بسم الله الرحمن الرحيم
الجزء السابع
كانت همسة تطالع بشار ..
الذي توقف عن سرد القصة قليلاً ..
فقالت بفضول شديد : ماذا فعلت ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
أخذ بشار ينظر لها بتأمل ..
كانت تجلس في الكرسي .. وتحتضن في يدها وسادة ..
ونصفها العلوي متجه نحو الأمام في اهتمام شديد ..
ورجلها اليمنى تهتز في توتر ..
فضحك بشار عليها وقال : لماذا أنت هكذا؟
انتبهت همسة لنفسها وقالت : ماذا؟
ثم عدلت من جلستها ..
اخذ بشار يضحك ..
كان الباب مفتوحاً ..
وكانت أصوات أقدام الممرضات على الأرض تعلو أحياناً ..
قالت همسة : يبدو أن أخوك لن يأتي اليوم ..
لن يحالفني الحظ في رؤية فاتنتك منى ..
ابتسم بشار وقال : يا الله .. ألهذا الحد قصتي مثيرة للملل ..
لا مشكلة .. أستطيع أن أتوقف عن سردها ..
قالت همسة برجاء : لا أرجوك .. قل لي ما حصل ؟ ماذا فعلت ؟
نظر لها بشار للحظات ثم قال :
بصراحة أنا جائع قليلاً ..
قالت همسة : أوووووووووووووووه ..
حسناً ماذا تريد ؟
قال لها بشار : هل تدعوني إلى وجبة ..
رائع .. ألا يمكن أن أطلب من فدركرز أو تشيليز ؟
نظرت له همسة باستغراب ..
ولكنه انفجر ضاحكاً وهو يكمل مزاحه :
أوووووه لقد نسيت .. تروق لك سندويتشات أبو ريالين من أقرب كافتيريا ..
لا تدري همسة لمَ لم توبخه كعادتها ..
ربما تعودت عليه ..
ربما لأنها أحست بالألفة معه ..
وربما لأنه هو الآخر طبيب ..
فلم تعد تشعر بفارق في الثقافة كما كانت ترى في السابق ..
أم شيء آخر؟ .. لا تدري إلى الآن ..
ابتسمت معلنة هزيمتها في حرب الكلام التي لا أظن أن أحداً يستطيع أن يتفوق فيها على بشار ..
فقال بشار : لا داعي أنا سأعزمك على وجبة خفيفة ..
ولكن همسة ابتسمت وهي تقول : أنسيت أنك قد دعوتني إلى عصير الدواء ذلك ؟
انفجر بشار بضحكة تميزة فعلاً عن غيره ..
أخذت همسة تتأمله لوهلة ..
فقال : حسناً .. الدور اليوم عليك ..
فقالت همسة وهي تقف : ماذا تريد ؟
قال : واحد تشيز برجر بدون جبنة ..
قالت وهي تردد خلفه : واحد تشير برج ..
وقفت تأملت فيه ..
وهذه المرة هي اللتي ضحكت .. ثم قالت : أرجوك قل لي ..
هل شربت اليوم بنزين ؟ أم ماذا ؟
ضحك بشار مرة أخرى وقال: رائع .. تجيدين الرد ..
طيب .. طيب .. سوف أريك ..
ابتسم لها وقال : أي شيء .. فقط شيء خفيف .. مع أي عصير ..
فقالت ساخرة : ما رأيك في عصير البرتقال ذلك ؟
فقال : لا أرجوك .. أفضل الموت عطشاً على شربه ..
ضحكت همسة وهي تخرج ..
وللحظات .. كان تأثير قصة بشار عليها كبيراً ..
أحست أنها في عالم غريب ..
ولو انها خرجت فكانت في طوكيو .. لما حست بغربة أبداً ..
مرت في الرواق ..
حتى وصلت إلى الكافتيريا ..
اشترت 3 ساندويتشات ..
و2 بيبسي ..
و2 مياه غازية ..
وكيسين من بطاطس ليز ..
كانت عازمة على أن توفر مؤنة .. حتى لا يقطع عليها القصة مرة أخرى ..
وعند الحساب ..
وجدت طفلة صغيرة تقف في الصف ..
وجوارها شاب متأنق جداً ..
كانت الساعة الثانية بعد منتصف الليل ..
كانت الصغيرة تلبس فستاناً ابيضاً صغيراً إلى الركبتين ..
كانت سمراء جميلة ..
وأخذت تجتهد وهي تحاول أن تصل إلى الطاولة التي يحاسب عليها العامل الهندي ..
وهي تتطلع بعيون متلهفة في الحلويات ..
أحست همسة نحوها بحنان كبير ..
في العادة لا تحسه ..
فقالت لها : حبيبتي .. هل تريدين من هذه الحلوى ؟
فنظرت لها الطفلة .. وضعت إصبعها في فمها .. وهي تهز رأسها بالإيجاب ..
كان منظرها في غاية الروعة ..
فاشترت همسة أيضاً الحلوى وأهدتها لها ..
وحملت أغراضها ومشت ..
وبينما هي تمشي ..
جاءتها الفتاة مسرعة وهي تقول :
أبلة .. أبلة ..
نظرت فيها هسمة بحنان ..
فأتت لها الفتاة وهي تمد يديها وفيها شيء ..
أخذت همسة الورقة بعد أن هبطت على ركبتيها ..
فقرأت فيها : 056xxxxxxxx
فارس ..
نظرت همسة .. في الورقة ..
قم أخذت تتأمل الشاب بعيون قاسية ..
كان الشاب يتصنع الخفة والظرافة .. ويطالع بابتسامات متكلفة ..
فنظرت همسة مرة أخرى في الطفلة وقالت لها :
قولي لعمو فارس .. إنت قليل أدب ..
فقالت الطفلة في براءة :
من هو عمو فارس؟
فقالت همسة : ذلك الواقف هناك ..
فقالت : ذلك خالو بكر ..
قالت همسة بسخرية : بكر ؟؟؟!!!!!!!!
ثم قالت لها مرة أخرى : حبيبتي قولي لخالو بكر ..
أنت قليل الأدب ..
قالت الفتاة بحماسة وهي سعيدة : طيب ..
ثم أخذت تجري إلى خالها ..
ومشت همسة ..
وهي تسمع البنت تقول لخالها بصوت عالي :
خالي .. البنت تقول لك .. أنت قليل الأدببببببببببببببببب ..
ضحكت همسة .. راق له ما فعلت .. وأحست أنها تفعل شيئاً تمليه عليها طبيعتها الفعلية ..
لا تدري لم أصبحت مؤخراً مختلفة ..
أصبحت أنثوية أكثر مما كانت عليه ..
إنها تؤمن أن الأنثى الحقيقية لا تستطيع أن تناضل من اجل البقاء ..
لا تستطيع أن تحمي نفسها من ويلات الزمان ..
توجهت نحو غرفة بشار .. وهي تحمل الأغراض ..
دخلت الغرفة ..
كان بشار ينتظرها ..
فقال لها : يا ساتر .. هذه تكفي لمجاعة الصومال ..
ضحكت همسة .. وكأنها لتوها لم توبخ ذلك الأبله ..
ثم قالت : حتى لا يكون لك عذر أبداً .. أريد أن أسمع حتى النهاية ..
صمت بشار .. وهو يتناول الساندويش ..
فتحه وتناول منه قليلاً ..
ثم قال : حسناً ..
اسمعي ..
" لا .. مستحيل .. أتعقل ما تقول يا بشار ؟" ..
كان ميان جالساً في حانة قريبة من المستشفى وهو يقول ذلك لبشار ..
أخذ بشار يتطلع في الدكتور ميان ..
بقامته القصيرة ..
وشعره الخفيف ..
وعيونه المسحوبة ..
إنه نموذج حقيقي للإنسان الياباني بكل التفاصيل ..
والحقيقة التي لا يعرفها الكثير عن ميان ..
أنه يحب شرب الساكي كثيراً جداً ..
( الساكي = خمر ياباني )
وله فيه تقديسة خاصة ..
وجو محبب لديه ..
لذلك اختار بشار أن يكلمه في هذا الموضوع وهو يعاقر الخمر ..
ولكن ما كان يقوله بشار في غاية الخطورة ..
نظر فيه ميان مرة أخرى وقال بانفعال .. أطار اللعاب من شفتيه :
هل تدرك أنك بذلك سوف تفصل من رابطة الأطباء ..
وأن الرخصة سوف تسحب منك .. لو علموا بأمرك ؟
أخذت هذه الفكرة تدور في رأس بشار وتؤلمه بحق فقال:
أعلم ذلك .. ولكن لا يهم ..
لدي شيء أهم بكثير ..
نظر له ميان بطرف عينه .. وهو يرفع رأسه ليلقي بدفعة من الساكي في فيه .. ثم مسح شفاهه بمنديل وقال:
بشار .. هذه العواطف ..
يجب أن تنحيها جانباً ..
عمل الطب سوف يعلمك ذلك ..
أحياناً نحن نقطع أيدي أناس نحبهم ..
ونشق جلودهم ..
ونمزق أمعاءهم ..
ونصيبهم بشيء من الألم ..
بدون أن يطرف لنا جفن ..
ليس لأننا لا نحبهم ..
بل لأننا نحبهم .. ونود أن نعالجهم من أمراضهم ..
ولكن بشار كان عنيداً جداً .. فقال وهو يقف :
دكتور ميان .. هل تريد أن تساعدني أم لا ؟
نظر له ميان وفي يده قدحه برهة ثم قال :
لا أستطيع .. إن ما تطلبه مني تهور .. ولا أستطيع أن أوافقك عليه ..
جمع بشار حاجياته .. خرج من هناك دون أن يضيف كلمة ..
وميان لا يزال في جلسته يشرب ..
ولكن عقله يدور ..
خرج بشار ..
وركب تاكسي ..
وهو لا يزال يفكر ..
أحس أنه يصارع وحده ..
أس أنه في حالة من الإرهاق ..
وأنه يود لو يجلس حتى يستريح قليلاً ..
فقط القليل من الوقت ..
ولكن لم يكن لديه شيء منه ..
لا بد أن يتحرك سريعاً ..
لا بد أن يفعل ما بوسعه ..
لإنقاذ مايا ..
ولما جاءت صورتها في باله ..
تنهد ..
وقال في نفسه : حتماً سأنقذك ..
دخل المستشفى ..
وبخطى واسعة . اجتاز الممرات .. حتى وصل إلى غرفته ..
أخذ يبحث في الأوراق التي على الأرض ..
جمع منها بعضها ..
وجلب صندوقاً كرتونياً ..
وهو يجمع أغراضاً معينة ..
ثم فتح أدراجه ..
وأخذ يضع بعض الكتب والمراجع ..
وبينما هو كذلك ..
شاهد القرآن ..
كان وجوداً تحت الكتب ..
تأمله قليلاً ..
ورانت لحظة صمت طويلة ..
ثم مد يده في حذر .. وهو يمسك غلافه الأخضر الجميل ..
المزين بتلك النقوش الذهبية ..
مسح عنه بعض الأتربة التي كانت تعلوه ..
لقد وضعه هنا منذ زمن بعيد ..
بعيد جداً ..
أخذ يفتحه في جلال ..
الحق يقال ..
أن بشار ..
في تلك الفترة من عمره ..
التي قضاها في اليابان ..
كان بعيداً جداً عن الله ..
حتى الصلوات كان ينساها ..
أو بالأصح يتناساها متعمداً ..
وبدأ هذا الشيء تدريجياً ..
خصوصاً في السنوات الأخيرة التي قضاها دون إجازة في اليابان ..
منذ أكثر من حوالي 3 سنوات ..
إنه لم يعاقر الخمر ..
لم يجرب المومسات ..
وإن فكر كثيراً ..
ولكن المباديء التي ترسخ عليها في صغره ..
كانت تدق له الناقوس تلو الآخر ..
وهذا شيء غريب بحق ..
على إنسان مبتعد عن الدين ..
أو ربما هو بالأصح لم يكن لديه الوقت ليفكر في هذه الأمور .
شيء غريب أن تكون بعض العائلات مهتمة كثيراً ..
ببعض جوانب الدين ..
وتترك أهمها كالصلاة ..
ربما لأن تلك تجلب العار ..
والسمعة السيئة للعائلة ..
وبينما الصلاة لا تفعل مثل هذا القدر !
وضع بشار المصحف فوق الطاولة ..
وفتح منتصف القرآن ..
وجلس يقرأ قليلاً ..
أحس أنه محتاج إلى معونة إلهية ..
وبعد عشر دقائق من القراءة ..
أخذ جواله ..
واتصل على السعودية ..
اتصل على والدته ..
التي ردت عليه ..
كان الصوت بعيداً ..
قالت : بشار .. كيف حالك ؟
بالله عليك .. هان عليك أن تتركنا كل هذه المدة دون اتصال ..
لقد قلقنا عليك ..
أسبوع بدون اتصال ؟!
قال لها وهو يحس بحشرجة في صوته :
كيف حالك يا ماما ؟
قالت وقد أحست بقلب الأم التي ينبئها أن هناك شيئاً ما :
بشار هل حصل شيء ؟
تنهد وقال :
نعم .. أريدك أن تدعي لي ..
هناك أمر هام ..
وقرار صعب سوف أتخذه ..
أدعي لي يا ماما ..
فقالت أمه :
الله معك يا ولدي ..
والله إني أدعو لك في الليل والنهار ..
بشار .. برضاي عليك ..
الصلاة الصلاة ..
ولأول مرة يحس بهذه الكلمات وأن لها معنى ملموساً ..
لأول مرة منذ أكثر من ثلاث سنوات ..
كانت أمه لا تنفك تقول له ذلك ..
في كل مكالمة ..
ولكن حجاباً سميكاً كان على قلب تحجر ..
فقال لها .. وأحس أن صدره يضيق : إن شاء الله ..
فقالت له : متى ستأتي ؟
ألم تتحدد لك إجازة ؟
كفاك عملاً ..
لقد اشتقت إليك كثيراً ..
عد أرجوك ..
وأحس أن والدته قد ذرفت دموعاً ..
فقال لها بتنهيدة :
حالما أنتهي من هذا الأمر سأعود ..
سأعود لمدة طويلة ..
فرحت الأم كثيراً وظهر هذا الصوت جلياً في صوتها وهي تقول : أصدقني القول ..
متى ؟
فقال لها وهو يغمض عينيه وفي عقله ألف فكرة وفكرة : قريباً إن شاء الله ..
أغلق سماعة الهاتف ..
أخذ بقية أغراضه التي يحتاجها ..
فتح الكومبيوتر ..
بحث في قائمة الملفات ..
عن مايا أونيزكا ..
وعندما وجد معلوماته ..
طبعها في أوراق ..
خرج من الغرفة وتوجه نحو المختبر ..
أخذ بعض أغراضه ..
وصور لبعض التحاليل والتقارير ..
وأخرج مسرعاً دون أن يحس به أحد ..
طرق باب غرفة مايا بلطف ..
"تفضل "
انبعث صوتها عذباً ..
بلغة يابانية
دخل بشار ..
كانت مايا كعادتها في فراشها ..
كان يبدو عليها شيء من الإرهاق والتعب ..
ولكنها لا تزال جميلة ..
جلس بشار بجوارها على السرير ..
أخذ ينظر في يديه بحيرة ..
أحست مايا أن هناك أمراً خطيراً ..
فقالت : ما الموضوع ؟
فقال بشار :
مايا هل تثقين بي؟
ظلت مايا تطالعه بشيء من الدهشة للحظات ..
ثم قالت بخجل :
نعم أثق بك ..
قال لها : هل أنت مستعدة .. أن تراهني بحياتك على هذه الثقة ؟
أطالت مايا النظر في بشار ..
ثم قالت في ثقة : نعم ..
أثق بك إلى أبعد مدى ..
ظل بشار صامتاً ..
ثم قال :
مايا هل أنت مستعدة .. لأن أعالجك أنا ؟
نظرت له باستغراب وقالت : ولكنك أنت تعالجني ..
فقال لها :
لا ..
مايا هناك عقار جديد .. قمت أنا والدكتور ميان بتطويره ..
ولكنه تحت البحث .. ولا يحق لنا أن نعمل عليه لأنه غير موثوق به ..
ولم يوافقوا لي بأن أستخ ..
قاطعته مايا وهي تقول بهدوء :
هل أنت الذي صنعته ؟
توقف قليلاً ثم قال :
أجل ..
ابتسمت مايا وقالت :
بشار .. أنا بين يديك .. افعل ما تريد ..
لك الحرية المطلقة ..
فأنا أثق بك ..
لأني ..
لأني ..
أحبك ..
قالتها مايا ونزل رأسها وصارت لا تقدر أن تنظر في بشار من شدة الخجل ..
أما بشار فأحس أن قلبه يخفق بشكل غير عادي ..
إنها أول مرة تقول له هذه الكلمة ..
لقد قالتها أخيراً ..
نهض بشار من فوق سريرها ..
وهو يكاد يجن ..
جلس فوق الكرسي ..
وجهه في قمة الاحمرار ..
أمسك قلبه وقال بالعربية :
يا الله .. قلبي ..
ما كل هذا الخفقان ..
أحس أن قلبه يكاد يتمزق من قوة الضربات ..
ثم نهض مرة أخرى ..
أمسك يدها ..
التي كانت كالزبدة الطازجة ..
قبلها ..
وهي لازالت في دوامة من الخجل ..
نظر لها وقال :
أحبك ..
فابتسمت ..
رجع بشار إلى المنزل ..
جلس فيه وحده ..
سيخاطر بحياته ..
ولكن من اجل من ؟
من أجل من تعني له الحياة كلها ..
سيخاطر بمستقبله المهني ..
كل هذه السنوات سوف تضيع هباءً منثورا إن فشل العلاج ..
ولكن ليس هذا المهم ..
المهم أن ينقذ مايا ..
تنهد بعنف ثم نظر إلى الساعة ..
كانت قاربت على الثامنة ليلاً ..
كان يحس بقلق بلا حدود ..
وفجأة .. تذكر كلام والدته ..
دخل الحمام ..
واغتسل ..
أحس أن هناك سواداً كان متعلقاً فيه ..
بدأ يخرج من جسمه ..
توضأ في حمامه ..
ثم خرج ..
لبس ثوب نوم سعودي ..
لا يدري لم فعل ذلك ..
ولكنه كان يريد بشدة ..
ربما رغبة منه ..
في أن يحس أنه مازال مسلماً ..
ربما كي تعود به الذاكرة حين كان في السعودية ..
ويحس بالعهد الذي مضى ..
إنه ليس جاحداً ..
أو منكراً للصلاة ..
ولكنه كان متهاوناً في أمرها ..
بدأ في صلاته ..
أحس بهدوء رهيب ..
وهو يقرأ القرآن بصوت عالي ..
أخذ يحس أنه يطير ..
وأنه لا يريد أن ينتهي من صلاته ..
وانه يريد أن يبقي له ما تبقى من عمره في صلاة وعبادة ..
ركع .. وسجد ..
أخذ يدعو الله أن يوفقه في أمره ..
أحس أن الله قريب منه ..
قريب منه جداً ..
أحس أن الله يسمعه بحق وهو يناجيه ..
إحساس قلما يحس به أحدنا والله ..
اختتم بشار صلاته ..
وعينيه رطبة ..
لم تنزل دموعه .. ولكنها أوشكت ..
أحس بنقاء لا حدود له ..
وراحة نفسية .. تملأ كل جزء من كيانه ..
كما لو كان نوراً يملأ روحه كلها ..
أحس أن لا شيء في هذه الدنيا مهم ..
قرر من ذلك اليوم ..
ألا يفوت ركعة لله ..
ثم أقفل مصابيح غرفته ..
وغط في نوم مرتاح البال ..
الساعة السادسة صباحاً ..
خرج بشار من بيته مبكراً قبل مواعيد الدوام الرسمية ..
بعد أن صلى الفجر ..
جميل هو الإحساس في بداية الرجوع إلى الله ..
يحس الواحد أنه مقبل بكيانه كله ..
بطريقة قد لا يقدر عليها بعد سنوات من الاستمرار في هذا الطريق ..
وصل إلى المستشفى ..
توجه إلى غرفة المدير ..
ووضع ورقة على مكتب السكرتير ..
الذي لم يكن موجوداً وخرج ..
كانت الورقة ..
طلب إجازة سنوية ..
لمدة شهر ..
وهي أمر لم يقم به بشار من أكثر من سنتين من العمل المتواصل ..
ذهب إلى غرفة مايا ..
طرق الباب بلطف ..
كانت مايا .. جاهزة ..
وكانت قد وقعت ورقة ..
تخلي فيها مسؤولية المستشفى عنها ..
بعد أن وقعت ورقة بالخروج منها ..
ولكنها قبل أن تخرج مع بشار ..
قالت له : لن أبقى في الفندق القريب من بيتك ..
وقف بشار وقال لها :
مايا إنه المكان الأفضل طالما أنت لا تودين المكوث في شقتي ..
رغم أنك قلت لك أني لن أقيم معك..
ولكنها قالت : هناك مكان أفضل ..
نظر فيها بتساؤل ..
فقالت : عند أهلي في الريف ..
نظر لها وقال : ولكن هل سيواف ..
قاطعته وهي تقول : لقد كلمتهم ..
وقد أعددنا لك غرفة خاصة ..
ثم صمتت بعد أن قالت بحزن : لو مت أريد أن أموت بجوار أهلي يا بشار ..
نظر لها بشار ..
وأحس في عينيه حريق الدموع ..
ثم قال :
مايا ..
سوف تعيشي ..
لن أخذلك أبداً ..
صدقيني سوف تعيشي ..
ثم أشاح بوجهه .. وقال لها وهو يمشي أمامها ..
هيا بنا ..
مشت مايا معه ..
ولكنها قبل أن تخرج من الغرفة قالت : توقف ..
نظر لها بشار ..
توقفت مايا .. وأخذت تتأمل الغرفة في لحظة صمت ..
ثم قالت : هذه الغرفة ..
أول مكان كان للقائنا ..
أول مرة قلت لي فيها أحبك ..
وأول مرة قلت أنا لك فيها أحبك ..
سأشتاق إليها كثيراً ..
هذه هي أروع ذكرى في حياتي ..
أخذ بشار يتأملها ..
كانت كعادتها مذهلة ..
بل أكثر من ذلك بكثير ..
أخذ بشار .. يتأمل من نافذة القطار ..
وهو يقول ..
مستحيل ..
رائئئئئئئئئئئئئع ..
سبحان الله ..
ابتسمت له مايا ..
فقال بشار بحماس : إنه تماماً مثلا أفلام الكرتون ..
الطبيعة هنا بحق خلابة ..
قالت مايا مبتسمة : إنك لم ترى الجبل بعد ..
ستعرف أن كل الذي قد رأيته في صغرك ..
كان من وحي الحقيقية تماماً ..
أهلي يسكنون في الريف الياباني ..
في مقاطعة شياو ..
إنها جميلة جداً ..
ثم أخذت هي الأخرى تتأمل من النافذة وتقول بصوت منخفض : كم اشتقت إلى المنزل ..
كانت الغابات الخضراء .. تملأ المكان كله ..
والأشجار الجميلة .. عالية رائعة ..
والسماء الزرقاء .. عذبة جميلة ..
وفي نهايات الأفق تطل عليك الجبال المكسوة بالثلج ..
منظر في قمة الروعة ..
ما يجعله ملهماً لكتابة قصيدة يكثر فيها الوصف ..
ولم يكن يعلم بشار أنها لمحة من جمال الطبيعة اليابانية ..
وبدأ يحس أن قرار مايا كان صائباً باختيار الريف حتى تساعدها حالتها النفسية على العلاج بشكل أفضل ..
يظن البعض أن العلاج الكيمائي وحده هو المهم ..
ولكن الدراسات أثبتت غير ذلك ..
إذ إنه من المهم ..
أو تكون النفسية في حالة جيدة ..
بل إنها لها دور كبير جداً في هذا العلاج..
ولعل هذا يفسر بمثال بسيط:
30% بالمائة من تأثير الدواء هو تأثير نفسي ..
كما ذكر رئيس أكبر شركة لإنتاج الأدوية في مقابلة مع لاري كنج مذيع cnn الشهير ..
وعندما توقف القطار ..
نزل بشار مع مايا ..
وفجأة وجد بشار شاباً يجري باتجاه مايا ..
كان نحيلاً ..
ملامحه بسيطة إلى حد مثير ..
له شعر قصير ..
ويرتدي جينزاً أزرق اللون ..
وفلينة بيضاء ..
وما إن رأته مايا حتى احتضنته ..
وبدا على محيا ذلك الشاب ..
الفرح والسرور العميق ..
ثم جاء إلى بشار ..
وانحنى أمامه .. بتلك التحية اليابانية المعروفة ..
أومأ بشار برأسه دون أن يحني رأسه ..
مشيا سوياً ..
وذلك الشاب يحمل كل الحقائب .. حتى وصلا إلى سيارة أجرة ..
وهو لا يكاد يوقف الحديث مع مايا ..
فقالت مايا وهي مبتسمة إلى بشار ..
هذا أخي ساندو ..
وقالت لأخيها : هذا هو الدكتور بشار ..
فقال ساندو : باااااشار ..
ضحك بشار وهمسة من اللفظ الغير دقيق ..
وصل التاكسي إلى بداية غابة ..
توقف هناك ..
نزل الجميع ..
ووقف يتأمل جمال الطبيعة الساحر ..
حيث الأشجار بأنواعها المختلفة موجودة ..
وبعض الأزهار الحمراء تزهر فوق تلك الأغصان في منظر فتان ..
كان السير داخل الغابة العشبية مغري بكل ما تحمل الكلمة من معان ..
قال بشار بحماس :
أين المنزل ؟
نظر ساندو إلى مايا نظرة متسائلة ..
فقالت مايا :
قد يطول بنا السير قليلاً ..
هل أنت مستعد ؟
فقال بشار وهو يحس بمتعة لا حدود لها:
بالطبع مستعد ..
ما دمنا سنسير وسط هذه الغابة ..
وفعلاً ..
بدؤوا المسيرة ..
وبشار لا يكف عن التأمل ..
كيف لم يزر مثل هذه الأماكن وهو على الأقل يدرك أن بعضها قد يكون موجوداً ..
لم فضل المدينة الصاخبة ..
على هذه الطبيعة الرائعة ..
التي تشتهي فعلاً أن تجلس فيها إلى الأبد ..
شاهد سنجاباً صغيراً وهو يتسلق شجرة ..
أخذ يتأمله ..
كان أحياناً يشاهد بعضاً منه ..
ولكنه قريب منه جداً هذه المرة ..
أخذ السنجاب .. يختبأ في حفرة في الشجرة ..
غير منتظمة المعالم ..
ويتأملهم في خوف ..
كل هذا متعة بطريقة خاصة ..
مضى بهم المسير ساعة من الوقت ..
وفجأة .. تناهى إلى بشار .. صوت شلال ..
فقال لمايا : هل هذا ... ؟؟؟
فقالت مبتسمة ببراءة : نعم إنه شلال ..
فنظر فيها بشار في دهشة وقال : يوجد شلال بالقرب من بيتكم ..
فقالت مايا :
إنه شلال صغير .. ومنزلنا يقع عند مصب الشلال الذي يستمر بعد ذلك نهراً ..
ابتسم بشار .. حتى ظهرت ضواحكه ..
وهو يحس بسعادة لا حدود لها ..
وفعلاً ..
انتهى بهم الطريق ..
إلى تله هناك .. جوار مصب الشلال ..
وفي نهايتها منزل مصنوع من الخشب ..
بالشكل التقليدي لبيوت اليابانيين ..
السور الحجري القصير ..
السقف المثلث الشكل ..
مجسمات التنين على أطرافه
والساحة الكبيرة النظيفة ..
دخل بشار ..
وكان والدها ووالدتها بانتظارهم ..
أخذت مايا تجري نحو والدتها ..
وتعانقها في حب ..
كانت أمها تلبس الزي الياباني النسائي الشهير .. بلون أزرق جميل ..
وأبوها أيضاً .. ذلك الزي الياباني ترابي اللون
ويرتدي سيفاً ..
أحس بشار منه بالخوف في البداية ..
ولكن ما لبث أن عرف لاحقاً أنها مجرد شكليات ..
كانت مايا وساندو هما الابنان الوحيدان لهذه العائلة..
رحبت العائلة ببشار بحفاوة كبيرة ..
وأعدو له غرفة خاصة ..
وكعادتها تتميز ببساطتها الشديدة ..
والحواجز التي لا يظهر من ورائها الخيال عند إضاءة المصابيح ..
وبعد أن رتب أغراضه في الغرفة الصغيرة ..
سمع حشرجة عند الباب ..
ثم مد ساندو رأسه من الباب وقال بابتسامة :
الغداء جاهز ..
جلس بشار .. وهو يتأمل المائدة الشهية ..
سوشي ..
وترياكي ..
وبعض من النودل = المكرونة
وكلها طبعاً مطبوخة بطريقة معينة ..
وقطع من سمك السلمون اللذيذ ..
أحس بشار بألفة غريبة للوهلة الأولى ..
كانوا ودودين ولطفاء ..
راق لهم بشار ..
بخفة دمه ..
وطريقته المرحة في الحياة ..
وبعد انتهاء الطعام ..
توجه بشار إلى غرفته ..
كانت الساعة قد شارفت على الثانية ظهراً ..
قرر الصلاة ..
وأحس أنه يود أن يقوم بأمر ما ..
خرج من المنزل ..
بعد أن أخبر ساندو ..
وتلمس طريقه ..
حتى وصل إلى النهر ..
وجلس يتأمل ماء الشلال الذي ينهمر بغزارة من الجبل الصغير ..
وحين يصطدم الماء بالنهر ..
منظر في غاية الروعة ..
لا تستطيع الكلمات أن تصفه ..
ولمح خيالاً لقوس قزح .. نتيجة لانعكاس ضوء الشمس ..
والأحجار في قاع النهر في تمام صفاءها ..
والرذاذ المتطاير في جمال فائق ..
منظر بديع .. يكفيك أن تبقى له متأملاً طوال حياتك ..
كم ود لو يستحم فيه ..
إنه حلم راوده منذ الصغر ..
منذ كان طفلاً صغيراً ..
كان يريد أن يفعل ذلك ..
ولكن ليس الآن ربما لاحقاً ..
وبدأ يتوضأ من ماء النهر ..
يا الله .. إنه بارد بحق ..
بارد جداً ..
ولكنه كان يستلذ بذلك بحق ..
يستلذ بالوضوء الذي ما حلم أن يفعله بهذه الطريقة الرائعة ..
وبعد أن انتهى ..
رجع مرة أخرى إلى المنزل ..
وشاهدمايا ..
يا للجمال ..
يا اللللللللللللللللللللللللللللللللللللللللللللله ..
لأول مرة شاهدها تلبس اللباس الياباني الكيمونو ..
كانت جميلة .. جميلة .. جميلة ..
بل فاتنة .. إلى حد الصمت ..
كانت ترتدي ثوباً أبيضاً ..
عليه رسوم لزهور عباد الشمس باللون الأحمر كبيرة الحجم ..
ولردائها حدود حمراء اللون غاية في الأناقة ..
وتلبس في قدميها ..
صندلاً خشبياً مألوفاً ..
وقدمها مثل المرمر .. يتلألأ فيه ..
ويديها كأنما هي قطن طبيعي فتان ..
ووجهها كأنما الفجر إذا أشرق ..
وشعرها الأسود اللامع يتمايل مع نشيد الرياح بكل أنوثة ..
لم يشاهد بشار في حياته شيئاً كهذا من قبل ..
حتى النهر والشلال ..
لا .. إن ما هو أمامه ..
أروع وأجمل وأحلى بمليون مرة ..
كان يحدق فيها بطريقة ..
زادتها خجلاً ..
فوضعت سبابتها في فمها في خجل .. وأخذت تعض عليها في دلع ..
فأحس بشار أنه يكاد أن يفقد وعيه ..
كان الخجل يرسم في خديها ..
تفاحة حمراء ..
وينبت حقول الورد في شفتيها ..
ويخفض في رأسها دلال وأنوثة لم يحلم بها رجل رومانسي أو كاتب ..
أحست مايا أنها لا تستطيع أن تتحمل نظرة بشار ..
فدخلت إلى المنزل مرة أخرى وهي تجري خجلة ..
بشار مد يده كأنه يستوقفها ..
دون أن ينطق بشيء ..
فقط فتح فمه ..
وظل لدقيقتين واقفاً في محله ..
من فرط دهشته بهذا الجمال الأخاذ ..
ثم نفض عنه كل هذا
وقال : يا الله .. سبحان الخلاق البديع ..
دخل غرفته .. مرة أخرى .. وهو في حالة سكر ..
ولكنه نفض عنه كل تلك الأفكار جانباً ..
حتى يصلي
وبدأ يصلي ..
ويسبح الله ..
ويقرأ شيئاً من القرآن وهو يتمتم ..
ويسجد .. ويدعو الله ..
وأحس أنه نسي للحظات فقط ..كل ما مر به للتو ..
سلم عن يمينه وعن يساره ..
ثم قام بعد أن رفع سجادته ..
ولكن ..
وجد مايا وعائلتها كلها تنظر له بدهشة بالغة للحظات ..
ثم ..
ظهرت ملامح عدائية في وجه الأب وهو يصرخ ..
ما هذا الذي تفعله ؟؟؟؟؟؟؟؟؟
ترى كيف سيتعامل أهل مايا مع إسلام بشار ..
هل ستكون هذه نهاية الطريق ..
وبذلك تنتهي هذه العلاقة ؟
وما علاقة كل هذا بمرض بشار ؟
أين دور د.فراس من القصة وبقية الأبطال ..
أم أن القصة هي قصة بشار وهمسة ؟
تابعوني ..
فسوف تعرفون الكثير ..
وما زال بجعبتي الأكثر والأروع ..
والمدهش
لكم مني كل تقدير واحترام