الصّحابة رسول الله الكرام .. في سطور الحلقة (16) خالد بن الوليد
اعتنقَ أبو بكر الصديق الإسلام فعاشه حبًّا، وحكاه صدقًا، وعشق عمر الإسلام فعاشه شجاعةً وحكاه عدلاً،
وأما خالد بن الوليد فقد اعتنقَ الإسلام فعاشه فروسيّةً وشجاعة، وحكاه انتصارات ومفاخر.
صحابي جليل، وقائد شجاع عبقريّ مقدام.
فارس قريش المظفّر، وحاملُ لواء النّصر للمسلمين في كلّ غزوة شهدها.
بايعَ رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- وقال له: "يا رسول الله إني قد رأيت ما كنت أشهد من تلك المواطن عليك معانداً للحقّ،
فادعُ الله أن يغفرها لي". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: "الإسلام يجبُّ ماكان قبله"،
ثمّ دعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم لخالد وقال: "اللهم اغفر لخالد بن الوليد كلّ ما أوضع فيه من صدّ عن سبيل الله".
كان خالدٌ مع شجاعته مُنصفًا محبًّا للحق؛ لم يُعرف عنه أنه ظلم أحدًا، أو استغلّ شجاعته في الاعتداء على أحد.
كان مخلصًا ومقدامًا ومطيعًا يحبّ النظام، وينفّذ أوامر قادة الإسلام برحابة صدر.
- لقّبه رسول الله صلى الله عليه وسلّم "سيف الله المسلول".
- تمكّن من إنقاذ جيش المسلمين والانسحاب بهم يوم مؤتة.
- كان أمير الجناح الأيمن للجيش الذي فتح مكّة.
- قاتلَ المرتدين ببسالة وأذاقهم مرارة الخسارة في معركة اليمامة وهزم مسيلمة.
- انتصر على الفرس في العراق، وعلى الروم في الشام..
- عزله عمر بن الخطّاب في أثناء فتح دمشق، ولكنّ أبا عبيدة أخفى عنه الكتاب حتى لا يحرمه لذّة النّصر،
وعقب حصول الفتح، أبلغ أبو عبيدة خالداً بالخبر فتقبّله، ولم يُبدِ أي إزعاج.
وكتب عمر إلى الأمصار: "إني لم أعزل خالداً عن سُخطة ولا خيانة، ولكنّ الناس فخّموه، وفُتنوا به فخفت أن يوكَلوا إليه،
فأحببت أن يعلموا أن الله هو الصانع وألا يكونوا بعرض فتنة". [الكامل في التاريخ ج1 ص: 441].
- مات على فراشه في حمص وقال: "لقد شهدتُ كذا وكذا زحفاً، وما في جسدي موضعٌ إلا وفيه ضربة سيفٍ أو طعنة رُمح أو رمية سهمٍ..
ثم ها أنا ذا أموت على فراشي حتف أنفي كما يموت البعير، فلا نامت أعينُ الجبناء..".
رحم الله خالد بن الوليد، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وجعل مقامه في علّيين.
موضوع رائع وجبار للتعرف على الصحابة رضى الله عنهم آجمعين
بتمنى ما يتوقف ابداً وتستمري على المجهود
ويجعله ثقل في ميزان حسناتك ويرفع من شأنك عند الله سبحانه
ويجمعنا وياك في يوم المحشر معهم ...قولي آمين
الصحابة رسول الله الكرام.. في سطور الحلقة (17) صهيب بن سنان الرومي
عاد إلى مكة بعد معاناةٍ طويلة فارًّا من أرض الروم الذين سَبوه وهو صغير السنّ.... وما إن عاد حتّى سمع ببعثة محمد صلى الله عليه وسلّم، فقَصَد دارَ الأرقم بن أبي الأرقم ليرويَ ظمأ قلبه بكأس التوحيد العَذبة... ويملأ قسمات وجهه من شمس النبّوة المشرقة..
إنه صهيب بن سنان النّميريّ الذي كان من السابقين إلى الإسلام، الذين أظهروا إسلامهم. ولقي من التّعذيب ما لقي مع عمار وبلال وخبّاب.... وكان يتحمّل الأذى صابراً مُحتسباً.
تبعَ النبي وأبا بكر في هجرتهما إلى المدينة، ولكنّ مجموعةً من فتيان قريش تبعوه، لكنّهم رجعوا عندما دلّهم على مكان أمواله في مكّة.
تابع الهجرة، وأدرك النبي صلى الله عليه وسلّم بقُباء، فناداه رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجهه يتهلّل بالفرح قائلاً: ربحَ البيعُ يا أبا يحيى.. ربحَ لبيع يا أبا يحيى.
وكان فيه مع فضله وعلو درجته مداعبة وحسن خلق، روي عنه أنه قال: جئت النبي صلى الله عليه وسلم، وهو نازلٌ بقباء، وبين أيديهم رطبٌ وتمرٌ، وأنا أرمد، فأكلت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أتأكل التمر وأنت أرمد"، فقلت: إنّما آكل على شقّ عيني الصّحيحة، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه. [أسد الغابة ج1].
أحبّه عمر بن الخطاب وكان يحسنُ الظنّ فيه، وعندما ضُرب أوصى أن يصلّي عليه صهيب. [أسد الغابة ج1].
أمضى حياته جنديا مخلصاً في جيش الإسلام الفاتح، ينفّذ ما يُؤمر به، ويستسهل كلّ صعب في سبيل الإسلام...
حتى وافته المنيّة سنة ثمان وثلاثين، وقيل سنة تسع وثلاثين [أسد الغابة].
رضي الله عنه وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء..
الصحابة رسول الله الكرام.. في سطور الحلقة (18) سعيد بن زيد
أحبّ الله سعيدًا، فقدّر له أن يتربّى تحت كنفِ أبٍ عاش على دين إبراهيم؛ يوحّد الله، ويُنكرُ على قريش عبادةَ الأصنام والذبحَ لغير الله، فنشأ سعيدٌ بقلبٍ مهيأ للإيمان، فما إن سمعَ بدعوة محمد صلى الله عليه وسلّم حتى بادرَ إليه مُعلناً إسلامه بين يديه وسنّه لم تُجاوز العشرين بعد..
إنّه الفتى المقدام سعيد بن زيد الذي وُلد بمكّة سنة اثنتين وعشرين قبل الهجرة. عُرفَ بنقاء سريرته، ورقّة طَبعه، وكرمِ نفسه، وحُسن تواضعه..
كان سعيدٌ حييًّا، تفوحُ نفسه الليّنة بعطر القيم وأريج المبادئ.. تلكم المبادئ المشرقة التي نسجت خيوطها السنيّة شمس الإسلام الدافئة..
شهد جميع الغزوات مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلا غزوة بدر؛ إذ أرسله رسول الله في مهمّة هو وطلحة بن عبيدالله.
بشّره رسول الله بالجنّة، ونالَ شرف المشاركة، وتذوّقَ النّصر على الفرس والروم فشهد معركة اليرموك، وفَتح دمشق..
ومن مواقفه الرائعة أنّ أبا عبيدة بن الجرّاح ولاّه دمشق، ولكنّ سعيدًا آثرَ خوضَ الحروب على تولّي المناصب.. فاعتذرَ إلى أبي عبيدة، فقبلَ أبو عبيدة اعتذاره..
وهكذا أمضى سعيدُ بن زيد حياته مجاهداً في سبيل الله، وداعيةً إلى الإسلام.. حتى توفّاه الله بالعقيق سنة خمسين للهجرة... رضي الله عن سعيد وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.
الصحابة رسول الله الكرام.. في سطور الحلقة (19) معاذ بن جبل
كان قلبُه العاطر مُترعًا بالأريج، فما إن لامست كلماتُ مصعب بن عمير شَغافَه حتى فاح الشّذا من قلبه النقيّ، فأسلم وهو في ريعان شبابه، فأعطى الإسلام نضرةَ حياته وربيعَ قلبه. وكان واحداً ممّن بايعوا النبي صلى الله عليه وسلّم في العقبة الثانية.
كان راجح العقل، قويّ الحجّة، صبوحَ الوجه، حلو المنطق. تميّز بالعلم والفقه، فقال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلّم: "أعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ بن جبل".
- وكان صحابة رسول الله إذا تحدّثوا وهو فيهم نظروا إليه هيبة وتقديرًا لرجاحة عقلة وفصاحة لسانه، وسموّ بيانه..
- وثقَ رسول الله صلى الله عليه وسلّم بحِلمه، فوجّهه إلى اليمن ليدعوهم إلى الله، فكان خير سفير وأحكم داعية يدعو إلى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة.
- استخلفه عمر رضي الله عنه على الشام بعد وفاة أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، فكان داعيةً يتوقّدُ حماسةً وحبا للدين.. وكان يتنقّل بين مساجد دمشق وحمص تنقّل القمر بين الغيوم، ويَغشاه الناس أينما جلس وحيثما حلّ طمعاً في علمه الغزير الممزوج بلمسات النبوّة..
ولمّا حضرته الوفاة جعل يردّد هذا الكلام:
مرحبا بالموت مرحبًا.. زائر جاء بعد غياب... وحبيبٌ وفدَ على شوق..
- وهكذا تركَ معاذ بن جبل بصمات من يقين في قلوب الناس وفي محاريب المساجد... وظلّ يدعو إلى الله حتى وافته المنيّة في الشام وهو شاب لم يُجاوز ثلاثاً وثلاثين سنة. رضي الله عنه، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.
الصحابة رسول الله الكرام.. في سطورٍ
الحلقة (20) أسامة بن زيد
كان قريباً من رسول الله، ورديفه في معظم مشاهد الإسلام المشرّفة.
جعله الرسول صلى الله عليه وسلّم قبل وفاته بعامين قائداً على سريّة لقتال بعض المشركين المناوئين للإسلام.
ملأ قلبَه سرورٌ غامر عندما أمّره رسول الله على جيش فيه أبو بكر وعمر وهو لم يبلغ العشرين من العمر.
وقبل أن ينطلق أسامةُ بجيشه توفي رسول الله صلى الله عليه وسلّم... ولكنّ أبا بكرٍ نفَّذَ وصيّة رسول الله، وأنْفَذَ جيش أسامة الذي حقّق المهمة والهدف بنجاح، وعاد بالغنائم الوفيرة، ومهّد للمسلمين فتح الشام ومصر وإفريقيّة..
وكان كلما لقِيَه عمر يقول له: "مرحباً بأميري".
انتقلَ إلى دمشق أيام معاوية وأقام في الجُرْف، ثمّ عادَ إلى المدينة المنوّرة حتى وافته المنيّة.
روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم مائة وثمانية وعشرين حديثاً.
رضي الله عنه وأرضاه وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.
فتَحَ أسامةُ عينيه على الدّنيا ليجدَ نفسَه بين يدي رسول الله -صلى الله **عليه وسلّم- الذي فرحَ بولادته، وسرّ سرورًا عظيمًا..
إنه أسامة بن زيد، أبوه حبّ رسول الله، وأمّه حاضنته ومربّيته الحانية..
كان يقول رسول الله عن أم أيمن: هي أمي بعد أمي...
اشتهر أسامة بالذكاء والتواضع، وبذل النفس في سبيل الإسلام والحكمة.
- كان أسامة حسنَ المعاملة مع أقرانه، شديد الاحترام للآخرين.
عُرف بالشجاعة والإقدام، ومما يدلّ على إقدامه أنّه أراد المشاركة في غزوة أحد، ولكنّ النبيّ صلى الله عليه وسلّم ردّه لصِغر سنّه، وفي يوم الخندق تقدّمَ أسامة من رسول الله راغباً في المشاركة، وكان يرفعُ جسمه، ويقف على رؤوس أصابعه ليبدو طويلاً في نظر رسول الله، فسمحَ له رسول الله بالمشاركة..
الحمد لله الذي أرسل رسوله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، بعثه رحمة للعالمين، ومُعلمًا للأُميين بلسان عربي مبين، ووعده يوم القيامة مقامًا محمودًا وحوضًا مورودًا، وشرفًا مشهودًا؛ فصلوات الله وملائكتِه وأنبيائِه والصالحين من عباده عليه، وسلِّم تسليمًا مزيدًا، ورضي الله عن أصحابه الكرام لُيوث الصِّدام، أهل المواقف العِظام، وهداة الأنام، رضي الله عنهم أجمعين.
أما بعد:
أيها المؤمنون، عباد الله، اتقوا الله - تعالى - فإن تقوى الله - جل وعلا - أساس السعادة، وسبيل الفلاح والفوز في الدنيا و الآخرة.
ثم اعلموا - رحمكم الله - أن أعظم نعم الله - تبارك وتعالى - على الإطلاق نعمة الإسلام دين الله - جل وعلا - الذي ارتضاه لعباده دِينًا؛ قال الله - جلّ وعلا -: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3].
دين الله - جل وعلا - الذي لا يقبل دينًا سواه؛ ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾ [آل عمران: 19]. ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [آل عمران: 85].
عباد الله:
إنّ هذا الدين القويم والصراط المستقيم الذي ارتضاه - تبارك وتعالى - لعباده قد اختار له - جلّ وعلا - نبيًّا كريمًا وداعيًا حكيمًا ومبلِّغًا أمينًا ألا وهو رسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم - فبلَّغ الرسالة وأدّى الأمانة، ونصح الأُمّة، وجاهد في الله حقَّ جهاده؛ حتى أتاه اليقين، فما ترك خيرًا إلا دلَّ الأمة عليه، ولا شرًّا إلا حذّرها منه، فهو مِنَّة الله - جلّ وعلا - على عباده؛ قال الله - جلّ وعلا -: ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [الجمعة: 2].
فنسأل الله - جلّ وعلا - أن يجزيه خير ما جزى نبيًّا عن أُمته على نُصحه لأُمته، وإبلاغه لدين الله - تبارك وتعالى - على التمام والكمال، ونسأله - جل وعلا - أن يحشرنا يوم القيامة تحت لوائه وفي زمرته - صلواته وسلامه عليه.
عباد الله:
ثم إن الله - جلّ وعلا - اختار لهذا النبي الكريم أنصارًا عدولاً، وصحابة كرامًا، عزّروه ونصروه وأيدوه - عليه الصلاة والسلام - وبذلوا مُهَجهم وأنفاسهم وأموالهم في سبيل نُصرته ونُصرة دينه - صلى الله عليه وسلم - ففازوا بكل فضيلة وسبقوا الأمة في الخيرية، وفازوا برضوان الله، قال الله - تعالى -: ﴿ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ﴾ [التوبة: 100].
ما أعلاها من منزلة، وما أشرفها من مكانة تبوَّأها الصحابة الكرام، ونالها هؤلاء العدول الخيار، شرَّفهم الله برؤية النبي الكريم - عليه الصّلاة والسلام - واستماع حديثه منه، ونُصرته - صلى الله عليه وسلم - فهم خير أمة محمد - عليه الصلاة والسلام - وهم أنصار الملَّة وأعوان الدّين، وليوث الصدام وهُداة الأنام، ومبلغو دين الله إلى أمة محمد - عليه الصلاة والسلام - لقد أثنى الله عليهم في كتابه وعدلهم ووثقهم، وبيَّن شرفهم وسابقتهم، وأخبر - تعالى - عن رضاه عنهم، ورضاهم عنه، أثنى عليهم ثناءً عطرًا ليس في القرآن فقط، بل أثنى عليهم - جلّ وعلا - في القرآن والإنجيل والتوراة؛ قال الله - تعالى -: ﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الفتح: 29]، فهذا ثناءٌ على الصحابة في القرآن والتوراة والإنجيل وفي القرآن.
عباد الله:
في آيٍ كثيرة منه ثناء على الصحابة الكرام، وبيان مكانتهم وعظيم قدرهم، وسمو شأنهم ورِفعة درجتهم، وهكذا السُّنة سُنةُ نبيِّنا محمد - صلى الله عليه وسلم - مليئةٌ بالأحاديث الدالة على فضل الصحابة، ورفيع شأنهم في الصحاح والسُّنن والمسانيد، وفي كتب كثيرة أُفردت في بيان مناقب الصحابة وفضائلهم، ومن ذلك قوله - عليه الصلاة والسلام -: ((خير الناس قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم))؛ أخرجاه في الصحيحين، ومنها قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تسبوا أصحابي؛ فوالذي نفسي بيده، لو أنفق أحدكم مثل "أُحدٍ" ذهبًا، ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه، والأحاديث في هذا الباب - عباد الله - كثيرةٌ جدًّا يعلمها من يطالع كتب السُّنة.
عباد الله:
وصحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - متفاضلون ليسوا في الفضل سواء؛ ﴿ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا ﴾ [الحديد: 10].
عباد الله:
وخير هؤلاء الصحابة عشرة ذكرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في مجلس واحد وبشَّرهم بالجنة، ففي الترمذي وغيره بإسناد ثابت عن عبدالرحمن بن عوف - رضي الله عنه - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، وسعد في الجنة، وسعيد في الجنة، وعبدالرحمن بن عوف في الجنة، والزبير في الجنة، وعامر (أبو عبيدة بن الجراح) في الجنة))، فهؤلاء عشرة شهد لهم - صلى الله عليه وسلم - في مجلس واحد أنَّهم في الجنة، وخير هؤلاء العشرة الخلفاء الراشدون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وخير هؤلاء العشرة أبو بكر وعمر، وقد ثبت في صحيح البخاري عن عبدالله بن عمر - رضي الله عنه - قال: "كنا في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نقول: خير أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر ثم عمر، ويبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا ينكره"، وثبت في صحيح البخاري عن محمد ابن الحنفية، قال: قلت لأبي؛ يعني: علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أيُّ صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - خير؟ قال: أبو بكر، قال: قلتُ ثم مَنْ؟ قال عمر، قال: قلت: ثم أنتَ؟ قال: ما أنا إلا واحد من المسلمين، بل ثبت عنه - رضي الله عنه - أنه قال كما في السُّنة لابن أبي عاصم: "لا يبلغني عن أحد أنه يفضلني على أبي بكر وعمر، إلا جلدته حدَّ المفتري".
عباد الله:
بل إن أبا بكرٍ وعمر - رضي الله عنهما - سيدا أهل الجنة إطلاقًا بعد النبيين والمرسلين، وقد ثبت في ذلك حديث صحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد قال - عليه الصلاة والسلام -: ((سيدا كهول أهل الجنة أبو بكر وعمر من الأوَّلين والآخرين عدا النبيين والمرسلين))؛ رواه غير واحد من الصحابة؛ منهم علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وهو حديث صحيح ثابت.
عباد الله:
إن الواجب علينا أُمّة الإسلام أن نعرفَ للصحابة فضلهم، ونحفظ لهم قدرهم، ونعرف لهم مكانتهم، فهم أنصارُ النبيِّ الكريم - عليه الصلاة والسلام - وحملة هذا الدين، وهم الأُمناءُ العدول الثِّقات الأثبات الذين بلَّغوا دين سمعوه من النبي - عليه الصلاة والسلام - وحفظوه ووعَوْه وبلغوه للأمة تامًّا صافيًّا نقيًّا بلا زيادة ونقصان، قالوا: هذا ما سمعناه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونبلِّغه لكم كما سمعناه، سمعوا فوعوا وأدّوا، وبلغوا ونصحوا - رضي الله عنهم وأرضاهم.
إنّ الواجب علينا - عباد الله - أن نحفظ لهؤلاء الأخيار أن نحفظ لهم قدرهم ونعرف لهم مكانتهم، وكيف - عباد الله - لا يُحفظ لهؤلاء قدرهم وهم حملة دين الله؟! ويجب علينا - عباد الله - أن نعي تمامًا أن الطعن في الصحابة أو في واحد منهم طعن في دين الله؛ لأن الطعن في الناقل طعن في المنقول.
الصحابة - رضي الله عنهم - هم الذين بلَّغوا لنا دينَ الله، وهم الذين نصحوا لعباد الله، فإذا طعن في الصحابة، فالدين ذاته مطعون فيه، ولهذا قال أبو زرعة الرازي: "إذا رأيتم الرجل ينتقص أحدًا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاعلموا أنه زنديق؛ لأن القرآن حقٌّ والدين حق، وإنما أدَّى إلينا ذلك الصحابة، وهؤلاء أرادوا أن يجرحوا شهودنا، فهم بالجرح أولى، فهم زنادقة".
عباد الله:
إن الصحابة كلَّهم عدول موثَّقُون وثَّقهم الله في كتابه، وعدّلهم رسوله - صلى الله عليه وسلم - في سُنته، فلم يبق فيهم لقائل مقالاً ولا لمتكلم مجالاً.
فالواجب - عباد الله - أن نحفظ لهؤلاء الصحابة قدرَهم، فحبُّهم إيمان وطاعة وإحسان، وبغضهم نفاق وشقاق وعصيان.
اللهم ارضَ عن صحابة نبيِّك الكريم.
اللهم ارضَ عن صحابة نبيِّك الكريم واجزهم عنّا أفضل الجزاء وأعظمه.
اللهم واعْمُر قلوبنا بمحبَّتهم يا ذا الجلال والإكرام، ووفقنا لاحترامهم ومعرفة قدرهم يا حيُّ يا قيّوم، ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غِلاًّ للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوف رحيم.
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه يغفر لكم؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله عظيم الإحسان واسع الفضل والجود والامتنان، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله - صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: عباد الله، فأوصيكم ونفسي بتقوى الله؛ فإن من اتقى الله وقاه وأرشده إلى خير أمور دينه ودنياه.
عباد الله: إن نهج أهل السُّنة مع الصحابة الكرام نهج سديد ومسلك وسط؛ فهم يمتثلون فيهم أمر الله - جلّ وعلا - وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - بلا إفراط ولا تفريط، ولا غلو ولا جفاء؛ فهو مسلك مبارك سار عليه أهل السُّنة والجماعة في حقِّ أصحاب النبي الكريم - عليه الصلاة والسلام.
وهذا النهج السديد - عباد الله - نرى ملامحه جليَّة في قول الله - تبارك وتعالى - عن كل من جاء بعد الصحابة من المؤمنين في قوله - سبحانه.
إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيِّئات أعمالنا، مَن يهده الله فهو المهتدي، ومَن يُضلل، فلنْ تجدَ له وليًّا مُرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحْدَه لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله؛ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
أمَّا بعدُ: أيُّها الأحبَّة الكرام، تكلَّمْنا في الْجُمعة الماضية مع حضراتكم عن الرُّكن الثالث من أركان الإيمان، أما اليوم فنقفُ عند الرُّكن الرابع من هذه الأركان، وهو "الإيمان بالأنبياء والرُّسل" - عليهم وعلى نبيِّنا الصلاة والسلام.
فالإيمان بالأنبياء والرُّسل من أركان الإيمان؛ أي: إنَّ مَن جَحَد نبيًّا من الأنبياء، أو مَن كَفَر بنبيٍّ من الأنبياء، أو بهم جميعًا، فهو ليس من أهل الإيمان.
والنبي - إخوةَ الإيمان - مُشتق من النبأ: وهو الخبر؛ أي: إنَّ الله أخبرَه وأوْحَى إليه، فهو المخْبِر عن الله - تعالى؛ قال تعالى: ﴿ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الحجر: 49].
أي: أخبِرْ عبادي أني أنا الغفور الرحيم، وقيل: إنها مُشتقَّة من "النبوَّة"، وهي ما ارتفع من الأرض؛ أي: إنَّ الأنبياء ذوو قَدْرٍ ورِفْعَة.
وأمَّا الرسول، فمُشتق من الإرسال: وهو التوجيه؛ تقول: أرسلتُ أحدًا؛ أي: وجَّهْتُه؛ ﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ﴾ [الأحزاب: 45]، والآيات الدالَّة على ذلك كثيرة جدًّا.
فهذا هو معنى الأنبياء والرُّسل، ولرُبَّما يَسأل سائلٌ: لماذا لَم يسمِّهم الله - تعالى - باسمٍ واحد، وإنَّما أطْلقَ على مَن يَبعثهم ويَصْطفيهم هذين الاسمين؟ فهل هناك فَرْقٌ بين النبيِّ والرسول؟
الجواب: إنَّ بعضَ العلماء قالوا بوجود الفَرْق بين النبيِّ والرسول، فقالوا: إنَّ الرسول هو مَن أُوحِي إليه بشرْعٍ وأُمِر بتبليغه، وأمَّا النبيُّ، فهو مَن أُوحِي إليه ولم يُؤْمَر بالبَلاغ.
وهذا ما اشْتُهر على ألْسِنة الكثير من الناس، والكثير من طَلبة العلم، والكثير من الخُطباء والعلماء.
والحقيقة التي تَظهر لنا أنَّه لا اختلاف بالتبليغ بين الأنبياء والرُّسل، وإنما الاختلاف بينهما هو بالشَّرْع المرْسَل به؛ وذلك للأدلة التالية: 1- قول الله - تعالى -: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [الحج: 52].
فهذا نصٌّ على أنَّ الله أرسلَ الرُّسلَ كما أرسلَ الأنبياء، فقد عَطَف النبي على الرسول، والإرسال يقتضي التبليغ.
2- إنَّ كِتمان العِلم الموْحَى به من الله هو كتمان للعلم المحرَّم شرعًا وعَقْلاً.
3- قول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في الحديث الذي أخرجه الشيخان عن ابن عباس - رضي الله عنه -: ((عُرِضَتْ عليَّ الأُمم، فجَعَل يمرُّ النبيُّ معه الرجل، والنبيُّ معه الرجلان، والنبي معه الرَّهْط، والنبي ليس معه أحدٌ)).
فهذا الحديث الصحيح يدلُّ على أنَّ الأنبياء مأمورون بالتبليغ، وإلا فَلِمَ يطَالبون باستصحاب أتْبَاعهم؟
وهذا من أقوى الأدلة على ما نقول - والله أعلم - وهو الذي اختارَه البعضُ من أهْل العلم[1].
قال الآلوسي في تفسيره: "إنَّ الرسول مَن أُوحِي إليه بشَرْعٍ جديد، والنبيَّ هو المبعوث لتقرير شَرْع مَن قَبله".
وهذا الذي يظهر بقوَّته؛ لأنك لو تأمَّلْتَ حديثَ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في عددِ الأنبياء - عليهم السلام - قال أبو ذر: يا رسول الله، كم المرسلون؟ قال: ((ثلاثمائة وبضعةَ عَشَرَ جَمًّا غفيرًا))، وقال مَرَّة: ((خَمْسَةَ عَشَرَ))، وفي رواية أبي أُمَامة، قال: ((مائة ألف وأربعة وعشرون ألفًا، الرُّسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جمًّا غفيرًا))[2].
فلو كانوا قد أتوا جميعُهم بشَرْعٍ جديد، لوصَلَتْ أعدادُ الشرائع إلى الآلاف؟ وهذا يُضَعِّفه في أنَّ أنبياءَ بَنِي إسرائيل لَم يأتِ الكثيرُ منهم بشريعة جديدة، وإنَّما أغلبهم أتوا بشريعة موسى، وحكمهم بالتوراة.
نعم أيُّها الأحبَّة الكرام، فالواجب على المؤمن الإيمان بهم جميعًا ممن ذُكِرتْ أسماؤهم في القرآن وسُنَّة النبيِّ، وممن لَم تُذْكَر لنا أسماؤهم، وليس للمؤمن أن يؤمن ببعضهم، ويَكْفُر ببعضٍ، فيكون كمَن قِيل فيهم: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً ﴾ [النساء: 150].
وإنَّ الإيمان بالرُّسل يُشْعِر بالطُّمأنينة في القلب، ويَبْعَثُ على التوازُن بين الدين والدنيا، ومآلُ ذلك خَيريَّة الدَّارين، وصلاح الأمرين: أمر الدنيا، وأمر الآخرة، وفساد الإيمان بهم فسادٌ للرُّوح ولَعْنة للجَسد.
أمَا رأيتُم حال مَن كفروا بالرُّسل؟ كيف انحدروا إلى أسفل سافلين؟! نعم، لقد وصَلَ "العقلانيُّون" الذين كفروا بمنهج الوَحْي "الرُّسل"، وآمنوا بمنهج العقْلِ في دُنياهم وتطورهم إلى ما وصلوا إليه، لكنَّهم أصلحوا ظاهرهم، فبَقِي باطنُهم من قِبَلِه العذاب: تفكُّك وتَمزُّق عائلي، انحدار وانتحار أخلاقي، تهالُك وتهاوٍ مجتمعي، وترى مَرض الإيدز ينخرهم، واللواط يأكلهم، والفساد يؤرِّقهم، فهم أجساد من دون أرواح.
فالهموم النفسيَّة هي سِمة العالم المتحضِّر، ولكَ أن تفتِّش بنفسك، كل هذا؛ لأنَّ الوحْي فارَقَهم، فالعقلُ أغواهم، وهذا حال مَن يَستغني عن الرُّسل.
ماذا يعبدُ البراهمة، وهي فِرقة من المجوس تَزْعُم أنَّ العقْلَ يُغنِي عن الوحْي؟! يعبدون البقرة، بل يقول أحدُ زعمائهم "غاندي": "إنها أفضل مِن أُمِّي، فالأمُّ الحقيقيَّة تُرضعُنا مُدَّة عامٍ أو عامين، ولكنَّ أُمَّنا البقرة تمنحُنا اللبنَ دائمًا".
فالحاجة إلى الأنبياء والرُّسل عظيمة؛ يقول شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -: "... والدنيا مُظلمة مَلعونة، إلاَّ ما طلعتْ عليه شمسُ الرسالة، وكذلك العبدُ ما لم تُشْرِقْ في قلبه شمسُ الرسالة".
فوُصِفَ الوحْي هنا بوصْفين جَميلين: ﴿ رُوحًا ﴾ و﴿ نورًا ﴾، فكأنَّه يريد أنْ يقولَ: الرُّوح تُحيي الأبدان والقلوب، والنور يُضيءُ الطريق والعقول، فلا يُمكن للعقل أن يَحيا إلا مع الرُّوح، ولا يُمكن للرُّوح أن تَرْقَى إلا مع العقل، وإن الرُّوح هي الوحْي الإلهي ليس غيره.
فيا لَعظيم هذه الآيات.
فموقع العقل من الوحْي، إنه يُعظِّمه ويَرْقَى به، ويدعوه للتفكير والتدبُّر، ويحثُّه على التأمُّل، وعلى استعمار الأرض، والآيات القرآنيَّة مَليئة بالدعوة إلى ذلك.
وهذا كلُّه من التوازُن بين الوحْي والعقْل، بين الدِّين والدنيـا، الذي جاء به الإسلام، وأقرَّه مقامُ النبوَّة - صلَّى الله عليه وسلَّم - فعن أَنَس - رضي الله عنه - قال: "جاء ثلاثة رَهْطٍ إلى بيوت أزْواج النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يسْألون عن عبادة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فلمَّا أُخْبِروا كأنَّهم تقالُّوها، وقالوا: أين نحن من النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقدْ غُفِر له ما تقدَّم من ذنْبه وما تأخَّر؟! قال أحدُهم: أمَّا أنا، فأصلي الليل أبدًا، وقال الآخرُ: وأنا أصوم الدَّهْر أبدًا ولا أُفْطِر، وقال الآخرُ: وأنا أعْتَزِل النساء، فلا أتزوَّج أبدًا، فجاء رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إليهم، فقال: ((أنْتم الذين قلْتُم: كذا وكذا؟ أمَا والله إنِّي لأخْشاكم لله، وأتْقاكم له، لكنِّي أصوم وأُفْطِر، وأُصلِّي وأرْقُد، وأتزوَّج النساء، فمَنْ رَغِب عن سُنَّتي، فليس منِّي))"[3].
وكان من دعاء النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - : ((اللهمَّ أصلحْ لي ديني الذي هو عِصمة أمري، وأصلحْ لي دُنياي التي فيها معاشي)).
فنسأل الله أنْ يَجعلَنا من السائرين على خُطا النبيين والمرسلين والمؤمنين بهم، المتَّبعين لهم؛ إنَّه وليُّ ذلك والقادر عليه.
الخطبة الثانية
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبه ومَن والاه.
وبعدُ: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - : "((مَا مِن أيامٍ العمل الصالح فيها أحبُّ إلى الله - عز و جل - من هذه الأيَّام))؛ يعني: أيام العَشر، قال: قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجلٌ خرَجَ بنفسه وماله، ثم لَم يرجِعْ من ذلك بشيءٍ))"
هذا الموقع يستخدم ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز ) للمساعدة في تخصيص المحتوى وتخصيص تجربتك والحفاظ على تسجيل دخولك إذا قمت بالتسجيل.
من خلال الاستمرار في استخدام هذا الموقع، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط.