عصر الدولة الأموية

The Hero

الأســــــــــــــطورة

إنضم
Jun 29, 2008
المشاركات
20,104
مستوى التفاعل
69
المطرح
في ضحكة عيون حبيبي
رسايل :

شكرًا للأشواك علَّمتني الكثيرَ

تتألف هذه المرحة من 10 بنود إلا وهية


  1. أسباب سقوط الدولة الأموية
  2. معركة بلاط الشهداء
  3. الأمويون في ميزان التاريخ
  4. النشاط العمراني والحضاري في الدولة الأموي
  5. غزو الصين
  6. فتح الأندلس
  7. فتح بلاد ماوراء النهر
  8. فتح سمرقند
  9. فتح كاشغر
  10. فتـح الديبل والسند
 
التعديل الأخير:

The Hero

الأســــــــــــــطورة

إنضم
Jun 29, 2008
المشاركات
20,104
مستوى التفاعل
69
المطرح
في ضحكة عيون حبيبي
رسايل :

شكرًا للأشواك علَّمتني الكثيرَ

1- أسباب سقوط الدولة الأموية



قال الله تعالى: "قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ"..{آل عمران:26}.
حقًا.. لكل أمة أجل، ولكل أجل كتاب.. والمُلك بيد الله تعالى.. يقلب الليل والنهار، فيعزُّ من يشاء بتوفيقه، ويذل من يشاء بخذلانه.. ويرفع من يشاء بقدرته، ويخفض من يشاء بحكمته.


ومن حكمة الله أنه إذا جَارَ الملوك على الرعية، فجار القوي على الضعيف، ولم يؤخذ للمظلوم حقه من ظالمه سلط الله على الملوك من يفعل بهم كفعلهم برعاياهم وضعفائهم سواء بسواء.. وهذه سُنَّةُ الله تعالى منذ قامت الدنيا إلى أن تزول..
فلما قدَّر الله وشاء زوال ملك بني أمية.. هيَّأ لذلك أسبابه، وإذا قدَّر الله أمرًا فلا مردَّ له، وكان أمر الله قدرًا مقدورًا..
اختلفت كلمة بني أمية، وسارع الناس واجتمعوا على الخليفة العباسي فكان انقراض ملك بني أمية، وبدأ مُلك بني العباس.. ولكن يبقى التساؤل:

ما جوانب التقصير التي طرأت على الأمويين فأدت إلى زوال دولتهم؟

وعندما ننظر إلى حقبة الخلافة الأموية نجد أن جميع خلفائهم من لدن معاوية ـ رضي الله عنه ـ إلى آخرهم.. لم يتجاوزوا أربعة عشرة رجلاً..
وعندما نستعرض سير وأدوار حياتهم نجد عدة أسباب اجتمعت عندهم كانت هي الأسباب الحقيقية لسقوط دولة بني أمية وزوال عزهم ومجدهم..
فسقوط دولة الخلافة الأموية هو أمر طبيعي إذا أخذنا بعين الاعتبار أن الدول كالأفراد والكائنات الحية تمر في أدوار ومراحل مختلفة من نمو وقوة وضعف ثم فناء، وإنما كل دولة تُذكر بمآثرها وبما تتركه من آثار إيجابية..
ومما لا شك فيه أن هذه الدولة الأموية تركت مآثر جليلة تُذكر لها منها:
أنها زادت في مساحة الدولة الإسلامية فامتدت من أواسط آسيا شرقًا إلى المحيط الأطلسي غربًا، وصبغت هذه المساحة الشاسعة من الأراضي بالصبغة العربية عن طريق تشجيع هجرة القبائل من الجزيرة العربية إلى البلاد المفتوحة حيث استقرت واختلطت بالسكان المحليين، فنتج عن هذا الانتشار العربي نشر اللغة العربية في أنحاء البلاد المفتوحة باعتبارها لغة القرآن ، وكان من عوامل انتشار العربية تعريب الدواوين وضرب النقود العربية الإسلامية..
كما اهتمت بتدوين الحديث النبوي الشريف الذي بدأ في عهد عمر بن عبد العزيز الأمر الذي ساعد على انتشار اللغة العربية بين المسلمين على مختلف طبقاتهم ومستوياتهم..


هذا وقد سُئِلَ بعضُ شيوخ بني أمية ومحصِّليها عقب زوال الملك عنهم إلى بني العباس: "ما كان سبب زوال ملككم؟
قال: إنا شُغِلْنا بلذاتنا عن تفقُّدِ ما كان تفقدُه يلزمنا فظلمنا رعيتنا فيئسوا من إنصافنا، وتمنوا الراحة منا، وتحومل على أهل خراجنا فتخلَّوا عنا، وخرُبت ضياعُنا فخَلَتْ بيوتُ أموالنا، ووثقنا بوزرائنا فآثروا مرافقهم على منافعنا ، وأمضوا أمورًا دوننا أخفوا علمها عنا، وتأخر عطاء جندنا فزالت طاعتهم لنا، واستدعاهم أعادينا فتضافروا معهم على حربنا، وطلبنا أعداؤنا فعجزنا عنهم لقلة أنصارنا، وكان استتار الأخبار عنا من أَوْكَد أسباب زوال ملكنا"..
الواضح أن التماسك كان لا يزال باديًا على دولة الخلافة الأموية حتى عهد هشام بن عبد الملك، فقد أضاع الأمويون بعد وفاته في عام 125هـ / 743م كل شيء بعدما فقدوا تماسكهم، وكان عهد الوليد الثاني وما اكتنفه من عبث.. إلى جانب الحروب الأهلية التي حدثت بعد مقتله... كل ذلك ساعد في تحطيم ما كان من هيبة للأمويين في قلوب الناس..
وعلى الرغم من أن مروان الثاني كان مقاتلاً شجاعً ، وقائدًا ممتازًا.. إلا أن فرص الإصلاح كانت قد تبدَّدت ، ولم يستطع لمّ شعث الأمويين.. فتفرقوا وذهبت ريحهم..


ويبدو أن لهذا الانحلال الذي سرى في جسم الدولة أسبابًا خاصة ترجع إلى الظروف التي قامت في ظلها، وإلى الآثار الدينية والمعنوية التي أثارتها السياسة الأموية بالإضافة إلى أسباب عامة تكمن في التطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي برزت نتيجة التوسع في الفتوحات والاحتكاكات مع الشعوب المجاورة عسكريًا وحضاريًا..
والواقع أن سقوط دولة الخلافة الأموية لا يمكن أن يُعزَى إلى حادث منفرد؛ فلا بد أن تكون هناك جملة أسباب أدت إلى هذه النهاية المحتومة كان من بينها:


تولية العهد لاثنين في وقت واحد!! :


من الأسباب التي أضعفت البيت الأموي وآذَنَتْ بذهاب ريحه تولية العهد لاثنين يلي أحدهما الآخر.. ويبدو أن ما دفع بعض الخلفاء أن يسلكوا هذا المسلك لم يكن إلا تفاديًا لنشوب الحروب الأهلية بعد وفاة الخليفة!.. وقد بذر هذا النهج بذور الشقاق والمنافسة بين أفراد ذلك البيت ، وأورثهم الحقد والبغضاء ، ولا غرو.. فما كان يتم الأمر لأول الأميرين حتى يعمل على إقصاء الثاني من ولاية العهد ، بل تعداهم إلى القواد والعمال.. فإنه لم يكد يتم الأمر لثانيهما حتى ينكل بمن ظاهر خصمه، وساعده على إقصائه من ولاية العهد..
وأول من سَنَّ هذه السنة مروان بن الحكم ، فقد ولى عهده ابنيه عبد الملك ثم عبد العزيز، ولم يأبه بما كان في مؤتمر الجابية حيث بايعوا عبد الملك ثم خالد بن يزيد وعمرو بن سعيد بن العاص ، وكان من أثر ذلك أن خرج عمر بن سعيد على عبد الملك..
سار عبد الملك على سنة أبيه مروان، فقد فكر في خلع أخيه عبد العزيز من ولاة العهد وتولية ابنيه الوليد ثم سليمان، إلا أن وفاة عبد العزيز دون ما كانت تحدثه به نفسه من خلعه، ولم يمنعه ذلك من ارتكاب تلك الغلطة التي أورثت البغض والعداوة بين الأخوين، بل تعدتهما إلى القواد والعمال ، فإن الوليد بن عبد الملك لما ولي الخلافة عمل على خلع أخيه سليمان من ولايته للعهد وجعلها في ابنه عبد العزيز، وكتب بذلك إلى العمال فأجابه الحجاج بن يوسف الثقفي والي العراق، وقتيبة بن مسلم والي خراسان، ومحمد بن القاسم والي السند، وأجزل الوليد العطاء للشعراء للإشادة بفضل عبد العزيز مما أثار روح الكراهية والبغضاء بينه وبين أخيه، فلما ولى سليمان الخلافة بعد وفاة أخيه الوليد انتقم ممن كان لهم يد في خلعه..
وهكذا تطورت المنافسة بين أفراد البيت المالك تطورًا غريبًا ، وأضحت خطرًا على الدولة الأموية ، فقد كان الخليفة ينتقم من القواد والعمال لمجرد اتهامهم بممالأة الخليفة السابق على خلعه..
هكذا بدأ سليمان عهده بالانتقام من كبار القواد وخيرة العمال والتشفي منهم، وكان من حسن حظ الحجاج أن مات قبل الوليد. على أن ذلك لم يصرف سليمان عن الانتقام من أهل بيته ، فقد أمر يزيد بن المهلب وكان عدو الحجاج الألد، وصالح بن عبد الرحمن أن يذيقا آل الحجاج أشد صنوف العذاب، كذلك انتقم سليمان من محمد بن القاسم ذلك القائد العظيم الذي بسط نفوذ الدولة على الهند والسند، وكذلك كان نصيب قتيبة بن مسلم الذي بسط نفوذ الدولة في بلاد ما وراء النهر..


ظهور روح العصبية:


ظهرت روح العصبية بين القبائل العربية عقب وفاة يزيد بن معاوية غير أنها لم تكن من الشدة بحيث تؤثر في انحلال الحزب الأموي الذي ظل حافظًا لكيانه كحزب سياسي يناضل خصومه من الأحزاب الأخرى إلى أن كانت خلافة عمر بن عبد العزيز التي تعتبر فترة انتقال بين حال القوة والتماسك وحال الضعف والتفكك الذي اعترى ذلك الحزب ، فقد كان عمر صالحًا عادلاً قضى فترة خلافته في إصلاح ما أفسده من سبقه من خلفاء بني أمية حتى نال رضاه جميع العناصر الثورية ، فلم يتعصب لقبيلة دون أخرى ، ولم يوِّل واليًا إلا لكفايته وعدالته، سواء أكان من كلب أو من قيس، فسكنت في عهده الفتن التي كانت تنتاب الدولة وتكاد أن تذهب بريحها..
فلما توفى عمر بن عبد العزيز خلفه يزيد بن عبد الملك، فاستقبل بخلافته فتنة كان لها أسوأ الأثر في حزب بني أمية، وكانت هذه الفتنة في الواقع نزاعًا بين عرب الشمال وعرب الجنوب أو بين مضر واليمن، ولما كان الخليفة من عرب الشمال لم يتورع عن خوض غمار تلك الفتنة..
وكانت هذه الفتنة سببًا في القضاء على أفراد بيت المهلب بن أبي صفرة، فقد قُتِلَ بعضُهم في الحرب، وحمل بعضهم في الأغلال إلى يزيد بن عبد الملك فأمر بهم فقتلوا جميعًا..
وقد أخلصت أسرة المهلب في خدمة بني أمية، فأبلى هو وأبناؤه في حرب الأزارقة من الخوارج بلاءً حسنًا، كما حارب أهل خراسان والخزر والترك، وخلفه أبناؤه فكانوا مثله في الشجاعة والنُّبل والفضل ، فمدحهم الشعراء ، وتغنَّى بفضلهم الركبان، وقصدهم الشعراء وذوو الحاجات، فأجزلوا لهم العطاء، ووصلوهم بالصلات الجمَّة، فعظم أمرهم ، وبعد صيتهم ، ونبه شأنهم ، فكانوا غُرَّة في جبين الدولة الأموية ، كما كان البرامكة في دولة بني العباس؛ لذلك لا ندهش إذا انحاز إليهم العنصر اليمني الذي أصبح منذ ذلك الحين خطرًا يهد راهط، وأخذ الخلفاء يعملون على توسيع مسافة الخلاف بين هذين العنصرين اللذين كانا عصب دولتهم ومصدر قوتهم، فنراهم ينضمون إلى القيسية حينًا وإلى اليمنية حينًا آخر.. كان طبيعيًا بعد هذه الحاثة أن يأخذ يزيد جانب القيسيين، فولَّى أخاه مسلمة -الذي قضى على ثورة يزيد بن المهلب- على المشرق، ثم ولى عمر بن هبيرة وهو قيسي واصطبغت الدولة كلها بالصبغة القيسية المضرية ، وأصبح العنصر اليمني ضعيفًا لا يملك من الأمر شيئًا..



ولما توفي يزيد بن عبد الملك وخلفه أخوه هشام، رأى أن القيسية قد علت كلمته، فخاف ازدياد نفوذها على الدولة، فعمل على التخلص منهم والانحياز إلى اليمنية ليعيد التوازن بين العنصرين: اليمني والقيسي، فعزل العمال المضريين وولى مكانهم بعض اليمنين؛ فولى خالد بن عبد الله القسري على العراق، وولى أخاه أسدًا على خراسان؛ وبذلك أخذ العنصر اليمني يستعيد قوته ، وأخذ العنصر القيسي في الضعف، وتعصب خالد وأخوه لليمنية فأخذوا ينتقمون من المضريين..


على أن هشامًا لم يتبع سياسة ثابتة بإزاء القبائل المختلفة، فإنه بعد أن انحاز إلى جانب اليمنيين لم يلبث أن تحول عنهم إلى المضريين وولى منهم العمال؛ فولى يوسف بن عمر الثقفي العراق، ونصر بن يسار خراسان، وكذلك فعل في بلاد الأندلس..


وكان مقتل خالد بن عبد الله القسري زعيم اليمنية من أقوى الأسباب التي عجَّلت بسقوط حزب بني أمية، فإن اليمنية الذين لم ينسوا للدولة قضاءها على آل المهلب فُوجِئوا بقتل زعيمهم خالد بن عبد الله لاتهامه بممالأة العلويين وإغداقه عليهم حتى خرج زيد بن علي زين العابدين، كما اتهم بالزندقة والإلحاد فعادت القلاقل سيرتها الأولى، وعمل اليمنية على التخلص من سيادة الأمويين..


ولزم الوليد بن يزيد بن عبد الملك جانب المضريين لأن أمه كانت منهم ، وأقصى العنصر اليمني، فأثار ذلك عوامل السخط والغضب في نفوس اليمنية عليه بعد أن قتل زعيمهم وأقصاهم من مناصب الدولة؛ فأخذوا يدبرون المكائد لقتله وسخط عليه عامة الناس، فانتهز اليمنيون هذه الفرصة وثاروا عليه، وانضم إليهم يزيد بن الوليد بن عبد الملك الذي كان يُظهِر التنسك والتواضع، فقتلوه في جمادى الآخرة 126هـ وبايعوا يزيد..


ولم يضع قتل الوليد حدًا للنزاع الذي قام بين أفراد البيت الأموي ، وظهر بين العنصرين اليمني والمضري ، بل ساعد على تفاقم ذلك النزاع؛ فإن يزيد لم يكد يعتلي عرش الخلافة حتى أخذ بسيرة أسلافه فانضم إلى اليمنيين ولزم جانبهم، وأخذ يولي العمال منهم لأنهم ساعدوه على الوصول إلى الخلافة..
وأطلق اليمنيون يدهم في الإساءة إلى المضريين الذين ثارت ثائرتهم، فأشعلوا نار الثورة في حمص، وانضم إليهم يزيد بن خالد بن يزيد بن معاوية وغيره من أفراد البيت الأموي، كما ثاروا في فلسطين بزعامة يزيد بن سليمان بن عبد الملك، وحذا أهل الأردن حذوهم بزعامة محمد بن عبد الملك ، غير أن يزيد بن الوليد استطاع بمساعدة اليمنيين أن يتغلب على هؤلاء جميعًا فأخضعهم ، وزج بزعمائهم من أهل بيته في أعماق السجون..


ثم توفي يزيد بعد أن حكم ستة أشهر (126 هـ) فولي الخلافة بعده أخوه إبراهيم، وكان يزيد قد عهد إليه بالخلافة التي فقدت ما كان لها من هيبة في نفوس المسلمين، ولم يلقَ إبراهيم الاحترام الذي كان لمن سبقه من الخلفاء ، حتى كان الناس يسلمون عليه بالخلافة تارة وبالإمارة تارة أخرى، وطورًا لا يسلمون عليه بواحدة منهما..


سار مروان بجنوده من الجزيرة يريد الشام مطالبًا بدم الوليد بن يزيد، وتظاهر بعزمه على إعادة الخلافة إلى ابنه إبراهيم وسرعان ما انضمت إليه القيسية لمناهضة اليمنية التي دبرت مؤامرة لقتل الوليد، فأخذ إبراهيم يحشد الجيوش لقتال مروان بن محمد عامل الجزيرة وأرمينية ، ولكن مروان كان قائدًا شجاعًا حنكته الحروب مع الخزر والترك فاستطاع أن يتغلب على جنود إبراهيم ، وهزمهم شر هزيمة ودخل الشام ، وفرَّ إبراهيم وكثير من أنصاره..


وكان مروان يريد أن تكون الخلافة في وَلَدِ الوليد، ولكن اليمنيين عمدوا إلى ابني الوليد فقتلوهما في السجن خوفًا من أن يليا الخلافة فيقتصا منهم، وشهد محمد السفياني بأنهما جعلا الخلافة من بعدهما لمروان، ثم قال السفياني لمروان: ابسط يدك أبايعك، فبايعه وتبعه أهل الشام، وبذلك أصبح مروان خليفة المسلمين عام 127 هـ وفي عهده ثارت روح العصبية في جميع أنحاء الدولة الأموية ، وتقوَّض بناء البيت الأموي وأَشْرَفَ على الزوال.


على أن مروان سار سيرة سلفه فتعصب للقيسية ، وطالب اليمنية بدم الوليد الذي قتلوه انتقامًا لخالد بن عبد الله القسري فانتفض أهل حمص بزعامة ثابت بن نعيم ، وانضم إليهم أهل تدمر برئاسة الأصبغ بن ذؤالة الكلبي غير أن مروان استطاع أن يتغلب عليهم ويهزمهم ؛ فأرسل مروان جيشًا أحلَّ بهم الهزيمة وقتل يزيد؛ فخلصت له دمشق ، وحذت اليمنية حذوهم في فلسطين، فأرسل إليهم مروان جيشًا قضى عليهم..


ولم يكد الأمر يستتب لمروان في بلاد الشام حتى خرج عليه بها سليمان بن هشام بن عبد الملك، ودعا أهلها إلى خلعه فانضمت إليه اليمنية فسار إليه مروان وهزمه بعد حروب طويلة، وفرَّ سليمان إلى العراق وانضم إلى الخوارج لمناوأة مروان، كما انضم إليه عبد الله بن عمر بن عبد العزيز..
هذه هي حال العصبية في الشام وقد ساعد على قيام الثورة فيها أن أكثر أهلها كانوا من العنصر اليمني، وربما كان ذلك هو السبب الذي حدا مروان إلى عدم اتخاذها مقرًا لملكه، والانتقال إلى الجزيرة حيث أقامت القيسية الذين كانوا عماد دولته..


وأما بلاد العراق فإن الحالة لم تكن فيها أحسن مما كانت عليه في بلاد الشام ، فقد اشتعلت نار العصبية في هذه البلاد حتى ظهر الضحاك بن قيس الخارجي الذي استولى عليها، كما استولى فريق من الخوارج على بلاد اليمن والحجاز بقيادة المختار بن أبي عبيدة..


وهكذا أصبحت البلاد مرتعًا للفتن والاضطرابات، وشغل إخمادُ هذه الفتن مروانَ، فلم يلتفت إلى خراسان وما كان يجري فيها من بثِّّ الدعوة العباسية التي اشتد أمرها وعظم خطرها، ولم يلبث أن باغتته الرايات السود من خراسان ، وطاردته وقضت على جيشه ؛ ففر إلى مصر حيث أدركه عبد الله بن علي العباسي ثم أخوه صالح بن علي الذي قتله 132 هـ، ويعتبر القضاء على بني أمية قضاء على نفوذ العرب الذين كان الأمويون يعتمدون عليهم دون سواهم..


انغماس بعض الخلفاء في الترف:


كان لانصراف بعض خلفاء بني أمية إلى حياة البذخ الترف اللذين أخذوهما عن البلاط البيزنطي أثر كبير في سقوط دولتهم، فقد اشتهر يزيد بن معاوية بحبه للّهو..


أما يزيد بن عبد الملك فإنه لم يكن أحسن حالاً من يزيد بن معاوية ، فقد كان كما ذكر البلخي صاحب كتاب "البدء والتاريخ" صاحب لهو فقد شغف بجارية تسمى حبابة واشتهر بذكرها، كذلك اشتهر ابنه الوليد باللهو والمجون وكان شاعرًا مجيدًا له أشعار كثيرة في العتاب والغزل..


تعصب الأمويين للعرب:


كانت الدولة الأموية دولة عربية لحمًا ودمً، ومن ثَمَّ تعصب الأمويون للعرب والعروبة، وأخذوا ينظرون إلى الموالي نظرة الاحتقار والازدراء، بما أيقظ الفتنة بين المسلمين ، وبعث روح الشعوبية في الدولة الإسلامية، وكان منشأ تلك الحركة اعتقاد العرب أنهم أفضل الأمم ، وأن لغتهم أرقى اللغات..


وإذا نظرنا إلى حركة الشعوبية ألفيناها حربًا سلمية اشتبكت فيها الألسنة والأقلام اشتباكًا لا يقل أثرًا عن اشتباك الأسنة والرماح، وترجع هذه الحركة ـ على ما يظهر ـ إلى الوقت الذي دخل فيه العرب بلاد الفرس وغيرها من بلاد الأعاجم، ولما جاء الأمويون حملوا لواء هذه الحركة طوال خلافتهم، وانحازوا إلى العرب ولم يساووا بينهم وبين الموالي، فأجمع هؤلاء أمرهم وثاروا على الأمويين في عهد عبد الملك بن مروان، فأرسل إليهم الحجاج بن يوسف الثقفي ليقضي على حركاتهم..


ولما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة أمر عماله بوضع الجزية عمن أسلم سواء كان عربيًا أو غير عربي، ولقد نجحت سياسته في حياته، ثم تبدلت الحال بعد وفاته، فعاد الأمويون يفرقون في المعاملة بين العرب والموالي.


فلا عجب إذا أثارت هذه المعاملة حنق الموالي وسخطهم على الأمويين، وأخذوا يتلمسون الفرص للإيقاع بهم، فانضموا إلى المختار ثم إلى الخوارج ، واشتركوا في فتنة عبد الرحمن بن الأشعث ، كما ثاروا مع يزيد بن المهلب للقضاء على هذه الدولة، فلما نشط دعاة العباسين انضموا إلى الدعوة العباسية لينالوا حقوقهم المهضومة، وقد فطن العباسيون إلى ما كان يضمره الموالي لبني أمية ودولتهم من كراهة فاستعانوا بهم في نشر الدعوة لهم..


انقلاب الخلافة الإسلامية إلى الملك العضوض:


فبعد أن كان الخليفة يُختار من مجموع المسلمين أو من أهل الحل والعقد بعد توافر عدة كفاءات به، وعلى رأسها الجانب الديني من التقي والصلاح، أصبحت الخلافة ملكًا يرثه الابن من أبيه، والأخ من أخيه، ومن استطاع الغلبة..


تخلِّي خلفاء بني أمية عن القيادة الدينية:


كان من صميم عمل الخليفة الحج بالناس والإمامة في الأعياد والجمع والصلوات إلا إذا طرأت له الأعذار من مرض أو نحوه..
وهذه القيادة الدينية كانت تقرب الخليفة من الرعية، وتشعرهم بقربه منهم، وحرصه على سلامة دينهم، وتقرب طائفة العلماء والزُّهَّاد من الخليفة فتصلح الدنيا والدين معًا..


فكان خلفاء بني أمية في بدء عهدهم يَؤُمُّون الناس، فخلف من بعدهم من أخَّر في إقامة الصلوات، ثم ازداد الأمر سوءًا عندما تخلى الخلفاء عن القيادة الدينية وأنابوا عنهم الولاة والأمراء..


ويتمثل المنصب الديني ـ أيضًا ـ في القيام بدور القضاء، والفصل بين الناس في الخصومات، وكان خلفاء بني أمية يباشرونه بأنفسهم في بدء خلافتهم، ولا يجعلونه إلى أحد سواهم ، إلا إذا شغلوا بجهاد أو نحوه من الأمور العظام..
فلما طال الزمان ترك الخلفاء القضاء للأمراء، والذين بدورهم أنابوا غيرهم، مما أضعف من شخصية الخليفة في أعين الرأي العام..


بغض الكثيرين من الرعية لبني أمية:


وقع بعض خلفاء بني أمية في بعض الأخطاء القاتلة التي جلبت لهم سخط الكثيرين من الرعية من أمثلة ذلك: موقف يزيد بن معاوية من الحسين ـ رضي الله عنه ـ وما نشأ عنه من قتل الحسين، وموقف عبد الملك بن مروان من آل الزبير، وقتاله لعبد الله ومصعب ابني الزبير حتى قتلا..
فقد ظهرت الشيعة وغيرها واجتمعوا على مناوأة الأمويين، والكيد لهم، وليس خروج المختار وتتبعه لقَتَلَة الحسين ـ رضي الله عنه ـ وقتلهم شر قلة إلا مثلاً من تلك الأمثلة على تغلغل الشعور بالبغض والسخط في قلوب الكثيرين من الرعية..


تأخر رواتب الجند في بعض الأحيان:


الجندي ما هو إلا سلاح الحاكم ضد الخارجين على الشريعة، والدرع الواقي للدولة الإسلامية ضد أعدائها فإن أُعطِيَ ما له من عطاء كانت طاعته حاضرة، وإذا العطاء مُنِعَ تذمر وتخاذل، وتواطأ وتأمر..
وهذا ما حدث بالفعل في عهد بعض خلفاء بني أمية، وعلى الخصوص في أواخر عهدهم في خلافة مروان بن محمد حيث قلَّت الأموال، وتوقف الكثير من الأقاليم عن إرسال الأموال إلى دار الخلافة لسقوط تلك الأقاليم تحت راية الخوارج، وقد سُئِلَ شيخ من شيوخ بني أمية بعد زوال دولتهم عن أسباب زوال ملكهم فقال:.... وتأخر عطاء جندنا فزالت طاعتهم لنا، واستدعاهم عدونا فظاهروه على حربنا"..


النزاع بين أبناء البيت الأموي:


كان الملك موضع حديث بين أبناء البيت الأموي منذ زمن طويل، فقد شكت رملة بنت معاوية بن أبي سفيان إلى أبيها ما دار من حديث بين مروان بن الحكم وزوجها عمرو بن عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ عندما جاء مروان يعوده من مرض ألمَّ به، ومنه أن مروان قال لعمرو: "إنما ولي معاوية الخلافة بذكر أبيك، فما يمنعك من النهوض لطلب حقك فنحن أكثر من آل حرب عددًا".. وما زال مروان يَعُدُّ فضلَ (كثرة وزيادة) رجال بني أبي العاص-قوم مروان وعمرو-على بني حرب-قوم معاوية-حتى تمنت رملة أن ولديها عثمان وخالدًا من عمرو بن عثمان ماتا..


فكان معاوية ـ رضي الله عنه ـ يستعين بمروان بن الحكم وسعيد بن العاص في الولاية على الحجاز دون غيرها لما يراه من طموحهما وتطلعهما إلى الخلافة، يداول ويغري بينهما في الولاية ليأمن مكرهما، ولم يحتج معاوية ـ رضي الله عنه ـ في مدافعته إياهم عن الملك إلى امتشاق السيف وظل بنو حرب يتقدمون بني أمية في قيادة الأمة حتى خلا منصب الخلافة منهم عام 64هـ، فاختار أهل الحل والعقد من أهل الشام مروان بن الحكم خليفة بإزاء عبد الله بن الزبير ـ رضي الله عنهما ـ الذي بويع له بالخلافة خارج الشام، وقدموا مروان على خالد بن يزيد بن معاوية الذي كان صغيرًا، وهكذا خرجت الخلافة من آل أبي سفيان بن حرب إلى بني مروان بن الحكم من غير أن تُراقَ قطرة دم، ولم يقم آل أبي سفيان بمغالبة المروانيين على الملك، ولعلهم رضوا من الخلافة بحظهم الفائت منها بعد ما رأوا تحول أهل الشام عنهم إلى المروانيين..


وثار عمرو بن سعيد بن العاص الملقب بالأشدق، وأغلق دمشق في وجه عبد الملك بن مروان ، ولكن عبد الملك نجح في السيطرة على الثورة بقتل عمرو بن سعيد ، واستغل خطر عبد الله بن الزبير ـ رضي الله عنهما ـ في تجاوز هذه الفتنة..


ولم يُهج آل عبد الملك -أثناء حكمهم- أحدًا من بني أمية إلا ما كان من أمر ولاية العهد فقد روي أن عبد الملك بن مروان همّ أن يخلع أخاه عبد العزيز بن مروان ويعقد لابنيه الوليد وسليمان وتردد في ذلك، وكان هناك من ينهاه ومن يشجعه، ولكن موت عبد العزيز أغلق باب الشر..
كما حاول الوليد بن عبد الملك أن يعزل أخاه وولي عهده سليمان ويجعل ابنه عبد العزيز مكانه، وأطاعه بعض رجال دولته، ولكنه لم ينجح..
وحاول هشام بن عبد الملك أن يعزل ابن أخيه الوليد بن يزيد بتهمة الفسق والمجون ويولي ابنه مكان،ه ولكنه لم يفلح في ذلك أيضًا وحتى عام 125هـ وهو العام الذي توفي فيه هشام بن عبد الملك لا نجد المروانيين يبلغ لهم الخلاف على الملك حدَّ النزاع الدموي..


فلما قام الوليد بن يزيد بالخلافة لم يستعمل أحدًا من آل الوليد بن عبد الملك وجفاهم ، واشتد عليهم وعلى بعض بني عمه، ثم جعل الخلافة من بعده في ولديه الحكم وعثمان، فقام آل الوليد بن عبد الملك بالعمل ضده وكان رأسهم في هذا الوجه يزيد بن الوليد بن عبد الملك، ومعه منهم ثلاثة عشرة رجلاً، ولما بلغ جمع يزيد عسكر الولاية دعوهم إلى الكتاب والسنة وجعل الأمر شورى، وأخذوا يستميلونهم بالمال والولايات، فضعف أمر الوليد وقتل..
فثار أهل حمص والأردن وفلسطين الذين دعوا إلى الطلب بدمه وثروا على يزيد رغم إظهار يزيد التنسك وتذرعه بالدين في قتل الوليد..


ولكن قيام يزيد بقتل ابن عمه الوليد وجلوسه مجلسه في الخلافة، وضع سلطان بني أمية في قفص الاتهام ورفع عنه أستار المهابة، ودفع بهم إلى السقوط ، وبعد أن كانت الخلافة تؤخذ بعهد من الخليفة القائم وبيعة الأمة أخذت هذه المرة بالقوة، وتحركت في مروان بن محمد أمير الجزيرة وأرمينيا وأذربيجان وقائد جيوش ثغورها أحاسيس الملك والسلطان ، وصار يرنو بنظره إلى دمشق.. فسار مروان بن محمد من الثغور إلى دمشق، وأظهر أنه يأخذ بثأر الوليد بن يزيد، ويعيد الخلافة في ولده فآزره أهل حمص ثم استوى على كرسي الخلافة، وأبعد بني عبد الملك الذين مضت الخلافة فيهم قرابة ستين عامًا، وهو ما لم يرضه أكثر الناس الذين كانوا حتى مقتل الوليد بن يزيد يوالون بني أمية..


ففي الشام عارض أهل الغوطة وتدمر وحمص وفلسطين وغيرهم مروان بن محمد، واضطر مروان لإخضاع من ثار منهم أن يخوض معهم حروبًا قاسية سالت فيها الدماء وقتل الكثير، وقاد بعض فصولها ضده بعض بني عبد الملك بن مروان مثل: سليمان بن هشام بن عبد الملك، وبعد صراع مرير امتد نحو ثلاث سنين خرج مروان منه منتصرًا على خصومه ومخالفيه وبدت الأمور منقادة له، كشفت معركة الزاب أن صف مروان في هذه المعركة لم يكن موحدًا فقد ظهر التردد والتواكل بين جند مروان ، وبدا السيف وإن صنع الخضوع والانقياد عاجزًا أن يزرع المحبة والولاء في النفوس، والتضحية والوفاء والإخلاص في القتال، فهُزِمَ مروان بن محمد وفَرَّ إلى مصر؛ فتتبعه العباسيون وقتلوه في قرية بوصير بمصر وانتهت بمقتله الخلافة الأموية عام 132 هـ / 750 م وقامت الدولة العباسية..


الخلافات المذهبية:


كان الخلاف حول موضوع الخلافة أحد الأسباب التي أدت إلى إضعاف الدولة الأموية ومن ثَمَّ زوالها، والمعرف أنه وجدت في العصر الأموي أربع جماعات في الميدان السياسي:


الأول: أنصار بني أمية وأغلبيتهم من السنة..


الثانية: أنصار العلويين من الشيعة الذين حصروا الخلافة في نسل علي بن أبي طالب ، وقد حملوا لواء المعارضة طيلة العصر الأموي إلا أنهم مُنُوا بالفشل، وقد أدى فشلهم هذا إلى تحويل حركتهم إلى عقيدة دينية عاطفية شبه باطنية، وأن يختفوا في المناطق البعيدة عن مركز الخلافة حتى تسنح لهم فرصة الظهور..


الثالثة: جماعة الخوارج الذين لا يؤمنون بالوراثة كأساس لنظام الحكم ، ولا يرون حصر الخلافة في جنس معين أو بيت معين، بل يعتقدون أن الخلافة للأمة يكون الاختيار فيها هو الأساس، كما أعلنوا غضبهم واشمئزازهم من شرور الحكام ومطامعهم، لهذا كانت هذه الجماعة معارضة للخط الأموي، وقد اشترك أفرادها في الفتن التي قامت ضد الدولة الأموية، كما انتشر عدد كبير منهم في المناطق البعيدة عن مركز الخلافة بدمشق..


الرابعة: جماعة العباسيين الذين دخلوا ميدان السياسة في أواخر العصر الأموي لينافسوا الأمويين والشيعة معًا، ويبدو أن هؤلاء كانوا أكثر براعة في دعوتهم وأساليبهم من الشيعة؛ فأقاموا تنظيمًا سريًا انتشر بسرعة في النصف الشرقي من دولة الخلافة الأموية عن طريق خلاياه السرية..


وقد أدَّى هذا الخلاف إلى اصطدامات دامية، شغلت جانبًا كبيرًا من نشاطات الأمويين وأنهكتهم، وكانت تعبيرًا عن استياء أكثر من فئة في المجتمع الإسلامي من حكمهم، وغدت بعد ذلك عنصرًا مهماً من عناصر المعارضة، استُغِلَّ اسمُها ليكون الواجهة الدينية للشعارات التي طرحها دعاة بني العباس..


انتشار الدعوة العباسية:


في الواقع أن انهماك مروان بن محمد في إخماد الثورات والفتن شغله عن الاهتمام بما كان يجري في المشرق ، خاصة في خُرَاسان التي كانت مركزًا للدعوة العباسية، وقد انتشرت في المنطقة انتشارًا واسعًا، واستقامت الأمور فيها لبني العباس، مما أدى إلى اقتناع الدعاة العباسيين بأن الوقت قد حان للجهر بها، وفعلاً حصل هؤلاء الدعاة على موافقة إبراهيم الإمام الذي كان يعيش في الحميمة على الجهر بالدعوة والخروج على الأمويين، وقد تولى أبو مسلم الخراساني الذي أضحى رئيسًا للدعوة في خراسان أخذ البيعة تحت شعار "البيعة على الرضا من آل محمد"..


فالتف الناس حول الدعوة العباسية ، وسيطر أبو مسلم الخراساني على خُراسَان سيطرة تامة، ثم دخلت القوات العباسية مدينة الكوفة بقيادة حميد بن قحطبة في شهر ربيع الأول عام 132 هـ وسلَّم الأمر إلى أبي سلمة الخلال الذي أضحى وزير آل محمد..



وبويع في الكوفة لعبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس المعروف بأبي العباس، وقد كان أخوه إبراهيم الإمام قد عَهِدَ إليه بأمر الدعوة عندما قضى عليه مروان بن محمد بعدما افتضح أمره ليصبح أول خليفة عباسي..


وبعد أن تم له الأمر في العراق أرسل جيشًا بقيادة عمه عبد الله بن علي التقى بجيش مروان بن محمد علي نهر الزاب - وهو أحد فروع نهر دجلة - ودارت بين الجيشين الأموي والعباسي رحى معركة عنيفة في شهر جمادى الآخرة عام 132 هـ / 750م استمرت أحدَ عشرَ يومًا، وانتهت بهزيمة مروان وفراره إلى قرية بوصير في منطقة الفيوم بمصر، وهناك داهمته في الليل قوة عسكرية عباسية فقاوم مروان حتى خَرَّ صريعًا ، وانتهت بمقتله أيام دولة الخلافة الأموية ، وكان ذلك في عام 132 هـ / 750 م وقامت على أنقاضها دولة الخلافة العباسية.

 

The Hero

الأســــــــــــــطورة

إنضم
Jun 29, 2008
المشاركات
20,104
مستوى التفاعل
69
المطرح
في ضحكة عيون حبيبي
رسايل :

شكرًا للأشواك علَّمتني الكثيرَ

2. معركة بلاط الشهداء

تولى عبد الرحمن بن عبدالله الغافقي إمرة الأندلس زمن الخليفة الأموي هشام بن عبدالملك سنة 112هـ ، فطاف الأقاليم ينظر في المظالم ، ويقتص للضعفاء ، ويعزل الـولاة الذين حادوا عن جادة الطريق ، ويستبدل بهم ولاة معروفين بالزهد والعدل ، ويتأهـب للجهاد ، ودعا المسلمين من اليمن والشام ومصر وإفريقية لمناصرته فجاؤوا وازدحمت بهم قرطبة .


وجمع الغافقي المجاهدين في مدينة بنبلونة ، وخرج باحتفال مهيب ليعبر جبال البرانس شمال أسبانيا ، واتجه شرقاً جنوب فرنسا فأخضع مدينة أرل ، ثم اتجه إلى دوقية أقطانيا فانتصـر عـلى الدوق أودو انتصـاراً حاسماً ، وتقهقر الدوق ، واستنجـد بشارل مارتل ، حاجـب قصـر الميروفنجيين حكام الفرنجة وصاحب الأمر والنهي في دولة الفرنجة ، وكان يسمى المطرقة ، فلبى النداء ، وكان قبلها لا يحفل بتحركات المسلمين جنوب فرنسا بسبب الخلاف الذي بينه وبين دوق أقطـانيا الذي كان سببه طـمع شارل بالدوقية ، وبذلك توحـدت قوى النصرانية في فرنسا .


واجتمع الفرنجة إلى شارل مارتل وقالوا له : ماهذا الخزي الباقي في الأعقاب ،كنا نسمع بالعرب ونخافهم من مطلع الشمس حتى أتوا من مغربها ، واستولوا على بـلاد الأندلـس وعـظيم ما فيها من العدة والعـدد ، بجمعهم القليل وقلة عدتهم وكونهـم لا دروع لهم ، فأجابهم : الرأي عندي ألا تعترضوهم في خرجتهم هذه فإنهم كالسيل يحمل ما يصادفه ، وهم في إقبال أمرهم ، ولهم نيات تغني عن حصـانة الدروع ، ولكن أمهلوهم حتى تمتلئ أيديهم من الغنائم ، ويتخذوا المساكن ، ويتنافسوا في الرئاسة ، ويستعين بعضهم على بعض فحينئذ تتمكنون منهم بأيسر أمر .

وأنهى شارل حروبه مع السكسون والبافاريين ، وتنبه لفتوح المسلمين ، وأما الغافقي فقد مضى في طريقه متتبعاً مجرى نهر الجارون ففتح بردال ، واندفع شمالاً ووصل إلى مدينة بواتييه .

وكانت المعركة في مدينة بواتييه جنوب فرنسـا ، على مسافة عشرين كيلومتراً منها ، وتسمى المعركة : البلاط ، بلاط الشهداء ، تور ، بواتييه . والمقصود بالبلاط القصر أو الحصن ، ولعل مكان الموقعة كان بجوار قصر أو حصن كبير .

موازين القوى :

1- عدد الجيش الفرنجيّ أكبر من جيش المسلمين ، فهم سيل من الجند المتدفق ، ولم يكن الجيش المسلم يزيد عن سبعين ألفاً ، وقد يصل إلى مائة ألف .

2- موقف الفرنجة الاستراتيجي أفضل وأجود ؛ لمعرفتهم بالموقع ، والقدرة على القتال في جو شات مطير وأرض موحلة .

3- الفرنجة مددهم البشري والتمويني قريب ، بينما المسلمون على بعد يجاوز ألف كيلومتر عن عاصمة الأندلس .

4- الغنائم التي حملها الجيش الإسلامي مما غنموه في المعارك السابقة ، فقد كانت سبباً مهماً في الخسارة كما سيأتي ، ولو أنهم تركوها في برشلونة مثلاً لاطمأنت نفوسهم وخلت أيديهم للعمل المقبل ، ولكنهم حرصوا عليها وانقلبت عليهم ثقلاً يرهقهم ويضعف حركتهم .



والتقى الجمعان في أواخر شعبان سنة 114هـ ، ورابط كل منهما أمام الآخر ثمانية أيام ، وكان المسلمون هم الذين بدأوا القتال ، ولم يشتبك الجيشان في المعركة إلا بعد بضعة أيام ظلا خلالها يتناوشان في اشتباكات محلية ، ثم اشتبكا بعد ذلك في قتال عنيف ، واجتهد الفرنجة ومن معهم من الألمان والسويف والسكسون في اختراق خطوط المسلمين يومين متتاليين دون نتيجة ، وقد بذلوا أقصى ما استطاعوا من جهد وهجم مشاتهم وفرسانهم على المسلمين هجوماً عنيفاً بالحراب ، ولكن المسلمين ثبتوا ، بل بدا قرب مساء اليوم الثاني أن المسلمين أخذوا يتفوقون على عدوهم ، ثم حدث بعد ذلك أن اندفعت فرقـة من فرسـان الفرنجة فاخترقت صفوف المسلمين في موضع ، وأفضت إلى خلف الصفوف حيث كان المسلمون قد أودعوا غنائمهم ، وكانت شيئاً عظيماً جداً ، فريع الجند الإسلامي ، وخشي الكثيـرون من أفراده أن يستولي عليها هؤلاء الفرنجة ، فالتفت بعضهم وعادوا إلى الخلف ليبعدوا عنها الأعـداء ، وهنا اضطربت صفوف المسلمين واتسعت الثغرة التي نفـذ منها الفرنجة ، فاندفعوا فيها في عنف وقوة زلزلت نظام القوات الإسلامية ، وحاول عبد الرحمن الغافقي أن يثبت جنوده ويعيد نظامه أو يصرفه عن الهلع على الغنائم فلم يوفق ، وأصابه سهم أودى بحياته ، وصبر المسلمون حتى أقبل الليل فانتهـزوا فرصة الظـلام وتسللوا متراجعين إلى الجنوب على عجل ، وكل ذلك أوائل شهر رمضان سنة 114هـ .

وحينما أسفر الصبح نهض الفرنجة فلم يجدوا من المسلمين أحداً ، فتقدموا على حذر من مضارب المسلمين فإذا هي خالية منهم ، وقد فاضـت بالغنائم والأسلاب والخيرات ، فظنوا أن في الأمر خدعة ، وتريثـوا قبل أن يجتاحوا المعسكر وينتهبوا مافيه ، ولم يفكر أحد منهم في تتبع المسلمين ؛ إما لأنهم خافوا أن يكون المسلمون قد نصبوا لهم بهذا الانسحاب شركاً ، أو لأن شارل مارتل تبين مانزل بالمسلمين فرأى أنه يستطيع العودة إلى الشمال مطمئناً إلى أنهم انصرفوا عنه وعن بلاده ، واندفع المسلمون في تراجعهم نحو الجنوب مسرعين ، واتجهت جموعهم نحو أربونة ، وحينما أحسوا أن أحداً من النصارى لا يتتبعهم تمهلوا في سيرهم ليستجمعوا صفوفهم من جديد .

وهكذا انتهت المعركة ، ولو انتصر فيها المسلمون لتخلصت أوروبا من ظلماتها وجهالتها واستبدادها وحطمت الاستغلال والاضطهاد ، ولذا قال جيبون : لو انتصر العرب في تور _ بواتييه لتلي القرآن وفسر في اكسفور وكمبردج .

وما إن وصل الخبر إلى الخليفة الأموي حتى أمر والي إفريقية بإرسال مدد بقيادة عبد الملك بن قطن الفهري ، وأمره الخليفة بغزو فرنسا ، وتوجه عبد الملك إلى نواحي شمال الأندلس وحصن المعاقل التي بأيدي المسلمين ، وبقي أهالي جنوب فرنسا يكرهون الفرنجة رغم انتصارهم على المسلمين ، وتحالفَ بعض أمراء جنوب فرنسا مع المسلمين ضد الفرنجة ؛ وذلك كرهاً للهمجية البربرية في شارل وجيشه ، ولكن بلاط الشهداء كانت آخر محاولة جدية قام بها المسلمون لغزو بلاد الفرنجة .

ولو انتصر المسلمون في هذه المعركة لدخلوا أوروبا فاتحين منظمين ، يريدون إدخالها في رحاب دولتهم وتحويلها إلى الإسلام ، ولو استقر لهم الأمر في فرنسا لاتجه نظرهم إلى ما وراءها ، ومن هنا كانت أهمية بلاط الشهداء في تاريخ النصرانية فقد حالت بينهـا وبيـن الزوال .
 

The Hero

الأســــــــــــــطورة

إنضم
Jun 29, 2008
المشاركات
20,104
مستوى التفاعل
69
المطرح
في ضحكة عيون حبيبي
رسايل :

شكرًا للأشواك علَّمتني الكثيرَ

3. الأمويون في ميزان التاريخ

الأمويون في ميزان التاريخ

ينتسب الأمويون إلى أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وفي عبد مناف يلتقي بنو أمية مع بني هاشم، وكان بنو عبد مناف يتمتعون بمركز الزعامة في مكة، لا يناهضهم فيه أحد من بطون قريش.. وجميع قريش تعرف ذلك وتسلم لهم الرياسة عليها(1).


وكانوا وحدة واحدة في اقتسام السلطة في مكة مع بني عمهم عبد الدار بن قصي، الذي فضله والده على سائر أبنائه، رغم شرفهم عليه، وجعل له الحجابة واللواء والسقاية والرفادة..

وكان زعيمهم في هذه المحاولة هو عبد شمس، أبو أمية، إذ كان أسن بني عبد مناف، وتفرقت قريش على ذلك بين فريقين، عبد مناف وعبد الدار..

ثم تداعوا إلى الصلح على أن يعطوا بني عبد مناف السقاية والرفادة، وأن تكون الحجابة واللواء والندوة لبني عبد الدار، فولي الرفادة والسقاية هاشم بن عبد مناف، وذلك أن عبد شمس كان رجلاً سفاراً، قلما يقيم بمكة، وكان مقلاً ذا ولد، وكان هاشم موسراً (2).. وهكذا كانت السلطة في مكة عبارة عن مراكز نفوذ تقررها الأهمية الاقتصادية، دون أن يكون لأسرة ما أو زعيم ما السيادة الكاملة على غرار ما كان لقصي زعيم قريش الأول (3) .

وكذلك اشترك بنو عبد مناف معاً في جهودهم لتنظيم التجارة بين مكة وما حولها (4)، وصاروا يداً واحدة تتحرك في تفاهم وتآلف، فلما ماتوا رثاهم الشعراء معاً، دون تفريق بينهم تماماً كما كانوا يمتدحونهم معاً (5)..

وهكذا تقتضي طبيعة الحياة العربية في الجاهلية أن يتناصر أبناء الأب الواحد، وأن تجتمع كلمتهم ما وجدوا إلى ذلك سبيلا (6).

وأما الروايات التي تزعم وجود عداء مستحكم بين بني هاشم وبني عبد شمس وأميه قبل الإسلام، فهي واهية الأسانيد، لا تثبت، فهي تروي أن هاشماً وعبد شمس ولدا ملتصقين ففصل بينهما بالسيف، فكان بين أبنائهما الدماء لأجل ذلك (7) ، فهذه رواية لقيطة ليس لها راوي، تفوح منها رائحة الأسطورة والخيال، ويكذبها ما رواه ابن اسحاق من أن عبد شمس كان أسن بني عبد مناف (8) والروايات التي تروي أن منافرات حدثت بين هاشم وأمية بن عبد شمس، وبين عبد المطلب بن هاشم وحرب بن أمية (9)، وكلتا الروايتين ترويان عن هشام الكلبي وهو راوية شيعي كذاب يرويهما كلتهما عن رجال مجهولين لا يعرف أسماءهم (10).

وهذه الروايات رغم سندها المعتل , ومتنها المصطنع كانت صدى لكل ما شيع من صراع بين بني أمية وبني هاشم , هذا الصراع الذي حاول الرواة أن يجعلوا له سنداً تاريخياً ثابتاً، رغم أن العلاقة بين القبيلتين كانت طيبة , يقول ابن خلدون : كان لبني عبد مناف في قريش جمل من العدة والشرف لا يناهضهم فيها أحد من سائر بطون قريش: وكان فخذاهم بنو أمية وبنو هاشم هما جميعاً ينتمون لعبد مناف، وينتسبون إليه، وقريش تعرف ذلك وتسأل لهم الرياسة عليهم (11) ..

يقول معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وقد سئل: أيكم كان أشرف أنتم أم بنو هاشم؟ فأجاب: كنا أكثر أشرافاً وكانوا هم أشرف، وكان فيهم عبد المطلب , ولم يكن فينا مثله، فلما صرنا أكثر عدداً وأكثر أشرافاً، ولم يكن فيهم واحد كواحدنا، فلم يكن إلا كقرار العين حتى قالوا: منا نبي، فجاء نبي لم يسمع الأولون والآخرون بمثله، محمد صلى الله عليه وسلم، فمن يدرك هذه الفضيلة وهذا الشرف (12)؟ .

وهذا الكلام يفهم منه وجود نوع من التنافس بين الجانبين قبل الإسلام، في ضوء ما نعرف من طبيعة الحياة العربية في مكة قبل الإسلام، ولكنه تنافس يحدث بين الإخوة أحياناً، وبين أبناء الأب الواحد، غير أنه لم يتطور ليصبح تربصاً وعداء كما يزعم المتزيدون (13).

ولدينا من شواهد التاريخ ما يدل على قوة العلاقة بين بني هاشم وبني أمية، فقد كان عبد المطلب بن هاشم ـ زعيم الهاشميين في عصره ـ صديقاً لحرب بن أمية ـ زعيم الأمويين ـ كما كان العباس بن عبد المطلب بن هاشم صديقاً حميماً لأبي سفيان بن حرب بن أمية.

والغريب أن المقريزي الذي ألف كتاباً خاصاً عن علاقات الهاشميين والأمويين وجعل محوره النزاع والتخاصم ، يعترف بالصداقة الوطيدة التي كانت بين العباس وأبي سفيان (14)، فإذا كانت الصداقة الوطيدة قائمة، ووطيدة بين زعماء البيتين ـ الأموي والهاشمي ـ وهما أبناء أب واحد، وهو عبد مناف بن قصي، فإن الحدس بتأصيل النزاع بينهما بعد الإسلام والرجوع به إلى ما قبل الإسلام لا سند له من تاريخ (15) .

وكل ما جاء في كتاب " النزاع والتخاصم " من أن العداوة مستحكمة بين بني أمية وهاشم وأنها قديمة لا يثبت أمام البحث العلمي النزيه.

والذين ينظرون إلى تاريخ بني أمية من خلال موقف أبي سفيان من الإسلام في مكة , ومن خلال ما دار بين علي ومعاوية رضي الله عنهما من حروب يبنون على ذلك ـ كما فعل العقاد ـ أوهاماً من صراع تاريخي قبل الإسلام وبعده , بين بني هاشم وبني أمية وتلك أوهام ليس لها من التاريخ إلا رواية ملفقة أو أحداثاً عارضة لا تمثل قط صراعاً بين هذين الفرعين الكريمين من بني عبد مناف , وهما ذروة الشرف في قريش(16)، والذي يظهره البحث العلمي النزيه ـ وبعد ترك الروايات والأساطير الساقطة ـ هو أن العلاقة بين البطنين كانت طبيعية مثلها مثل العلاقة بين باقي بطون قريش...

لقد كان تعامل الأمويين مع الدعوة الناشئة هو نفس تعامل بقية بطون قريش للدعوة الجديدة من أمثال بني مخزوم وبني هاشم وغيرهم , ولنأخذ على ذلك مثالاً وهو كيفية تعامل بني هاشم رهط النبي صلى الله عليه وسلم وأقرب بطون قريش إليه مع الدعوة، لقد كان منطق العصبية السائد في الجاهلية يقتضي أن يتلقف بنو هاشم الدعوة الجديدة التي تحقق لهم العزة والشرف بالإيمان والنصرة , وأن يقفوا خلف النبي الهاشمي بالتأييد والبذل، وقد وقفوا إلى جواره فعلاً في بعض المواقف ولعل أشهرها حصار الكافرين لهم في شعب بني هاشم، ولكنهم في النظرة الشاملة انقسموا عليه بين مؤيد ومعارض , ومؤمن وكافر، شأنهم في ذلك شأن غيرهم من قبائل مكة..

والمثال المشهور لكفار بني هاشم هو أبو لهب عم النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان أول من جهر بعداوة الإسلام لما جهر الرسول صلى الله عليه وسلم بدعوته، ولم يكتف بالمعارضة الصريحة بل عضدها بالعمل والكيد، فقد مارس صور شتى تعذيب الرسول صلى الله عليه وسلم وصد الناس (17) عنه، وكانت معه زوجته أم جميل بنت حرب الأموية، وابنيه عتبة وعتيبة اللذين طلقا بنتي النبي رقية وأم كلثوم ليشغلا محمداً (18) ببنتيه، وكان ابنه عتبة يشارك في إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم حتى دعا عليه فنهشه أسد في بعض أسفاره(19)..

بل إن أبا لهب لم يدخل مع قومه شعب بني هاشم لما حاصرتهم قريش (20) فيه، ولما لم يستطع الخروج مع قريش لقتال الرسول صلى الله عليه وسلم يوم بدر استأجر بدلاً منه العاص بن هشام بن المغيرة بأربعة آلاف درهم (21)..

وقد كان أبو لهب في كفره وعناده مثالاً مشهوراً , ولكنه لم يكن الهاشمي الوحيد الذي كفر بالنبي صلى الله عليه وسلم وجهد في إيذائه وحربه، فقد كان في أسرى المشركين يوم بدر من بني هاشم العباس بن عبد المطلب , وعقيل بن أبي طالب , ونوفل بن الحارث، وحليفهم عتبة بن عمرو بن جحدم، وقد قبل الرسول صلى الله عليه وسلم فداءهم فيمن افتدى من أسرى قريش (22)، وكان أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ممن شهد قتال يوم بدر مع المشركين ونجا من القتل والأسر (23) , وهو ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم , وأخوه من الرضاعة ـ أرضعتهما حليمة السعدية أياماً ـ وكان يألف رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكان له ترباً , فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عاداه عداوة لم يعادها أحد قط، ولم يدخل الشعب مع بني هاشم وهجا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكان من المجاهرين بالظلم له صلى الله عليه وسلم ولكل من آمن به قبل الهجرة (24).

إن أعظم النصرة والتأييد لقيهما النبي صلى الله عليه وسلم من عمه أبي طالب الذي تحمل في سبيل ذلك ضغوطاً هائلة من قريش , ولكنه ظل حتى اللحظات الأخيرة من حياته وفياً لدين آبائه، فمات على ملة الأشياخ من قومه (25)، وظل العباس بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم الآخر في مكة، واشترك مكرهاً ضده في غزوة بدر وأسر بها، ولكنه لم يهاجر إلى المدينة , ويعلن إسلامه إلا والرسول صلى الله عليه وسلم في طريقه لفتح مكة (26)..

وقد أسلم في مكة نفر من بني هاشم , وبذلوا في سبيل الدعوة الكثير مثل على بن أبي طالب وحمزة بن عبد المطلب، وجعفر بن أبي طالب وغيرهم , ولكنهم كانوا يشاركون غيرهم من غير بني هاشم في ذلك , كأبي بكر وعمر وعثمان، ولم يكن بذلهم لأنهم هاشميون بل لأنهم مسلمون، ويظل إيمانهم دليلاً على صدق القول باختلاف استجابة الأفراد للدعوة الإسلامية بغض النظر عن انتماءاتهم القبلية (27).

وبالنسبة لبني أمية وموقفهم من الإسلام فإن مؤرخينا لا يتحدثون عنهم كبطن مستقل من بطون قريش , وإنما يتحدثون عنهم مع غيرهم من بني عبد شمس والد أمية، فيعدونهم وحدة واحدة (28) ، وقد كانوا أبناء أب واحد , وتربطهم علاقات التصاهر والترابط الاجتماعي , ولذلك فإنهم عند حديثهم عن عداء بني أمية للرسول صلى الله عليه وسلم يذكرون اسمي عتيبة وشيبة ابني ربيعة بن عبد شمس، ورغم أنهما ليسا من بني أمية..

ويذكرون معهما أيضاً أبا سفيان بن حرب , وعقبة بن أبي معيط، فأما عقبة بن أبي معيط هذا فقد كان من مردة قريش، فقد تفل في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورمى عليه صلى الله عليه وسلم سلا جزور وهو يصلي، وخنقه بثوب في عنقه حتى دفعه أبو بكر الصديق (29)..

وقد نال جزاءه لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله بعد أسره يوم بدر، والغريب أنه كان يذكره بما بينهما من رحم (30) ، ومثل هذه النماذج الطائشة لم ينفرد بها بنو أمية أو عبد شمس في مكة آنذاك (31) .

وأما معارضة عتبة وشيبة ابني ربيعة فمعلومة ومشهورة , ومع هذا لما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الطائف , وصده عنها أهلها , وتبعه الصبيان والغلمان يرمونه ويصيحون به لجأ إلى حائط ابني ربيعة عتبة وشيبة، فلما رأياه على هذا الحال تحركت له رحمهما، فدعوا غلاماً نصرانياً يقال له عداس، فقالا له: خذ قطعاً من هذا العنب فضعه في هذا الطبق ثم اذهب إلى ذلك الرجل , فقل له يأكل منه (32).

وإذا جارينا نهج المؤرخين في الحديث عن بني أمية وبني عبد شمس معاً، فإننا نرى منهم جماعة كانوا من السابقين إلى الإسلام، فمنذ المرحلة السرية للدعوة وقبل الجهر بها كان قد أسلم كل من عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية، وكان إسلامه على يد أبي بكر الصديق في أيام الإسلام الأولى (33)، وكذلك كان إسلام خالد بن سعيد بن العاص بن أمية، وقد أسلم في هذه المرحلة السرية التي دامت حوالي ثلاث سنين (34) ـ أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس (35) ، كما أسلم في مرحلة مبكرة حليفان لبني أمية وهما عبد الله بن جحش بن رئاب , وأخوه أبو أحمد بن جحش , وهما ابنا عمة النبي صلى الله عليه وسلم فأمهما أميمة بنت عبد المطلب (36).

وفي الهجرة الأولى إلى الحبشة شارك نفر من مسلمي بني أمية مثل عثمان بن عفان ومعه زوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وزوجته سهلة بنت سهيل بن عمرو (37)، كما كان لبني أمية مشاركة في الهجرة الثانية , ومعهم بعض حلفائهم ، وقد ساهمت نساء بني أمية وعبد شمس في صنع مسيرة الإسلام , وفي إعطاء الأسوة , وضرب المثل في نبل التضحية , وعزيز العطاء، فقد أسلمت رملة بنت شيبة بن ربيعة زوجة عثمان بن عفان , وهاجرت معه إلى المدينة , وثبتت معه على دينه , رغم مقتل أبيها وعمها (38).

وهاجرت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط إلى المدينة في الهدنة التي كانت بين النبي والمشركين في الحديبية

على أن الصورة الأزهى والنموذج الأرقى في ذلك المجال هو إسلام أم المؤمنين أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان، فقد أسلمت مبكراً (39)، وهاجرت مع زوجها إلى الحبشة.

لم يكن إذن بين بني هاشم وبني أمية من المباغضة والعداوة والمنافرة التي اخترعها وابتكرها أعداء الإسلام والمسلمين ونسجوا الأساطير والقصص حولها، وإنما الحقيقة التاريخية تقول، بأن علاقتهم كانت علاقة أبناء العمومة والإخوان والخلان، فهم من أقرب الناس فيما بينهم، يتبادلون الحب والتقدير، والاحترام، ويتقاسمون الهموم والآلام والأحزان..

فبنو أمية وبنو هاشم كلهم أبناء أب واحد، وأحفاد جد واحد، وأغصان شجرة واحدة قبل الإسلام وبعد الإسلام , وكلهم استقوا من عين واحدة , ومنبع صاف واحد، وأخذوا الثمار من دين الله الحنيف الذي جاء به رسول الله الصادق الأمين، المعلم، المربي، خاتم الأنبياء والمرسلين، ولقد كان بين أبي سفيان وبين العباس صداقة يضرب بها الأمثال (40) ، كما كانت بينهم المصاهرات قبل الإسلام وبعده , وكان على رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي زوج بناته الثلاثة من الأربعة من بني أمي


المصدر : كتاب الدولة الأموية للدكتور علي الصلابي
 

النور والنار

بيلساني نشيط

إنضم
Oct 19, 2008
المشاركات
75
مستوى التفاعل
1
المطرح
القاهرة
شكرا لك ايها الفاضل
لمجهودك الكبير وتفهمك ووعيك الملحوظ
بارك الله فيك
وجزاك كل خير
تحياتى النور والنار
 

The Hero

الأســــــــــــــطورة

إنضم
Jun 29, 2008
المشاركات
20,104
مستوى التفاعل
69
المطرح
في ضحكة عيون حبيبي
رسايل :

شكرًا للأشواك علَّمتني الكثيرَ

الله يخليك يارب

شكرا لمرورك الرائع
 

The Hero

الأســــــــــــــطورة

إنضم
Jun 29, 2008
المشاركات
20,104
مستوى التفاعل
69
المطرح
في ضحكة عيون حبيبي
رسايل :

شكرًا للأشواك علَّمتني الكثيرَ

4. النشاط العمراني والحضاري في الدولة الأموي


استطاع بنو أمية أن يسيروا بالعرب في طريق القوة والمنعة، وأنيصونوا تراثهم من الضياع ، وذلك من حيث الاحتفاظ بالروح الإسلامية ، وكذلك اتساع الدولةالإسلامية، وأيضاً من حيث الحركة العلمية.
ولعل المهم هنا هو ما برهنه العرب في العصر الأموي من حيث نشاطهم العمراني على أنه من الشعوب المتحضرة الكبرى، ولذلك نجد هم وقد احترموا تراث الماضين ، واهتموا بالتعمير ، وأحاطوا رجال الفن والصناعة في البلاد المفتوحة بالرعاية، ولعل لاختيار دمشق مركزاً للخلافة الأموية أثره الكبير في تأثرهم ببعض الطرز الفنية التي كانت تسود بلاد الشام ، حيث كانت تزدهر مدارس الفن الهلنستي والبيزنطي المتأثر ببعض أساليب الفن الساساني وذلك بحكم طبيعة الجوار، ولذلك فإنه من الطبيعي أن يتأثر المسلمون بأساليب البناء والفن تلك عندما بدءوا يقيمون لأنفسهم منشآت دينية ومدنية وحربية تضاهي في عظمتها منشآت البيزنطيين.
إضافة إلى ذلك لم يأنف العرب من أن يتتلمذوا على أيدي أرباب الحرف والفنانين منالسوريين والقبط والفرس وغي
attachment.php

رهم ، ومن هنا نجد أن الفن المعماري والفنون الصناعية
الإسلامية في العصر الأموي تعتمد أساساً على التقاليد الفنية المحلية.
ولأن الأمويين كانوا يميلون إلى حب الترف والتظاهر به وإلى الأبهة والفخامة اهتموا بإنشاء القصور والصور والتماثيل وهذا ما تدل عليه الآثار الأموية الباقية من القصور الخلافية التي يتجلى فيها ميل الأمويين إلى الفن وانجذابهم إلى البادية ، حيث التمتع بهدوء الصحراء التي عاش فيها آباؤهم قبل عصر الفتوحات وحن إليها أبناؤهم، ولا شك أن البادية هي التي نبعت منها ملكات العرب الفكرية من الحس والشعور والخيال وهي كذلك مصدر إلهام شعرائهم وحكمائهم ، ومن هنا آثر خلفاء بني أمية الذين لم تغنهم حياة الترف واللهو في المدن أن يقصدوا البادية للتنعم فيها بالراحة والهدوء ، ولهذا فإن معظم قصورهم على حافة البادية.
ولعل ما تبقى من آثار القصور الأموية في البادية آثار قصر المشتى الذي قيل أنالوليد الثاني أقامه على أنقاض قصر غساني في شرق الأردن ، ويحيط بالقصر سور خارجي مربع الشكل تدعمه أبراج نصف دائرية ، وأبراج اسطوانية في الزوايا الأربعة، ويبلغ طول كل جانب منه (144متراً) ويتألف هذا القصر من مجلس أمامي مزود بغرف جانبية وفناء مركزي كبير يتوسطه حوض ماء إما القاعة الرئيسية فأشبه ما يكون نظامها بالنظام)البازيلكيي) القائم على ثلاثة أروقة تمتد عمودية على الجدار الرئيسي، وكان القصر مزودا ببوابة واحدة يكتنفها على كل من الجانبين برج نصف دائري مطول ، ويزين الجدران الجانبية واجهة من النقوش الدقيقة حفرت زخارفها في الكسوة الحجرية حفراً غائراً، وقد نقلت هذه الواجهة بزخارفها ونقوشها المكتظة إلى متحف الدولة ببرلين، كما يرجع إلى هذا الخليفة أيضاً الفصل في بناء (قصر خربة المنية) الذي يقع إلى الشمال الغربي من بحيرة طبرية ، ويذكر المؤرخون أن الخليفة أيضاً قام ببناء قصر القسطل الذي يبعد نحو عشرين ميلاً جنوبي عمان ، ويشير المؤرخون أيضاً إلى أنه كان ينزل بالقصر الأزرق ببادية عمان ، ويقع بين أرض بلقين وفزارة على ماء يقال له (الأغدف( .
ومن القصور التي تنسب إلى هشام بن عبد الملك قصر (خربة المفجر) الذي يقع على بعدثلاثة أميال شمال أريحا قريباً من البحر الميت، وكان قصراً شتوياً تزدان جدرانهبرسوم آدمية وحيوانية، ونشهد اسم هشام مسجلاً على أحد جدران القصر، وقد عثر في إحدى قاعات القصر على تمثال لفتاة تحمل حزمة من الأزهار، كما كان بلاطه من الفسيفساء الذي تتجلى فيه رسوم نباتية كلها ملونه بألوان زاهية، كما ينسب إلى نفس الخليفة قصر الحير الغربي الواقع على بعد أربعين ميلاً إلى الجنوب الغربي من تدمر، ولعله نفس القصر الذي ذكره الطبري باسم الزيتونة ، وقد عثر في أطلال هذا القصر على نقوش عربية وتماثيل من النوع التدمري الروماني ، وكان هذا القصر محاطاً بغابة من الأشجار والجنات تبقت آثارها، وهناك كذلك بقايا قصر يسمى الحير الشرقي يقع على بعد أربعين ميلاً شمالي شرقي تدمر ، وينسب بناؤه إلى نفس الخليفة أيضاً.
وقد اكتشف لويس موسل في سنة 1898م قصراً من القصور التي تنسب إلى الخليفةالوليد بن عبد الملك يسمى بقصر عمره ، وهو قصر صغير يقوم في الصحراء على جانب من وادي بطم، وعلى مسافة تبعد نحو خمسين ميلاً من عمان، وقد أقام فيه هذا المكتشف ليلة من سنة 1901م ، وأقام فيه الفنان النمساوي (ميليخ) الذي قام بنقل بعض رسومه، وهذا القصر عبارة عن بناء صغير نسبياً يشتمل على حمام وقاعة للاستقبال، تنفتح على الجانب الجنوبي منها غرفتان من الجانبين أشبه بالخدعين، تنتهيان من الخارج بحنيتين ، وكانت أرضيه الغرف والقاعات تزدان بالفسيفساء التي تمثل زخارف نباتية ، أما الغرف الأخرى فكانت مكسوة بالرخام، وتزدان جدران الغرف بصور جدرانية ملونة من النوع المعروف بالفريسكو، أما جدران المخدع فتزدان برسوم تمثل أعداء الإسلام قيصر ولذريق وحسرو ونجاشي، كذلك يزدان الحمام بصور ملونة ومتعددة وجميع موضوعاتها هلينستية الطابع ، أما التصاوير التي توجد في متحف دمشق حالياً من قصر الحير الغربي ففيها أثر من الفن الساساني فيما تجمع زخارف قصر المشتى بين التقاليد الفنية الساسانية والبيزنطية.
ومن هنا نجد أن الأمويين قد أبدعوا فنا في بناء القصور التي بقيت الآن شاهداً على مدى حبهم وعشقهم لحياة الترف والفخامة التي عرفوا بها
 

المرفقات

  • pic02[1].jpg
    pic02[1].jpg
    18.8 KB · المشاهدات: 18

The Hero

الأســــــــــــــطورة

إنضم
Jun 29, 2008
المشاركات
20,104
مستوى التفاعل
69
المطرح
في ضحكة عيون حبيبي
رسايل :

شكرًا للأشواك علَّمتني الكثيرَ

5. غزو الصين

أعلن قتيبة سنة 96 هـ النفير العام ، لأنه قرر العبور من فرغانة إلى الصين ، ضمن الخطة التي رسمها الحجاج بن يوسف الثقفي ، الذي خاطب قتيبة وابن القاسم بقوله : ( أيكما سبق إلى الصين ، فهو عامل عليها وعلى صاحبها ) ، وكما جاء في البداية والنهاية : ( ولو عاش الحجاج لما أقلع عن بلاد الصين ، ولم يبق إلا أن يلتقي مع ملكها ) .


أعلن قتيبة التعبئة العامة ، وقال : ( لا يجوزن أحد [ نهر جيحون عائداً إلى مرو] إلا بجواز ) ، أي بإذن رسمي خطي يؤهله العودة من ما وراء النهر إلى مرو ، ومضى قتيبة وجنده إلى فرغانة ، وأرسل إلى شعب عصام سلاح المهندسين ( الفَعَلَة ) ليسهلوا له الطريق إلى كاشغر ، وهي أدنى مدائن الصين.

لقد فتح قتيبة مدينة كاشغر ، وعبر بذلك نهر سيحون ، النهر الذي يشكل الحد الطبيعي الفاصل بين الفرس والترك وبين المغول ، وعبور قتيبة له كان أول تحد مباشر من المسلمين للشعوب المغولية .

طلب إمبراطور الصين ( يوانغ جونغ ) بعد فتح كاشغر وفداً يمثل قتيبة ، وكتب إلى قتيبة كتاباً جاء فيه : ( ابعث إلينا رجلاً من أشراف من معكم يخبرنا عنكم ، ونسائله عن دينكم ) ، فانتخب قتيبة من عسكره اثني عشر رجلاً من أفناء القبائل ، لهم جمال وأجسام وألسن وشعور وبأس ، بعدما سأل عنهم فوجدهم من صالح من هم منه ، فكلمهم قتيبة وفاطنهم فرأى عقولاً وجمالاً ، فأمر لهم بعدة حسنة من السلاح والمتاع الجيد من الخز والوشي واللين من البياض والرقيق والنعال والعطر ، وحملهم على خيول مطهمة تقاد معهم ، ودواب يركبونها .

وكان هبيرة بن المشمرج الكلابي مفوهاً بسيط اللسان فقال قتيبة : يا هبيرة كيف أنت صانع ؟ قال : أصلح الله الأمير ، قد كفيت الأدب وقل ما شئت أقله وآخذ به ، قال : سيروا على بركة الله وبالله التوفيق ، لا تضعوا العمائم عنكم حتى تقدموا البلاد ، فإذا دخلتم عليه فأعلموه أني قد حلفت ألا أنصرف حتى أطأ بلادهم ، وأختم ملوكهم ، وأجبي خراجهم .

سار الوفد ، وعليهم هبيرة بن المشمرج ، فلما قدموا أرسل إليهم ملك الصين يدعوهم ، فدخلوا الحمام ثم خرجوا فلبسوا ثياباً بياضاً تحتها الغلائل الثياب الذي يلبس تحت الدروع ثم مسوا الغالية نوع من الطيب ، وتدخنوا ولبسوا النعال والأردية ، ودخلوا عليه ، وعنده عظماء أهل مملكته ، فجلسوا فلم يكلمهم الملك ولا أحد من جلسائه فنهضوا ، فقال الملك لمن حضره : كيف رأيتم هؤلاء ؟ قالوا : رأينا قوماً ما هم إلا نساء ، ما بقي منا أحد حين رآهم ووجد رائحتهم إلا اشتهى النساء .

فلما كان الغد أرسل إليهم فلبسوا الوشي وعمائم الخز والمطارف وغدوا عليه، فلما دخلوا عليه قيل لهم : ارجعوا ، فقال لأصحابه : كيف رأيتم هذه الهيئة ؟ قالوا : هذه الهيئة أشبه بهيئة الرجال من تلك الأولى ، وهم أولئك .

فلما كان اليوم الثالث أرسل إليهم ، فشدوا عليهم سلاحهم ، ولبسوا البيض والمغافر ، وتقلدوا السيوف ، وأخذوا الرماح ، وتنكبوا القسي ، وركبوا خيولهم ، وغدوا ، فنظر إليهم صاحب الصين فرأى أمثال الجبال مقبلة ، فلما دنوا ركزوا رماحهم ، ثم أقبلوا نحوهم مشمرين ، فقيل لهم قبل أن يدخلوا : ارجعوا ، لما دخل قلوبهم من خوفهم . فانصرفوا فركبوا خيولهم ، واختلجوا رماحهم ، ثم دفعوا خيولهم كأنهم يتطاردون بها ، فقال الملك لأصحابه : كيف ترونهم ؟ قالوا : مارأينا مثل هؤلاء قط .

فلما أمسى أرسل إليهم الملك ، أن ابعثوا إلي زعيمكم وأفضلكم رجلاً ، فبعثوا إليه هبيرة ، فقال له حين دخل عليه : قد رأيتم عظيم ملكي ، وإنه ليس أحد يمنعكم مني ، وأنتم في بلادي ، وإنما أنتم بمنزلة البيضة في كفي ، وأنا سائلك عن أمر فإن لم تصدقني قتلتكم ، قال : سل ، قال : لم صنعتم ما صنعتم من الزي في اليوم الأول والثاني والثالث ؟

قال هبيرة : أما زينا في يومنا الأول فلباسنا في أهالينا وريحنا عندهم ، وأما يومنا الثاني فإذا أتينا أمراءنا ، وأما اليوم الثالث فزينا لعدونا ، فإذا هاجنا هيج وفزع كنا هكذا ، قال الملك : ما أحسن ما دبرتم دهركم ! فانصرفوا إلى صاحبكم فقولوا له ينصرف ، فإني قد عرفت حرصه وقلة أصحابه ، وإلا بعثت عليكم من يهلككم ويهلكه ، قال له هبيرة : كيف يكون قليل الأصحاب من أول خيله في بلادك وآخرها في منابت الزيتون بلاد الشام - ! وكيف يكون حريصاً من خلف الدنيا قادراً عليها وغزاك ! وأما تخويفك إيانا بالقتل فإن لنا آجالاً إذا حضرت فأكرمها القتل ، فلسنا نكرهه ولا نخافه .

فقال ملك الصين : فما الذي يرضي صاحبك ؟ فقال هبيرة : إنه قد حلف ألا ينصرف حتى يطأ أرضكم ، ويختم ملوككم ، ويعطى الجزية ، فقال ملك الصين : فإنا نخرجه من يمينه ، نبعث إليه بتراب من تراب أرضنا فيطؤه ، ونبعث ببعض أبنائنا فيختمهم ، ونبعث إليه بجزية يرضاها ، ثم دعا بصحاف من ذهب فيها تراب ، وبعث بحرير وذهب وأربعة غلمان من أبناء ملوكهم ، ثم أجازهم فأحسن جوائزهم ، فساروا فقدموا بما بعث به ، فقبل قتيبة الجزية ، وختم الغلمة ، وردهم ، ووطئ التراب .

وبعد فتح كاشغر جاء إلى قتيبة خبر موت الوليد بن عبدالملك أمير المؤمنين ، وتولي سليمان بن عبدالملك مكانه ، فانكسرت همته لذلك ، وعاد أدراجه ، فقتل في فرغانة .
قادة الفتح الإسلامي في بلاد ماوراء النهر لمحمود شيت خطاب ، وفتح سمرقند لشوقي أبو خليل
 

The Hero

الأســــــــــــــطورة

إنضم
Jun 29, 2008
المشاركات
20,104
مستوى التفاعل
69
المطرح
في ضحكة عيون حبيبي
رسايل :

شكرًا للأشواك علَّمتني الكثيرَ

6. فتح الأندلس

في عام 86 هـ وفي زمن الوليد بن عبد الملك الأموي تولى موسى بن نصير المغرب ، فأخضع البربر ، ونشر الأمن في هذه الربوع ، واستطاع أن يفتح طنجة فترك بها حامية يقودها مولاه طارق بن زياد ، وعهد إليه بالعمل على نشر الإسلام في المنطقة ، وعسكر طارق بمن معه من المسلمين على سواحل بحر الزقاق ، وبدأت أنظارهم تتجه نحو أسبانيا .


وعاد موسى إلى القيروان ، وعلم طارق أن ميناء سبتة على مقربة منه فبدأ يتحرك نحوه ، وكان حاكم سبتة يليان قد تحرر من سلطان الدولة البيزنطية ، وأصبح كالحاكم المستقل في سبتة وماحولها ، واحتك يليان بالمسلمين وأحس بقوتهم وضغطهم عليه ، فعمل على كسب ود طارق بن زياد ، وكان طارق يتطلع لفتح أسبانيا ، فراسل يليان ولاطفه وتهاديا حتى يستفيد منه .

وأما الأندلس ( أسبانيا ) فقد حكمها القوط منذ عام 507 م ، غير أن أمرهم بدأ يضعف ، وقسمت أسبانيا إلى دوقيات ، يحكم كل منها دوق ، يرجـع في سلطنته إلى الملك في طليطلة ، وقسم المجتمع إلى طبقات : أعلاها طبقة الأشراف أصحاب الأموال والمناصب وحكام الولايات والمدن والإقطاعيون ، ثم طبقة رجال الدين الذين ملكوا الضياع وعاملوا عبيدهم بالعسف ، ثم طبقة المستخدمين وهم حاشية الملك وموظفو الدولة ، ثم الطبقة الوسـطى وهم الزراع والتجار والحرفيين وقد أثقلوا بالضرائب ، وأخيراً الطبقة الدنيا وهم الفلاحين والمحاربين والعاملين في المنازل ، وبلغ البؤس بأهل أسبانيا أن حل بهم الوباء في السنوات : 88 ، 89 ، 90 هـ حتى مات أكثر من نصـف سكانها .

وفي عام 709 م تولى العرش وتيكا الذي يسميه العرب غيطشة ، ولكنه عزل في نهاية السنة نفسها ثم قتل ، واستلم الحكم بعده أخيلا ، وفي العام التالي710 م وصل ردريك - ويسميه العرب لذريق إلى الحكم بعد عزل أخيلا ، وغرق لذريق في الشهوات حتى نفرت منه القلوب ، وانقسمت البلاد في عهده ، فظهـر حزب قوي بزعامة أخيلا الذي حاول استرداد عرشه وحزب آخر ناصر الملك .

ولما كان يليان حليفاً لغيطشة فقد حـاول مد يد العون إلى حليفه ، ولكن أنصار لذريق ردوه عن الأندلس إلى العدوة الإفريقية ، فتحصن في سبتة ، وأخذ يرقب الأحداث .

وتذكر الروايات أن يليان هو الذي دعا موسى لغزو الأندلس ، وذلك أن يليان كان قد أرسل ابنته إلى قصر لذريق لتتأدب ، وتنشأ فيه أسوة بغيرها من بنات القوط في ذلك الزمان ، وأن لذريق بصر بالفتاة وطمع فيها ونال منها ، فكتبت إلى أبيها بخبرها ، فدفعه ذلك إلى التفكير في الانتقام من لذريق ، فاتصل بطارق وزين له فتح الأندلس ، وجعل نفسه وأتباعه أدلاء للمسلمين بعد أن اطمـأن إليهم ، وزار يليان موسى بن نصـير في القيروان لإقناعـه بسهولة الفتح ، وطبيعي أن يشك موسى في صحة المعلومات فطلب من يليان أن يقوم بغارة سريعة ، ففعل وعاد محملاً بالغنائم .

وليس هذا هو السبب الحقيقي للفتح ، ولكنه عجل به وساعد عليه ، وإلا فأعين طارق بن زياد على الأندلس منذ أن وصل طنجة ، ثم إن المسلمين فتحوا فرنسا وسويسرا وصقلية وجزر المتوسط كلها دون مساعدة يليان ، كما أن المسلمين منذ أيام عثمان بن عـفان رضي الله عنه يفكرون بفتح القسطنطينية من جهة أوروبا بعد فتح الأندلس ، وقال عثمان حينها : ( إن القسطنطينية إنما تفتح من قبل البحر ، وأنتم إذا فتحتـم الأندلس فأنتم شركاء لمن يفتح القسطنطينية في الأجر آخر الزمان ) .

وكتب موسى يستأذن الخليفة بدمشق ، فجاء رد الخليفة الوليد : ( أن خضها بالسرايا حتى تختبرها ، ولا تغرر بالمسلمين في بحر شديد الأهوال ) ، فكتب إليه موسى : ( إنه ليس ببحر وإنما هو خليج يكاد الناظر أن يرى ماخلفه ) ، فكتب إليه الخليفة : ( وإن كان ، فاختبره بالسرايا ) ، فأرسل موسى مولاه طريف ، وكان في مائة فارس وأربعين راجلاً ، في مهمة استطلاعية ، وجاز البحر في أربعة مراكب أعانهم بها يليان ، وذلك في شهر رمضان ، ونزل المسلمون في جزيرة صغيرة على مقربة من الموضع الذي قامت فيه بلدة حملت اسم طريف ، وخفّت قوة من أنصار يليان وأبناء غيطشة لعونهم وقامت بحراسة المعبر حتى تم نزولهم ، ومن ذلك الموضع قام طريف وأصحابه بسلسلة من الغارات السريعة على الساحل غنموا فيها كثيراً ، وشجع هذا موسى على عبور الأندلس .

واختار موسى للفتح طارق بن زياد ، وركب طارق السفن في سبعة آلاف من المسلمين ، جلّهم من البربر ، وبينما هو في عرض المضيق على رأس سفينته إذ أخذته سنة من النوم ، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم وحوله المهاجرون والأنصار ، قد تقلدوا السيوف ، وتنكبوا القسيّ ، فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يا طارق تقدم لشأنك ) ، ونظر إليه وإلى أصحابه قد دخلوا الأندلس قدّامه ، فيهب طارق مستبشراً .

وألقت السفن مرساها قبالة الجزيرة الخضراء عند جبل سمي فيما بعد جبل طارق ، وكان لذريق مشغولاً بثورة أخيلا في الشمال ، ولما علم بنزول المسلمين في أرض أسبانيا جمع جيشاً جراراً بلغ سبعين ألفاً ، وفي رواية : مائة ألف .

وجاءت امرأة عجوز من أهل الجزيرة الخضراء إلى طارق ، وقالت له : إنه كان لها زوج عالم بالحدثان [ أخبار الزمان ] ، فكان يحدثهم عن أمير يدخل بلدهم هذا فيتغلب عليه ، ويصف من نعته أنه ضخم الهامة ، فأنت كذلك ، ومنها أن في كتفه الأيسر شامة عليها شعر فإن كانت فيك فأنت هو ، فكشف ثوبه فإذا بالشامة في كتفه على ما ذكرت ، فاستبشر ومن معه .

وسار طارق باتجاه قرطبة حتى وصل لوادي بكة حرّف فيما بعد إلى وادي لكة ، وهنا عرف طارق بأن لذريق وصل لقرطبة ، ثم تقدم واستعد للموقعة في سهل البرباط ، وأرسل طارق يطلب المدد من موسى بن نصير ، فعجل موسى بإرسال خمسة آلاف من خيرة الجنود يقودهم طريف ، وفيهم عدد عظيم من العرب ، فأدركوا طارقاً قبيل المعركة ، فأصبح عددهم اثني عشر ألفاً ، وقام طارق في أصحابه خطيباً فشجعهم على الجهاد ، واستعد لذريق للقاء ، وقد ولى ولدي غيطشة على ميمنته وميسرته .

وقبيل الالتحام أجمع أولاد غيطشة على الغدر بلذريق ، وأرسلوا إلى طارق يعلمونه أن لذريق كان تابعاً وخادماً لأبيهم ، فغلبهم على سلطانه بعد مهلكه ، ويسألونه الأمان ، على أن يميلوا إليه عند اللقاء فيمن يتبعهم ، وأن يسلم إليهم إذا ظفر ضياع والدهم بالأندلس كلها ، فأجابهم طارق إلى ذلك وعاقدهم عليه ، وأرسل لذريق رجلاً من أصحابه ليعاين له جيش المسلمين ، فلما عاد قال له : خذ على نفسك ، فقد جاءك منهم من لا يريد إلا الموت ، أو إصابة ماتحت قدميك .

وقدم طارق نفراً من السودان بين يدي جيشه ليتلقوا بما عرف عنهم من الصبر والثبات صدمة الجيش الأولى ، وبدأ القتال يوم الأحد الثامن والعشرين من رمضان سنة 92هـ ، فأظهر فرسان القوط مقدرة عظيمة أول المعركة ، وثبتوا لضغط المسلمين ، وأخذ يليان ورجاله يخذلون الناس عن لذريق ويصرفونهم عنه ، قائلين لهم : إن العرب جاؤوا للقضاء على لذريق فقط ، وإنهم إن خذلوا لذريق اليوم صفت لكم الأندلس بعد ذلك .

وأثر هذا الكلام في جنود القوط فقد كان كثير منهم يكرهون لذريق ، فخرج فرسانه من المعركة وتركوه لمصيره ، فاضطرب نظام جيشه وفر الكثير منهم ، وخارت قوى لذريق ولم تغنه شجاعته شيئاً ، ويئس من النصر لما رأى جنده يفرون أو ينضمون للمسلمين . وهجم طارق على لذريق فضربه بسيفه فقتله ، وقيل : إنه جرحه ورمى بنفسه في وادي لكة فغرق ، وحمل النهر جثته إلى المحيط .

وبعد مصرعه احتل المسلمون المعسكر وغنموه ، واتجه طارق لفتح المدن الرئيسية في الأندلس ففتح شذونة ومدوّرة وقرمونة وإشبيلية واستجة ، وكانت فيها قوة تجمعت من فلول عسكر لذريق فقاتلوا قتالاً شديداً حتى أظهر الله المسلمين عليهم ، ولم يلق المسلمون فيما بعد ذلك حرباً مثلها ، وأقاموا على الامتناع أولاً إلى أن ظفر طارق بأمير المدينة على النهر وحده ، فوثب عليه طارق في الماء فأخذه وجاء به إلى المعسكر ، ثم صالحه طارق وخلى سبيله ، واستمر طارق في زحفه ، وانتهى إلى عاصمة الأندلس طليطلة وتمكن من فتحها .

وجاءته الرسائل من موسى تأمره بالتوقف ، وعبر موسى إلى الأندلس بناء على استغاثة وجهها إليه طارق ، وذلك في شهر رمضان سنة ثلاث وتسعين ، بجيش عدده ثمانية عشر ألفاً ، ففتح بعض المدن كشذونة وقرمونة وإشبيلية وماردة ، وهي مدن لم يفتحها طارق ، ثم التقى بطارق ووبخه على أنهم توغلوا أكثر مما ينبغي ، وأن خطوط مواصلاتهم في الأندلس الواسعة في خطر ، فقد بقيت مناطق واسعة في شرق الأندلس وغربها لم تفتح .

وأخيراً لقد قررت معركة وادي لكة مصير الأندلس لمدة ثمانية قرون ، وظل الأثر العربي الإسلامي في أسبانيا ليوم الناس هذا .
 

The Hero

الأســــــــــــــطورة

إنضم
Jun 29, 2008
المشاركات
20,104
مستوى التفاعل
69
المطرح
في ضحكة عيون حبيبي
رسايل :

شكرًا للأشواك علَّمتني الكثيرَ

7. فتح بلاد ماوراء النهر

يمكن تقسيم بلاد ماوراء النهر إلى خمسة أقاليم : الصغد وفيه بخارى وسمرقند ، وخوارزم ويختلف عن إقليم خراسان الذي يقع جنوبه ، والصغانيان وبذخشان والختّل وفيه مدينة ترمذ ، وفرغانة ، والشاش .


وبلاد ماوراء النهر جزء من تركستان الغربية التي تضم في الوقت الحاضر: جمهورية أوزبكستــان وطاجكستــان ، وقد سكنها الترك ، وكان لهـم فيها إمبراطورية عظيمة قبل الميلاد ، وقد سكن المنطقة أيضاً الإيرانيون أيضاً ويبدو أنهم اغتصبوا تلك الأصقاع من الترك ، وكانت عقائد أهل المنطقة الزرادشتية وهي ديانة الإيرانيين والبوذية القادمة من الشرق .

وكان لملوكهم ألقاب منها : خاقان : وهو لقب من ألقاب السيادة التي تطلق على أباطرة المغول والترك العظام ومعناه ملك الملوك . وأما الخان فهو الحاكم الإقليمي لبعض الولايات التي كانت تتكون منها الإمبراطورية المغولية في تركستان . أما طرخان فكان يطلق على الأشراف من الرجال الذين يمنحهم الخاقان امتيازات خاصة تشمل الإعفاء من الضرائب مع الحق في أخذ نصيب من غنائم المعركة ، ومنها الدخول إلى أرض الخاقان بدون استئذان . وطرخون صيغة أخرى من طرخان وله امتيازات الإعفاء من الضرائب والامتيازات الأخرى ، فهما لفظان بمعنى واحد .

وكان ملوك بلاد ماوراء النهر مستقلين استقلالاً ذاتياً ولكنهم كانوا جميعاً يدينون بالولاء للخاقان عملياً أو نظرياً ، ولكن الحرب كانت تجمعهم ليصبحوا صفاً واحداً على عدوهم المشترك في الدفاع عن مصالحهم المشتركة .

وأما عن قصة الفتح الإسلامي لها زمن قتيبة فقد وصل قتيبة بن مسلم الباهلي سنة 86هـ خراسان والياً ، فخطب الناس وحثهم على الجهاد ، وانطلق قتيبة ، فلما كان ب( الطالقان ) تلقاه دهاقين بلخ وبعض عظمائها وساروا معه ، فلما قطع نهر جيحون - النهر الفاصل بين الأقوام الناطقة بالفارسية والتركية - تلقاه ملك ( الصغانيان ) بهدايا ومفتاح من ذهب ودعاه إلى بلاده فمضى معه وسلمه بلاده ، ثم سار إلى ملك (أخرون وشومان ) فصالحه ملكها على فدية أداها إليه .

وفي سنة 87هـ قدم نيزك طرخان فصالح قتيبة عن أهل ( باذغيس ) على أن لا يدخلها ، وأطلق الأسرى المسلمين الذي كانوا في يديه وبعثهم إلى قتيبة ثم قدم إليه نيزك بنفسه .

ثم سار قتيبة من ( مرو) إلى ( آمل ) ثم مضى إلى ( زم ) ، ثم اجتاز نهر جيحون وسار إلى ( بيكند ) ، من بلاد ( بخارى ) فاستنصروا ( الصغد )على قتيبة فأتوهم في جمع كثير ، وتأهب المسلمون للقتال ثم تزاحفوا والتقوا ، واعتصم من بالمدينة بالمدينة ، فركز سلاح الفعلة ( المهندسين ) على سورها لهدمه فسألوا الصلح فصالحهم ، وأمر عليهم رجلاً من بني قتيبة ، وارتحل عنهم فلما سار مرحلة أو مرحلتين [ المرحلة = 90 كم تقريباً ] نقضوا عهودهم فقتلوا العامل وأصحابه ومثلوا به ، وبلغه الخبر فرجع إليهم ، وقد تحصنوا فحاصرهم وقاتلهم شهراً ، واستطاع خرق التحصينات ، فطلبوا الصـلح فأبى وقاتلهم ؛ لأن النصر قد تحقق فظفر بهم عنوة فقتل من كان فيها من المقاتلة ، وعمر أهل (بيكند ) مدينتهم ثانية بإذن قتيبة .
ثم قفل يريد مرو فإذا ب( طرخان ملك الصغد ) و ( كوربغانون ملك الترك ) في مائتي ألف يريدون قتاله فهزمهما.

وفي سنة 88هـ فتح ( نومشكت) و( رامثينة ) من بخارى وصالح الأهالي ، وفيها غزا ملك الترك ( كوربغانون ) قتيبة في مائتي ألف مقاتل من أهل الصغد وفرغانة فكسرهم قتيبة وغنم منهم كثيراً .

وفي سنة 98هـ سار قتيبة إلى ملك بخارى ( وردان خذاه ) فلقيه في طريقـه ( الصغد ) وأهل ( كش ) فقاتلوه فظفـر بهم ، ومضى إلى بخارى ولكنه لم يحقق نصراً حاسماً فرجع إلى مرو .

وفي سنة 90هـ جدد قتيبة الصلح بينه وبين ( طرخون ملك الصغد ) وسار إلى ( بخارى ) ففتحها ، وفي السنة نفسها غدر ( نيزك طرخان ) ونقض الصلح وامتنع بقلعته ، وأرسل له قتيبة من استدرجه حتى جاء بنفسه مستسلماً، واستشار الأمراء في قتله فاختلفوا فقال : والله إن لم يبق من عمري إلا ما يسع ثلاث كلمات لأقتلنه ، ثم قال : اقتلوه اقتلوه اقتلوه ، فقتل .

وفي سنة 91هـ فتح مدينة ( شومان ) بعد الحصار بالمنجنيقات ، وفي السنة التي تليها فتح مدينتي ( كش ) و( نسف ) .
 

The Hero

الأســــــــــــــطورة

إنضم
Jun 29, 2008
المشاركات
20,104
مستوى التفاعل
69
المطرح
في ضحكة عيون حبيبي
رسايل :

شكرًا للأشواك علَّمتني الكثيرَ

8. فتح سمرقند

في سنة 93هـ وبعد أن فتح قتيبة بن مسلم الباهلي بخارى وما حولها، قال المجشر بن مزاحم السلمي لقتيبة : إن لي حاجة فأخلني ، فأخلاه ، فقال : إن أردت الصغد يوماً من الدهر فالآن ، فإنهم آمنون من أن تأتيهم من عامك هذا وإنما بينك وبينهم عشرة أيام ، قال: أشار بهذا عليك أحد ؟ قال : لا ، قال : فأعلمته أحداً ؟ قال :لا ، قال : والله لئن تكلم به أحد لأضربن عنقك .

فأقام يومه ذلك ، فلما أصبح من الغد دعا أخاه عبد الرحمن بن مسلم الباهلي فقال : سر في الفرسان والرماة ، وقدم الأثقال إلى مرو . فوجهت الأثقال إلى مرو يومه كله ، فلما أمسى كتب إليه : إذا أصبحت فوجه الأثقال إلى مرو ، وسر في الفرسان والرماة نحو الصغد ، واكتم الأخبار ، فإني بالأثر .

عبر عبد الرحمن ومن معه النهر ، وسار إلى سمرقند ، وعبر قتيبة بالأثر ، وعبر ومن معه نهر جيحون ، وحوصرت سمرقند .

استنجد ( غورك ) ملك الصغد بعد خوفه من طول الحصار بملك الشاش وبملك فرغانة ، وكتب إليهما : إن العرب إن ظفروا بنا عادوا عليكم بمثل ما أتونا به فانظروا لأنفسكم . فأجمع ملك الشاش وفرغانة على نجدة الصغد ، وأرسلا أن شاغلوا قتيبة ومن معه كي نفاجئهم على حين غرة .

انتخب أهل الشاش وفرغانة كل شديد السطوة من أبناء الملوك والأمراء والأشداء الأبطال وأمروهم أن يسيروا إلى قتيبة ليفاجئوه ، ولكن استطلاع قتيبة يقظ فجاءته الأخبار ، فانتخب ستمائة من أهل النجدة وجعل عليهم أخاه صالح بن مسلم أميراً ، ووضع على العدو عيوناً حتى إذا قربوا منه قدر ما يصلون إلى عسكره من الليل أدخل الذين انتخبهم فكلمهم وحضهم ، فخرجوا من العسكر عند المغرب ، فساروا ، فنزلوا على فرسخين من العسكر على طريق القوم الذين وصفوا لهم ، ففرق صالح خيله، وأكمن كميناً عن يمينه ، وكميناً عن يساره ، وأقام هو وبعض فرسانه على قارعة الطريق ، حتى إذا مضى نصف الليل أو ثلثاه ، جاء العدو باجتماع وإسراع وصمت ، وصالح واقف في خيله ، فلما رأوه شدوا عليه ، حتى إذا اختلفت الرماح ، شد الكمينان عن يمين وعن شمال ، فلم نسمع إلا الاعتزاء ، فلم نر قوماً كانوا أشد منهم .

لم يفلت من هذه النجدات إلا النفر اليسير ، وغنم المسلمون أسلحتهم ، وقال بعض الأسرى : تعلمون أنكم لم تقتلوا في مقامكم هذا إلا ابن ملك ، أو بطل من الأبطال المعدودين بمئة فارس ، أو بألف فارس .

وقال فارس مسلم من الجند الذين كانوا في كمين صالح : إنا لنختلف عليهم بالطعن والضرب إذ تبينت تحت الليل قتيبة ، وقد ضربت ضربة أعجبتني وأنا أنظر إلى قتيبة ، فقلت : كيف ترى بأبي أنت وأمي ! قال: اسكت دق الله فاك ! قال: فقتلناهم فلم يفلت منهم إلا الشريد ، وأقمنا نحوي الأسلاب ونحتز الرؤوس حتى أصبحنا ، ثم أقبلنا إلى العسكر ، فلم أر جماعة قط جاؤوا بمثل ما جئنا به ، ما منا رجل إلا معلق رأساً معروفاً باسمه ، وأسير في وثاقه.

لقد منع قتيبة بهذا الكمين وصول النجدات إلى ميدان المعركة ، مع إشغال النجدات قبل وصولها بكمين ليلي ، ريثما يتسنى له سحب قطعاته من حوالي أسوار سمرقند ، والقيام بحركة خاطفة ليلية للقضاء على أرتال النجدات في معركة ليلية ، في الوقت الذي يكون الكمين قد أوقف تقدمها.

نصب قتيبة المجانيق حول سمرقند ، ورمت بتركيز دقيق على سور المدينة ، فثلمت فيها ثملة ، فرممها المدافعون عنها بسرعة كبيرة ، وجاء رجل قام على الثلمة ، فشتم قتيبة ( بعربية فصيحة ) ، وكان مع قتيبة قوم رماة ، يُسمون ( رماة الحدق) لدقة تصويبهم ، فقال لهم قتيبة : اختاروا منكم رجلين ، فاختاروا ، فقال : أيكما يرمي هذا الرجل ، فإن أصابه فله عشرة آلاف ، وإن أخطأه قطعت يده ، فتلكأ أحدهما وتقدم الآخر ، فرماه فلم يخطئ عينه ، فأمر له بعشرة آلاف.

قال خالد مولى مسلم بن عمرو : كنت في رماة قتيبة ، فلما افتتحنا المدينة صعدت السُّور ، فأتيت مقام ذلك الرجل الذي كان فيه ، فوجدته ميتاً على الحائط ، ما أخطأت النشابة عينه حتى خرجت من قفاه.

قال غوزك( ملك الصُّغد) لقتيبة: إنما تقاتلني بإخواني وأهل بيتي ، فاخرج إليّ في العرب ، فغضب قتيبة عند ذلك ، وميز العرب من العجم ، وأمر العجم باعتزالهم ، وقدم الشجعان من العرب ، وأعطاهم جيد السلاح ، وزحف بالأبطال على المدينة ، ورماها بالمجانيق ، فثلم فيها ثلمة ، وقال قتيبة: ( ألحوا عليها حتى تعبروا الثلمة ) ، فقاتلوهم حتى صاروا على ثلمة المدينة ، عندها قال غوزك لقتيبة : ارجع عنا يومك هذا ونحن نصالحك غداً ، فقال قتيبة : لا نصالحهم إلا ورجالنا على الثلمة ، ومجانيقنا تخطر على رؤوسهم ومدينتهم.

وسمع قسم من المسلمين قتيبة يناجي نفسه: حتى متى يا سمرقند يعشعش فيك الشيطان ، أما والله لئن أصبحت لأُحاولن من أهلك أقصى غاية.

وفي اليوم التالي ، والمسلمون على الثلمة ، عاود غوزك يطالب بالصلح ، فصالحه قتيبة على : الجزية ، وتحطيم الأصنام وما في بيوت النيران ، وإخلاء المدينة من المقاتلة ، وبناء مسجد في المدينة ووضع منبر فيه.

وتم الصلح ، وأخلوا المدينة ، وبنوا المسجد ، واستلم قتيبة ما صالحهم عليه ، وصلى في المسجد وخطب فيه ، وأتى بالأصنام ، وألقيت بعضها فوق بعض . حتى صارت كالقصر العظيم ، ثم أمر بتحريقها ، فتصارخ الأعاجم وتباكوا ، وقالوا: إن فيها أصناماً قديمة ، من أحرقها هلك ، فقال قتيبة: أنا أحرقها بيدي ، وجاء غوزك فنهى عن ذلك ، وقال لقتيبة: أيها الأمير ، إني لك ناصح ، وإن شكرك عليّ واجب ، لا تعرض لهذه الأصنام ، فقام قتيبة ، ودعا بالنار ، وأخذ شعلة بيده ، وقال : أنا أحرقها بيدي ، فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون ، وسار إليها وهو يكبر الله عز وجل ، وألقى فيها النار ، فاحترقت ، فوجدوا من بقايا ما كان فيها من مسامير الذهب والفضة خمسين ألف مثقال.

وصنع غوزك طعاماً ، ودعا قتيبة ، فأتاه غي عدد من أصحابه، فلما تغدى ، استوهب منه المدينة ، فقال قتيبة: إني لا أريد منكم أكثر مما صالحتكم عليه ، ولكن لا بد من جند يقيمون عندكم من جهتنا ، وأن ينتقل عنها غوزك ، فانتقل عنها ملكها غوزك ، فتلا قتيبة ( وأنه أهلك عاداً الأولى ، وثمود فما أبقى ) ، ثم ارتحل قتيبة راجعا إلى مرو ، مستخلفاً على سمرقند أخاه عبد الله بن مسلم ، وخلّف عنده عدداً من الجند كبيراً ، وآلة من آلة الحرب كثيرة ، مع تعليمات حازمة تتعلق بالداخلين إلى سمرقند ، والخارجين منها.

وكان أهل خراسان يقولون : إن قتيبة غدر بأهل سمرقند ، فملكها غدراً .
 

miss.Lafoshya

بيلساني سنة ثالثة

إنضم
Sep 6, 2008
المشاركات
630
مستوى التفاعل
2
يسلموو ايديك هيرو رح يفيديني كتير :25:
بس معليش انته كاتب العنوان الامورية مو الامويه ...
ويعطيك الف عافيه :24::24::24:
 

The Hero

الأســــــــــــــطورة

إنضم
Jun 29, 2008
المشاركات
20,104
مستوى التفاعل
69
المطرح
في ضحكة عيون حبيبي
رسايل :

شكرًا للأشواك علَّمتني الكثيرَ

شكرا لافوشيا للتنبيه
 

المارد

بيلساني عميد

إنضم
Dec 3, 2008
المشاركات
3,270
مستوى التفاعل
34
المطرح
سوريا
السلام عليكم تاريخنا حافل بالفتوحات وجزاك الله خير
 

The Hero

الأســــــــــــــطورة

إنضم
Jun 29, 2008
المشاركات
20,104
مستوى التفاعل
69
المطرح
في ضحكة عيون حبيبي
رسايل :

شكرًا للأشواك علَّمتني الكثيرَ

9. فتح كاشغر


فتح كاشغر
كاشغر: مدينة من أشهر مدن تركستان الشرقية وأهمها، وكانت عاصمتها في بعض فترات التاريخ ، ولها مركز عظيم في التجارة مع روسيا من جهة , والصين من جهة ثانية , وبلاد ما وراء النهر من جهة ثالثة، وتشتهر بمنسوجاتها الصوفية الجميلة.
وكانت تعد قديماً من بلاد ما وراء النهر، وتضم قرى ومزراع كثيرة، يسافر إليها من سمرقند , وإقليم الصغد، وهي في وسط بلاد الترك، وأهلها مسلمون...
وتركستان الشرقية التي تقع فيها مدينة كاشغر، يحدها من الجنوب: الباكستان والهند (كشمير) والتبت، ومن الجنوب الغربي والغرب: أفغانستان وتركستان الغربية، ومن الشمال: سيبيريا، ومن الشرق والجنوب الشرقي: الصين ومنغوليا.
وقد اجتاحت تركستان الشرقية القوات الصينية الشيوعية سنة 1949م واحتلتها، فأطلق عليها الصينيون اسم (سينكيانج) وهي كلمة صينية تعني: المستعمرة الجديدة، وتبعهم بهذه التسمية الأوروبيون , وبعض المصادر العربية الحدينة، إلا أن أهل تركستان الشرقية المسلمون يحبون أن تسمى بلادهم باسمها القديم: تركستان الشرقية، ولا يحبون تسميتها بالاسم الصيني الجديد.
وقد لعبت تركستان الشرقية دوراً تاريخياً مهماً في التجارة العالمية. وكان طريق الحرير المشهور يمر بها، وهو الطريق الذي كان يربط بين الصين ـ أبعد بلاد العالم القديم ـ والدولة البيزنطية.
وبدأ الإسلام يدخل تركستان الشرقية على عهد عبد الملك بن مروان سنة ست وثمانين الهجرية (705م)، ولكن البلاد أصبحت إسلامية حكومة وشعباً سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة الهجرية (964م) بدخول السطان ستوق بغراخان الإسلام، فشمل الإسلام البلاد كافة.
ولا يزال أهل تركستان الشرقية مسلمين حتى اليوم، ولكن القابض على دينه كالقابض على الجمر.

التمهيد للفتح..
قطع قتيبة بن مسلم الباهلي نهر جيحون في سنة أربع وتسعين للهجرة (712م) متوجهاً إلى فرغانة...واصطدمت قواته بقوات أهلها في مدينة خجندة إحدى مدن إقليم فرغانة، فقاومه أهل فرغانة ومن معهم من الترك القادمين مدداً لهم من مدينة كاشغر المجاورة، وكانت مقاومتهم شديدة مما اضطره إلى الاشتباك بهم مراراً، وفي كل مرة يكون الظفر فيها للمسلمين. وانتهت أخيراً مقاومة أهل فرغانة وحلفائهم الباسلة بفتح المسلمين الإقليم كافة. ..

الفتح :

كان الاحتفاظ بإقليم فرغانة بيد المسلمين، يقضي على المسلمين فتح منطقة كاشغر التي تقع شرقي إقليم فرغانة، ويقطنها الترك كما يقطنون إقليم فرغانة. وفي سنة ست وتسعين الهجرية (714م) غزا قتيبة مدينة كاشغر، وهي أدنى مدائن الصين وأقربها إلى فرغانة.

وسار قتيبة من مرو عاصمة خراسان على رأس جيشه، وحمل الناس عيالاتهم لتستقر في سمرقند.
وعبر الجيش الإسلامي نهر جيحون، فاستعمل قتيبة رجلاً على معبر النهر، ليمنع من يرجع من جنده إلا بجواز منه وبموافقته الخطية.
ومضى جيش المسلمين إلى فرغانة، مروراً بسمرقند، حيث أبقى الناس عيالاتهم فيها بحماية المسلمين من أهل سمرقند، وكان الإسلام قد انتشر فيها انتشاراً سريعاً موفقاً.
وفي فرغانة، أكمل قتيبة استعدادات جيشه للقتال، وأرسل إلى (شِعب عصام) الفَعَلَة لتمهيده، حتى يجتاز الجيش بسهولة ويسر وسرعة، فأكمل الفعلة مهمتهم، وأخبروا قتيبة بإكمالها.

والفعلة هم سلاح الهندسة، كما نطلق عليه اليوم في المصطلحات العسكرية الحديثة: وهم الذين يمهدون الطرق، ويبنون القناطر والجسور، ويزيلون العقبات الطبيعية، ويؤمّنون وسائط عبور الأنهار، ويشرفون على العبور والمعابر.
ويبدو أن (شِعب عصام) أو وادي عصام، كان عارضا من العوارض الطبيعية الوعرة، يعرقل مسيرة الجيش بقوات كبيرة، ويقع بين فرغانة والحدود الصينية القديمة...


تقدم قتيبة على رأس جيشه من فرغانة، سالكاً الطريق التجارية التي تربط مدينة فرغانة بمدينة كاشغر، ماراً بجنوب بحيرة (جاتيركول) السوفييتية حالياً، على الحدود الصينية-السوفييتية، مقتحماً ممر (تيترك) في تركستان الشرقية , وبعث مقدمة أمام جيشه إلى كاشغر، فتقدمت حتى وصلت إلى هدفها، بعد أن أزاحت المقاومات الطفيفة التي صادفتها في طريقها، وغنمت وسبت.


وأوغل قتيبة حتى قارب حدود الصين القديمة، ففتح كاشغر، وجنغاريا الواقعة على حدود منغوليا، وترفان على مقربة من الحدود المنغولية، وخوتن الواقعة شمالي التبت وكشمير، وقانو التي تقع تماماً في منتصف الصين الحالية.


ولكن المصادر العربية المعتمدة تقتصر على فتح كاشغر في هذه السنة , ولا تقدم التفاصيل الإضافية الأخرى عن فتوح المدن الصينية الأخرى.


المفاوضات :


بات الاصطدام بين المسلمين من جهة وبين ملك الصين من جهة ثانية وشيكاً، فطلب ملك الصين التفاوض بين الجانبين، وعرض التفاوض على قتيبة، بعد أن أوغل حتى قارب الصين , واخترق حدودها الغربية، فكتب إليه (ملك الصين) : «ابعث إلي رجلاً شريفاً يخبرني عنكم وعن دينكم»، فوافق قتيبة على طلب ملك الصين.


واختار قتيبة من بين رجال جيشه اثني عشر رجلاً، لهم جَمال وألسن وبأس وتجمّل وصلاح، وأمر لهم بعُدّة حسنة , ومتاع حسن من الخز والوشى وغير ذلك , .. وكان منهم هُبيرة بن المشمرج الكلابي ـ مفوّهاً سليط اللسان ـ وقال لهم: «إذا دخلتم على ملك الصين، فأعلموه أني حلفتُ أني لا أنصرف حتى أطأ بلادهم، وأختم ملوكهم، وأجبي خراجهم»..


سار وفدُ قتيبة إلى ملك الصين، عليهم هبيرة بن المشمرخ الكلابي، فلما قدموا الصين، دعاهم ملكها، فلبسوا ثياباً بياضاً تحتها الغلائل، وتطيبوا ولبسوا الأردية، ودخلوا على الملك، وكان عنده عظماء قومه، فأخذوا أماكنهم في مجلسه، فلم يكلم الملك الوفد ولا أحد ممن عنده. ..


ولما انصرف الوفد من مجلس الملك، قال الملك لمن حضره: «كيف رأيتم هؤلاء؟» قالوا: «رأينا قوماً ما هم إلا نساء». ..


وفي غد دعاهم الملك إلى مجلسه، ولبسوا الوشي وعمائم الخز والمطارف ألبسة من خزّ مربعة لها أعلام- وغدوا عليه، فلما دخلوا عليه قيل لهم: ارجعوا.


وقال الملك لأصحابه بعد انصراف وفد المسلمين: كيف رأيتم؟ فقالوا: هذه أشبه بهيئة الرجال من تلك.


وفي اليوم الثالث أرسل إليهم,فشدوا عليهم سلاحهم , ولبسوا البيض والمغافر,وتقلدوا السيوف , وأخذوا الرماح , وتنكبوا القسي , وركبوا خيولهم , وغدوا فنظر إليهم صاحب الصين , فرأى أمثال الجبال مقبلة , فلما دنوا ركزوا رماحهم , ثم أقبلوا نحوهم مشمرين , فقيل لهم قبل أن يدخلوا:ارجعوا لما دخل قلوبهم من خوفهم ...


فركبوا خيولهم , واختلجوا رماحهم ثم دفعوا خيولهم , كأنهم يتطاردون بها,فقال الملك لأصحابه :كيف ترونهم ؟ قالوا : ما رأينا مثل هؤلاء قط...


وانصرف الوفد عائداً إلى مستقره، بعد أن أخذوا رماحهم , واستعادوا سلاحهم, وامتطوا خيولهم، ثم دفعوا الخيل حضراً ـ وهو ركض الخيل بأقصى سرعتها - كأنهم يتطاردون، فقال الملك لأصحابه: كيف ترونهم؟ فقالوا: ما رأينا مثل هؤلاء!...


وفي مساء ذلك اليوم، بعث ملك الصين إليهم، أن ابعثوا إليّ زعيمكم. فبعثوا إليه هبيرة، فقال له الملك حين دخل عليه : قد رأيتم عظيم ملكي , وإنه ليس أحد يمنعكم مني , وأنتم في بلادي , وإنما أنتم بمنزلة البيضة في كفي, وأنا سائلك عن أمر فإن لم تصدقني قتلتكم.


وما كان هبيرة بحاجة إلى التهديد والوعيد، وليس هو من الرجال الذين يخيفهم التهديد والوعيد، فهو لا يكذب أبداً ... فلا مجال لتهديده بالقتل إذا لم يصدق.


وسأل الملك هبيرة: لماذا صنعوا في الزي الأول ما صنعوا، ثم الزي الثاني، والزي الثالث؟ وكان جواب هبيرة: أما زيّنا الأول، فلباسنا في أهالينا وريحنا عندهم، وأما يومنا الثاني فإذا أتينا أمراءنا، وأما الثالث فزيّنا لعدوّنا.


فقال الملك: ما أحسن ما دبرتم دهركم، فانصرفوا إلى صاحبكم، فقولوا له: ينصرف، فإني قد عرفت حرصه وقلة أصحابه، وإلا بعثتُ عليكم من يهلككم ويهلكه.


وإذا كانت الجبال الراسيات تهتز قيد أنملة من خطرات النسيم العليل، فإن هبيرة قد اهتز يومئذ من وعيد الملك وتهديده، فلا بد له من أن يبلغ هذا الملك رسالة قتيبة بقوة وأمانة وصدق، فقال للملك في ثقة كاملة وهدوء تام: كيف يكون قليل الأصحاب مَن أول خيوله في بلادك، وآخرها في منابت الزيتون! وكيف يكون حريصاً من خلّف الدنيا وغزاك؟ !..


وأما تخويفك بالقتل، فإن لنا آجالاً إذا حضرت فأكرمها القتل، فلسنا نكرهه ولا نخافه.


وبهت الملك في مجابهة قولة الحق، فنسي تهديده ووعيده، ثم تساءل في قول ليّن رقيق: فما الذي يُرضي صاحبك؟ فأجابه هبيرة بقول فصل لا مساومة فيه: إنه حلف ألا ينصرف حتى يطأ أرضكم، ويختم ملوككم، ويُعطَى الجزية...


فقال: فإنا نخرجه من يمينه: نبعث إليه بتراب من تراب أرضنا فيطأه، ونبعث أبناءنا فيختمهم، ونبعث له مالاً يرضاه..


ودعا الملك بصحاف من ذهب , فيها تراب من أرض الصين، وبعث بحرير وذهب وأربعة غلمان من أبناء ملوكهم، ثم أجاز الوفد , فأحسن جوائزهم، فقدموا على قتيبة الذي قبل الجزية، وختم الغلمان، وردّهم إلى الملك، ووطئ تراب الصين.


وقد لجأ الوفد الإسلامي إلى تبديل أزيائهم للتأثير في معنويات ملك الصين ومن معه، مما أدّى إلى انهيار معنويات الصينيين واستجابتهم لمطالب المسلمين.


حقيقة الفتح :


المؤرخون العرب يذكرون أن مدينة كاشغر هي أدنى مدائن الصين، ولكن البلدانيين العرب يذكرون أنها من مدن تركستان. وما أخطأ المؤرخون العرب، لأن حدود الصين كانت تمتد غرباً فتضمّ حدودُها تركستان الشرقية بكاملها، أو جزءاً منها في حالة اشتداد قوة ملوك الصين، وتنحسر تلك الحدود نحو الشرق، فتستقل تركستان الشرقية بحدودها الطبيعية، أو تمتد حدود تركستان الشرقية , فتضم إليها أجزاء من الصين، في حالة قوة ملوك تركستان وضعف ملوك الصين. وما أخطأ البلدانيون العرب القدامى في ذكرهم أن مدينة كاشغر من مدن تركستان الشرقية، فهي في الواقع كذلك أصلاً، ولكنها تدخل في حدود الصين تارة، وتكون خارج حدودها تارة أخرى.


وقد ظلت تركستان الشرقية خاصة عرضة لهجمات الصينيين حتى أصبحت اليوم من أجزاء الصين كما هو معلوم.


ومن مراجعة تاريخ تركستان الشرقية القديم يتضح لنا أن منطقة كاشغر والمناطق التي حولها التي امتدت الفتوحات الإسلامية إليها، كانت ضمن دولة (كول تورك) التي كانت من سننة 552 م إلى سنة 745 م، ومعنى هذا أن الفتح الإسلامي في تركستان سنة ست وتسعين الهجرية (714 م) كان على عهد تلك الدولة التركية التي كانت في عداء مستمر مع جارتها الشرقية الصين، وكانت على ولاء كامل مع بلاد ما وراء النهر، وخاصة مع إقليم فرغانة، لأن العنصر التركي كان يسيطر على هذا الإقليم، فكان تعاونه مع تركستان الشرقية تعاوناً وثيقاً.


ويذكر لنا تاريخ تركستان الشرقية القديم، أن الاضطرابات شملت تركستان الشرقية سنة إحدى وعشرين ومائة الهجرية (738 م)، فاستغل الصينيون هذه الاضطرابات واعتدوا على تركستان الشرقية وضمّوها إلى بلادهم.


ولكن الأتراك من سكان تركستان الشرقية تمكنوا من الحصول على المعونات العربية الإسلامية سنة أربع وثلاثين ومائة الهجرية (751 م) على عهد الدولة العباسية في بغداد، وتمكنوا بهذا العون من إنقاذ بلادهم من حكم الصين، و هزموا الصينيين في معركة (تالاس) المشهورة.


يتضح من ذلك أن الفتح الإسلامي في كاشغر والمدن الأخرى , جرى في تركستان الشرقية لا في الصين، ولكن ملك الصين الذي وجد سرعة تقدم الفتوح الإسلامية ووصولها إلى حدوده الغربية مباشرة في حينه، سعى لإرضاء الفاتحين خوفاً من اختراق بلاده وفتحها، فقدم ما قدم لقتيبة إرضاء له ولمن معه من المجاهدين، وصدّاً لتيارهم الجارف بالتي هي أحسن.


الشهيد..


والسبب الحقيقي لعودة قتيبة وجيشه عن حدود الصين الغربية، كما تذكر المصادر التاريخية المعتمدة، هو وصول خبر وفاة الوليد بن عبد الملك، وتولّي سليمان بن عبد الملك الخلافة بعده، وكان ذلك سنة ست وتسعين الهجرية وكان الوليد مؤيداً لقتيبة وسنداً له أسوة بقادة الحجاج بن يوسف الثقفي كافة، وكان سليمان يكرههم ولا يميل إليهم، لأن الوليد بن عبد الملك أراد أن ينزع أخاه سليمان بن عبد الملك عن ولاية العهد , ويجعل بدله عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك ابنه، فبايعه على خلع سليمان الحجاجُ وقتيبة وقادة الحجاج الآخرون.


وعاد قتيبة بمن معه من جيش المسلمين، فقتل في فرغانة سنة ست وتسعين الهجرية، وهو في طريق عودته إلى خراسان، فقال رجل من العجم: يا معشر العرب، قتلتم قتيبة! والله لو كان قتيبة منا فمات لجعلناه في تابوت فكنا نستسقي به ونستفتح به إذا غزونا!


وقال أحد رجالات العجم بعد مقتل يزيد بن المهلب بن أبي صفرة: يا معشر العرب، قتلتم قتيبة ويزيد وهما سيدا العرب! ...


وقد أكثر الشعرء في رثائه والثناء عليه ، ولكنه كان أكبر من كل رثاء وثناء، فآثاره باقية، وفتوحه عظيمة، وأعماله لا تبلى.


يكفي أن نذكر أن مساحة فتوحه تبلغ أربعين بالمائة من مساحة الاتحاد السوفييتي وثلاثاً وثلاثين بالمئة من مساحة الصين الشعبية في الوقت الحاضر.وأن سكان المناطق التي فتحها في بلاد ما وراء النهر وتركستان الشرقية ضمن الاتحاد السوفييتي والصين لا يزالون مسلمين حتى اليوم، يتبركون بقراءة القرآن الكريم، ويعتزون بالعربية لغة والإسلام ديناً، بالرغم مما يلاقونه من عنت شديد ومحن وعناء.


ولا أزال أذكر مضيفة على إحدى الطائرات الصينية، صادفتها في إحدى الرحلات في المشرق الإسلامي. فقد رأتني أتلو ما تيسر من القرآن بالمصحف والطائرة في الجو- فوجدتها تحتفي بي حفاوة خاصة، ولا تنفك تحيطني برعايتها الفائقة. وسألتني على استحياء أن أهدي لها المصحف لأنها مسلمة، فأهديته لها، فجثت على ركبتيها ووضعته على رأسها، وعيناها تذرفان قائلة: هذه أعظم هدية تسلمتها في حياتي، وسأقدم هذا المصحف الشريف إلى والدتي المريضة فور عودتي إلى بلدي، وستفرح بهذه الهدية العظيمة فرحاً عظيماً. ومضت إلى سبيلها تؤدي عملها، وما مرت بي إلا وهتفت: الحمد لله.. أنا مسلمة.


ويومها تذكرت قتيبة الذي لم يقتله أعداء العرب والمسلمين، بل قتله المسلمون.. وترحّمتُ عليه كثيراً وأنا بين السماء والأرض في الطائرة - وترحّمتُ على شهداء المسلمين.

 

The Hero

الأســــــــــــــطورة

إنضم
Jun 29, 2008
المشاركات
20,104
مستوى التفاعل
69
المطرح
في ضحكة عيون حبيبي
رسايل :

شكرًا للأشواك علَّمتني الكثيرَ

10. فتـح الديبل والسند

في خلافة الوليد بن عبد الملك بن مروان أرسل ملك جزيرة الياقوت ( سرانديب ، سيلان) سفينة إلى الحجاج بن يوسف الثقفي أمير العراقين، محملة بالتحف والهدايا من الدر والياقوت والجواهر الثمينة والعبيد، مع نسوة ولدن في بلاده مسلمات ومات آباؤهن، وكانوا تجــاراً ، فأراد التقرب بهن إلى قطب العالم آنذاك ومحوره الخليفـة الأمـوي

حيث أرسل إلى دار الخـلافة بدمشـق بالإضـافة إلى ما سبق تحفاً وطــرائف لا مثيل لها ، كما كان هدف النســاء المسلمات زيارة الكعبة المشرفة ، وهبت رياح عاتية فقذفت بالسفينة إلى سواحل ( الديبل ) بلدة على ساحل ماء السند تبعد 50 كم جنوب شرق ( كرا تشي ) حيث كان يقطـنهـا مجموعة من القراصنة فهاجموا السفينة ، وقتلوا بعض ركابها وبحارتها ، وأخذوا الباقين من النساء والرجال والأطفال أسرى ، كما سلبوا جميع التحف والأموال، فصـاحت امرأة من بين الأسرى : يا حجاج يا حجاج أغثني أغثني ، وفر بعض النـاس والتجـار من الذين كانوا على متن السفينة ، وجاء بعضهم إلى الحجاج وذكروا له ما حدث ، مع استغاثة تلك المرأة به فقال : لبيك لبيك .

فكتب الحجاج إلى داهر بن صصة ملك السند بإرجاع النساء والتحف إلى دار الخلافة ،فرد عليه داهر : إن هذه الطائفة مجموعة من اللصوص والخارجين عن سلطتنا ، وهم أشـرار أقوياء ، لا يستطيع أحد ملاحقتهم والتغلب عليهم .

فكتب الحجاج رسالة إلى الخليفة يطلب فيها الإذن بغزو السند والهند ، ولكن الوليد لم يأذن له فكرر الحجاج طلبه حتى وافق الخليفة ، فأرسل الحجاج عبد الله بن نبهان السلمي لفتح الديبل فاستشهد ، ثم أرسل بديل بن طهفة البجلي بثلاثة آلاف فاستشهد ، فحـزن الحجـاج حتى قال لمؤذنه : يا مؤذن اذكر اسم بديل كلما أقمت الأذان ، لأتذكره وآخذ بثأره .

واستأذن الحجاج الخليفة في إرسال جيش كبير ومنظم لغزو السند فوافق، فعين الحجاج محمد بن القاسم الثقفي الذي كان عمره آنذاك سبعة عشر عاماً ، وطلب من الخليفة ستة آلاف مقاتل من أشراف الشام وأبنائهم فجاءه العدد الذي طلبه .

ووصى الحجاج محمد بن القاسم قائلاً : اخرج عن طريق ( شيراز) ، واطو المنازل واحداً تلو الآخر، حتى يأخذ منك الغضب مأخذاً شديداً . وجهز الحجاج الجيش بكل ما احتاج إليه حتى الخيوط والقطن المحلوج ، وسير محمد بن القاسم ، وأمره أن يقيم بمدينة شيراز من أرض فارس كي يلتحق به جند الشام والعراق ، فتحرك ، فلما وصـل شـيراز عسكر بظاهرها .

وأمر الحجاج بجمع ما هو موجود من المنجنيقات والسهـام والرماح ووضعها في السـفن الحربية ، وعين علها قائدين من خيرة القواد ، وكتب إلى محمد بن القاسم أن ينتظر وصـول السفن إلى الديبل، وبعد استكمال الاستعدادات في شيزر ووصول ستة آلاف فارس وثلاثة آلاف بعير لحمل الأثقال والعتاد انطلق محمد بن القاسم ومعه اثنا عشر ألف مقاتل إلى الشرق حتى وصل (مكران) ، فأقام بها أياماً ، ثم توجـه منها إلى (فنزبور) ، ثم إلى (أرمائيـل) ، وهناك وصلت السفن .

ونزل ابن القاسم بعد ذلك في سواد الديبل ، وحفر الخـنادق ، ورفع الرايات والأعـلام ، ونصب المنجنيقات ، ونصب منجنيقاً يعرف بالعروس كان يعمل لتشغيله خمسـمائة رجل ، وكان في وسط الديبل معبد كبير للأصنام تتوسطه قبة عالية ترفرف عليها راية خضـراء ، وكان ارتفاع المعبد أربعين ذراعاً وسعة القبة أربعون ذراعاً وارتفاع الراية مثلها وكان للراية أربعة ألسن تتطاير في الهواء ، ودعا ابن القاسم أمير جـند منجـنيق العروس وقال له : إذا أمكنك أن تكسر رأس معبد الأصنام هذا وعمود الراية التي ترفرف فوقه أعطيتك عشرة آلاف درهم .

وفي اليوم المحدد للقتال بدأ أمير المنجنيق الرمي ، وطارت راية المعبد وبعض قاعدته ، ثم رمى الحجر الثاني فأصاب قبة المعبد فانهارت تماماً ، وفي الحجر الثالث أصبح أنقاضاً مع الأرض سواء ، ثم قرعت الطبـول في الديبل، وبدأ هجوم الجيش هجـمة واحدة ، وثلم المنجنيق سور الديبل فوصل المجاهدون إلى أعلى السور وأبراجه ، ثم فتح أهل الديبل أبواب مدينتهم وطلبوا الأمان ، فدخلها ابن القاسم واستباحها ثلاثة أيام ، وتوجه إلى السـجن الذي ضم الأسرى المسلمين فحررهم ووضع بدلاً عنهم مجموعة من قراصنة الديبل .

ثم توجه ابن القاسم إلى فتح ( نيرون ) وموقعها الآن حيدرآباد - عبر مياه السند في ستة أيام ، وحينما وصلها أرسل حاكمها رسولين محملين بالغذاء والأعلاف ، وفتح لابن القاسم باب المدينة ، وأخذ يبيع ويشتري البضائع مع جيش المسلمين ، ودخل ابن القاسم المدينة ، وهدم معبد الأوثان ، وبنى مكانه مسجداً ، ثم سار إلى حصن ( سيوستان ) المدينة المحصنة المرتفعة ، وأراد أهل المدينة الأمان ولكن حاكم المدينة رفض بشدة واستعد للحرب ، ونصب ابن القاسم المنجنيقات وبدأ الحصار ، وحينما تيقن حاكم المـدينة من الهزيمة وضاق ذرعاً بالحصار فر ليلاً ففتحت المدينة أبوابها .

ثم سار ابن القاسم نحو حصن (سيويس) وفتحه ، ثم عاد إلى نيرون ، واتخذ قراره بعبـور نهر مهران للقاء داهر ملك السند ، وأرسل رسولين له لدعوته للطاعة فرفض ، وعندئذ تخير ابن القاسم أفضل معابر النهر وهيأ السفن لذلك ، وخلال هذه المراسلات والاستعدادات التي استمرت خمسين يوماً نفدت أرزاق المسلمين ، وقلت أعلاف الخيل والدواب ، ونفق عدد من الخيل بعد إصابتها بالجذام ، واشتكى الجيش من قلة الغذاء ، فاضطر الجند إلى أكل لحوم الخيل المريضة ، فكتب ابن القاسم رسالة للحجاج بالأوضاع فأرسل له الحجاج ألفي حصان ملكاً للمجاهدين وليست عارية مسترجعة .

ثم تجول ابن القاسم ليرى أفضل وأضيق مكان للعبور على نهر مهران، ثم أمر بإحضـار السفن وربط بعضها ببعض ليصنع منها جسراً للعبور ، وتقدمت جماعة من جند داهر وقادته ليمنعوا ابن القاسم من ربط أجزاء النهر ، ولما وصلت طلائع السفن على مقربة من الساحل الشرقي بدأ المقاتلون المسلمون برمي السهام والرماح بكثافة ، مما أدى لتراجع قوات داهر مما سهل عبور الجيش المسلم ، وفر جند داهر ، وسار ابن القاسم إلى منطقة (جيور) ، ونزل بجيشه على مقربة من نهر ( ددهاواه ) ، والتحم الجمعان من بداية الصباح وحتى المساء ثم تراجع كل إلى موضعه ، وكان عدد الفيلة ستين فيلاً وقيل مائة، وكان داهر على أكبرها ، وقد عملت في المسلمين الأفاعيل .

وظل الحال هكذا خمسة أيام ، وفي اليوم السادس غير الجيشان تنظيم صفوفهما ، وفي اليوم السابع شجع ابن القاسم رجاله وحرضهم على القتال ، وبدأت سهام المسلمين المشتعلة بالنار تتساقط على هودج داهر، ورمى أحد الرماة بسهمه فأصاب قلب الهودج وأشعل فيه النار، فعاد جيش داهر بفيله إلى الوراء وقد اشتعل بالنيران وسقط معه في الماء، وعندها وصل الفرسان المسلمون إليه وقد تشردم جيشه من حوله وحلت به الهـزيمة ، وحـاول داهر الخروج من الماء فصوب إليه أحد الرماة المسلمين المهرة سهماً فأصابه ولكنه تحامل على نفسه وتمكن من الظهور من الماء ، فتقدم منه عمرو بن خالد الكلابي فعلاه بسيفه وضرب به رأس داهر فشقه نصفين حتى الرقبة ، وتتبع المسلمون فلول جيش داهر المقتول حتى حصن ( راؤر ) ففتحوه ، ثم فتح ابن القاسم مدين ( دهليله ) ، ثم توجه إلى ( برهمناباذ) ففتحها وأعطى أهلها الأمان الذي طلبوه ، وفرض الجزية على من لم يسلم ، ثم عين البراهمة في المناصب التي تناسبهم وخصص لهم المال ، وأجلسهم في المحافل في الأماكن التي كانت مخصصة لأمراء الهند وملوكها ، وأعطى لعوام الناس الأمان في ممارسة طقوسهم الدينية .

ثم واصل محمد بن القاسم جهاده ففتح العديد من المدن بعضها صلحاً وبعضها عنوة ، وكان أهمها مدينة ( ملتان ) - وهي أعظم مدن السند الأعلى وأقوى حصونه - فامتنعت عليهم شهوراً نفدت خلالها مؤنتهم فطعموا الحمر حتى أتاهم رجل مستأمن دلهم على مدخل الماء الذي يشرب منه السكان فقطعوه عليهم ، وقاتل الهنود المسلمين قتالاً شديداً استمر سبعة أيام اقتحم المسلمون الأسوار من بعدها وفتحوا الملتان ، وكان في كل مدينة يفتحها يبني المساجد والمنابر ، حتى وصلت فتوحاته إلى حدود كشمير ، واستطاع أن يخضع السند لحكم الخلافة الإسلامية في مدة لم تتجاوز ثلاث سنين فقط .

وأصاب محمد مالاً كثيراً وعظمت فتوحاته ، فراجع الحجاج حساب نفقاته على هذه الحملة فكانت ستين ألف ألف درهم ، فحمل إليه محمد ابن القاسم ضعف هذا المبلغ ، فقال الحجاج : ( شفينا غيظنا ، وأدركنا ثأرنا ، وازددنا ستين ألف ألف درهم ورأس داهر ) .

لقد أنجز محمد بن القاسم الثقفي هذا الفتح كله بين سنة تسع وثمانين وسنة أربع وتسعين للهجرة ، فأي عظمة في هذا القائد ، وأي عظمة في هؤلاء الجند الفاتحين ، وأي سر في هذا الدين العظيم .
 
أعلى