واقع اللغة الأجنبية

♥البرنسيسة♥

أدميرال

إنضم
Nov 29, 2008
المشاركات
10,596
مستوى التفاعل
80

واقع اللغة الأجنبية
في التبادل بيننا وبين الغرب(*)
للأستاذ الدكتور أحمد بن محمد الضبيب


لقد أحسن مجمعنا الموقر صنعًا حين جعل موضوع المؤتمر هذا العام هو: "التأثير المتبادل بين الثقافات العربية والأجنبية" فنحن في هذه الأيام أحوج ما نكون إلى دراسة علاقتنا بهذه الثقافات الأجنبية وتحديد موقفنا منها، لقد حاصرتنا الثقافة الغربية من كل جانب، وأخذت تضغط علينا من كل اتجاه، وبعيدًا عن نظرية المؤامرة فإن الصراع بين الحضارات لم يعد سرًّا بعد أن بشر به (سامويل هنتجتون)، وحسمه لصالح الليبرالية الغربية(فرانسيس فوكوياما)،وذلك من الناحية الأيديولوجية،أما من الناحية الاقتصادية فقد حسمته قواعد منظمة التجارة العالمية، وشروط صندوق النقد الدولي، وغيرهما من مؤسسات أقامها الغرب، للحفاظ على مصالحه

عن طريـق الهيمنة وربـط الأمـم والشعوب بركابه، ثم جاءت القوة السياسية والعسكرية الضاربة كي تقسم العالم إلى قسمين لا ثالث لهما: عدو أو صديق، وتجعل الناس فريقين فريق الخير وفريق الشر، ولست أظن أن فريق الشر أو محور الشر كما سمي قد أخذ مصادفة من بلدان تمثل أهم ثقافات الشرق العظمى: الثقافة العربية الإسلامية، والثقافة الكونفوشيوسية، وهما تدخلان ضمن المحاور التي تحدث عنها (هنتجتون) في كتابه.
في ظل هذه القطع المدلهمة من السحب السوداء التي تظلل سماءنا هل يجوز لنا أن ننعزل عن العالم وأن ندير ظهورنا للمتغيرات ونجعلها تفعل بنا ما تشاء، أم نحاور هذه التيارات بالقدر الذي نستطيع، ونفيد منها بالقدر المناسـب، ونراجع كثيرًا
من حساباتنا الماضية علَّنا نكتشف الأخطاء ونعمد إلى التصحيح الذي يكسبنا القوة دون أن يطيح بثوابتنا أو يمسخ وجوهنا، ويمسح ثقافتنا؟.
لقد كانت حضارتنا الإسلامية حضارة منفتحة تثاقفت مع الحضارات الأخرى وتأثرت بها وأثرت فيها، لكن دون أن تفقد مقوماتها الأساسية أو ملامحها الخاصة. كانت حضارة واثقة من نفسها حتى في أوقات الهزيمة والانكسار، لم يتضعضع بنيانها ولم تهتز أركانها بدخول الفرس أو الترك أو التتار أو غيرهم في مجرى نهرها، وإنما احتضنتهم وحولتهم جميعًا إلى لبنات نافعة في صرحها العظيم.
هذه التجربة التي خاضتها الثقافة العربية عبر عصور الضعف السياسي والسيطرة الأجنبية ما أحرانا الآن أن نوجه إليها أنظار الدارسين، وأن نفيد من معطياتها التي مكنت هذه الأمة بثقافتها العربية من الحفاظ على الكيان دون الذوبان في خضم الأمم الأخرى.
إننا أمة لها تجارب في التثاقف مع الآخرين، وأزعم أنها تجارب ناجحة بالقدر الذي أفاد أسلافنا، ونحن الآن عندما نتثاقف مع الآخرين فإننا لا ندخل إلى هذا المجال من الأبواب الخلفية، وإنما ندخل إليه مزودين بتجارب عظيمة وغنية، ما أحوجنا إلى أن نتأملها ونرصد ما فيها من جوانب مشرقة نستضيء بها في هذا العصر.
ثم إن تجارب أمتنا على ما فيها من غنى وثراء لا تغني عن استقراء ما لدى الأمم الأخرى ذوات الحضارات المختلفة التي تثاقفت مع الآخر من منطلق الندية لا منطلق التبعية، وخطت لثقافاتها المحلية خطوطًا سوية أفادت فيها من الوافد بالقدر الذي لا يغير النسيج الثقافي أو يبدل الوجه الأصيل. بل إنني أكاد أجزم أن للتثاقف بين الأمم قوانين ونواميس تشبه إلى حد كبير النواميس الطبيعية المنضبطة، تؤثر في هذه الأمم سلبًا أو إيجابًا.
ولاشك أن في تجارب الأمم المعاصرة التي تنتمي إلى حضارات راسخة في القدم، وقد تماست مع الغرب، دروسًا لمن ألقى السمع وهو شهيد.
فمن هذه الأمم اليابان التي ظهرت في هذا العصر ماردًا حقق كثيرًا من الإنجازات والتقدم العلمي والتقني والاقتصادي، بتبني ما يفيدها من معطيات الحضارة الغربية دون الانخراط كلية في النمط الغربي، بل مازالت اليابان تحتفظ بثروتها الروحية والثقافية، كما تحتفظ بلغتها التي تعتز بها وتحاول تطويرها لتكون صالحة لمقتضيات العصر الحاضر.
لقد كان هاجس اليابان عندما بدأت نهضتها أن تتخذ طريق التحديث لا طريق التغريب، والتحديث طريق شاقة لأنها تعتمد في الدرجة الأولى على الذات بكل ما تملكه من مخزون ثقافي، تتغير من خلاله نحو الأفضل دون أن تنجرف إلى الهاوية، بعكس بلدان أخرى استسهلت طريق التغريب القائم على استيراد الثقافة وهي منظومة من القيم والنظم والمعايير دون مراعاة للجوانب الذاتية والتراثية، فأصبحت مستهلكة تابعة فاقدة للابتكار والتميز. ومن الجوانب التي ضربت هذه البلدان في الصميم استيراد اللغة الأجنبية وتمكينها من حناجر أبنائها حتى إذا تمكنت فيها، واصطبغت بها منذ نعومة الأظفار فقدت العلاقة السوية بين الإنسان ولغته الأم فأصبحت اللغة الوطنية مكروهة مزدراة ينظر إليها بمنظار التخلف والتعويق الحضاري. وهو ما يحدث الآن للأسف في كثير من بلداننا العربية.
تحاول هذه الورقة أن تحدد علاقتنا باللغة الأجنبية بوصفها نافذة نطل منها على الآخر، إذ لا أحد يشك في أن لغة الثقافة الأجنبية من أهم أدوات التثاقف إن لم تكن أهمها، ومما لاشك فيه أيضًا أن الأقدار في هذا العصر قد وضعت اللغة الإنجليزية في مقدمة اللغات التي لا غنى عنها في مختلف المجالات المهمة في الحياة، فقد غدت لغة العلم والطب والاختراعات والسياحة والاقتصاد، وأصبحت إجادتها لا غنى عنها لكل من أراد أن يطلع على الجديد من هذه المجالات في مصدره الأصلي، وهذا ما جعل معظم الناس في البلاد العربية يحرصون على التمسك بأذيالها والجري وراء سرابها ظنًّا منهم أن تعلم اللغة وحده سوف ينقل الأمة إلى فراديس الحضارة ونعم التقدم.
إننا هنا لا نهون من شأن اللغة الأجنبية، ولا ندعو إلى مقاطعتها أو ازدرائها، ولا نشكك في أهميتها وفائدة معرفتها، وإنما ننظر إليها بوصفها أداة نافعة ومهمة، نطمع في أن نحقق من تعلمها وتعليمها واستعمالها ما لم نوفق في الحصول عليه طيلة الزمن الماضي.
عندما بدأت علاقتنا بالحضارة الغربية الحديثة كان من علامات النضج الوطني والحضاري أن تنشأ مدرسة الألسن وأن تكثف البعثات العلمية إلى أوربا. تم ذلك وفق رؤية واعية وتخطيط سليم، إذ كان من نتيجته ازدهار الترجمة وتعليم العلوم والطب باللغة العربية، وكان المتوقع أن ينتهي ذلك بنا إلى ما انتهى به عند الأمم الأخرى من توطين العلوم والتقنية في بلادنا العربية، واستغلال مواردنا الاستغلال الأمثل، والمشاركة الجادة مع دول العالم الناهضة. لكن الأمور لم يرد لها أن تسير في هذا الاتجاه الذي يهدف إلى تقوية هذه الأمة وإعطائها فرص التقدم والنماء. وكان الاستعمار بالمرصاد لكل إنجازاتنا وآمالنا فحوَّلها جميعًا إلى ركام من الهشيم وأشعل فيها النيران، ثم أجهز علينا بوضع ورم سرطاني خبيث ينهش في جسدنا العربي، ويكلفنا الكثير من وسائل الوقاية والعلاج.
وكان المؤمل أن تنعم البلاد العربية بعد زوال الاستعمار عن أقطارها الرائدة برؤية وطنية وحدوية يلتئم فيها الشمل ويتحد فيها الهدف، وينظر فيها إلى المستقبل على أنه مستقبل عربي واحد، فتتوحد السياسات وإن اختلفت الأنظمة ويتحقق بينها التكامل في الثقافة والاقتصاد والدفاع وأوجه التعاون المختلفة. لكن ذلك لسوء الحظ لم يحدث، لا لأنه مستحيل الحدوث، ولكن لأن الاستعمار لم يخرج من هذه البلدان إلا وقد اطمأن إلى أن ما يريده سوف يتحقق بأيدي أبناء هذه الدول. وأن ما بثه من أفكار خادعة قد وجدت ملاذًا آمنًا في أدمغة بعض المنتمين إلى فكره من أصحاب الرأي أو صناع القرار، هذا إلى جانب ما استقر في الأذهان من الإعجاب بحسن نية أحيانًا بكل ما هو أجنبي والتوق إلى التماهي معه دون شروط.
وهكذا انحرفت المسيرة في الإفادة من الاحتكاك بالأجنبي فأصبح مفكرونا ومثقفونا أصداء وأبواقًا لكل ما يصدر عن الغرب، خيرًا كان أو شرًّا، وأخذ أدباؤنا ونقادنا يستوردون النظريات النقدية الغربية التي سادت ثم بادت في أوربا ويطبقونها، لا على أدبنا الحديث وحسب، وإنما على الأدب الجاهلي والإسلامي القديم، وأخذ بعض ضعاف شعرائنا تحت شعار الحداثة يرصدون كلمات باهتة باردة ثم يزجون بها للمطبعة مع وسمها بكلمة "شعر" على الديوان المزعوم لثقتهم بأن الناس لن تتقبل هذا الكلام الغث إلا على أنه من رديء النثر. ولم يقتصر الانحراف على الأدب والفنون حتى ابتعد المثقفون عن ذائقة العربي واضطروه إلى صياغة فنون أخرى من الأدب الشعبي لتلبي احتياجاته، وإنما امتد الانحراف إلى أمور أخرى كالاقتصاد الذي انتهى بنا إلى تحويل تجارنا ورجال الأعمال لدينا إلى سماسرة يستوردون البضاعة الأجنبية ويسوقونها في بلدانهم، جانين بذلك على الصناعة الوطنية، أو سادين الطريق إلى نشوئها واكتمالها، والدخول إلى العالم بها، في هذا العصر الذي يكون الاقتصاد عصب الحياة فيه، أو مبشرين ببيع مؤسسات الخدمات العامة في الدولة إلى القطاع الخاص عن طريق التخصيص بزعم عجز الدولة عن القيام بهذه الخدمات، ونحو ذلك من أفكار تسوق في الوقت الحاضر لعودة الأجنبي من النافذة للتحكم في مقدرات هذه البلدان النامية، وجعلها نهبًا للشركات الأجنبية.
وفي هذا المجال (مجال الاقتصاد) أخفقت اللغة الأجنبية في أن تدخلنا عصر التقدم لا لأن الوسط الاقتصادي لا يعترف بها، فهي مستعملة في كل جوانبه وتعد إجادتها شرطًا من شروط العمل في التجارة والصناعة،وما أكثر من يجيدونها،لكن توظيفها لم يتم بالصورة الصحيحة وإنما انحرف تبعًا لانحراف مجرى الاقتصاد والقائمين عليه والمشتغلين في مجاله. وبهذا أخفقت اللغة الأجنبية في أن تدخلنا القرن العشرين فضلا عن القرن الحادي والعشرين.
وهذا الإخفاق في المجال الأدبي والاقتصادي انسحب أيضًا إلى المجالات الأخرى من أوجه الصناعة والزراعة والطب وغير ذلك فانتهى بنا المطاف إلى الاستيراد العشوائي، دون التمكن في أي مجال من المجالات الحيوية التي يمكن أن نتميز بها أو تكون مصدر قوة لنا في المستقبل.
إن المتأمل في هذا الوضع لابد له أن يتساءل عن السبب المهم في إخفاق اللغة الأجنبية في إدخالنا عصر التقدم والتقنية والرخاء على الرغم من إجادة الملايين منا لهذه اللغة مع ما نملك من الموارد والإمكانات مما لا يوجد لدى كثير من الأمم.
لكن متى كانت اللغة وحدها هي العربة التي تنقل الأمم من حالة التخلف إلى حالة التقدم والرقي؟ ألسنا نشاهد شعوبًا عديدة استبدلت بلغتها لغة أجنبية هي لغة المستعمر الذي كان يبسط نفوذه عليها،فعممت هذه اللغة في تعليمها،وجعلتها لغة الحديث والثقافة والدواوين الرسمية،ثم لم تحصد من وراء ذلك تقدمًا أو رقيًّا بل مازالت ترتكس في التخلف والهوان،وزادت على ذلك بأن تفجرت فيها انشقاقات ضربت وحدتها في الصميم تمثلت بين أنصار الثقافة التقليدية وأنصار الثقافة الأجنبية؟
المشكلة إذن لا تكمن في معرفتنا اللغة، فنحن الآن نمتلك من العارفين باللغة الإنجليزية والمتحدثين بها والكاتبين أعدادًا هائلة بالقدر الذي يمكن أن نقول معه إننا من الناحية الثقافية ليست لدينا أمية في هذا المجال.
لكن المشكلة تكمن في عدم توظيفنا لهذه اللغة الأجنبية التوظيف الصحيح، وعدم تحديد علاقتنا بها بوصفها أداة من أدوات التقدم الضرورية في هذا العصر.
إن ما قمنا به حتى الآن لا يعدو أن يكون توظيفًا للغة لتكون أداة من أدوات العلاقات العامة، التي نتخاطب بها مع الأجانب في التجارة والسياحة والبحوث العلمية، لكننا لم نستفد من هذه اللغة لنقل التجارب الحديثة في شتى المجالات إلى مواطنينا بلغتهم الأم، كي يتوطن العلم وتستنبت التقنية.وإنما اكتفينا في هذا الوضع بجعل هذه اللغة وسيلة للتفاهم بين أصحاب التخصص الواحد، وهؤلاء استسهلوا الكتابة بها، فأخذوا ينشرون بها بحوثهم ويديرون بها ندواتهم ومؤتمراتهم، ويتخاطبون بها فيما بينهم، وكان من نتيجة ذلك أن أخذت معظم البحوث العلمية التي يجريها العلماء العرب تصب في مجرى الفكر الغربي، وتدور في ترس الصناعة الغربية، فلا يكاد يفيد منها الوطن العربي إلا عن طريق الاستيراد والاستهلاك. وأصبحت اللغة الأجنبية إلى جانب عوامل أخرى من العوامل التي تؤدي بالعالم أو المفكر إلى الهجرة والانسلاخ من الوطن لأن الانتماء اللغوي عامل مهم من عوامل الاستقرار العلمي والانتماء الثقافي.
ومع الإخفاق الشديد الذي منيت به تجربتنا مع اللغة الأجنبية كي تكسبنا مكانًا مرموقًا تحت الشمس، فإن كثيرًا من المنظرين والتربويين يرون أن شفاءنا من هذه العلة يكمن في زيادة الاتصال العشوائي بهذه اللغة دون نظر إلى الاحتياجات الحقيقية التي تلزمنا للنهوض من كبوتنا. فتتعالى الأصوات في بلادنا العربية لتدريس اللغة الأجنبية في المدارس الابتدائية منذ السنوات الأولى للطفل العربي وقد بدأت المدارس الخاصة بذلك في كثير من هذه البلدان، ثم تبعتها المدارس الرسمية، وفي بعض البلدان العربية لم يقف الأمر عند هذا الحد وإنما تطور لتعليم جميع المواد بلغة أجنبية ما عدا مواد اللغة العربية والدين.
إن تعليم اللغة الأجنبية في الصفوف الأولى للمدارس الابتدائية يمس قضية من أهم القضايا التربوية ألا وهي قضية الانتماء، ولاشك أن تعليم اللغة الأجنبية في هذه المرحلة يخدش الانتماء القومي والوطني، ويجعل الطفل مشتتًا بين لغتين لغته الأم واللغة الأجنبية، بل مشتتًا بين ثقافتين، مما يحدث تشويشًا لغويًّا وعاطفيًّا، فاللغة لا تؤخذ مجردة وإنما يأتي معها كثير من الأفكار والتصورات الثقافية، مما يؤثر على ولاء الطفل للغته وثقافته، بفضل ما تحاط به اللغة الأجنبية من زخرف وما تملكه من إمكانات هائلة ومغريات عديدة، وما تتمتع به من دعاية إعلامية غوغائية.
لقد جربت بريطانيا تدريس لغة ثانية للأطفال في المرحلة الابتدائية، ثم عدلت عن ذلك خوفًا من تأثيره على ولاء الطفل الإنجليزي لوطنه. واللغة الثانية الآن تعطي للطفل البريطاني في المرحلة التي تعادل المرحلة المتوسطة لدينا، وكذلك الأمر في ألمانيا (التعليم من حولنا، كتاب مجلة المعرفة، الرياض:1422هـ، ص ص69و145).
وهنالك كثير من الدراسات التي تناولت تعلم اللغة بوصفها لغة ثانية للأطفال، وكثير منها يشير بما لا يقبل الجدل إلى عدم جدوى تعليم المواد الدراسية للمتعلم أيًّا كان سنه بلغة غير لغته الأم، (انظر إشارات إلى بعض هذه الدراسات في كتابنا: اللغة العربية في عصر العولمة، الرياض: مكتبة العبيكان سنة1422هـ/2001م ص13 26).
وفي بحث للدكتور ديفيد ولكنز بعنوان (اللغات الثانية كيف نتعلمها ونعلمها)، يشير إلى أن الكثيرين في مناطق من العالم قد عبروا عن "القلق من أن استخدام لغة للتعليم غير اللغة الأم قد أدى إلى نتائج تربوية متدنية، لم تعوضنا المستويات العالية من السيطرة على اللغة الثانية" (ولكنز، ديفيد اللغات الثانية كيف نتعلمها ونعلمها، الموسوعة اللغوية، تحرير ن.ي. كولنج، ترجمة د. محيي الدين حميدي ود. عبد الله الحميدان، الرياض: جامعة الملك سعود 1421هـ 2/540).
والأمر الآخر الذي يحسن التنبه له أن للغة طريقتين للأخذ: طريقة الاكتساب وطريقة التعلم.
أما الطريقة الأولى فتكون بأخذ اللغة في سن مبكرة لا تتعدى العام الثاني عشر من عمر الطفل، وهي مرحلة أخذ اللغة سليقة، لكن الشرط الضروري لنجاح اكتساب اللغة أن يكون التعليم في بيئة اللغة الهدف. أي أن يكون الطالب منغمسًا لغويًّا وثقافيًّا في وسط هذه اللغة. وهذا ما لا يتحقق للطالب العربي في بيئته العربية.
ولهذا فإن الوسيلة الوحيدة العملية لأخذ اللغة الأجنبية بالنسبة لأطفالنا هي اتباع الطريقة الثانية طريقة التعلم، وهي تبدأ في المرحلة المتوسطة. أما المرحلة الابتدائية فأحرى بها أن تُمَحّض لاكتساب اللغة الأم وإجادتها سليقيًّا، وهنالك تجارب عربية مشجعة في هذا المجال. والواقع يشهد بأن معظم مشاهير علمائنا ومثقفينا قد تعلموا اللغة الأجنبية في مراحل متأخرة من أعمارهم، ومع ذلك لم يؤثر ذلك على عطاءاتهم العلمية والثقافية، ولم يقلل من مقدار استفادتهم من معطيات الثقافة الغربية وعلومها.
لم تكن البلبلة في الاقتراب من اللغة الأجنبية مقصورة على التعليم في المراحل الابتدائية أو الأولى من التعليم وإنما استمر الإخفاق في التعامل مع هذه اللغة في التعليم العالي، وإذا عددنا الجامعة المصرية التي أنشئت عام 1908م ممثلة لبدء التعليم الجامعي الحديث في البلاد العربية نكون قد أوشكنا أن نسلخ مئة عام من تاريخ التعليم العالي في البلاد العربية قضيناه في تعليم العلوم العصرية باللغة الأجنبية، ومع طول الزمن الذي استغرقته هذه التجربة إلا أن المخططين وأصحاب القرار لدينا لم يدركوا حتى الآن انعدام الجدوى الحقيقية في تعليم العلوم والطب وغير ذلك من العلوم باللغة الأجنبية.
لقد سيطرت على مؤسسات هذا التعليم فئات لم تستشعر البعد الاستراتيجي المهم لإمكانات التعليم باللغة الأم، كحسن الإفادة من المعطيات العلمية، وسهولة هضمها من قبل الطلاب، إلى جانب توطين العلم في البيئة العربية بنشره بين الجميع عن طريق التأليف والترجمة، فقُضِي على حركات التعريب وانصرف الأساتذة عن لغتهم الأم، وأخذوا يحاضرون ويكتبون بلغات أجنبية (ركيكة في الغالب)، وكان من نتائج ذلك تدهور في مستوى الخريجين، وتراجع في الإبداع والابتكار، وتكريس للتبعية، وتعثر في السيطرة على مقاليد العلم المعاصر، وتخلف عن الركب نشاهده الآن واضحًا مقارنًا بأمم أخرى، ليست لديها العراقة الحضارية ولا الإمكانات المادية أو البشرية التي تملكها أمتنا، ولكنها أدركت أهمية التعليم الجامعي باللغة الأم، فسبقتنا بمسافات كبيرة وحجزت لها مكانًا متقدمًا بين الأمم.
وإذا أخذنا حركة الترجـمة في
البلاد العربية وجدنا أنها تسير بخطى متثاقلة وهي في الغالب مشتتة وفردية، وخاضعة لأمزجة المترجمين والناشرين، وهذا يعني أن الترجمة لدينا عشوائية، ليست موظفة لبلوغ أهداف حيوية كبرى، والمعروف المشهود في الثقافات القديمة والمعاصرة أن الترجمة عمل مؤسسي يخدم استراتيجية وطنية أو قومية كبرى تستهدف النهوض والتقدم. وهذا للأسف ما أخفق العرب في تحقيقه.
ومن أكبر الدلائل على إخفاق التثاقف بيننا وبين الغرب أننا في الأحداث الأخيرة حينما اشتدت الهجمات الإعلامية الشرسة على ديننا وجنسنا وثقافتنا لم يجد الباحثون عن الحقائق عنا إلا ما كتبه أعداؤنا، وما بثته وسائل إعلام العدو عنا، من صحافة وتلفاز وأشرطة سينمائية، صنعت خِصِّيصًا لتشويه صورتنا لدى الآخرين. أو ما خلفته عنا دراسات قديمة منحازة، اعتمدت على صور نمطية للعربي، مستمدة غالبًا من تراث "ألف ليلة وليلة" وغيره من أدب السمر والحكايات الخيالية.
إن الواقع يثبت أن تعاطينا مع اللغة الأجنبية تعليمًا واستعمالا لم يصل بنا إلى الهدف المرجو من النهضة، وأن تأثير هذه اللغة لم يكن بالقدر الذي بذلناه من أجلها واستثمرناه فيها من الجهد والوقت والمال،وعندي أن السبب في ذلك أننا لم نختط لأنفسنا سواء على مستوى الأمة أو الدولة- طريقًا سوية تجعلنا نفيد من الاحتكاك اللغوي بالآخر. وإنما قضينا الوقت كله في استعمال اللغة الأجنبية لتلبية احتياجاتنا الآنية والاستهلاكية ثقافيًّا واجتماعيًّا.
لم يكتب لهذه الأمة أن تخلص لمشروع نهضوي عربي تكون اللغة الأجنبية فيه مفتاحًا للتقدم، ووسيلة لنشر الصورة الصحيحة عنا، ولا أظن أن ذلك سيكون ما لم نتخذ من الوسائل ما اتخذته الأمم الأخرى الناهضة، وأول هذه الوسائل ولعله أهمها استشعار الثقة بلغتنا وثقافتنا، ثم العمل انطلاقًا من هذا المبدأ إلى توظيف اللغة الأجنبية لتكون جسرًا يربط بين الثقافتين العربية والأجنبية عن طريق الإصرار على نقل العلوم ومعارف العصر إلى اللغة العربية، وإيجاد المراكز العلمية المتخصصة في الترجمة لمختلف العلوم والفنون، وتوجيه هذه العلوم والمعارف لخدمة النهضة بوجوهها المختلفة، وتعميق معرفة الآخر بنا عن طريق نقل الثقافة العربية بأبعادها المتعددة إلى اللغات الأجنبية، ورعاية المترجمين الأكْفاء، واستقطاب المترجمين الأجانب وتشجيعهم على المزيد من الترجمة عن اللغة العربية، وفق خطط مرسومة، تراعي الأولويات فيما يترجم من فكر الآخر، وما ننقله من فكرنا إليه، حسب إمكانات كل بلد، وما يتميز به من ثروات بشرية ومادية، وصياغة ذلك كله في مشروع تكاملي ينتظم البلاد العربية جميعًا. عندئذ نستطيع القول إننا وضعنا اللغة العربية في موقعها

الصحيح من حركة التثاقف الحضاري بيننا وبين الغرب.
لأحمد بن محمد الضبيب
عضو المجمع المراسل من السعودية




 

روح الشام

رئيس وزارء البيلسان

إنضم
Dec 4, 2008
المشاركات
13,083
مستوى التفاعل
93
المطرح
iN FaNtAsTiC wOrLd
:24::24::24:

يعطيكي العافة امورتي :24:
 

Life of the soul

أدميرال

إنضم
Oct 18, 2008
المشاركات
10,167
مستوى التفاعل
82
المطرح
بالعالم الغريب ( عالم الضياع )
مشكورة امولتي :24:
 
أعلى