بدر شاكر السياب وللشعر فنون


إنضم
Oct 3, 2008
المشاركات
6,719
مستوى التفاعل
69
المطرح
دمشق باب توما

الشاعر الكبير بدر شاكر السياب

1216332044.jpg


بدر شاكر السياب التميمي (24 ديسمبر 1926-1964م) شاعر عراقي ولد بقرية جيكور جنوب شرق البصرة. درس الابتدائية في مدرسة باب سليمان في أبي الخصيب ثم انتقل إلى مدرسة المحمودية وتخرج منها في 1 أكتوبر 1938م. ثم أكمل الثانوية في البصرة ما بين عامي 1938 و 1943م. ثم انتقل إلى بغداد فدخل جامعتها دار المعلمين العالية من عام 1943 إلى 1948م، والتحق بفرع اللغة العربية، ثم الإنجليزية. ومن خلال تلك الدراسة أتيحت له الفرصة للإطلاع على الأدب الإنجليزي بكل تفرعاته.
سيرته الأدبية '
اتسم شعره في الفترة الأولى بالرومانسية وبدا تأثره بجيل علي محمود طه من خلال تشكيل القصيد العمودي وتنويع القافية ومنذ 1947 انساق وراء السياسة وبدا ذلك واضحا في ديوانه أعاصير الذي حافظ فيه السياب على الشكل العمودي وبدأ فيه اهتمامه بقضايا الانسانية وقد تواصل هذا النفس مع مزجه يثقافته الإنجليزية متأثرا بإليوت في أزهار وأساطير وظهرت محاولاته الأولى في الشعر الحر وقد ذهبت فئة من النقاد إلى أن قصيدته "هل كان حبا" هي أول نص في الشكل الجديد للشعر العربي ومازال الجدل قائما حتى الآن في خصوص الريادة بينه وبين نازك الملائكة.وفي أول الخمسينات كرس السياب كل شعره لهذا النمط الجديد واتخذ المطولات الشعرية وسيلة للكتابة فكانت "الأسلحة والأطفال" و"المومس العمياء" و"حفار القبور" وفيها تلتقي القضايا الاجتماعية بالشعر الذاتي. مع بداية الستينات نشر السياب ديوانه "أنشودة المطر" الذي انتزع به الاعتراف نهائيا للشعر الحر من القراء وصار هو الشكل الأكثر ملائمة لشعراء الأجيال الصاعدة وأخذ السيات موقع الريادة بفضل تدفقه الشعري وتمكنه من جميع الأغراض وكذلك للنفس الأسطوري الذي أدخله على الشعر العربي بإيقاظ أساطير بابل واليونان القديمة كما صنع رموزا خاصة بشعره مثل المطر، تموز، عشتار، جيكور قريته التي خلدها. وتخللت سنوات الشهرة صراعات السياب مع المرض ولكن لم تنقص مردوديته الشعرية وبدأت ملامح جديدة تظهر في شعره وتغيرت رموزه من تموز والمطر في "أنشودة المطر" إلى السراب والمراثي في مجموعته "المعبد الغريق" ولاحقا توغل السياب في ذكرياته الخاصة وصار شعره ملتصقا بسيرته الذاتية في "منزل الأقنان" و"شناشيل ابنة الجلبي" . سافر السياب في هذه الفترة الأخيرة من حياته كثيرا للتداوي وكذلك لحضور بعض المؤتمرات الأدبية وكتب في رحلاته هذه بوفرة ربما لاحساسه الدفين باقتراب النهاية. توفي عام 1964م بالمستشفى الأميري في الكويت، عن 38 عام ونقل جثمانه إلى البصرة و دفن في مقبرة الحسن البصري في الزبير.

دواوينه
أزهار ذابلة 1947م.
أعاصير 1948
أزهار وأساطير 1950م.
فجر السلام 1951
حفار القبور 1952م. قصيدة مطولة
المومس العمياء 1954م. قصيدة مطولة
الأسلحة والأطفال 1955م. قصيدة مطولة
أسمعه يبكي
أنشودة المطر 1960.
المعبد الغريق 1962م.
منزل الأقنان 1963م.
شناشيل ابنة الجلبي 1964م.

نشر ديوان إقبال عام 1965م، وله قصيدة بين الروح والجسد في ألف بيت تقريبا ضاع معظمها. وقد جمعت دار العودة ديوان بدر شاكر السياب 1971م، وقدم له المفكر العربي المعروف الأستاذ ناجي علوش. وله من الكتب مختارات من الشعر العالمي الحديث، ومختارات من الأدب البصري الحديث. ولم مجموعة مقالات سياسية سماها "كنت شيوعيا".
 

إنضم
Oct 3, 2008
المشاركات
6,719
مستوى التفاعل
69
المطرح
دمشق باب توما
أساطير

أساطيرُ من حشجرجات الزمان
نسيجُ اليد البالية ،
رواها ظلام من الهاوية
و غنى بها ميّتان .
أساطير كالبيد ، ماجَ السراب
عليها و شقّتْ بقايا شِهاب ،
و أبصرتُ فيها بريق النُّضّار
يلاقيَ سدىً من ظلال الرغيف ،
و أبصرتُني ؛ و الستار الكثيف
يواريك عني فضاع انتظار
و خابت منىً ؛ و انتهى عاشقان .

*

أساطير مثل المُدى القاسيات
تلاوينها من دم البائسين ،
فكم أومضت في عيون الطغاة
بما حُمِّلتْ من غبار السنين
يقولون : وحيُ السماء ،
فلو يَسمعُ الأنبياء
لما قهقهتْ ظلمة الهاوية
بأسطورة بالية
تجرُّ القرون
بمركبة من لظى ، في جنون
لظى كالجنون !

*

و هذا الغرامُ اللجوج
أيرتدُّ من لمسةٍ باردة ..
على إصبع من خيال الثلوج ،
و أسطورة بائدة ؟
و عرّافةٍ أطلقت في الرمال
بقايا سؤال
و عينين تستطلعان الغُيوب
و تستشرقان الدروب ،
فكان ابتهالٌ .. و كانت صلاة
تُعفر وجهَ الآله
و تحثو عليه انطباق الشفاه

*

تعالي فما زال نجم المساء
يذيب السنا في النهار الغريق
و يغشى سكونَ الطريق
بلونين من ومضة و انطفاء
و همسُ الهواء الثقيل
بدفء الشذى و اكتئاب الغروب ،
يذكرني بالرحيل :
شراع خلال التحايا يذوب
و كفُّ تلوِّح . يا للعذاب !

*

تعالي فما زال لون السحاب
حزيناً .. يذكرني بالرحيل
رحيل ؟!
تعالي ، تعالي .. نذيب الزمان .
و ساعاته ؛ في عناق طويل ،
و نصبغ بالأرجوان
شراعاً وراء المدى ،
و ننسى الغدا
على صدرك الدافئ العاطر
كتهويمة الشاعر .
تعالي ؛ فملء الفضاء
صدى هامس باللقاء
يوسوس دون انتهاء .

*

لى مقلتيك انتظار بعيد
و شيء يريد :
ظلال
يغمغم في جانبيها سؤال ،
و شوق حزين
يريد اعتصار السراب
و تمزيق أسطورة الأولين
جناحان خلف الحجاب .
شراع ..
و غمغمة بالوداع !!!



 

إنضم
Oct 3, 2008
المشاركات
6,719
مستوى التفاعل
69
المطرح
دمشق باب توما
أغنية قديمة


_ 1 _

في المقهى القديم المزدحم النائي ، في ذات مساء ،
و عيوني تنظر في تعب ،
في الأوجه ، و الأيدي ، و الأرجل ، و الخشب :
و الساعة تهزأ بالصخب .
و تدق _ سمعت ظلال غناء ..
أشباح غناء ..
تتنهد في الحاني ، و تدور كإعصار
بال مصدور ،
يتنفس في كهف هار
في الظلمة منذ عصور !

_ 2 _

أغنية حب .. أصداء
تنأى .. و تذوب .. و ترتجف
كشراع ناء يجلو صورته الماء
في نصف الليل .. لدى شاطئ إحدى الجزر ؛
و أنا أصغي .. و فؤادي يعصره الأسف :
لِمَ يسقط ظل يد القدر
بين القلبين ؟! لم أنتزع الزم القاسي
من بين يدي و أنفاسي ،
يمناك ؟! و كيف تركتك تبتعدين .. كما
تتلاشى الغنوة في سمعي .. نغما .. نغما ؟!

_ 3 _

آه ما أقدم هذا التسجيل الباكي
و الصوت القديم ؛
الصوت القديم
ما زال يولول في الحاكي .
الصوت هنا باق ؛ أما (( ذات )) الصوت .
القلب الذائب إنشاداً
و الوجه الساهم كالأحلام ، فقد عادا
شبحاً في مملكة الموت _
لا شيء _ هنالك في العدم .
و أنا أصغي .. و غداً سأنام عن النغم !
أصغيت .. فمثل إصغائي
لي وجه مغنية كالزهرة حسناء
يتماوج في نبرات الغنوة ، كاَلظل
في نهر تقلقلة الأنسام ؛
في آخر ساعات الليل ،
يصحو .. و ينام .
أثور ؟! أأصرخ بالأيام ! و هل يجدي ؟!
إنا سنموت
و سننسى ، في قاع اللحد ؟
حباً يحيا معنا .. و يموت !

_ 4 _

ذرات غبار
تهتز وترقص ، في سأم ،
في الجو الجائش بالنغم ،
ذرات غبار !
الحسناء المعشوقة مثل العشاق
ذرات غبار !
كم جاء على الموتى _ و الصوت هنا باق _
ليل .. نهار !!
هل ضلقت ، مثلي ، بالزمن
تقويماً حط على كفن ،
ذرات غبار ؟!؟
 

إنضم
Oct 3, 2008
المشاركات
6,719
مستوى التفاعل
69
المطرح
دمشق باب توما
أفياء جيكور

نافورة من ظلالٍ ، من أزاهيرِ
و من عصافير ..
جيكورُ ، جيكورُ ، يا حفلاََ من النور
يا جدولاً من فراشاتٍ نُطاردها
في الليل ، في عالم الأحلام و القَمَرِ
ينشرنَ أجنحة أندى من المطرِ
في أول الصيف .
يا باب الأساطيرِ
يا باب ميلادنا الموصولَ بالرحِمِ
من أين جئناكِ ، من أيّ المقاديرِ ؟
من أيَّما ظُلَمِ ؟
و أيّ أزمنة في الليل سرناها
حتى أتيناك أقبلنا من العَدَمِ ؟
أم من حياة نسيناها ؟
جيكورُ مسّي جبيني فهو ملتهبُ
مسِّيه بالسّعفِ
و السنبل الترِفِ .
مدّي عليَّ الظلال السمرَ ، تنسحبُ
ليلاً ، فتخفي هجيري في جناياها .

ظلٌ من النخل ، أفياءٌ من الشّجَرِ
أندى من السِّحَرِ
في شاطىء نام فيه الماء و السَّحبُ ..
ظلٌ كأهداب طفلٍ هدّه اللعِبُ ،
نافورة ماؤها ضوء من القمر
أودّ لو كان في عينيّ ينسربُ
حتى أحسّ ارتعاش الحُلم ينبع من روحي و ينسكبُ
نافورة من ظلالٍ ، من أزاهيرِ
و من عصافير ..

جيكورُ .. ماذا ؟ أنمشي نحن في الزّمنِ
أم أنه الماشي
و نحن فيه وقوفٌ ؟
أين أوله
و أين آخرهُ ؟
هل مرّ أطوَله
أم مرَّ أقصره الممتدّ في الشَجَنِ
أم نحن سيان ، نمشي بين أحراشِ
كانت حياةَ سوانا في الدياجيرِ ؟
هل أنّ جيكور كانت قبل جيكورِ
في خاطر اللّه .. في نبعٍ من النور ؟
جيكور مدّي غِشاءَ الظل و الزهَرِ ،
سدي به باب أفكاري لأنساها .
و أثقلي من غصون النوم بالثمرِ
بالخوخ و التين والأعناب عاريةً من قِشرها الخِصرِ .
ردي إليّ الذي ضيعت من عُمُري
أيّام لهوي .. و ركضي خَلفَ أفراسِ
تعدو من القَصَص الريفي و السّمَرِ ؛
ردّي أبا زيدَ ، لم يصحب من الناسِ
خلاَّ على السفرِ
إلاّ و ما عاد .
ردّي السندباد و بقد ألقته في جُزُرِ
يرتادها الخ ريحٌ ذات أمراسِ

جيكورُ لُمي عظامي ، و انفضي كفَني
من طينه ، و اغسلي بالجدول الجاري
قلبي الّذي كان شبَّاكاً على النارِ .
لولاك يا وطني ،
لولاك با جنتى الخضراء ، يا داري
لم تَلقَ أوتاري
ريحاَ فتنقل آهاتي وأشعاري ،
لولاك ما كان وجه اللّه من قدري .

أفياءُ جيكورَ نبع سال في بالي
أبلّ منها صدى روحي ..
في ظلِّها أشتهي اللقيا ، و أحلم بالأسفار و الرّيحِ
و البحر تقدح أحداق الكواسج في صخابه العالي
كأنها كِسَرٌ من أنجمٍ سقطت
كأنها سُرُجُ الموتى تقلُبها أيدي العرائس من حالٍ
إلى حالِ .
أفياءُ جيكور أهواها
كأنها انسرحت من قبرها البالي ،
من قبر أمي التي صارت أضالعها التعبى و عيناها
من أرض جيكور .. ترعاني و أرعاها
 

إنضم
Oct 3, 2008
المشاركات
6,719
مستوى التفاعل
69
المطرح
دمشق باب توما
أهواء

أطلّي على طرفي الدامع
خيالاً من الكوكب السّاطعِ
ظلاً من الأغصن الحالمات
على ضفّة الجدول الوادعِ
و طوفي أناشيد في خاطري
يناغين من حُبّيَ الضائع
يفجِّرُنَ من قلبي المستفيض
و يقطرْنَ في قلبي السامع

لعينيكِ ، للكوكبين اللذين
يصبان في ناظريّ الضياءْ
لنبعين ، كالدهر ، لا ينضبان
و لا يسقيان الحيارى الظماء
لعينيك ينثال بالأغنيات
فؤاد أطال انثيال الدماء
يودُّ ، إذا ما دعاك اللسانُ
على البُعدِ ، لو ذاب فيه النداء

يطول انتظاري ، لعلي أراك
لعلي ، ألاقيكِ بين البَشَرْ
سألقاكِ . لا بد لي أن أراك
و إن كان بالناظر المحتضَرْ
فديْتُ التي صوّرْتها مناي
و ظلُّ الكرى في هجير السَّهرْ
أطليِّ على من حباك الحياة
فأصبحت حسناء ملء النظرْ !

أطليّ فتاة الهوى و الخيال
على ناظرٍ بالرؤى عالقِ
بعشرين من ريُّقات السنين
عَبَرنَ المدرات في خافقي
بعشرين كُلاَّ وهبتُ الربيعَ
و ما فيه ، من عُمري العاشقِ
فما ظلَّ إلا ربيعٌ صغير
أُخبِّيه للموعد الرائقِ

سأروي على مسمَعيكِ الغداةَ
أحاديث سمّيتهُنّ الهوى
و أنباءَ قلبٍ غريق السراب
شقي التداني ، كئيب النوى
أصيخي.. فهذي فتاة الحقول
و هذا غرامٌ هناك انطوى
أتدرين عن ربّة الراعيات ؟
عن الريف ؟ عما يكونُ الجوى ؟

هو الريف هل تبصرين النخيل ؟
و هذي أغانيه ، هل تسمعين ؟
و ذاك الفتى شاعرٌ في صباه
و تلك التي علَّمته الحنين
هي الفنُّ من نبعه المستطاب
هي الحبُّ من مُستقاه الحزين
رآها تغني وراء القطيع
ك(بَنلوب) تستمهل العاشقين

فما كان غيرُ التقاء الفؤادَينِ
في خفقةٍ منهما عاتيه
و ما كان غيرُ افترارالشفاه
بما يشبه البسمةَ الحانيه
و كان الهوى ، ثم كان اللقاء
لقاء الحبيبَين في ناحيه
فما قال : أهواكِ ، حتى ترامى
عياءً على ضفة الساقيه

و أوْفى على العاشقَين الشتاء
و يومٌ دجا في ضُحاه السحاب
خلا الغابُ ما فيه إلا النَّخيل
و إلا العصافير ، فهو ارتقاب
و بين الحبيبين في جانبيه
من السَّعف في كل ممشى ، حجاب
فما كان إلا وميضٌ أضاءَ
ذُرى النخل ، و انحلّ غيمٌ و ذاب

و يا سدرةَ الغاب كيف استجارا
بأفنانك الناطفات المياه
رآها و قد بلّ من ثَوْبها
حياً زخّ ، فاستقبلَتها يداه
على الجذع يستدفئان الصدور
على مَوعدٍ ، كل آهٍ بآه
سلي الجذع كيف التصاق الصدور
بهزّاتها ، و ابتعادُ الشفاه ؟

أشاهدتَ يا غابُ رَثص الضياء
على قطرةٍ بَينَ أهدابها ؟
تُرى أهي تبكي بدمع السماء
أساها و أحزان أترابها ؟
و لكنها كلُّ نوْر الحقول
و دفءِ الشذى بين أعشابها
و أفراحُ كلِّ العصافير فيها
و كلِّ الفراشات في غابها

و ذاك الخصام الذي لو يُفدّى
لفدّيتُ ساعاته بالوئام
أفدِّيه من أجل يومٍ ترفّ
يدٌ فيه أو لفتةٌ ، بالسلام
و من أجل عينين لا تستطيعان
أن تظرا دون ظلّ ابتسام
تذوب له قسوة في الأسارير،
كالصحو ينحلُّ عنه الغمام

خصاماً و لّما نعلّ الكؤوس ؟
أحطَّمتِها قبل أن نسكرا ؟
خصاماً ، و ما زال بعض الربيع
نديّاً على الصيف مخضَوْضراً ؟
خصاماً ؟ فهل تمنعين العيونَ
إذا لألأَ النُّور ، أن تنظرا ؟
و هل تُوقفين انعكاس الخيالِ
من النهر ، أن يملك المعبرا ؟

أغانيُّ شبّابتي تَستبيكِ
و تُدنيكِ مني ، ففيمَ الجفاء ؟
كأنّ قوى ساحر تستبدُّ
بأقدامك البيض ، عند المساء
و يُفضي بك الدَّرْب حيثُ استدار ،
إلى مَوْعدي بين ظلِّ و ماء
على الشطِّ ، بين ارتجاف القلوع
و همس النخيل ، و صمت السماء

و حجّبتِ خدّيك عن ناظريّ
بكفّيكِ حيناََ ، و بالمِروَحات
سأشدو ، و أشدو ، فما تصنعين
إذا احمر خدّاكِ للأغنيات ؟
و أرخيتِ كفيكِ مبهورَتين
و أصغيتِ ، و اخضلَ حتى الموات
إلى أن يموت الشعاعُ الأخيرُ
على الشرق ، و الحب ، و الأمنيات

وهيهات ، إن الهوى لن يموت
و لكنّ بعض الهوى يأفلُ
كما تأفل الأنجمُ الساهرات ،
كما يغرب الناظِرُ المُسبَلُ ،
كم تستجمُّ البحارُ الفساح
مليّاً ، كما يرقد الجدول
كنَوم اللظى ، كانطواء الجناح
كما يصمتُ النايُ و الشمألُ !

أعامٌ مضى و الهوى ما يزالُ
كما كان ، لا يعتريه الفتور ؟
أهذا هو الصّيفُ يوفي علينا
فنلقاه ثانيةً ، كالزهور ؟
و لكنّهن زهور الخلود
فلا أظمأتْ ريّهنّ الحرور
و لا نال من لونهن الشتاءُ
و لا استترَفت عطرَهُنّ الدهور

أغانيّ ، و الغاب قفرُ الوكون
حبيس النسائم تحت الدوالي
ترى ماءه ، لا تّقاد الهجير ،
حريقاً بما فوقه من ظلال
و فو التعاشيب ، حيث الغصون
ينئُون بأفيائهن الثقالِ ،
لها مضجعٌ هدْهدْته العطور ،
أأبصرت كيف اضطجاع الجمالِ ؟

أأمسيتُ أستحضر الذكرياتِ
و ما كان بالأمسِ كلّ الحياه ؟
أضاعت حياتي ؟ أغاب الغرامُ ؟
أماتتْ ، على الأغنياتْ ، الشفاه ؟
أنمسي ، و ما زال غابُ النخيل
خضيلاً و ما زال فيه الرعاه ،
حديثاً على مَوقد السامرين :
أحبّا ، و خابا ، فوا حسرتاه ؟

أُناديكِ ، لو تسمعين النداء
و أدعوكِ _ أدعوك ؟! يا للجنون !
إذا رنّ في مسمعَيك الغداة
من المهد صوتُ الرضيع الحنون
و نادى بك الزوّجُ أن ترضعيه
و نادى صدىً أخفتته السنون
فما نَفعُها صرخةً من لهيبٍ
أدوِّي بها ؟ من عساني أكون ؟!

أعفَّرتُ من كبرياء النداء ؟
و أرجَعتُ آمادي القهقرى ؟
نسيتُ التي صوّرتها مُناي
و نادَيتُ أنثى ككل الورى ؟!
و أعرضتُ عن مسمَعٍ في السماء
إلى مسمع في تُراب القرى !
أتُصغي فتاةُ الهوى و الخيال
و أدعو فتاة الهوى و الثرى !؟

و ودَّعتُ سجواءَ بين الحقول
و دنيا عن الشرّ في معزل
و خلفتُ ، في كلّ ركن خضيلٍ
من الريف ، ذكرى هوىً أوّلِ
قصاصات أوراقيَ الهاساتِ
بشِعري ، على ضفّة الجدول
و جِذْعاً كتَبتُ اسمها الحُلوَ فيه
و ناياً يغني مع الشمألِ

فمنْ هذه المسترقُّ القلوبَ
صبىً ملؤها روحُه الطافره
أما كنتُ ودّعتُ تلك العيونَ
الظليلات و الخصلة النافرة ؟
كأني ترشَّفتُ قبل الغداة
سنى هذه النظرة الآسرة !
أما كان في الريف شيءٌ كهذا ؟
أما تُشبه الربّة الغابرة ؟!

مشى العُمرُ ما بيننا فاصلاً
فمن لي بأن أسبق الموْعدا ؟
و لكنه الحبُّ منه الزمانُ
ثوان ، و مما احتواه المدى
أراها فأنفض عنها السنين
كما تَنْفِضُ الريحُ بَردَ الندى
فتغدو و عمري أخو عُمرها
و يستوقفُ المولِدُ الموْلدا

و هل تسمع الشعرَ إن قُلته
و في مسمعيها ضجيجُ السنين
أطلت على السبعِ من قبل عشر
ين عاماً ، و ما كنت إلا جنين ؟
و أمسى_ ولم تدرِ أنت الغرام_
هواها حديث الورى أجمعين
لققد نبَّأوها بهذا الهوى
فقالت : و ما أكثر العاشقين ؟!

أمن قَبلهِ انثال هذا النشيدُ
إليها ، إلى الذئبة الضاريه ؟
و لو لم يكن فيه طعمُ الدماء
ما استشعرت رنة القافيه
و ما زالت تسبيه غمّازتان
تبوحان بالبسمةِ الخافيه
و ما زالتا تُذكران الخيال
بما كان في الأعصَر الخاليه:

و بالحُب و الغادة المستبد
صباها به ، يلعبان الوَرَقْ
و كيف استكان الأله الصغير
فألقى سهام الهوى و الحَنَقْ
رهانٌ ، رمى فيه غمّازتيه
وَ وَرْدَ الخدود ، و نور الحدق ،
لكِ اللّه ، كيف اقتحمت القرونَ
و لم يخب في وجنتيكِ الألق ؟

كأن ابتسامتها و الربيعَ
شقيقان ، لولا ذبولْ الزَّهرْ
أآذارُ ينثر تلك الورودَ
على ثغرها ؟ أم شُعاع القمر ؟
ففي ثغرها افترَّ كلُّ الزمان
و ما عُمرُ آذار إلا شَهرَ
و بالروح فدّيْت تلك الشفاهَ
و أن أذكرَتْني بكأس القدر !

أطلي على طرفيَ الدامع
خيالاً من الكوكب الساطع
و ظلاً من الأغصن الحالمات
على ضفة الجدول الوادع
و طوفي أناشيد في خاطري
يناغين من حبيَّ الضائع
يفجّران من قلبي المستفيض
و يقطرن في قلبي السامع
 

إنضم
Oct 3, 2008
المشاركات
6,719
مستوى التفاعل
69
المطرح
دمشق باب توما
أقداح و أحلام

أنا ما أزال وفي يدي قَدَحي
ياليل، أين تفرّق الشرْبُ
ما زلت أشربها و أشربها
حتى ترنّح أفقك الرّحْبُ
الشرق عُفّر بالضباب فما
يبدو، فأين سناك ياغربُ ؟
ما للنجوم غرقنَ ، من سأمٍ،
في ضوئهن، و كادت الشُّهُب ؟
أنا ما أزال وفي يدي قدحي
يا ليلُ، أين تفرق الشربُ ؟

الحانُ بالشهوات مصطخبٌ
حتى يكاد بهنَّ ينهارُ
و كأنَّ مصباحيه من ضَرَجٍ
كفَّان مدّهما لي العارُ
كفَّان ؟! بل ثغران قد صُبغا
بدمٍ تدفّق منه تيّارُ
كأسان ملؤهما طلىً عُصرت
من مهجتين رماهما الحبُّ
أو مخلبان عليهما مِزَقٌ
حمراءُ تزعم أنّها قلبُ
يا ليلُ ، أين تطوف بي قدمي ؟
في أيّ مُنعَطَفٍ من الظُلَمِ
تلك الطريقُ أكاد أعرفها،
بالأمس عتّمَ طَيفُها حُلُمي
هي غِمدُ خنجرك الرهيب ، و قد
جرّدتَه و مسحتَ عنه دمي
تلك الطريق على جوانبها
تتمزّق الخطوات أو تكبو
تتثاءب الأجسادُجائعةً
فيها ، كما يتثاءب الذئب

حسناءُ يُلهب عُريُها ظمأي
فأكاد أشرب ذلك العُريْا
و أكاد أحطمه ، فتحطمني
عينان جائعتان ، كالدنيا؛
غرست يدُ الحمى على فمها
زَهَراً بلا شجر_فلا سَقيا!
إنْ فتَحته بحرِّها شفةٌ
ظمأى يعربد فوقها نَدْبُ
رقص اللهيبُ على كمائمه
ومشى الطلاءُ يهزُّه الوَثبُ

عينٌ يرِّنح هُدْبَها نَفَسي
و فمٌ يقطع هَمسَه الداءُ
و يدُ على كتفي مُجلجلةٌ
و اخجلتاه ! أتلك حوّاءُ ؟!
لا كنتُ آدَمها و لا لفحتْ
فردوسي الخمريّ صحراءُ !
صوت النُّعاس يرنّ في أفقي
فتذوبُ ، ناعسةً ، له السُّحب
و انثال ، من سَهَري على سَهَري
يُنبوعهُ المتثائبُ الرَّطْبُ

يا نَوْمُ ، بينَ جوانحي أمَلٌ
لم أدْرِ ، قَبلكَ ، أنه أمَلُ
مثلُ الفراشةِ بات يحبسُها
دَوْحٌ بذائب طلّه خَضِلُ
لولا خفوقُ جناحها ، غفلتْ
بيضُ الأزاهر عنه و المقَلُ
أنا من ظلالكَ بين أوديةٍ
عَذراءَ ، كلُّ مهادها عُشبُ
هام الضباب على رفارفها
طلَّ الوشاح.. كنجمةٍ تخبو

مااذ أراهُ ؟! أطَيفُها مسحتْ
عنه الترابَ أناملُ الغَسَقِ ؟
هو يا فؤادي غيرُها ، رِفةً ،
هو من دمائك أنت ، من حُرقي !
هو ما نحنُّ إليه ، بادلين
حُبِّي و فتَّح بالسّنا أُفُقي
فإذا لثمتُ فَغيرَ خادعةٍ
باتت لكُلّ مخادعٍ تصبو
أفكان سُوراً قامَ بَينهما
_ بين الخيانة و الهوى_ هُدْب ؟

خفقت ذوائبُها على شَفّتي
و سنى ، فأسكرَ عطرُها نفَسي
نهرُُ من الأطياب أرْشفني
ريحاً تُريب مجامرَ الغَلَسِ
فكأن ناياً ضمَّخته يدا
آذار ، غرّد ليلةَ العُرُس
فغفا ، و ما زالت ملاحنه
مِلْءَ الفضاء ، يُعيدها الُحبُّ
أو أن سوسنةً يُراقِصُها
رَجْعُ الغناء ، بشَعرها تربو

يا جَسمَ طيفكِ ، أنتِ ، ياشَبَحاً
من ذكرياتي ، يا هوىً خَدَعا
لعناتي الحنقاتُ ما برحتْ
تعتاد خِدْرك و الظلامَ معا
خفقتْ بأَجنحة الغُراب على
عَينَيك تنشر حولكِ الفَزَعا
الصُّبحُ ، صُبحك ، ضِحك شامتةٍ
و الليل ، ليلك ، مضجعٌ ينبو
و إذاهلكتِ غداً ، فلا تجدي
قَبراً ، و مزّق صدرك الذئبُ ؟

و البومُ يملأ عُشَّه نُتَفاً
من شَعرك المتعفِّر النَّخِرِ
و يعود ثغرك للذباب لقىً
و يداك مُثقَلتان بالحجزِ،
لا تدفعان أذاه عن شفةٍ
بالأمس أخرس لغوُها وتري
=== من دمك الخبيث غداً
دَوُحٌ تعشِّش فوقه الغُرْبُ
تسوي الصلال إلى جوانبه
غرثى ، و يعوي تحته الكلبُ !
 

إنضم
Oct 3, 2008
المشاركات
6,719
مستوى التفاعل
69
المطرح
دمشق باب توما
أشعار بدر شاكر السياب تحمل معاني رائعة أتمنى من الجميع قرائتها

:24::24::24::24:
 
أعلى