أيلول
نبض السعادة من رحم الألم


- إنضم
- May 31, 2009
- المشاركات
- 3,932
- مستوى التفاعل
- 109
- المطرح
- أرض الله الواسعة
ابكِ قليلًا
وقف على قبر ولده يبكيه ، ويبثه لوعته وأحزانه ، فذهب إليه أحدهم معزياً ،
وقال له: يا عماه ، إن بكاءك لن يعيد الذي راح .. فنظر إليه الرجل بعين دامعة ، وقال : أعلم .. ولهذا أبكي !!
إن الدموع تطهير للنفس ، ونقاء للصدر ، وتصبير للروح ، والمرء الذي يأبى أن يغسل عينيه بدموع الحزن والألم والندم لهو امرؤ قد ضلّ الطريق !!
فهذا يعقوب - عليه السلام - قد ابيضّت عيناه من الحزن على ولده .. يبكيه حتى ذهب بصره .
وذاك محمد - عليه الصلاة والسلام - بكى صغيره إبراهيم .. حتى تعجّب البعض ، وقد ظنوا أن مثله لا يُراق له دمع .
وإننا إذ ننظر فلن نجد نبياً إلا وله مع الدموع حكايات ..
دموع ندم على ذنب ، ودموع تقصير في جنب الله ، ودموع فراق لأحباب وأهل ..
تتعدد الأسباب .. والدمع واحد .
ولله درّ شاعر النيل حافظ إبراهيم إذ يناجي ربه ، قائلا :
يا من خلقت الدمع لطفاً منك بالباكي الحزين .. بارك لعبدك في الدموع فإنها نعم المعين
إن أسوأ ما نفعله أن نحبس الدمع ؛ ظنًا منا أننا بذلك ندلل على قوتنا ، وقدرتنا ، ورباطة جأشنا ، ولا ندري حينها أننا بذلك نوقف ساعة المشاعر عن الدوران ، وبأننا نخالف نواميس الحياة .
لام بعضهم نبينا - صلى الله عليه وسلم - عندما بكى ولده إبراهيم ، فأجابهم قائلاً ودمعه لم يجف : "إنها رحمة".
نعم .. دموعنا رحمة ، تشهد لنا أمام أنفسنا أننا أضعف كثيرا مما نظنّ ، وبأننا رغم ما نُبديه من صلابة وشدة وقسوة ، بشر.. نتألم فنبكي!
وما زالت مدارس علم النفس تخبرنا بين الحين والآخر عن فوائد البكاء ، وخطورة حبسها ، مؤكدة على أن القوي هو ذلك الشخص الذي يعبّر عن مشاعره دون خشية من أن يتهمه أحدهم بالضعف أو الخوار ، وبأنه إذ يبكي فإنه يعبّر عن أحاسيسه الصادقة ، معطيا لروحه حقها في التعبير عما يجول بها من مشاعر الحزن والألم والانكسار.
بيد أنني أحب أن أقف على شيئين في غاية الأهمية ؛
أما الأول فإن الدموع تكتسب عزّتها من قلّتها ، وأنا إذ أؤكد على أهمية أن يبكي الواحد منا ، فإنني أشدد على أن يكون بكاؤه بعيداً عن أعين الناس ، وأن يقاوم إظهارها على البشر إلا ما تعذّر منعه.
وأما الثاني فلا تستخف بالدموع إذ تتلألأ في محاجر من تعرفهم ، إياك أن تراها في أعين الكبار فتستصغر شأنهم ، أو تراها في أعين الصغار فتستخفّ بدمعهم ، أن تردد على أسماع أصحاب الدموع عبارات قاسية سخيفة من نوعية "كن رجلا"، أو "عيب عليك أن تبكي"، دون أن تدرك بأن الدمع يتفجّر من ينبوع حار ،
لا يحتاج إلى أن تزيد حرارته بلوم أو تقريع أو سخرية.
نحن بحاجة أن نخبر من نحبهم عندما يبكون أن دموعهم غالية علينا
، وأنها لا تنزل على خدودهم ، إلا بمقدار ما تنزل على قلوبنا ..
بقي أن نقول إن الدموع غالية ، بيد أن أغلاها تلك التي نذرفها بانكسار إلى الله ، دموع المستغفر المنيب ، والتائب العائد لربه حاملاً بين يديه ذنوباً لا يغفرها إلا ربّ ، يُقدّر دموع عبيده ، ويسعد بها ، إذ تدلل على أنهم ما زالوا - رغم خطئهم وزلّتهم - يرجون رحمته ، ويتطلّعون لرضوانه.
وشتان بين دموع الدنيا ودموع الآخرة ، بين دموع النادم الراجي للعفو ، ودموع النادم القانط من فرصة أخرى يعيد بها تصحيح ما كان .
فابكِ يا صديقي ..
فإن دموع الحزن برهان على إنسانيتك ، ودموع الندم برهان على عبوديتك .