الحرالباكي
بيلساني لواء
- إنضم
- Apr 20, 2009
- المشاركات
- 3,591
- مستوى التفاعل
- 46
- المطرح
- طرابلس الغرب/حي الأندلس
إِنَّ الْحَمْدَ لِلّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾[آل عمران: 102].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾[النساء: 1].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا*يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾[الأحزاب: 70-71].
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله... أما بعد:
أيها المسلمون: ما أسرع ما تنقضي الليالي والأيام، وما أعجلَ ما تنصرم الشهور والأعوام، وهكذا حال الدنيا، سريعةُ الزوال، قريبةُ الاضمحلال، لا يدوم لها حال، ولا يطمئنّ لها بال، وهذه سُنة الله في خلقه، أدوارٌ وأطوارٌ تجري بأجل مسمى و{لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} [(38) سورة الرعد]، وإن أهل التفكر والتعقل وأصحاب التبصر والتأمُّل ليدركون تلك الحقائق حقَّ الإدراك، فيأخذون من تعاقب الأزمان أعظم معتبر، ويستلهمون من انصرام الأيام أكبرَ مزدجر، يقول الله -جل وعلا-: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ} [(190) سورة آل عمران].
أيها المسلمون: بدأنا نودع شهرنا الكريم، وقد أحسن فيه أناس وأساء آخرون وهو شاهد لنا أو علينا بما أودعناه من أعمال، شاهد للمشمرين بصيامهم وقيامهم وبرهم وإحسانهم، وعلى المقصرين بغفلتهم وإعراضهم وشحهم وعصيانهم، ولا ندري هل سندركه مرة أخرى، أم يحول بيننا وبينه هادم اللذات ومفرق الجماعات.
إني أتخيلك يا أخي الحبيب في أيامك القليلة المنصرمة عندما كنت تقبل على كتاب ربك لتبدأ به يومك، فكأني بك وقد أخذت زاوية في المسجد تتغنى بآي الكتاب، تقف عند عجائبه، وتلتقط من درره، وتقطف من ثماره، ترجو عفو ربك، وترنو إلى رحمته، فأبشر ثم أبشر بقول نبيك -صلى الله عليه وسلم-، كما روى الترمذي وصححه من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه-: ((من قرأ حرفاً من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول ألم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف)). وما إن تختم حتى تعاود البدء من جديد، لا تَكلّ ولا تَملّ، بل تأنس وتسعد، وكيف لا تسعد ونبيك -عليه الصلاة والسلام- يقول كما في حديث أبي أمامة الباهلي الذي أخرجه مسلم: ((اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه)).
لقد رأيناك، فرأينا حرصك الشديد على أداء الصلوات مع جماعة المسلمين في بيوت الله، أول الحاضرين وآخر المنصرفين، تصلي صلاة الخاشعين المتقين. وعند المغيب إخبات وانكسار، ودعاء وخضوع، لم يزل الخيال يحمل ذلك المنظر الزاهي، يعبر عن لوحة من الصدق والإخلاص في العبودية، وأنت ترفع أكف الضراعة إلى ربك ومولاك، ومائدتك أمامك قبيل الأذان، تسأله العفو والصفح، وأنت تردد: اللهم لا تجعل حظي من صيامي الجوع والعطش.
فبشراك بشراك قول حبيبك -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه الإمام أحمد عن جابر -رضي الله عنه- بسند جيد: ((لكل مسلم دعوة مستجابة يدعو بها في رمضان)).
أما الليل، فما أدراك ما الليل؟ حين يرخي سدوله، رأيناك تقبل بصفاء نفس ونقاء قلب، لتصف الأقدام خلف الإمام، تصلي وتحيي الليل، تسمع القرآن فتطرب لسماعه، ما تمر بوعد إلا سألت، ولا وعيد إلا استعذت ولا ثناء إلا أثنيت وسبّحت، لم تضجر ولم تسأم من طول قيام الإمام وقراءته، بل كنت ترجو المزيد، فلك التهنئة والتبشير، كما في المتفق عليه: ((من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)). وإذا قضى الإمام قراءته وقام لوتره، رفعت يديك بتذلل وخضوع تؤمّن وترجو، ومع هذا كله كنت لا تملك عينيك وأنت تسمع الآية أو الدعاء، فتسارع الدمعات على صفحات وجهك الطاهر، فلله درك يوم أن تفوز بظل الله حين يكثر العرق، ويعظم الزحام، وتدنو الشمس من رؤوس الخلائق، فتدخل في تلك الزمرة الطيبة: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله)) وذكر منهم: ((ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه)).
وحين أَزِف الشهر على الرحيل، ودخلت عشره الخاتمة خرجت في أعظم الأوقات، في الوقت الذي ينـزل فيه الرب -سبحانه وتعالى- إلى السماء الدنيا، فينادي وهو الغني عن طاعتك وعبادتك: ((هل من سائل فأعطيه؟ هل من داع فأستجيب له؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟)).
لقد رأيناك وأنت تخرج والظلام الدامس يغطي ربوع الكون، في وقت هدأت فيه الأصوات، وخلد البطّالون المحرومون إلى الراحة والنوم، فلا يسمع لهم إلا الغطيط، خرجت أنت، تقرع بقدميك الطاهرتين الأرض، تحثُّ المسير إلى بيت من بيوت الله، قد هجرت الفراش الوثير، ولذيذ المنام، لتصلي مع جموع المتقين، فهنيئاً لك قول ربك ومولاك: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [(16) سورة السجدة]، فليت شعري ما أبهاها من صورة والإمام يرتل القرآن، والمسلمون خلفه يستمعون بالقلوب والأسماع، فلله ما أعظم هذا الجمع، وما أسعده يوم يباهي بهم ربهم ملائكته.
في هذه اللحظات كم من غارق في شهوته، ولاهث وراء ملذته، كم من الناس سكارى وما هم بسكارى، يلهثون وراء الدينار والدرهم. في الساعة الشريفة، يَدعُوهم ربهم للتوبة فيُعرضون، يتكفل لهم بالغفران فلا يستغفرون، يأمرهم بالسؤال فيستكبرون.
وهكذا كانت حياتك أيها الحبيب، مذ هلّ هلال شهر رمضان المبارك، صلاة وذكر، صيام وقيام، خشوع وبكاء، خضوع ودعاء، صدقة وبر. إنك توافقني بلا تردد، أنك شعرت بشيء غريب، لم تكن تشعر به من قبل، راحة وإيمان، أنس وطمأنينة، نعيم وسرور، قلب خاشع، ونفس منكسرة خاضعة، عيون دامعة، وألسن ذاكرة، جوارح مخبتة متذللة.
إنها السعادة التي يبحث عنها الكثير من الناس، الغني والفقير، الكبير والصغير، الشريف والحقير، العظيم والذليل، الكل يبحث عنها، يرجوها، ينشدها. السعادة، التي قال عنها أحدهم: إنه ليمر بالقلب ساعات أقول: إن كان أهل الجنة على مثل ما أنا فيه، إنهم لفي نعيم عظيم. تلك هي السعادة التي كنا نبحث عنها منذ زمن بعيد، تلك هي جنة الدنيا، قَطَفت من ثمارها شيئاً يسيراً، ولاحت لك أنهارها وأطيارها، فعجبت من جمالها. فإليك رسالة تخترق التاريخ وتشق عباب بحور السنين، رسالة يبعثها سلف الأمة إليك تقول حروفها: "إن في الدنيا جنة، من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة".
وبعد كل هذا النعيم الذي رأيناه في شهرنا المبارك، رأينا إقبال الناس على الطاعة بأنواعها من فرض ونفل، لابد من سؤال تحتاج الإجابة عنه إلى تجرد وصدق ونظر في الواقع قبل إلقاء الجواب، ذلكم السؤال هو: هل لتلكم الطاعات أثرٌ في حياتنا في عباداتنا في تعاملنا في أخلاقنا في أقوالنا في أفعالنا؟ هل تحقق فينا قول ربنا -جل وعلا-: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} [(45) سورة العنكبوت]؟ هل انتهينا عن المنكرات؟ ماذا عن أقوالك؟ عن صدقك في الحديث والمعاملة؟ ماذا عن المنكرات التي عمت في كثير من البيوت إلا من رحم الله؟ سهر ومسلسلات، طرب وفضائيات، ضياع للأوقات، ومحاربة لرب الأرض والسماوات.
أين أثر الصلاة؟ أين أثر البكاء والدعاء؟ أين نتاج الخشوع والخضوع؟ أم أن القضية أضحت عادات، حركات وسكنات، لا روح فيها ولا طعم؟ أين أنت من قول نبيك -صلى الله عليه وسلم- كما عند البخاري من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: ((من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه))؟، من الذي أمرك بالصلاة في رمضان؟ من الذي أمرك بالصيام بالصدقة والذكر؟ تقرأ كلام من؟ وترتل كتاب من؟ أليس هو الله؟ الله الذي أمرك بالصلاة في رمضان هو الذي يأمرك بالصلاة في كل يوم من أيام السنة، أمرك بالصيام والذكر والدعاء في رمضان وغيره.
إذاً ما الذي جرى؟ ما هذا الخلط العجيب في فهم العبودية؟ قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [(162) سورة الأنعام]، وقال تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [(99) سورة الحجر]، وفي حديث عائشة -رضي الله عنها- المتفق عليه: ((وكان أحب الدين إليه ما داوم صاحبه عليه))، وعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((يا عبد الله لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل))، وفي الحديث: ((إن أحب الأعمال إلى الله أدومه وإن قلّ)).
فهاهي العشر الأواخر من رمضان على الأبواب ، ها هي خلاصة رمضان ،
و زبدة رمضان ، و تاج رمضان قد قدمت .
فيا ترى كيف نستقبلها ؟
لقد كان رسول الله
يخص هذه العشر الأواخر بعدة أعمال .
ففي الصحيحين من حديث عائشة : ( كان رسول الله إذا دخلت العشر شد مئزره و أحيا ليله و أيقظ أهله ) و لفظ لمسلم : ( أحيا ليله و أيقظ أهله ) و لها عند مسلم : ( كان رسول الله يجتهد في العشر ما لا يجتهد غي غيرها )
و لها في الصحيحين : ( أن النبي كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله ).
و في الصحيحين من حديث أبي هريرة نهى رسول الله عن الوصال في الصوم فقال له رجل من المسلمين : إنك تواصل يا رسول الله ؟
قال : و أيكم مثلي إني أبيت عند ربي يطعمني و يسقيني ).
فمن هذه الأحاديث نرى أن النبي كان يجتهد بالأعمال التالية : في العشر الأخير من الشهر المبارك
أيقاظ أهله : و ما ذاك إلا شفقة و رحمة بهم حتى لا يفوتهم هذا الخير في هذه الليالي العشر .
إحياء الليل : فإنه إذا كان رمضان كان يقوم و ينام ، حتى إذا ما دخلت العشر الأواخر أحيا الليل كله أو جله ، فقد أخرج أصحاب السنن بإسناد صحيح من حديث أبي ذر
صمنا مع رسول الله في رمضان فلم يقم بنا شيئا منه حتى بقي سبع ليال ، فقام بنا السابعة حتى مضى نحو من ثلث الليل ، ثم كانت التي تليها ... حتى كانت الثالثة فجمع أهله و اجتمع الناس فقام حتى خشينا الفلاح . فقلت : و ما الفلاح ؟ قال : السحور .
شد المئزر : و المراد به اعتزال النساء كما فسره سفيان الثوري و غيره .
الاعتكاف : و هو لزوم المسجد للعبادة و تفريغ القلب للتفكر و الاعتبار .
الوصال : وهو أنه صلى الله عليه و سلم كان لا يأكل شيئا أبدا لمدة أيام وهذا من خصائصه .ففي الصحيحين من حديث ابن عمر أن رسول الله واصل في رمضان فواصل الناس فنهاهم ، فقيل : إنك تواصل ، فقال : ((إني لست مثلكم إني أُطعم و أُسقى)) ، ولهما من حديث أبي هريرة (( و أيكم مثلي ، إني أبيت يطعمني ربي و يسقيني)) و عند مسلم من حديث أنس (( أن النبي نهاهم عن الوصال فأبوا أن ينتهوا ، واصل بهم يوما ثم يوما ثم رأوا الهلال فقال : ( لو تأخر لزتكم ) كالمنكل لهم .وفي لفظ عند مسلم (( لو مد الشهر لواصلنا وصالا يدع المتعمقون تعمقهم ..)) فمن هذه الأحاديث نعلم أن الرسول كان يواصل الصيام في العشر الأواخر بدليل أنهم رأوا الهلال و هذا لا يكون إلا في آخر الشهر . وأيضا شدة حرص الصحابة على الإقتداء به . وأيضا أن المراد بالإطعام و السقاء ليس هو طعام وسقاء حقيقي بل المراد ما يغذيه الله لنبيه من معارف و ما يفيض على قلبه من لذة مناجاته و قرة عينه بقربه و تنعمه بحبه و الشوق إليه و توابع ذلك من الأحوال التي هي غذاء القلب و نعيم الروح و قرة العين و بهجة النفوس و الروح و القلب بما هو أعظم غذاء و أجوده و أنفعه حتى يغني عن غذاء الأجسام مدة من الزمن .
و من له أدنى تجربة و شوق يعلم استغناء الجسم بغذاء القلب و الروح عن كثير من الغذاء الحيواني ، و لا سيما المسرور الفرحان الظافر بمطلوبه الذي قرت عينه بمحبوبه ، و تنعم بقربه ، و الرضى عنه ، و ألطاف محبوبه و هداياه و تحفه تصل إليه كل وقت ، ومحبوبه حفي به ، معتنٍ بأمره ، مكرم له غاية الإكرام مع المحبة التامة له ، أفليس في هذا أعظم غذاء لهذا المحب ؟ فكيف بالحبيب الذي لا أجل منه و أعظم ، و لا أجمل و لا أكمل و لا أعظم إحسانا إذا امتلأ قلب المحب بحبه ، و ملك حبه جميع أجزاء قلبه و جوارحه و تمكن حبه منه أعظم تمكن ، وهذا حاله مع حبيبه ، أفليس هذا المحب عند حبيبه يطعمه و يسقيه ليلا و نهارا ؟ و لهذا قال
(( إني أظل عند ربي يطعمني و يسقيني ))
(( و لو كان ذلك طعاما و شرابا للفم ، لما كان صائما فضلا عن كونه مواصلا ))
اهـ . كلام ابن القيم من الزاد
فيا أيها المسلمون: الدرس الحقيقي من شهر الصيام، أنه مثال مصغر لتحقيق العبودية لله -سبحانه وتعالى-، فليكن منطلقاً لتحقيقها في جميع الأزمان والأحوال.
اقول قولي هذا واستغفرالله العظيم لي ولكم
ويا فوز المستغفرين
.............
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله... أما بعد:
أيها المسلمون: ما أسرع ما تنقضي الليالي والأيام، وما أعجلَ ما تنصرم الشهور والأعوام، وهكذا حال الدنيا، سريعةُ الزوال، قريبةُ الاضمحلال، لا يدوم لها حال، ولا يطمئنّ لها بال، وهذه سُنة الله في خلقه، أدوارٌ وأطوارٌ تجري بأجل مسمى و{لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} [(38) سورة الرعد]، وإن أهل التفكر والتعقل وأصحاب التبصر والتأمُّل ليدركون تلك الحقائق حقَّ الإدراك، فيأخذون من تعاقب الأزمان أعظم معتبر، ويستلهمون من انصرام الأيام أكبرَ مزدجر، يقول الله -جل وعلا-: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ} [(190) سورة آل عمران].
أيها المسلمون: بدأنا نودع شهرنا الكريم، وقد أحسن فيه أناس وأساء آخرون وهو شاهد لنا أو علينا بما أودعناه من أعمال، شاهد للمشمرين بصيامهم وقيامهم وبرهم وإحسانهم، وعلى المقصرين بغفلتهم وإعراضهم وشحهم وعصيانهم، ولا ندري هل سندركه مرة أخرى، أم يحول بيننا وبينه هادم اللذات ومفرق الجماعات.
إني أتخيلك يا أخي الحبيب في أيامك القليلة المنصرمة عندما كنت تقبل على كتاب ربك لتبدأ به يومك، فكأني بك وقد أخذت زاوية في المسجد تتغنى بآي الكتاب، تقف عند عجائبه، وتلتقط من درره، وتقطف من ثماره، ترجو عفو ربك، وترنو إلى رحمته، فأبشر ثم أبشر بقول نبيك -صلى الله عليه وسلم-، كما روى الترمذي وصححه من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه-: ((من قرأ حرفاً من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول ألم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف)). وما إن تختم حتى تعاود البدء من جديد، لا تَكلّ ولا تَملّ، بل تأنس وتسعد، وكيف لا تسعد ونبيك -عليه الصلاة والسلام- يقول كما في حديث أبي أمامة الباهلي الذي أخرجه مسلم: ((اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه)).
لقد رأيناك، فرأينا حرصك الشديد على أداء الصلوات مع جماعة المسلمين في بيوت الله، أول الحاضرين وآخر المنصرفين، تصلي صلاة الخاشعين المتقين. وعند المغيب إخبات وانكسار، ودعاء وخضوع، لم يزل الخيال يحمل ذلك المنظر الزاهي، يعبر عن لوحة من الصدق والإخلاص في العبودية، وأنت ترفع أكف الضراعة إلى ربك ومولاك، ومائدتك أمامك قبيل الأذان، تسأله العفو والصفح، وأنت تردد: اللهم لا تجعل حظي من صيامي الجوع والعطش.
فبشراك بشراك قول حبيبك -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه الإمام أحمد عن جابر -رضي الله عنه- بسند جيد: ((لكل مسلم دعوة مستجابة يدعو بها في رمضان)).
أما الليل، فما أدراك ما الليل؟ حين يرخي سدوله، رأيناك تقبل بصفاء نفس ونقاء قلب، لتصف الأقدام خلف الإمام، تصلي وتحيي الليل، تسمع القرآن فتطرب لسماعه، ما تمر بوعد إلا سألت، ولا وعيد إلا استعذت ولا ثناء إلا أثنيت وسبّحت، لم تضجر ولم تسأم من طول قيام الإمام وقراءته، بل كنت ترجو المزيد، فلك التهنئة والتبشير، كما في المتفق عليه: ((من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)). وإذا قضى الإمام قراءته وقام لوتره، رفعت يديك بتذلل وخضوع تؤمّن وترجو، ومع هذا كله كنت لا تملك عينيك وأنت تسمع الآية أو الدعاء، فتسارع الدمعات على صفحات وجهك الطاهر، فلله درك يوم أن تفوز بظل الله حين يكثر العرق، ويعظم الزحام، وتدنو الشمس من رؤوس الخلائق، فتدخل في تلك الزمرة الطيبة: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله)) وذكر منهم: ((ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه)).
وحين أَزِف الشهر على الرحيل، ودخلت عشره الخاتمة خرجت في أعظم الأوقات، في الوقت الذي ينـزل فيه الرب -سبحانه وتعالى- إلى السماء الدنيا، فينادي وهو الغني عن طاعتك وعبادتك: ((هل من سائل فأعطيه؟ هل من داع فأستجيب له؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟)).
لقد رأيناك وأنت تخرج والظلام الدامس يغطي ربوع الكون، في وقت هدأت فيه الأصوات، وخلد البطّالون المحرومون إلى الراحة والنوم، فلا يسمع لهم إلا الغطيط، خرجت أنت، تقرع بقدميك الطاهرتين الأرض، تحثُّ المسير إلى بيت من بيوت الله، قد هجرت الفراش الوثير، ولذيذ المنام، لتصلي مع جموع المتقين، فهنيئاً لك قول ربك ومولاك: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [(16) سورة السجدة]، فليت شعري ما أبهاها من صورة والإمام يرتل القرآن، والمسلمون خلفه يستمعون بالقلوب والأسماع، فلله ما أعظم هذا الجمع، وما أسعده يوم يباهي بهم ربهم ملائكته.
في هذه اللحظات كم من غارق في شهوته، ولاهث وراء ملذته، كم من الناس سكارى وما هم بسكارى، يلهثون وراء الدينار والدرهم. في الساعة الشريفة، يَدعُوهم ربهم للتوبة فيُعرضون، يتكفل لهم بالغفران فلا يستغفرون، يأمرهم بالسؤال فيستكبرون.
وهكذا كانت حياتك أيها الحبيب، مذ هلّ هلال شهر رمضان المبارك، صلاة وذكر، صيام وقيام، خشوع وبكاء، خضوع ودعاء، صدقة وبر. إنك توافقني بلا تردد، أنك شعرت بشيء غريب، لم تكن تشعر به من قبل، راحة وإيمان، أنس وطمأنينة، نعيم وسرور، قلب خاشع، ونفس منكسرة خاضعة، عيون دامعة، وألسن ذاكرة، جوارح مخبتة متذللة.
إنها السعادة التي يبحث عنها الكثير من الناس، الغني والفقير، الكبير والصغير، الشريف والحقير، العظيم والذليل، الكل يبحث عنها، يرجوها، ينشدها. السعادة، التي قال عنها أحدهم: إنه ليمر بالقلب ساعات أقول: إن كان أهل الجنة على مثل ما أنا فيه، إنهم لفي نعيم عظيم. تلك هي السعادة التي كنا نبحث عنها منذ زمن بعيد، تلك هي جنة الدنيا، قَطَفت من ثمارها شيئاً يسيراً، ولاحت لك أنهارها وأطيارها، فعجبت من جمالها. فإليك رسالة تخترق التاريخ وتشق عباب بحور السنين، رسالة يبعثها سلف الأمة إليك تقول حروفها: "إن في الدنيا جنة، من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة".
وبعد كل هذا النعيم الذي رأيناه في شهرنا المبارك، رأينا إقبال الناس على الطاعة بأنواعها من فرض ونفل، لابد من سؤال تحتاج الإجابة عنه إلى تجرد وصدق ونظر في الواقع قبل إلقاء الجواب، ذلكم السؤال هو: هل لتلكم الطاعات أثرٌ في حياتنا في عباداتنا في تعاملنا في أخلاقنا في أقوالنا في أفعالنا؟ هل تحقق فينا قول ربنا -جل وعلا-: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} [(45) سورة العنكبوت]؟ هل انتهينا عن المنكرات؟ ماذا عن أقوالك؟ عن صدقك في الحديث والمعاملة؟ ماذا عن المنكرات التي عمت في كثير من البيوت إلا من رحم الله؟ سهر ومسلسلات، طرب وفضائيات، ضياع للأوقات، ومحاربة لرب الأرض والسماوات.
أين أثر الصلاة؟ أين أثر البكاء والدعاء؟ أين نتاج الخشوع والخضوع؟ أم أن القضية أضحت عادات، حركات وسكنات، لا روح فيها ولا طعم؟ أين أنت من قول نبيك -صلى الله عليه وسلم- كما عند البخاري من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: ((من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه))؟، من الذي أمرك بالصلاة في رمضان؟ من الذي أمرك بالصيام بالصدقة والذكر؟ تقرأ كلام من؟ وترتل كتاب من؟ أليس هو الله؟ الله الذي أمرك بالصلاة في رمضان هو الذي يأمرك بالصلاة في كل يوم من أيام السنة، أمرك بالصيام والذكر والدعاء في رمضان وغيره.
إذاً ما الذي جرى؟ ما هذا الخلط العجيب في فهم العبودية؟ قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [(162) سورة الأنعام]، وقال تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [(99) سورة الحجر]، وفي حديث عائشة -رضي الله عنها- المتفق عليه: ((وكان أحب الدين إليه ما داوم صاحبه عليه))، وعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((يا عبد الله لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل))، وفي الحديث: ((إن أحب الأعمال إلى الله أدومه وإن قلّ)).
فهاهي العشر الأواخر من رمضان على الأبواب ، ها هي خلاصة رمضان ،
و زبدة رمضان ، و تاج رمضان قد قدمت .
فيا ترى كيف نستقبلها ؟
لقد كان رسول الله
ففي الصحيحين من حديث عائشة : ( كان رسول الله إذا دخلت العشر شد مئزره و أحيا ليله و أيقظ أهله ) و لفظ لمسلم : ( أحيا ليله و أيقظ أهله ) و لها عند مسلم : ( كان رسول الله يجتهد في العشر ما لا يجتهد غي غيرها )
و لها في الصحيحين : ( أن النبي كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله ).
و في الصحيحين من حديث أبي هريرة نهى رسول الله عن الوصال في الصوم فقال له رجل من المسلمين : إنك تواصل يا رسول الله ؟
قال : و أيكم مثلي إني أبيت عند ربي يطعمني و يسقيني ).
فمن هذه الأحاديث نرى أن النبي كان يجتهد بالأعمال التالية : في العشر الأخير من الشهر المبارك
أيقاظ أهله : و ما ذاك إلا شفقة و رحمة بهم حتى لا يفوتهم هذا الخير في هذه الليالي العشر .
إحياء الليل : فإنه إذا كان رمضان كان يقوم و ينام ، حتى إذا ما دخلت العشر الأواخر أحيا الليل كله أو جله ، فقد أخرج أصحاب السنن بإسناد صحيح من حديث أبي ذر
شد المئزر : و المراد به اعتزال النساء كما فسره سفيان الثوري و غيره .
الاعتكاف : و هو لزوم المسجد للعبادة و تفريغ القلب للتفكر و الاعتبار .
الوصال : وهو أنه صلى الله عليه و سلم كان لا يأكل شيئا أبدا لمدة أيام وهذا من خصائصه .ففي الصحيحين من حديث ابن عمر أن رسول الله واصل في رمضان فواصل الناس فنهاهم ، فقيل : إنك تواصل ، فقال : ((إني لست مثلكم إني أُطعم و أُسقى)) ، ولهما من حديث أبي هريرة (( و أيكم مثلي ، إني أبيت يطعمني ربي و يسقيني)) و عند مسلم من حديث أنس (( أن النبي نهاهم عن الوصال فأبوا أن ينتهوا ، واصل بهم يوما ثم يوما ثم رأوا الهلال فقال : ( لو تأخر لزتكم ) كالمنكل لهم .وفي لفظ عند مسلم (( لو مد الشهر لواصلنا وصالا يدع المتعمقون تعمقهم ..)) فمن هذه الأحاديث نعلم أن الرسول كان يواصل الصيام في العشر الأواخر بدليل أنهم رأوا الهلال و هذا لا يكون إلا في آخر الشهر . وأيضا شدة حرص الصحابة على الإقتداء به . وأيضا أن المراد بالإطعام و السقاء ليس هو طعام وسقاء حقيقي بل المراد ما يغذيه الله لنبيه من معارف و ما يفيض على قلبه من لذة مناجاته و قرة عينه بقربه و تنعمه بحبه و الشوق إليه و توابع ذلك من الأحوال التي هي غذاء القلب و نعيم الروح و قرة العين و بهجة النفوس و الروح و القلب بما هو أعظم غذاء و أجوده و أنفعه حتى يغني عن غذاء الأجسام مدة من الزمن .
و من له أدنى تجربة و شوق يعلم استغناء الجسم بغذاء القلب و الروح عن كثير من الغذاء الحيواني ، و لا سيما المسرور الفرحان الظافر بمطلوبه الذي قرت عينه بمحبوبه ، و تنعم بقربه ، و الرضى عنه ، و ألطاف محبوبه و هداياه و تحفه تصل إليه كل وقت ، ومحبوبه حفي به ، معتنٍ بأمره ، مكرم له غاية الإكرام مع المحبة التامة له ، أفليس في هذا أعظم غذاء لهذا المحب ؟ فكيف بالحبيب الذي لا أجل منه و أعظم ، و لا أجمل و لا أكمل و لا أعظم إحسانا إذا امتلأ قلب المحب بحبه ، و ملك حبه جميع أجزاء قلبه و جوارحه و تمكن حبه منه أعظم تمكن ، وهذا حاله مع حبيبه ، أفليس هذا المحب عند حبيبه يطعمه و يسقيه ليلا و نهارا ؟ و لهذا قال
(( إني أظل عند ربي يطعمني و يسقيني ))
(( و لو كان ذلك طعاما و شرابا للفم ، لما كان صائما فضلا عن كونه مواصلا ))
اهـ . كلام ابن القيم من الزاد
فيا أيها المسلمون: الدرس الحقيقي من شهر الصيام، أنه مثال مصغر لتحقيق العبودية لله -سبحانه وتعالى-، فليكن منطلقاً لتحقيقها في جميع الأزمان والأحوال.
اقول قولي هذا واستغفرالله العظيم لي ولكم
ويا فوز المستغفرين
.............