تتمه
كانت تجلس ببساطة على الأرض، مرتدية بنطالا ضيقا و بلوزة قصيرة الكمين واسعة الجيب، و شعرها الذهبي الأملس الطويل مربوط بخصلة منه، و ينساب على كتفيها و ظهرها كذيل الفرس !
رحبت الاثنتان بنا ، ثم توجهت أروى نحو المغسل، و غسلت يدها و نشفتها ، ثم أقبلت نحو وليد و مدّت يدها لتصافحه !
وليد ببساطة مدّ يده و صافحها !
" حمدا لله على سلامتكما ! كيف حالكما ؟ "
قالت ذلك و هي تشد على يد وليد، و وليد يبتسم و يطمئنها، و أنا أسلط أنظاري على يديهما ، ثم عينيهما ، ثم أعود إلى يديهما، ثم أعض على شفتي السفلى بغيظ...
إلى متى ستظل هذه ممسكة بيد ابن عمّي؟؟ هيا ابتعدي !
" مرحبا بك يا رغد، عظم الله أجرك "
رفعت بصري عن يديهما و نظرت إليها ببغض، و مددت يدي لأصافحها.. أعني لأجبرها على ترك يد وليد...
" أجرنا و أجركم، غفر الله لنا و لكم "
قالت :
" كيف صحتك الآن ؟ "
" بخير و لله الحمد "
عادت تنظر إلى وليد ، و تخاطبه :
" هل كانت رحلتكما متعبة ؟ "
قال :
" لا ، كانت ممتعة "
نظرت إلى وليد فرأيته ينظر إلي و يبتسم...
قالت أروى :
" تفضلا.. شاركانا العشاء "
و كررت أمها الجملة ذاتها
قال وليد :
" بالهناء و العافية، تناولنا عشاءنا في أحد المطاعم.. أتموا أنتم طعامكم و نحن سنجلس في المجلس "
و على هذا ذهبنا إلى المجلس، وبقي الثلاثة حول السفرة.. و يبدو أن وليد صار يتحرك في المنزل بحرية كيفما يشاء...
جلس على أحد المقعدين الكبيرين المتقابلين الموجودين في المجلس، فجلست أنا إلى جواره.. و سكنا عن أي كلام أو حركة لبضع دقائق... ثم قال وليد :
" رغد"
نظرت إليه.. فرأيت ملامح الجدية و القلق على وجهه... قال :
" أنا آسف و لكنني في الوقت الحالي لا أستطيع توفير سكن آخر.. كما و أن الظروف لن تمكننا من العيش في شقة مستقلة، لأن عملي هنا و أقضي كل ساعات النهار هنا.. "
لم أعلّق ، فقال :
" هل هذا يروق لك ؟ "
قلت :
" أخشى أن يسبب وجودي الضيق لهم .."
قال :
" لا ، إنهم أناس طيبون جدا.. و كرماء لأقصى حد..، لن يزعجهم وجودك، أريد أن أعرف .. هل يزعجك أنت ذلك؟؟ "
قلت :
" سأبقى حيث ما تبقى أنت..، ألست المسؤول عني الآن؟ "
بدا الضيق جليا على وليد، مال بجدعه للأمام و قال :
" رغد يا صغيرتي.. الأمر ليس متروكا لظروفي بل هو حسب رغبتك أنت.. إذا رغبت بأي شيء آخر فأبلغيني و سأنفذه حتما "
قلت :
" حقا وليد ؟؟ "
قال :
" طبعا، بدون شك.. تعرفين أنني من أجلك أفعل أي شيء..."
شعرت بالصدق ينبع من عينيه.. و آه من عينيه ..
لو تعرف يا وليد.. أنا لا أريد من هذه الدنيا غيرك أنت.. لقد فقدت كل شيء.. والداي ماتا. .و تيتّمت مرتين.. و أختي رحلت.. و سامر تركته جريحا متألما.. و خالتي و عائلتها ظلوا بعيدين عني.. لم يبق لي إلا أنت..
أنت الدنيا في عيني..
أنا أريد أن أبقى معك، قريبة منك و تحت رعايتك و حبك ما حييت.. أينما كنت.. هنا أو في أي مكان في المجرّة.. فقط أبقني قربك.. و أشعرني باهتمامك و حبك..
" وليد .."
همست بصوت أجش... وليد أجابني مسرعا :
" نعم صغيرتي ؟ "
قلت :
" أنا.. أنا..."
و لم أتم، إذ أن أروى أقبلت الآن، تحمل أقداح الشاي...
" تفضلا.."
لم تكن لدي أدنى رغبة في احتساء الشاي لكنني فعلت من باب المجاملة..
أروى جلست على المقعد المجاور، قرب وليد...
تبادلا حديثا قصيرا، ثم قالت مخاطبة إياي :
" يمكنك استخدام غرفتي، و أنا سأنام مع أمي لحين ترتيب غرفة خاصة بك "
نظرت إلى وليد و قلت :
" و أنت ؟ "
قال :
" في غرفتي ذاتها "
هززت رأسي اعتراضا..
وليد قال :
" لا تخشي شيئا يا رغد.. المكان آمن هنا و موثوق كبيتنا تماما "
" لا ! لن أبقى وحدي هنا "
قال :
" يمكن لأروى البقاء معك في الغرفة.. "
قلت :
" إذن خذني لمكان آخر "
تبادل وليد و أروى النظرات، ثم نظر إلى المقعد الذي نجلس عليه، ثم قال :
" حسنا.. سأبات أنا على هذا.. داخل المنزل"
لم تعجبني الفكرة أيضا.. فنظرت إليه باعتراض و عدم اقتناع..
قال :
" هذه الليلة على الأقل.. ثم نجد حلا آخر"
فاستسلمت للأمر...
ذهبت أروى بعد ذلك لإعداد فراش لي في غرفتها... عندها قلت لوليد :
" وليد.. لا تبتعد عني أرجوك "
وليد نظر إلي بعطف و قال :
" لا تخشي شيئا صغيرتي.. أتظنين أنه، لو كان مكانا غير آمن، كنت تركتك تباتين فيه ؟ "
قلت :
" لكني أخاف.. أخاف كثيرا.. المكان غريب و الناس كذلك.. لا تبتعد عني "
كنت أقول ذلك و أنا متوترة.. و لما لحظ وليد حركة أصابعي المضطربة..
قال :
" اطمئني رغد.. و لسوف أبقي الباب مفتوحا "
ذهبنا أنا و وليد و أروى للتعرف على أرجاء المنزل و انتهينا إلى غرفة أروى..
غرفة بسيطة كسائر المنزل، لا تحوي شيئا مميزا ...
كان الفراش دافئا.. و جسدي متعبا لكن القلق لم يسمح لي بالنوم..
أروى نامت بسرعة.. أما أنا فتلاعبت بي الهواجس حتى بدأت أوصالي ترتعد خوفا..
ارتديت عباءتي.. و خرجت من الغرفة بحذر.. شققت طريقي بهدوء تام نحو المجلس.. كان الباب شبه مغلق، و وليد كان نائما على المقعد الكبير.. و بصيص خفيف من الضوء يتسلل إلى الغرفة عبر فتحة الباب.. و عبرها تسللت أنا أيضا إلى الداخل...و أوصدت الباب من بعدي !
لأنه طويل جدا، فإن قدميه الكبيرتين كانتا تبرزان من فوق ذراع المقعد.. أما ذراعاه فقد كانتا مرفوعتين فوق رأسه، إذ أن مساحة المقعد لا تكفي لضمهما على جانبيه !
مسكين وليد! لابد أن جسده غير مرتاح في نومته هذه البتة !
و مع ذلك كان يغط في نوم عميق... !
جلست أنا على المعقد الكبير الآخر... لبضع دقائق.. شاعرة بالأمان و الطمأنينة، و الدفء أيضا.. فبقرب وليد يطيب لقلبي البقاء و لعضلاتي الاسترخاء و لعيني الإغماض..
استلقيت على المعقد.. و سمحت للنوم بالسيطرة علي.. بكل سهولة !
~ ~ ~ ~ ~
وضعت المنبه على المنضدة قرب المقعد، و نمت بعد أرق، لأنني كنت قلقا على رغد.. أفكر..هل ستتقبل الحياة هنا..؟ هل ستألف الأوضاع و ترضى بها؟ هل سيسرّها العيش في منزل متواضع، و حال متوسطة، و هي ابنة العز و الدلال و الغنى ..؟؟
إن علي ّ أن أجد أكثر من أجل تحسين وضعي المالي و العام..فرغد لم تعتد حياة الفقر و الحاجة... و لا تستحق حياة كهذه...
استيقظت بسرعة على رنين المنبه المزعج...
كنت قد ضبطته لإيقاظي وقت الفجر لأصلي...
حينما جلست، لمحت شيئا يتحرك على المقعد الكبير الآخر و الموازي للمقعد الذي نمت عليه ..! و ذلك الشيء جلس أيضا
دققت النظر فيه ..أظنه خيال رغد! أو ربما هوسي بها جعلني أتهيأ خيالها في كل مكان !؟ في اليقظة و المنام !
قلت متسائلا :
" رغد ؟"
ذلك الشيء تكلم مصدرا صوتا ناعسا ، يشبه صوت رغد !
" نعم "
قلت :
" رغد صغيرتي ! أهذه أنت ؟؟ "
" نعم، أريد أن أنام "
و استلقت على المقعد مجددا !
نهضت أنا عن مقعدي و وقفت أمدد أطرافي.. شاعرا بالإعياء ... إن هذا المقعد صغير و لا يتسع لجسد رجل مثلي !
تقدمت نحوها
" رغد ! ما الذي تفعلينه هنا ؟ "
قالت و هي شبه نائمة :
" كنت خائفة "
" مم ؟ "
" من الأشباح "
ماذا !؟ أهي نائمة أم تهذي ؟؟
" أي أشباح ؟؟ "
جلست رغد فجأة و نظرت من حولها يمينا و شمالا... و هي تقول :
" أشباح؟؟ أين ؟ أين ؟ "
و يبدو أنها استفاقت أخيرا .. ثم نظرت إلي .. ثم قالت :
" وليد .. "
قلت :
" نعم.. "
قالت :
" نحن في منزل أروى أليس كذلك ؟ "
" نعم صغيرتي، هل كنت تحلمين ؟ "
أخذت تفرك عينيها...
قلت :
" لم أنت هنا ؟ "
قالت :
" لم أشعر بالطمأنينة هناك.. "
" لم صغيرتي؟ "
قالت و هي تنظر إلي برجاء :
" أريد أن أبقى معك .. المكان غريب علي.."
" ستعتادينه.. لا تقلقي "
" لكن يا وليد... "
هنا طرق الباب و سمعت صوت العم يناديني...
" وليد .. انهض بني ..الصلاة "
و كاد يفتح الباب، إلا أنه كان موصدا ! إنها رغد !
صغيرتي المجنونة !
أجبت :
" نعم عمي أنا مستيقظ "
قال :
" هيا إذن "
قالت رغد :
" إلى أين ؟ "
" إلى المسجد "
قالت معترضة :
" و تتركني وحدي ؟؟ سآتي معك "
كنت أعرف أنها ستقول ذلك !
ذهبت إلى الباب مسرعا و فتحته فرأيت العم إلياس يسير نحو المخرج... و كنا قد اعتدنا الذهاب للصلاة في المسجد المجاور سيرا على الأقدام...
قلت :
" عمّي .. اذهب أنت سأصلي هنا "
تعجّب العم و قال :
" لم يا ولدي ؟ "
" أخبرك لا حقا.. تقبل الله منكم "
جعلت الباب شبه مغلق
و عدت إلى رغد التي بادرتني بالسؤال :
" الحمام قرب الغرفة أليس كذلك ؟ "
" بلى "
و همّت بالخروج قاصدة إياه ...
" انتظري رغد "
نظرت إلي باستغراب...
قلت :
" حتى يخرج العم ... "
و عدت أنظر من فتحة الباب حتى إذا ما غادر العم خارجا، فتحته و استدرت إلى رغد قائلا :
" تفضلي ... "
رغد سارت ببطء و هي تنظر إلى الأرض بخجل.. تنحيت أنا جانبا .. و لما صارت قربي .. رفعت رأسها إلي و قالت :
" أنا آسفة " ...
توترت، و لم يتجرأ لساني على النطق بشيء... فأخفيت نظري تحت الأرض.. منتظرا منها الخروج...
إلا أنها بقيت واقفة قربي هكذا لوهلة... و أنا شديد الحرج، ثم قالت :
" لكنك..أصبحت أبي الآن ! أليس كذلك ! "
رفعت نظري إليها بسرعة مندهشا، و ارتفع حاجباي تعجبا !
كانت تنظر إلي، و الآن.. ابتسامة مرسومة على شفتيها أستطيع أن أرى عذوبتها رغم الظلام...
قالت :
" بابا وليد ! "
و أسرعت خارجة من الغرفة ... تاركة إياي في ذهول و جنون !
إذا كانت ..هذه الفتاة.. اليتيمة المدللة.. الحبيبة الغالية.. ستعيش معي و تحت رعايتي أنا في بيت واحد.. فإنني و بدون أدنى شك.. سأفقد عقلي و أتحول خلال أيام، بل خلال ساعات.. إلى مجنون لم يخلق الله مثل جنونه جنونا...
و أنتم الشاهدون !