عمر رزوق
بيلساني مجند
- إنضم
- Nov 12, 2008
- المشاركات
- 1,395
- مستوى التفاعل
- 45
مفتي السلطان
يتلخص تاريخ دور مستشارو ووعاظ السلطان ورئيس الجمهورية ووكلاء الدين بإيجاد تبريرات للتجاوزات الشرعية والأخلاقية التي يرغب السلطان أو رئيس الجمهورية بتجاوزها , ويسعون بتأليف الفتاوى الشرعية للأعمال التي يقوم بها أو ينويها , لتُتقبّل شرعا وقانونا , وتكون هذه الفتوى إعلاميا موجّهة للعامة لأنهم المستهدفون وهم مركز دائرة الإصابة لعمليات التضليل الإعلامي والعمل الدعائي وكل ذلك باسم الدين ومباركة السماء .
وتعود مهمة " مفتي السلطان " للقديم من الأزمان , وللتاريخ الموغل قبل الميلاد , حتى وصلتنا أخبار هؤلاء الوعاظ زمن الفراعنة , كقصة أخناتون حينما بكى بحرقة ولوعة على الفرعون أمفسيس عند موته , رغم أن الأخير قام بتشويه جسده ولكن أخناتون آمن وصدّق بقول الكهنة الوعاظ بعدالة الراحل أمفسيس وتكذيب جسده المشوّه .
بعد نهاية الخلافة الراشدة كان نماذج وأنماط عديدة ل " مفتي السلطان " أو " علماء السلطة " , الذي يبدأ دوره كواعظ ومبلّغ لخدمة الدين الحنيف , وينتهي ساعيا بجد وجهد للحصول على أكبر قدر من مكاسب الدنيا , من خلال شرعنة انتهاك السلطان لحقوق العباد , بل وصلوا لتوصيف السلطان بوصوف ألوهية , فهو وكيل الله على الأرض , فقد تساءل الوليد بن عبد الملك يوما بدهشة " وهل يمكن أن يُحاسب الخليفة على أفعاله ؟! وهذه القناعة ليست غريبة عندما نعلم أن يزيد بن عبد الملك كان قد أتى بأربعين " مفتي السلطان " شهدوا أنه ما على الخليفة من حساب .
في مشاهد لا تخلو من انتهاك سافر للشريعة والدين وأرواح الأبرياء , تتكرر صور التسلق على جدران الحق , وقد يكون أكثرها ألما تلك التبريرات التي " استندت " على الدين والعلم لتسوّغ قتل المصلحين في الأرض .
إن هذا الأمر لا يختلف في العصر الحديث فواقع الدول الإسلامية والعربية والتي دشّنت استقلالها بـوزارات شرعية إضافة لوظيفة مفتي الديار والتي تصبّ جميعها في ترصيص الأسوار حول النظام وحمايته تحت عنوان الدفاع عن الدين والشريعة , ولتبرير تصرفات الحكّام مهما بلغت من تجاوزات للحدود والتعدّي على حقوق المواطنين , ولا يتردد مفتي الديار إطلاق التصاريح والفتاوى بخلاف ما يراه حقا إذا احتمل أن يكون التصريح بالحق , آثار سلبية على السلطان أو رئيس الجمهورية , وما هي بمشكلة لديه أن يتراجع عن رأي فقهي كان قد اتخذه إذا اقتضت الحاجة والمصلحة منه ذلك , فهو فقيه تحت الطلب .
غير أن ضرورات واحتياجات العصر الحديث طوّرت مهنة مفتي الديار بصورة غير مسبوقة , فدخل الصحافي والكاتب والمثقف للساحة وبجدارة , بل وبدور وصورة تضاهي دور أكبر الفقهاء , كما أن الجهات التي أخذت تستعين بخدماتهم لم تعد تقتصر عند حدود السلطة السياسية , بل تعدتها لمساحات اجتماعية أوسع وأصبح دور " المفتي " أو المبرر والواجد للحلول والمخارج الشرعية أمام المتصدين والطامحين في الحياة الاجتماعية والسياسية , الدور الأساسي الذي لا يمكن الاستغناء عنه أو تعطيله بحال من الأحوال . فيمكن للإعلامي أن يضلل الكثير من الناس باسم الحقيقة , وباستطاعته إخفاء الكثير من الحقائق أو قلبها لمصلحة فئة معينة إذا طُلب منه ذلك دون محاسبة نفس أو وخز ضمير , وعند تصفّح بعض الكتابات يُصدم القارئ لمحاولة بعض المثقفين تعكير صفو الحقيقة انتصارا لخاطر فئة معينة , أو مما يبذله بعض الكتّاب من السعي الحثيث لوضع مقولات تبرر الحاجة الماسة للانتصار لفئة معينة بأسلوب ملتوٍ لا يصمد أمام الإثباتات الدامغة .
إن أهمية دور الوعاظ الجدد يتضاعف في قدرتهم على تحريك الناس ضد المفكرين والنقّاد وأهل الرأي , وباسم دفاعهم عن الحرية والديمقراطية , يكثّفون هجومهم ضد كل من يكون تفكيره مختلف أو يعارضهم بالرأي , ويلعبون دورا أساسيا بتخفيض قيمة التغيير في حياة الناس والعمل الدؤوب لتعطيل مساهمات أهل الإصلاح ورواده , فالتغيير في عرفهم لا يعني سوى التوقّف عند أسلوب تفكير وطريقة عمل الزعيم السياسي أو الديني أو الاجتماعي , فالخروج عن المألوف هو بالطبع تغريد خارج السرب والإبداع الفكري هو السير ضد التيار , والحديث عن التعددية الثقافية بتطبيقاتها الواقعية هو ضلال فكري وهوس ثقافي نظري لا معنى له .
إن تعيين مثل هذه الفئة من الزمن السالف من أسهل الأمور وأبسطها , كما أن حصر تأثيرهم بالعامة دون الخاصة أمر مفروغ منه , فيمكن القول أن أهل الصنعة من الفقهاء وصفوة المجتمع و كانوا محصنون من تأثير إعلاميات ودعائيات هذا الفريق بصورة عامة , ولكن يبدو لي أن تشخيص وتوصيف هذه الفئة بعد توسعها واتساعها أصبح من المهمات الصعبة نوعا ما , فإن أمكننا تشخيص شيوخ الفتاوى الجاهزة والفتاوى تحت الطلب في بعض المواقع بسهولة ويسر , فمن المؤكد أن تشخيص وتوصيف ألأقلام الداعية للحرية لضرب دعاة الحرية أو تشخيص الأصوات الإعلامية المتحدثة باسم التعددية لقتل التنوّع والتعدد , أضحى بحاجة للكثير من الدقّة واللياقة الذهنية والفكرية وهو على ما أعتقد أن الكثيرين يفتقدونه اليوم .
من ناحية أخرى فإن تأثير هذه الفئة , مع تكاثرهم واتساعهم , لم يعد مقتصرا على عامة الناس وجهّالهم , بل أصبح الكثير ممن يُعدّون على النخبة الفكرية ثقافيا وعلميا , يقادون طوعا من قِبَل هؤلاء لاسيما بعد تحولهم من لعب دور المساند المدافع عن القائد والفكر , إلى قادة فعلا لبعض المفكرين وأصحاب الرأي في بعض المواقع السياسية والثقافية والدينية , ويمكنك تأمّل بواقع الأحزاب المحلية وخارطة الأسماء المعلنة والغير معلنة لتحديد حجم المشكلة التي أعرض لها بهذا المقال , فهي أبلغ من أي وصف وأدقّ من أي مثال .
المرفقات
التعديل الأخير بواسطة المشرف: