةً كلمة ، والحديث فن ، فهذه قدرة بالإنسان اسمه : المتحدث اللبق ، كلمة كلمةً ، ووضوح ، وسهل ممتنع ، وجمل متينة ، وفكرة مع الدليل ، ودليل مع الشاهد ، وتطور ، وموازنة ، ومحور انتقال واحد ، فكلما راعى الإنسان اللغة والمنهج والوضوح والدليل صار في انجذاب إلى اللغة .

وفي روايةٍ عن عائشة : ((إنما كان حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فهماً تفهمه القلوب)) .

(مسند أبي يعلى الموصلي(4393))

وأذكر أنني قد قلت لكم ذات مرة : في دبلوم التربية عندنا كان عشرون دكتورًا ، نحن كنا مئتين وعشرين طالبًا ، في بعض المواد خمسة طلاب ، أو عشرة طلاب ، أو عشرون طالبًا يحضرون هذه المادة ، أو تلك ، لكن أحد الأساتذة يحضر درسه مئتين وعشرين طالبًا ، لا يغيب أحد ، ونصفهم على الواقف ، لأنه أوتي فصاحة ووضوحًا ، ودقة ، وعمقًا في الصياغة ، وشاهدًا ، حيث لو حضرت محاضرته فهمت الدرس ، ولا تحتاج إلى أن تقرأه في الكتاب .

فإذا كان الإنسان حريصًا على نقل الحق للناس ، كان حريصًا أيضاً على استيعاب أصول الحديث .

وكان كلامه فصلاً يفهمه كل من سمعه ، وكلما ضعفت القدرة اللغوية عندك أصبح كلامك معقدًا ، والتعقيد في الكلام دليل ضعف اللغة ، أو دليل اضطراب في المعني ، والمعاني المضطربة في نفس المتكلِّم أو ضعف اللغة يظهران بشكل تركيب معقَّد ، ولكن المعاني الواضحة والفصاحة التي يتمتع بها المتكلم تجعل كلامه سهلاً واضحاً ، وهذا الكلام سماه علماء البلاغة السهل الممتنع ، فعجيب إذًا هذا الكلام ، فهذا الكلام السهل الممتنع يظنه الضعيف بسذاجةٍ أنه يحسن مثله ، وهو أبعد إليه من السماء ، إنه السهل الممتنع .

وفي الصحيحين عن أنسٍ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم :" كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا ـ وضح في كلمات دقيقة مفصلة ، أعادها مرة ، ومرتين وثلاثا حتى تفهم عنه ـ وكان صلى الله عليه وسلم يتكلم بكلامٍ فصلٍ لا هذرٍ ولا نذرٍ ويكره الثرثرة في الكلام والتشدق به وكان صلى الله عليه وسلم يكره التنطع في الكلام والتكلف في فصاحته".

وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ((قَالَ إِنَّ اللَّهَ يَبْغَضُ الْبَلِيغَ مِنْ الرِّجَالِ الَّذِي يَتَخَلَّلُ بِلِسَانِهِ كَمَا تَتَخَلَّلُ الْبَقَرَةُ)) .

(الترمذي ، وأبو داود)

فكل شيء له حد معتدل ، أكثر تقعر .

ومن أروع ما قيل في النبي عليه الصلاة والسلام " كان صلى الله عليه وسلم إذا خطب لا يخل ولا يمل " ، فأحياناً هناك إيجاز مخل ، و إطناب ممل ، فكان إذا خطب لا يخل ولا يمل .

وعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ كُنْتُ أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَتْ صَلَاتُهُ قَصْدًا - معتدلة - وَخُطْبَتُهُ قَصْدًا - أي وسطاً -)) .

( رواه مسلم )

صلاته معتدلة وخطبته معتدلة ..

وكان عليه الصلاة والسلام لا يطيل الموعظة يوم الجمعة إنما هي كلماتٌ يسيرة .

أنا معجب بهذا الأعرابي الذي جاء النبي صلى الله عليه وسلم وقال: " يا رسول الله عظني ولا تطل " ، فتلا عليه قوله تعالى :


( سورة الزلزلة )

فقال له : " كفيت " ، فقال النبي : " فقه الرجل " .

يا ترى المسلمون الآن يسمعون خطبًا أكثر من ثلاثين سنة ، ويحضرون دروس العلم ، ويسمعون أشرطة ، ويقرؤون الكتب ، والمجلات ، يشاهدون الندوات ، ومع ذلك إذا فحصت سلوكهم تجد فيهم خللاً كبيرًا ، وهذا الأعرابي تكفيه آيةٌ واحدة ؟!

وروى الإمام أحمد وأبو داود عَن الْحَكَمِ بْنِ حَزْنٍ الْكُلَفِيُّ قَالَ : ((وَفَدْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَابِعَ سَبْعَةٍ أَوْ تَاسِعَ تِسْعَةٍ فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ زُرْنَاكَ فَادْعُ اللَّهَ لَنَا بِخَيْرٍ فَأَمَرَ بِنَا أَوْ أَمَرَ لَنَا بِشَيْءٍ مِنْ التَّمْرِ وَالشَّأْنُ إِذْ ذَاكَ دُونٌ فَأَقَمْنَا بِهَا أَيَّامًا شَهِدْنَا فِيهَا الْجُمُعَةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ مُتَوَكِّئًا عَلَى عَصًا أَوْ قَوْسٍ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ كَلِمَاتٍ خَفِيفَاتٍ طَيِّبَاتٍ مُبَارَكَاتٍ ثُمَّ قَالَ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ لَنْ تُطِيقُوا أَوْ لَنْ تَفْعَلُوا كُلَّ مَا أُمِرْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ سَدِّدُوا وَأَبْشِرُوا)) .

هذا هو الصدق ، التقى الإخلاص والتطبيق مع الكلام القليل البليغ ، إنه أبلغ ألف مرة من كلام مُسهب بتفاصيل وجزئيات ولا يوجد تطبيق ، لذلك قال سيدنا الصديق : (إيَّاك وكثرة الكلام ، فإن كثرة الكلام ينسي بعضه بعضًا) .

أي إذا تحدثت فتحدث في موضوع واحد مركز ، وله مقدمة ، وعرض ، وتشقيق ، مع أدلة ، وشواهد ، وقصة مؤكدة مع خاتمة ، وانتهى الأمر .

وروى الطبراني والبزَّار عن جابر ، كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه الوحي أو وعظ قلت : نذير قومٍ أتاهم العذاب ، فإذا ذهب عنه كذلك رأيته أطلق اللسان وجهاً وأكثرهم ضحكاً وأحسنهم بشراً .

أي إنه رجل عادي ، لطيف ، مرح ، صاحب طُرفة ، يمزح مع أصحابه ، طليق الوجه ، كثير البِشر ، هكذا كان عليه الصلاة والسلام .

وكان عليه الصلاة والسلام إذا وعظ أثَّر في قلوب السامعين ، وطيَّب نفوسهم ، حتى إنهم لتذرف دموعهم ، وترق وتخشع قلوبهم ، ويرتقي حالهم إلى المشاهدات والمعاينات .

فلقد كان مجلس النبي اللهم صلِّ عليه مجلس مشاهدة ، وهذا الدليل ، تعرفونه.

عَنْ حَنْظَلَةَ الْأُسَيِّدِيِّ قَالَ وَكَانَ مِنْ كُتَّابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ((لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلَةُ قَالَ قُلْتُ نَافَقَ حَنْظَلَةُ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ مَا تَقُولُ قَالَ قُلْتُ نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ فَنَسِينَا كَثِيرًا قَالَ أَبُو بَكْرٍ فَوَاللَّهِ إِنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا ذَاكَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ نَسِينَا كَثِيرًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِي الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمْ الْمَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً ثَلَاثَ مَرَّاتٍ)) .

(رواه مسلم)

القصة لها تتمة ، هذا الصديق الجليل ، الصاحب الأول ، سيد الصحابة قال له : " أنا كذلك يا أخي ـ تواضع ـ انطلق بنا إلى النبي " .

فلما انطلقا إلى النبي ذكر له حديث حنظلة : " نكون مع رسول الله ونحن والجنة كهاتين ، فإذا عافسنا الأهل ننسى ، فأحياناً يكون الإنسان في مجلس علم مبسوطًا مرتاحًا ، مشرق النفس ، يأتي على البيت اعملوا لنا عشاء ، تأخروا بالعشاء ، أين الشاي ، لماذا لم تقولوا لي ، فيتشجارون ، أين الحال ؟ كان في المسجد مبسوطًا مرتاحًا ، فراح الحال كله ، قال : " فإذا عافسنا الأهل ننسى ، قال له : أنا كذلك يا أخي " فلما عرضا ذلك على النبي قال : ((إنا معاشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا)) .

( من الجامع لأحكام القرآن : عن " محمد بن كعب " )



((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِي الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمْ الْمَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ)) .

أي يا أخي الكريم إذا جلست في مجلس علم وشعرت أنك مسرور ، مرتاح ، في تجلٍّ ، وطمأنينة ، وسكينة ، وكأنك في الجنة ، فهذه علامة طيبة لك لأن هذا هو إكرام الله لك في بيته ، ألم يقل النبي : ((إن بيوتي في الأرض المساجد وإن زوارها هم عماراها فطوبى لعبدٍ تطهر في بيتي ثم زارني ، وحق على المزور أن يكرم الزائر)) .

(فيض القدير ، للمناوي(2/445))

فهذه السكينة ، وهذا التجلي ، وهذه الراحة النفسية ، أنا أقول لكم : واللهِ سمعت هذا من إخوة كثيرين ، يقولون لك : أنسى كل مشاكلي ، وكل هموم الدنيا ، وأرتاح ، فخرجتُ من المسجد مبسوطًا ، مسرورًا ، فهذه مكافأة الله لك ، وهذه ضيافته ، كما أنك تزور إنسان فيقدم لك كأسًا من الشاي ، وسُكَّرة ، ويطعمك ، أما ربنا عندما يحب أن يكرمك ماذا يفعل بك ؟ يلقي على قلبك السكينة ..



( سورة التوبة : من الآية " 26 " )

فهذه السكينة أثمن ما في الدين ، وهذه الراحة النفسية ، هذا الحال الطيب ، قال : ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِي الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمْ الْمَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ)) ، فالنبي اللهم صلِّ عليه كان يرى ما لا يراه الآخرون ، وكان يخطب على جذع نخلة ، فلما صُنِع له منبر حنَّ الجذعُ إليه فأسكنه بيده ، فهل لديك إمكانية أن تفهم على جذع نخلة ؟ كان عليه السلام يقول : ((إن حجرا كان يسلم عليَّ في الجاهلية إني لأعرفه الآن)) .

( من الجامع لأحكام القرآن )

دخل مرة لبستان رأى ناقةً ، فحنت لما رأته ، فقال : ((مَنْ رَبُّ هَذَا الْجَمَلِ لِمَنْ هَذَا الْجَمَلُ ؟ " فَجَاءَ فَتًى مِنَ الأَنْصَارِ فَقَالَ : لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ : أَفَلا تَتَّقِي اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ اللَّهُ إِيَّاهَا فَإِنَّهُ شَكَا إِلَيَّ ـ هذا الجمل ـ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ)) .

( من سنن أبي داود : عن " عبد الله بن جعفر " )

فالجمل شكا له ، والحجر سلَّم عليه ، والنخلة حَنَّت إليه ، وهذا فوق طاقتنا ، فنحن مثل الجماد ، جماد على جماد ، فالنبي عليه الصلاة والسلام لشدة إقباله على الله ، لشدة شفافية نفسه ، فكان يرى ما لا يراه الآخرون .

إذاً الإنسان بالمسجد تصفو نفسه ، ترق مشاعره ، يرى ما لا يراه وهو في الطريق ، وهو في البيع والشراء ، هذا إكرام الله له .

وروى الترمذي عَنْ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ قَالَ : ((وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا بَعْدَ صَلَاةِ الْغَدَاةِ مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ فَقَالَ رَجُلٌ إِنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ يَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّهَا ضَلَالَةٌ فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَعَلَيْهِ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ)) .

( رواه الترمذي)

قال لي رجل بعيد عن جو المشايخ : أنا لست قابضًا أحدًا ـ يقصده من المشايخ ـ قال لي : مرة كنت بحمص دخلت مسجدًا متواضعًا ، والخطيب تكلَّم ، فصرت أبكي ، قال لي : والله يا أستاذ ثلاثة أرباع الساعة ، وأنا أبكي ، قال لي : ما سر ذلك ؟ قلت له : لأن هذا الخطيب مخلص ومطبق ، فالله أعطى لكلامه قوة تأثير ، وهذا هو السر ، فالدين ليس بحرفة ، ويقول الإمام الشافعي ـ ودققوا في هذا الكلام ـ : (لأن أرتزق بالرقص أهون من أن أرتزق بالدين) ، لأنّ الدين لا يرتزق به ، فالدين اتجاه ، وموقف ، فأنت تريد المال فاشتغل بالتجارة ، أما دع الدين جانباً ، دع الدين في العلياء ، وفي السماء ، ولا تجعله في الوحل ، ولا تتخذه تجارة ، ولا ترتزق بالدين لكي يبقى الدين عظيمًا ، لكي لا يشك الناس في المتديِّنين ، لذلك وعظنا النبي موعظةً وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون .

وقال أسيد بن حضير : (لو أني أكون على أحوالٍ ثلاثة من أحوالي لكنت من أهل الجنة) ـ له ثلاثة أحوال لو بقي على أحد هذه الأحوال لكان من أهل الجنة ـ قال : (حين أقرأ القرآن ، وحين أسمعه ، وإذا سمعت خطبة رسول الله) ، أي إنه إذا قرأ القرآن يشعر بحال عظيم ، وإذا استمع إلى القرآن يشعر كذلك ، فبصراحة مؤمن لا يبكي إطلاقاً فقلبه مثل الصخر ؟! ولا يقشعر جلده !! ولا يجل قلبه ؟!

قال الحسن البصري : " إذا قرأت القرآن ، أو صليت ، أو ذكرت الله ، ولم تشعر بشيء فهناك خلل خطير في إيمانك "، فلماذا إذا لاحظ شخص ذبابة تطير مع حركة عينه لا ينام الليل من خوفه ؟ يقول له الطبيب : بعد ثلاثة أشهر الموعد ، ويقول له : حاضر ، فالعين ليس معها لعب ، ولماذا القلب إذا كان في الصلاة لم تشعر بشيء ، وفي الذكر لم تشعر بشيء ، وفي القرآن لم تشعر ، معنى ذلك أن ثمة خللاً ، والطريق المسدود ، بل أنت محجوب بحجاب ، والمعصية حجاب ، فابحث أين توجد المعصية ، وأين يوجد الخلل ، وأين يوجد المال الحرام ، وأين يوجد نظرة لا ترضي الله عزَّ وجل ، أو علاقة اجتماعية مشبوهة ، فانتبه ، وما دام أنك محجوب فأنت في خلل خطير .

فقال : (حين أقرأ القرآن ، وحين أسمعه ، وإذا سمعت خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإذ شهدت جنازة) .

قال : (وكانت خطبه صلى الله عليه وسلم تؤثر في الجمادات) .

آخر حديث من فصاحته صلى الله عليه وسلم ، عن مالك بن دينار عن الحسن رضي الله عنه قال : قال عليه الصلاة والسلام ـ وهذا الكلام دققوا به ـ :" ((ما من عبدٍ يخطب خطبة إلا الله سائله عنها يوم القيامة ما أراد بها)) ، قال : فكان مالك بن دينار إذا حدث بهذا الحديث بكى ثم يقول : (أتحسبون أن عيني تقر بكلامي عليكم ، وأنا أعلم أن الله عزَّ وجل سائلي عنه يوم القيامة ما أردت به ؟ فأقول : أنت الشهيد على قلبي ، لو لم أعلم أنه أحب إليك لم أقرأ به على اثنين أبداً) .

فإذا تكلمت عن الله عزَّ وجل ، فالله سيحاسبك ماذا قلت للناس ؟ أنت كذلك ؟ بماذا أمرتهم ، فأتمرتَ بذلك ؟ عن ماذا نهيتهم ؟ فانتهيت عما نهيت عنه ؟ فكان مالك بن دينار كلما قرأ هذا الحديث يبكي يقول : (أتحسبون أن عيني تقر بكلامي عليكم ، وأنا أعلم أن الله عزَّ وجل سائلي عنه يوم القيامة ما أردت به ؟ فأقول : أنت الشهيد على قلبي ، لو لم أعلم أنه أحب إليك لم أقرأ به على اثنين أبداً) .

والنبي حذر قال : ((من تعلَّم صرف الكلام ليسبي قلوب الرجال لم يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً))

يمكن أن تكون ضمن الدين شهوات ، وضمن الدعوة تكون الدنيا والحظوظ ، فإذا تكلم الإنسان ونيته يجمع أنْ الناس ، ويكون حوله ناس يعينونه ، ويحلون له مشاكله ، فهذه نية سيئة ، فحتى في الدعوة إلى الله توجد مزالق خطيرة .. ((من تعلم صرف الكلام ليصرف وجوه الناس إليه فليتجهز إلى النار)) .

لذلك : ((يا معاذ أخلص دينك يكفك القليل من العمل)) .

( من تفسير ابن كثير : عن " أبي هريرة " )

والحمد لله رب العالمين
 
التعديل الأخير بواسطة المشرف:

§ أبو المر §

بيلساني فعال

إنضم
Jun 28, 2008
المشاركات
110
مستوى التفاعل
87
المطرح
مع احلى قمر بلبلد

120%20%28114%29.gif

يسلمو اخي هيرو على المجهود الكبير
:8::8::8::8::8::8::8::8::8::8:
 

The Hero

الأســــــــــــــطورة

إنضم
Jun 29, 2008
المشاركات
20,104
مستوى التفاعل
69
المطرح
في ضحكة عيون حبيبي
رسايل :

شكرًا للأشواك علَّمتني الكثيرَ

الدرس 04 / 32 من الشمائل لفضيلة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي .

الموضوع : السيرة النبويَّة : شمائل الرسول صلى الله عليه وسلَّم : أرجحية عقله الشريف على سائر العقول .

تفريغ المهندس : عبد العزيز كنج عثمان .

التدقيق اللغوي : الأستاذ احمد مالك .

التدقيق النهائي: المهندس غسان السراقبي .







بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

أيها الإخوة الكرام ؛ مع الدرس الرابع من دروس شمائل النبي صلَّى الله عليه وسلَّم ، وموضوع درس اليوم أرجحيَّة عقله الشريف صلَّى الله عليه وسلَّم على سائر العقول .

أيها الإخوة الكرام ؛ بادئ ذي بدء ما من نعمةٍ أعظم ولا أجل ينعم الله بها على عبده كنعمة العقل ، بل هي أعظم نعمة على الإطلاق ، وبالمناسبة الإنسان أعقد كائن في الكون ، وأرقى مخلوق ، وهو المخلوق الأول ، والمخلوق المكرَّم ، والمخلوق المكلَّف ، وأعقد ما فيه عقله ، فمن نعمة الله العُظمى أن يمنح الله العبد عقلاً راجحاً .. ((أرجحكم عقلاً أشدُّكم لله حبَّاً)) .

هذا العقل الراجح من لوازمه أن يعرف الله ، ومن لوازمه أن يحب الله .

وهنا نقطة أحب أن أعالجها قبل أن أخوض في الموضوع ، قد تجد إنسانًا يحمل شهادة عالية ولا يصلي ، ويشرب الخمر ، وقد يزني ، فكيف نوفِّق بين رجاحة العقل ، وبين طاعة الله عزَّ وجل ؟ هذا الموضوع بعض العلماء حلَّه على الشكل التالي : فرَّق بين العقل والذكاء ، فالذكاء متعلِّق بالجُزئيات ، وأما العقل فمتعلِّق بالكُليات ، فالذي يعرف الله سبحانه وتعالى ، ويعرف سر الحياة ، ويعرف رسالة الإنسان في الحياة هو العاقل ، أما الذي يختص باختصاص ضيِّق ، ويبدع فيه ، ويتفوَّق فهذا ذكي ، فالذكاء صفةٌ متعلِّقةٌ بالجزئيات ، فلانٌ ذكيٌ فيما هو فيه ، ذكيٌ في اختصاصه ، وقد يكون بعض المجرمين في أعلى درجات الذكاء ، لأنهم يخطِّطون بشكلٍ عجيب ، فهل هم عقلاء ؟ لا ، إطلاقاً ، فالعقل من خصائص المؤمن .. ((أرجحكم عقلاً أشدُّكم لله حبًّا)) .

وسوف ترون معي بعد قليل أنه ما من مخلوقٍ على وجه الأرض أعقل من رسول الله ، لأن العقل هداه إلى الله ، ولأن العقل هداه إلى أن يحبَّه ، وإلى أن يُخلص له ، وإلى أن يجعل حياته كلها في مرضاته ، لذلك استحقَّ هذا المقام المحمود.

أيها الإخوة الكرام ؛ البطولة أن تأتي إلى الدنيا ، وأن تستغل هذا العمر المحدود إلى أعلى درجة ، فهناك أذكياء جمعوا أموالاً طائلة ، وسكنوا بيوتاً فارهة ، ثم جاء الأجل ، وانتهت حياتهم ، وكأنهم لم يكسبوا شيئاً ، هل هم عقلاء ؟ لا والله ، كانوا أذكياء ولم يكونوا عقلاء ، أما هؤلاء الذين جاؤوا وغادروا ، وعرفوا قيمة العمر ، وعرفوا ربهم ، ووضعوا كل طاقاتهم في خدمة هذا الهدف السامي ، فلما دنا أجلهم كانوا من أسعد الناس.

أيها الأخ الكريم ؛ عقلك كل عقلك يظهر ساعة اللقاء مع الله ، لذلك الناس لا يدخلون هذه الساعة الحرجة الخطيرة في حساباتهم أبداً ، فإذا جاءت أين عقله ؟

إنّ النبي عليه الصلاة والسلام حينما فتح مكَّة ، نظر إليه أبو سفيان نظرةً عميقةً وقال : " ما أعقلك ، وما أحكمك ، وما أرحمك ، وما أوصلك " ، عقلٌ ما بعده عقل ، ورحمةٌ ما بعدها رحمة ، وحكمةٌ ما بعدها حكمة ، إنه وفاءٌ لأقاربه ما بعده وفاء .

وأول شهادة من الله عزَّ وجل لأرجحية عقله صلَّى الله عليه وسلَّم وهي قوله تعالى :


( سورة القلم )

فهذه نعمةٌ عظمى ، هذه الآية تذكِّرني بآيةٍ أخرى :


( سورة هود )

إن المؤمن يعيش في رحمةٍ عُمِّيت على عامة الناس ، ويعيش في سعادةٍ لا يعرفها عامة الناس ، ويعيش في طمأنينةٍ لا يعرف معشارها عامة الناس ، ويعيش في سكينةٍ يتجلَّى الله بها عليه لا يعرفها أهل الدنيا ، ولذلك أحد العارفين يقول : " ماذا يصنع أعداء بي ، بستاني في صدري ، إن أبعدوني فإبعادي سياحة ، وإن سجنوني فسجني خلوة ، وإن قتلوني فقتلي شهادة " .

وهو نفسه يقول : " مساكين أهل الدنيا ، جاؤوا إلى الدنيا ، وغادروها ، ولم يعرفوا أجمل ما فيها ، وهو القرب من الله عزَّ وجل " .

هذه الآية أيها الإخوة شهادة خالق الكون لنبيِّه الكريم بأنه كان في أعلى درجات العقل ، حينما أنعم الله عليه بنعمة النبوُّة والرسالة .

يقول بعض العلماء : " إن الله تعالى لم يعطِ جميع الناس من بدء الدنيا إلى انقضائها ، من العقل في جنب عقل محمدٍ صلى الله عليه وسلَّم إلا كحبَّة رملٍ من جميع رمال الدنيا ، وأن محمداً صلَّى الله عليه وسلَّم أرجح الناس عقلاً ، وأفضلهم رأياً " .

وكلَّما كبر عقلك ازداد قربك ، وكلَّما كبر عقلك ازداد خوفك من الله ، وكلَّما كبر عقلك ازداد حبَّك له ، فكأن هناك مؤشِّرين يعملان معاً ، رجاحة العقل تعني طاعة الله ، وتعني محبَّة الله ، وتعني الخوف من الله ، وتعني الشَوْق إلى الله ، فأنت امتحن عقلك بحالك وبعملك وبقلبك .

وأجمل ما قاله النبي عليه الصلاة والسلام عندما أسلم سيدنا خالد بن الوليد ، دخل سيدنا خالد على رسول الله فسلَّم عليه بالنبوَّة ، قال له :" السلام عليك يا رسول الله " ، خالد بن الوليد الذي انتزع منه راية النصر في أحد ، من العمالقة ، ومن القادة الكبار دخل عليه وقال : " السلام عليك يا رسول الله " ، فقال عليه الصلاة والسلام : " تعالَ أقْبِل " فأقبل ، فقال عليه الصلاة والسلام : ((الحمد الله الذي هداك ، فقد كنتُ أرى لك عقلاً ، ورجوت أن لا يسلمك إلا إلى الخير)) .

هذه إشارة من رسول الله إلى أن هذا الدين ينبغي أن يُقبل عليه العُقلاء ، ومن لوازم العقل أن تقبل على هذا الدين ، ومن لوازم الحُمق أن تبتعد عنه ، فكان النبي يعجب من سيدنا خالد ، إنه رجل عاقل ، وأريب ، وفَطِن ومع ذلك لماذا تأخَّر إسلامه ؟ قال له : ((عجبت لك يا خالد ، أرى لك عقلاً وأرجو أن لا يسلمك إلا إلى خير ، وقد أسلمك إلى الخير)) .

روى الطبراني عن قُرَّة بن هُبَيرة رضي الله عنه أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلَّم فقال : " إنه كان لنا أربابٌ وربَّاتٌ نعبدهن من دون الله عزَّ وجل ، فدعوناهنَّ فلم يجبن ، وسألناهن فلم يعطين فجئناك فهدانا الله بك ، فنحن نعبد الله " . فقال عليه الصلاة والسلام : ((قد أفلح من رُزِقَ لبًّا)) .

العقل لُب ، تصوُّر برتقالة بلا لُب ، هناك أشخاص عندهم مهارة ينزعون اللُّب ، ويرجعون القشرة إلى ما كانت عليه ، فالإنسان يمسكها فإذا هي فارغة ، فيصاب بخيبة الأمل ، والإنسان عندما تعامله من أول كلمة تعرف أنه عاقل أم مجنون ، فالنبي الكريم يقول : ((قد أفلح من رُزِقَ لُبّاً)) .

فقال قرَّة بن زبيرة : " يا رسول الله ألبسني ثوبين من ثيابك قد لبستهما" ، فكساه ، فلما كان بالموقف في عرفات قال عليه الصلاة والسلام : " يا قرَّة أعد عليَّ مقالتك ؟ " ، ماذا قال له ؟ قال له : " يا رسول الله إنه كان لنا أربابٌ وربَّاتٌ نعبدهن من دون الله عزَّ وجل ، فدعوناهنَّ فلم يجبن ، وسألناهن فلم يعطين فجئناك فهدانا الله بك ، فنحن نعبد الله " . فقال عليه الصلاة والسلام : "قد أفلح من رُزِقَ لُبًّا " . قال : " يا قرَّة أعد عليَّ مقالتك " ، فأعاد عليه ، فقال عليه الصلاة والسلام أمام الملأ : ((قد أفلح من رُزِق لباً ، أي عقلاً راجحاً اهتدى به إلى الإسلام ، وإلى فعل المأمورات ، وترك المنهيات)) ، قال تعالى :


( سورة الرعد )

أيها الإخوة الكرام ؛ قال الله تعالى :


( سورة يوسف )

فمن أجل أن تعقلوا ، وكل هذا القرآن من أجل أن تعقل ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلَّم أنه قال : ((رأس العقل بعد الإيمان بالله الحياء وحسن الخلق)) .

( من الجامع الصغير : عن " أنس " )

ويُروى أن أعرابيًّا دخل على النبي صلى الله عليه وسلَّم ، وبيَّن له النبي أوامر الإسلام ومناهيها ، فخرج الأعرابي وأعلن إسلامه ، فقال له قومه : " بمَ عرفت أنه رسول الله ؟ " على الفطرة ، وبالعقل ، " بمَ عرفت أنه رسول الله ؟ " فقال الأعرابي : " ما أمر محمٌد بأمرٍ فقال العقل ليته نهى عنه، ولا نهى عن شيءٍ فقال العقل ليته أمر به "، أي توافق الأمر والنهي مع العقل .

وأحد العلماء الأجلاَّء ألَّف كتاباً كبيراً حول ضرورة توافق العقل مع النقل ، صريح المعقول لا يتعارض مع صحيح المنقول ، ولا يمكن أن يتعارض العقل مع النقل ، ولأن العقل مقياسٌ أودعه الله فينا والنقل كلامه ، فهل يعقل أن تتناقض إرادة الله عزَّ وجل ؟ لقد أنزل على نبيِّه الكتاب وأودع فينا العقل ، فالعقل مقياسٌ أودعه فينا ، والكتاب وحيٌ أوحاه إلى النبي ، فهذا من عنده وهذا من عنده ، فالمعقول يتوافق مع المنقول ، ولكنك لو رأيت تناقضاً بين العقل والنقل ، فإنما هو تناقضٌ بين العقل وبين النقل غير الصحيح ، أو بين النقل الصحيح وبين العقل الجامح ، أما العقل المُطلق ، العقل المتوازن فلا يمكن أن يتناقض مع النقل .

والحقيقة كلكم يعلم أيها الإخوة أن الإيمان باليوم الآخر إيمان نقلي ، أي إن الله أخبرنا أن هناك يومًا آخر ، وإيمان من نوع السمعيات ، أو الإخباريات ، أو النقليات ، ولكن وأنا أسألكم هذا السؤال : هل هناك دليل عقلي لا نقلي على اليوم الآخر ؟

بالمناسبة أنا حينما أرى الشيء أحكم على صانعه ، هذا شيء أمامي ملموس مرئي مُشاهد ، فالعقل يستطيع أن ينتقل من المحسوس إلى المجرَّد ، ومن المُشاهد إلى الغائب ، ومن الجزء إلى الكُل ، فهذه مهمَّة العقل إطلاقاً ، لكن اليوم الآخر ليس له آثار في الدنيا ، الإيمان باليوم الآخر إيمان تصديقي محض ، إيمان تصديقي بما أخبر الله به ، ولكن ثمة سؤال : هل هناك دليلٌ عقلي لا نقلي على ذلك ؟ فلو أنّ إنسانًا ما قرأ القرآن ، ولا التوراة ، ولا الإنجيل ، ولا استمع في حياته إلى خطبة ، ولا إلى موعظة ، ولا قرأ كتابًا إطلاقاً ، هل يستطيع بعقله وحده أن يصل إلى أن هناك يومًا آخر ؟

بعض العلماء وأنا أعجبني هذا المثل ، قال : لو فرضنا مسرحيَّة ، وأول فصل مُثِّل ، ثم أُرخي الستار ، لِمَ لم يخرج روَّاد هذه المسرحيَّة من المَسرح ؟ لأن القصَّة لم تنتهِ بعد ، والعقدة لم تنحلّ ، فهناك بداية وعقدة ونهاية ، والعقدة لم تُحل .

اسمعوا الآن إلى هذه المحاكمة العقليَّة حول اليوم الآخر ، أدرك عبد المطلب حقيقة الآخرة بعقله ، ذلك أنه قال يوماً : " ما من ظالمٍ يشتدَّ ظلمه إلا انتقم الله منه قبل أن يموت " فقيل له : " فلان جار وطغى " ، فقال : "انتقم الله منه يوم كذا وكذا ، فقيل له : فلان ، فقال : " انتقم الله منه يوم كذا وكذا " فقيل له : " فلان جار وطغى ولم يصبه شيء "، ففكَّر طويلاً ثم قال : " إذاً لابدَّ من يومٍ آخر ينتقم الله منه " .

في الدنيا قوي وضعيف ، وغني وفقير ، وظالم ومظلوم ، إنسان يعيش عمرًا قصيرًا ، وإنسان يعيش عمرًا مديدًا ، وقد يموت الظالم قبل أن ينتقم الله منه ، وهكذا ، أليس هناك يوم تسوَّى فيه الحسابات ؟ ويؤخذ حق المظلوم من الظالم ؟ وحق الضعيف من القوي ؟و حق الفقير من الغني ؟ فما دام فلان جاء إلى الدنيا وطغى وبغى ولم يعاقب إذاً لابدَّ من يومٍ آخر .

إخواننا الكرام ؛ هناك مقولة لطيفة : عظمة الخلق تدل على عظمة التصرُّف ، وكمال الخلق يدل على كمال التصرُّف ، ودائمًا هناك انسجام بين كمال الخلق وكمال التصرُّف ، فمثلاً : شركة تصنع كمبيوترات ، لو أنت اشتريت كمبيوترًا فمن غير المعقول أن تأخذ المبلغ منك وتضعه في الخزينة ، وتقول لك : الله يعوِّضك ، دون أن تعطيك إيصالات ، أو إشعار استلام ، أو إشعار قبض ، فشركة تصنع كمبيوترات فلابدَّ من نظام دقيق في المحاسبة يتناسب مع دقة الصنعة .

فالمقولة : كمال الخلق يدل على كمال التصرُّف ، فالكون فيه كمال بالخلق ، إذاً خالقه لابدَّ من أن يكون كامل التصرُّف ، فإذا كان هناك قوي وضعيف ، وظالم ومظلوم ، وغني وفقير ، وصحيح ومريض ، ومعمِّر وقصير العمر ، ويأتي الموت فينهي كل شيء ، صار هذا ظلًام شديدًا ، فلابدَّ من يومٍ آخر تسوَّى فيه الحسابات .

لكن الكفَّار ماذا يقولون ؟ يقولون :


( سورة الملك )

والآية دقيقة ، إنّ الإنسان أحياناً إما أن يأكل طبخًا جاهزًا وإما أن يطبخ بيده ، فأنت إذا استمعت للحق تستمع له جاهزًا ، وإذا أردت أن تتأمَّل وتفكِّر تصل إلى النتائج نفسها ..


( سورة الملك )

فلابدَّ أن تسمع ، ولابدَّ أن تعقل ، والأكمل أن تجمع بينهما ، والحسن البصري يقول :" أول ما خلق الله العقل فقال له : أقبل فأقبل ، ثم قال له : أدبر فأدبر ، ثم قال الله عز وجل : وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أكرم علي منك ، بك آخذ وبك أعطي " .

( من أحاديث الإحياء : عن " أبي أمامة " )

فالإنسان يستحق السعادة العظمى عندما استخدم عقله ، ويستحق الشقاء الأبدي عندما عطَّل عقله ، بك أعطي وبك آخذ .

" أول ما خلق الله العقل قال له: أقبل فأقبل ، ثم قال له : أدبر فأدبر ، ثم قال الله عز وجل : وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أكرم علي منك ، بك آخذ وبك أعطي " .

وأحب العقول إلى الله تعالى عقل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلَّم.

فأحدنا لو جلس مع إنسان مثقَّف يرتاح ، فينطلق معه في الحديث ، باستيعاب ، وتقدير ، لكن لو جلست مع إنسان ضعيف التفكير ، ضعيف الثقافة ، جامد ، محدود يقول لك : قعدت نصف ساعة خرجت روحي ، والنبي ما عاش في عصر فيه ثقافة ، بل جاء إلى أُناس صخور على صخور ، في جهل ، وعصبيَّة ، وجمود ، وضيق أفق ، عبدوا صنماً من التمر فلما جاعوا أكلوه ـ أكلت ودٌ ربَّها ـ أفهذا إنسان ؟ ينحتون أحجاراً ثم يعبدونها من دون الله ، يقول أحدهم : " من كان أفضل مني فليضرب رجلي " يقوم إنسان فيضرب رجله ، فتنشب حرب لمدة عشر سنوات ، إنه أفق ضيَّق ، وعصبيات ، وعدوانية ، وفوضى في الأخلاق ، فامرأة تتزوَّج عشر رجال ثم تحدِّد هذا المولود لهذا الرجل ، هكذا مزاجياً ، ورجل يقول لامرأته : اذهبي إلا فلان فاستبضعي منه ، ولا مانع عنده أنْ يلتقي معها لقاء زوجيًّا حتى تحمل منه بمحض اختياره .

إنها الفوضى في العلاقات الزوجيَّة ما بعدها فوضى ، وربا ما بعده ربا ، وقهر ما بعده قهر ، ووأد بنات ، وظُلم شديد ، وأفق ضيِّق ، وثقافة ضعيفة ، وجهل ، وعصبيات ، وأكمل الخلق جاء مع هؤلاء .

أنا أقول لكم هذه الكلمة : أن تعيش مع الأذكياء فأنت في متعة بالغة ، أن تعيش مع أصحاب الثقافات العالية كذلك ، لكن أن تعيش مع أناس محدودين ، ضيقي الأفق ، لا يفهمون ، ولا يعقلون ، سريعي الاتهام والظن ، إنّ الحياة مع هؤلاء جحيم لا يُطاق ، وأكمل الخلق كان مع أناسٍ هذا حالهم ، فكيف صبر عليهم ؟ وكيف تحمَّل غِلْظَتهم ؟ وكيف تحمَّل جفوتهم ؟ يمسكه الأعرابي من ثوبه اليماني ويشدُّه حتى يؤثِّر على صفحة عنقه ويقول : " يا محمَّد أعطني من مال الله ، فهذا ليس مالك ولا مال أبيك " وهو قمَّة المجتمع ، فيبتسم النبي ويقول له : " صدق إنه مال الله أعطوه " ، فكيف تحمَّل هؤلاء ؟ وكيف ليَّن عقولهم ؟ وقلوبهم ؟ وألَّف قلوبهم ؟ وحبَّبهم به ؟ فهذا الشيء يحتاج إلى منتهى العقل ، فقد يكون إنسان من عامة المؤمنين إذا ناقش إنسانًا آخر نصف ساعة ، وما فهم عليه ، تجده يقول له : اذهب عني ليس فيك خير ، ييأس منه رأساً ، فالنبي لم ييأس .

يقولون : إن حصينًا والد عمران الذي يعبد سبعة أصنامٍ في الأرض ، ويرى أنها آلهة ، كان معظَّماً في قريش ، فجاؤوا إليه وقالوا له : " كلِّم لنا هذا الرجل ـ أي محمداً صلى الله عليه وسلَّم ـ فإنه يذكر آلهتنا ويسبُّهم " ، وجاؤوا معه حتى
جلسوا قريباً من باب النبي ، فقال عليه الصلاة والسلام ـ إنسان يعبد سبعة أصنام جاؤوا به إلى النبي ـ فقال عليه الصلاة والسلام : " أوسعوا للشيخ " وهو حصين نفسه ، فقال حصين : " ما هذا الذي بلغنا عنك ؟ " الآن أن يقول رسول الله ، أما كان يخاطب بضمير المُفرد ، الآن إنسان جالس وراء طاولة إذا قلت له : أنت ، يقول لك غداً : أنا ؟ يجب أن تقول : أنتم قلتم لنا ، إن لم تخاطبه بالجمع يطردك ، أليس كذلك ؟ رسول الله قيل له : " ما هذا الذي بلغنا عنك أنك تشتم آلهتنا وتذكرهم ؟ " ، فقال عليه الصلاة والسلام مؤنساً : " يا حصين كم تعبد من إلهٍ ؟ ، قال : " سبعاً في الأرض وواحداً في السماء " ، أي ثمانية ، فقال عليه الصلاة والسلام : " فإذا مسَّك الضر من تدعو ؟ " ، فقال حصين : " أدعو الذي في السماء " ، قال : " فإذا هلك المال من تدعو؟ " قال : " أدعو الذي في السماء " قال عليه الصلاة والسلام : "فيستجيب لك وحده وتشركهم معه ؟ هذا الكلام معقول ؟ هو الذي يستجيب لك وتجعلهم آلهةً معه في الأرض ؟ " أرضيته في الشكر أم تخاف أن يغلب عليك ؟ فقال حصين : " لا واحدة من هاتين " ، فقال عليه الصلاة والسلام : " يا حصين أسلم تسلم " فقال :" إني لي قوماً وعشيرةً ماذا أقول ؟ " هذه مشكلته رؤساء الأديان ، ماذا أفعل بحالي ؟ هذه مشكلتهم ، فقال : " قل اللهمَّ أستهديك لأرشد أمري ، وزدني علماً ينفعني " فقالها حصين ، فلم يقم حتى أسلم .

فقام إليه عمران ابنه فقبَّل رأسه ويديه ورجليه أمام النبي ، فلما رأى النبي هذا بكى وقال : " بكيت من صنيع عمران ، دخل حصين أبوه وهو كافر فلم يقم إليه عمران ، ولم يلتفت ناحيته ، فلما أسلم قضى حقَّه فدخلني من ذلك الرفعة " .

عندما دخل حصين على النبي كان ابنه موجودًا ، قال : ما قام له ولم يلتفت له ، لأنه كافر ، فلما أسلم قام فقبَّل رأسه ويديه ورجليه فبكى النبي ، ما هذه النقلة الكبيرة ؟

هذا يذكِّرني عندما قال سيدنا عمر : " دخل عمير عند رسول الله والخنزير أحب إليَّ منه ، وخرج من عنده وهو أحب إليَّ من بعض أولادي " ، انظر لهذا التبدُّل السريع .

معلومكم في قصَّة تعرفونها كلكم عندما قال له إنسان : " ائذن لي بالزنا " ، والصحابة قاموا إليه ، الآن انظر إلى المنطق ، وإلى الحجَّة ، أنت عندما تخاطب عقل الإنسان بهدوء ، وتعطيه الحجَّة القويَّة وتحاصره فتفلح معه ، فالقضيَّة ليست بالصياح ، ولا بالضجيج ، ولا بارتفاع الصوت ، إنَّ الحجَّة تقارع الحجَّة ، قال له :ائذن لي بالزنا " ، فالصحابة ضجوا وقاموا إليه ، فقال عليه الصلاة والسلام : " لا " قال : " يا عبد الله أترضى أن يزني الناس بأمك ؟ " . تصور والدته ، فقال : " لا " . قال : " كذلك الناس يكرهون ، قال : أترضى أن يزني الناس بابنتك ؟ " ، قال : " لا " فقال : " كذلك الناس يكرهون " . فقال : " يا رسول الله أُشْهِدُكَ أني تبت من الزنا " .

وفي رواية تقول : " دخلت على رسول الله وما من شيءٍ أحب إلي من الزنا ، وخرجت من عنده وما شيءٌ أبغض إليَّ من الزنا " بالمنطق ، في رواية أطول قال له : " لأمك ، لابنتك ، لأختك ، لعمَّتك ، لخالتك ، ولا الناس يريدونه لبناتهم " ، فالداعية الصادق يقدِّم حجَّة قويَّة .

اختلفت القبائل على من يمسك الحجر الأسود عند بناء الكعبة ، وكادت أن تنشب فتنة كبيرة ، فماذا فعل النبي ؟ جاء برداء ووضع الحجر بيده الشريفة في الرداء ، وأمر كل رأس قبيلة يحمل طرف من الرداء ، أليس هذا عقلاً راجحاً ؟ .

عليه الصلاة والسلام ، لقد كان في أعلى درجات الحنكة القياديَّة ، فأمر بعض أصحابه أنْ يتعلَّم السريانيَّة ، وأمر بعض أصحابه أن يتعلَّم العبرانيَّة حتى يأمن مكر هؤلاء ، فما كان يقبل من مترجم غير مسلم يترجم له ، فأمر أصحابه يتعلَّموا هذه اللغات حتى إذا جاءه كتاب بالسريانية أو بالعبرية كان يكلِّف الصحابي يترجمه له ، لئلا يحتال عليه هؤلاء الأعداء .

إنّ تقصي المعلومات في الحرب عمل مهم ، والمعلومات الآن هي أخطر شيء ، والآن عصر ثورة المعلومات ، فكان في بعض المعارك ، روى الإمام أحمد وغيره عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : (لَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ أَصَبْنَا مِنْ ثِمَارِهَا فَاجْتَوَيْنَاهَا وَأَصَابَنَا بِهَا وَعْكٌ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَخَبَّرُ عَنْ بَدْرٍ فَلَمَّا بَلَغَنَا أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَدْ أَقْبَلُوا سَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَدْرٍ وَبَدْرٌ بِئْرٌ فَسَبَقَنَا الْمُشْرِكُونَ إِلَيْهَا فَوَجَدْنَا فِيهَا رَجُلَيْنِ مِنْهُمْ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ وَمَوْلًى لِعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ فَأَمَّا الْقُرَشِيُّ فَانْفَلَتَ وَأَمَّا مَوْلَى عُقْبَةَ فَأَخَذْنَاهُ فَجَعَلْنَا نَقُولُ لَهُ كَمْ الْقَوْمُ فَيَقُولُ هُمْ وَاللَّهِ كَثِيرٌ عَدَدُهُمْ شَدِيدٌ بَأْسُهُمْ فَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ إِذْ قَالَ ذَلِكَ ضَرَبُوهُ حَتَّى انْتَهَوْا بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ كَمْ الْقَوْمُ قَالَ هُمْ وَاللَّهِ كَثِيرٌ عَدَدُهُمْ شَدِيدٌ بَأْسُهُمْ فَجَهَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُخْبِرَهُ كَمْ هُمْ فَأَبَى ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَهُ كَمْ يَنْحَرُونَ مِنْ الْجُزُرِ فَقَالَ عَشْرًا كُلَّ يَوْمٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَوْمُ أَلْفٌ كُلُّ جَزُورٍ لِمِائَةٍ)) .

وكان الأمر كذلك .

هذه حنكة قياديَّة رائعة ، فيجب أن تعرف حجم عدوَّك قبل أن تخوض المعركة ، فكلمة كثير كلمة عامة .

عندما أمر سيدنا حذيفة بن اليمان أن يذهب إلى معسكر الأعداء في معركة الخندق ، ودخل وجلس ، وأمره أن لا يحدث شيئاً حتى تأتيننا ، وفي رواية " اذهب وأتني بخبر القوم ولا تحدث شيئاً حتى تأتيني " فهذا جلس ، فشعر أبو سفيان أن هناك أشخاصًا غرباء يستمعون ، فقال : " كلٌ منكم يتفقَّد صاحبه "، فكان سريع البديهة ـ سيدنا حذيفة ـ أمسك بيد جاره وقال له : " من أنت ؟ " ، فقال له : " أنا فلان " لو تأخَّر لاكتشف أمره .

إخواننا الكرام ؛ استقر بنفوس الناس أن المؤمن درويش ، يقول لك : على البركة ، لا يدقِّق ، هذا كله كلام غلط ، المؤمن الصادق في أعلى درجات الكياسة .

((المؤمن كيس فطن حذر)) .

( من الجامع الصغير : عن " أنس " )


( سورة النساء : من آية " 71 " )

هذا المفهوم الساذج أن المؤمن درويش ، لا يدقِّق ، ليس لديه هذا الفهم الزائد و، يتعب عليه ، فهذه كلها مفاهيم جاءتنا من العصور المتخلِّفة ، عصور الانحطاط ..

((المؤمن كيس فطن حذر)) .

( من الجامع الصغير : عن " أنس " )

هل هناك أعلى من هذا الذكاء ؟ تدخل معسكر العدو ، وتجلس بينهم ، وتستمع إلى مقولة قائدهم ، وحينما يشعر القائد أن هناك من يستمع ويقول : " تفقَّدوا أصحابكم " ، فيبادر ويمسك بيد جاره ويقول له : " من أنت ؟ " .

والقصَّة التي تعرفونها أيضاً من أروع القصص ، التي تبيّن رجاحة عقل النبي صلى الله عليه وسلَّم ، فنعيم بن مسعود الأشجعي رضي الله عنه قال : " إني أسلمت ـ أسلم في أدق الظروف ـ وإن قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت يا رسول الله " . فقال عليه الصلاة والسلام : " إنما أنت فينا رجلٌ واحد " ، والمعركة بين جيشين ، والأحزاب تحزَّبت ، عشرة آلاف مقاتل لم تجتمع في تاريخ الجزيرة العربيَّة ، جاءت كلها لترمي النبي وأصحابه عن قوسٍ واحدة ، وحتى إن بعض من كان مع النبي قال : " أيعدنا صاحبكم ـ لم يقل رسول الله ـ بأن تفتح علينا بلاد قيصر وكسرى وأحدنا لا يأمن أن يقضي حاجته ؟ " ، فقد اعتقد بعض الناس أن الإسلام انتهى ، هو قضية ساعات وينتهي ..


( سورة الأحزاب )

بعضهم قال : " ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً " ، وفي هذا الموقف الحرج ، وفي هذه الساعات الحرجة جاء نعيم بن مسعود وقال له : " أنا أسلمت ولم يعلم قومي بإسلامي ، فمرني بما شئت " . فالنبي نظر فقال له : " إنما أنت فينا رجل واحد فخِّذل عنا إن استطعت ، إن الحرب خدعة ، فاذهب فشتِّت جموع العدو وألقِ بينهم بدهائك " ، إنسان واحد قد ينهي معركة !! ولكن مع إخلاص وذكاء ، فخرج حتى أتى بني قريظة وهم طائفة اليهود ، وكان لهم نديماً فقال : " قد عرفتم ودي إياكم وخاصَّةً ما بيني وبينكم " ، قالوا : " صدقت لست عندنا بمتَّهم " ، فقال لهم :" إن قريشاً وغطفان ليسوا كأنتم ـ أي ليسوا مثلكم ـ البلد بلدكم ، به أموالكم ، وأبناؤكم ، ونساؤكم ، ولا تقدرون أن تتحوَّلوا منه إلى غيره ، وإنهم جاؤوا لحرب محمدٍ وأصحابه ، وقد ظاهرتموهم عليه ، وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره ، فإن رأوا نهزةً أصابوها ـ أي فرصة ـ وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم ، وخلوا بينكم وبينهم ، ولا طاقة لكم بمحمد إذا خلا بكم ، فلا تقاتلوا معهم حتى تأخذوا منهم رهناً من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقةً لكم ، على أن تقاتلوا معهم محمداً حتى تناجزوا" .

إنه كلام منطقي : أنتم هذا بلدكم ، وهذه دياركم ، وهذه أموالكم ، وهذه حصونكم ، وهذه بساتينكم ، والآن تحالفتم مع قريش وغطفان ، وهم بلادهم غير هذه البلاد ، ونساؤهم هناك ، وأموالهم هناك ، فإن فازوا فازوا ، وإن لم يفوزا عادوا إلى بلادهم وتركوكم لمحمد ، ولا قِبَل لكم بمحمد اللهمَّ صلِّ عليه ، فلا تقاتلوا مع قريش حتى تأخذوا منهم الرهائن .

ثم أتى قريشاً وقال لأبي سفيان ومن معه : " قد عرفتم ودي لكم وفراقي محمداً ، وإنه قد بلغي أمراً رأيته حقاً عليَّ أن أبلغكموه ، نصحاً لكم فاكتموه عني" ، قالوا : نفعل ، قال نعيم : " إن اليهود ندموا على ما صنعوا وأرسلوا إلى محمدٍ إنا قد ندمنا على ما فعلنا ، أيرضيك أن نأخذ من أشراف قريش وغطفان رجالاً تضرب أعناقهم كرهائن ، ثم نكون معك على من بقي منهم حتى نستأصلهم ؟ فأرسل إليهم محمد نعم ، قال نعيم : فإن بعثت إليكم اليهود يلتمسون إليكم الرهائن فلا تدفعوا إليهم رجلاً واحداً " .

ثم إن نعيماً أتى غطفان فقال : " إنكم أصلي وعشيرتي وأحب الناس إلي ، ولا أراكم تتهمونني ، أي بل أنا مصدقٌ عندكم " ، فقالوا : صدقت وما أنت عندنا بمتهم ، فقال : " فاكتموا عني " قالوا : نفعل . فقال لهم مثلما قال لقريش .

وكان من صنع الله لرسوله أن أبا سفيان ورؤوس غطفان أرسلوا إلى اليهود من بني قريظة عكرمة في نفرٍ من القبيلتين : " إنا لسنا بدار مقام وقد هلك الخف والحافر فاغدوا للقتال حتى نناجز محمداً ، ونفرغ ما بيننا وبينه " .

فأرسلوا إليهم : " إن اليوم يوم السبت لا نعمل فيه شيئاً ، وكان قد أحدث فيه ـ أي في السبت ـ بعضنا حدثاً فأصابه ما لم يخفَ عليكم ، ولسنا بمقاتلين معكم حتى تعطونا من رجالكم يكونون بأيدنا ثقةً لنا حتى نناجز محمداً ، فإنا نخشى إن اشتدَّ عليكم القتال أن ترجعوا إلى بلادكم ، وتتركونا والرجل ، ولا طاقة لنا به " .

فهذا إنسان واحد ، وبذكاء بارع أوقع بين الفريقين ، وجعلهم يتهمون بعضهم بعضاً .

فقالت قريش وغطفان : " والله إن الذي حدثكم به نعيم لحق " ، فأرسلوا إلى بني قريظة : " إنا والله لا نقاتل معكم حتى تعطونا رهناً " ، فأبوا عليهم وخذَّل الله بينهم ، وبعث الله عليهم الرياح في ليالٍ شديدة البرد ، فأكفأت قدورهم وطرحت أبنيتهم .

((المؤمن كيس فطن حذر)) .

( من الجامع الصغير : عن " أنس " )

فإنسان واحد أسلم في ظرف من أصعب الظروف التي مرَّت بها الدعوة الإسلاميَّة ، وكانت على وشك الانهيار ، وأوشك أن تتلاشى ، عن طريق هذا الإنسان الحذر ، الكيس ، الفطن ، المخلص الذي استلهم الله عزَّ وجل أنقذ الله هذه الدعوة .

أيها الإخوة الكرام ؛ كان عليه الصلاة والسلام يُرْهِبُ عدوَّه ، والحرب خدعة ، فمن هذه الأساليب الذكيَّة ورد أن النبي صلى الله عليه وسلَّم لما توجَّه لفتح مكَّة ، وانتهى إلى ممر الظهران ، أمر أصحابه فأوقدوا عشرة آلاف نارٍ لتراها قريش ، وتَرْهَبَ من كثرتها ، حتى قال أبو سفيان ومن معه حين رأوا من بعيد : " لكأنها نيران عرفة " ، أي في كثرتها ، وكان ذلك مما ألقى الخوف في قلوبهم ، كما أمر عمَّه العبَّاس أن يجلس أبا سفيان على الطريق عند مضيق خطم الجبل ، ليشاهد جيوش المسلمين وكتائبهم حين تمرُّ عليه ، ثم جعلت تمر عليه كتيبةً كتيبة ، فجعل أبو سفيان يقول للعبَّاس : " من هذه الكتيبة يا عباس ؟ " ، وطفق العباس يخبره عن تلك الكتائب واحدةً واحدة ، وذلك مما حمل أبو سفيان على التطامن والاستسلام .

فما من أسلوبٍ حديثٍ في كسب المعركة إلا والنبي عليه الصلاة والسلام انتبه إليه ، واستخدمه في أروع ما يستخدم القائد الحكيم الأساليب الذكيَّة العاقلة .

ولنا إن شاء الله تعالى تتمة لهذا الموضوع عن رجاحة عقل النبي ، ودائماً وأبداً كما قلت لكم : ((أرجحكم عقلاً أشدكم لله حباً)) .

تعرّف إلى رجاحة عقلك من طاعتك لله ومن حبك له ، وإذا رأيت نفسك في طاعة الله فهذا دليل رجاحة العقل .

وأقول لكم مرَّةً ثانية : الفرق بين العقل والذكاء هو أن الذكاء متعلِّق بالجزئيات ، بينما العقل متعلِّق بالكليات ، فقد يكون المرء ذكياً وليس عاقلاً ، وقد يكون عاقلاً وليس ذكاؤه في المستوى العالي ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام :

((كَفَى بِالْمَرْءِ عِلْمًا أَنْ يَخْشَى اللَّهَ)) .

( من سنن الدارمي : عن " مسروق " )

أي لمجرَّد أن تخشى الله فأنت عالِم ، أي عرفت أن لك رباً ، وأن له منهجاً ، وأن عليك أن تطيعه ، فمعرفة هذا الشيء دليل رجاحة العقل .

وفي درسٍ قادمٍ إن شاء الله تعالى نتابع هذا الموضوع عن رجاحة عقل النبي .

والحمد لله رب العالمين

* * *
 
التعديل الأخير بواسطة المشرف:

سعد قيس

سعد الروح البيلساني قلب منتهي الصلاحية

إنضم
Jul 3, 2008
المشاركات
6,963
مستوى التفاعل
62
المطرح
الكــرســـي ..!!

lavander

جنرال

إنضم
Jul 27, 2008
المشاركات
7,686
مستوى التفاعل
57
المطرح
دمشق (قلب البيلسان)
جزاك الله خيرا

شكرا ألك مواضيعك مميزة جدا
 

الدمشقي

بيلساني سنة ثانية

إنضم
Jul 17, 2009
المشاركات
573
مستوى التفاعل
7
المطرح
دمشق
الله يجزيك الخير والبركة أخي ويعطيك العافية
:8:
 

ملكة زماني

شاعرة البيلسان العذبة

إنضم
Apr 26, 2009
المشاركات
7,186
مستوى التفاعل
90
المطرح
بين الورود في قلبه
رسايل :

أنا ملكة زماني وقصري كلو ماس

جزاكَ الله خيراً
وجعله في ميزان حسناتك
:24:
 
أعلى