حين أصدر جوال همسة رنينه المعتاد في صالة المنزل ..
كان والد همسة وأمها موجودين في الصالة ..
يتحدثان عن همسة ..
رد الأب وقال : ألو ..
" عفواً .. أليس هذا جوال الدكتورة همسة ؟ "
فقال الأب : نعم .. من يتحدث ؟
فقال الرجل : أنا الدكتور علي رئيس الدكتورة همسة والمشرف عليها ..
أين هي ؟
فقال الأب : المعذرة .. كانت أعصابها مرهقة للغاية ..
لم تتكلم بشيء حتى ..
فقط ذهبت للنوم ..
أنا والدها يا دكتور علي ..
هل حدث شيء ؟
إننا قلقون عليها ..
صمت الدكتور علي وقال :
لا أعرف في الحقيقة ..
أتمنى أن تكون بخير ..
على كل حال .. أحببت أن أخبرها ..
أنه قد تحدد موعد سفرها إلى أمريكا أخيراً ..
بعد أسبوعين إن شاء الله ..
إجراءات البعثة تمت والحمد لله ..
لا وقت لديها ..
لا بد أن تعد نفسها ..
فقال الأب وهو سعيد :
شكراً يا دكتور علي .. سأبلغها حتماً ..
وبعد انتهاء المكالمة .. تنهد الأستاذ سعود أبو همسة ..
وقال لأمها : ألم تقل لك أي شيء؟
قالت الأم :
Nothing .. I am very worried about her .. she just told me:
لا أريد أن أتكلم مع أحد ..
أنا مرهقة .. وأريد أن أنام ..
فقال الأب : خيراً إن شاء الله ..
لا بد أن خبر السفر سوف يسعدها ..
مضت ثلاثة أيام على تلك الأحداث ..
لم تستطع همسة أن تحضر للمستشفى ..
طلبت إجازة ..
وجاءها خبر السفر مكملاً تلك السلسلة التراجيدية من الأحداث الأخيرة التي صارت تستبيح عالمها بلا استئذان ..
وفي هذه الأيام .. راحت تفكر ..
ماذا ؟ هل أذهب ؟
أوليس هذا الحلم الذي راودني منذ أن كنت في سنة أولى طب ؟
أليس بشار قد تخلى عني ؟
ولكني قد وعدته ..
لا .. لا .. لا يهم الآن ..
هناك هدف أعلى ..
ولكني أحبه !
كان الصراع الذي يدور في رأسها كبيراً جداً ..
قلق عليها والداها ..
وكلما كانا يتحدثان لها .. كانت تتهرب من الإجابة ..
إن همسة ذلك النوع من الشخصيات ..
التي تتخذ قرارها بنفسها ..
ولا تحب أن تشغل الآخرين بمشاكلها ..
فهي تؤمن أنها لن تدع مجالاً لأحد كي يستخف بمشاعرها ..
أو حتى تصرفاتها ..
وكانت الأم هي التي ربت هذه الشخصية الأمريكية الأصل في نفسية همسة ..
إلا أن البيئة الشرقية التي تربت فيها كان لها أيضاً نصيب في التأثير على شخصيتها ..
ليجعل هذا الصراع محتدما بهذه الطريقة ..
المشكلة أنها كانت تفكر في تلك اللحظات التي قالت فيها تلك الكلمات لبشار ..
إنها لم تكن ضعيفة بهذه الطريقة في حياتها ..
لقد كانت تتعلق بقشة ..
ولكنها خسرت كل شيء ..
صحيح أنها تحبه .. ولكن كان لا بد لها أن تكون أكثر قوة ..
كيف فعلت ذلك ؟
إنما هي لحظة من التهور ..
لحظة من المجازفة التي قد تربح وقد تخسر فيها ..
وحقاً لقد خسرت ..
مضى بها التفكير كثيراً ..
آخذاً حيزاً عظيماً من عقلها وكيانها ..
وقررت في النهاية ..
نعم لقد قررت أن تسافر ..
وأن تبتعد عن كل هذه الأشياء ..
عن بحث بشار ..
إنها لا تريد منه شيئاً ..
إنها لا تريد البحث ولا تريد تلك المعلومات ..
تريد أن تمسح الماضي كله وتلقيه في حفرة من حفر النسيان ..
ولا بد أن البعد سوف يساعدها على عدم التراجع ..
نعم .. إنها تقدر أن تقسي قلبها ..
تقدر أن تكون أقوى من ذلك كما كانت ..
لا بد أن تنحي العاطفة قليلاً في حياتها ..
وتعود همسة سعود .. الفتاة المعروفة بثقتها في نفسها ..
لا بد أن تفعل ذلك ..
وعندما وصلت إلى هذه النقطة من تفكيرها ..
نهضت بقوة ..
كانت مرتدية بجامة نوم بيضاء اللون .. عليها بعض الأشكال الملونة ..
تصل إلى منتصف الساعدين والساقين..
كانت فيها أشبه بدمية صغيرة ..
نزلت إلى الطابق السفلي ..
كان أبويها يتحدثان في اهتمام ..
سمعت همسة بعض الكلمات المتطايرة :
البعثة .. السيارة الجديدة .. جامعة فلوريدا ..
نزلت همسة وكأنما قوة الشخصية التي كانت لديها تضاعفت مرتين ..
فقالت بجمود : مساء الخير ..
وقف والداها هنا ينظران لها بخوف ..
فقالت همسة مظهرة لا مبالاة :
ما بكم ؟
إن هذه الطريقة الدفاعية التي يستخدمها بعض الناس كي يظل في إحساس بالأمان .. وأنه لا يزال مسيطراً على أمور حياته ..
ثم جلست معهم .. وظل والداها ينظران لها بقلق ..
أما همسة فنظرت قليلاً .. ثم تبسمت وقالت : حقاً .. ما بكم ؟
فقال سعود أبوها : همسة حبيبتي .. إننا قلقون عليك .. ليس إلا ..
فقالت الأم بعصبية :
At least you own us a story
فقالت همسة وهي تنظر لأبويها بعيون قوية .. مفتوحة على اتساع كبير يظهر أغلب الحدقة بزرقتها الجميلة :
ليس إلا أني سأفارقكم ..
ابتسمت الوالدان ..
وقام سعود واحتضن ابنته في حب حقيقي ..
أما همسة فاحتضنته وهي تحس بألف ألم وهي تقول في نفسها بصوت كم تمنت لو يُسمع : إنه بشار .. وليس أنتم ..
وكم هو من الواضح أن الأب وعلى غير العادة يظهر هذا القدر من الحب لابنته كطابع شرقي في حين أن أم همسة لا تظهر الكثير من المشاعر في العادة فهي التي ربت في همسة قوة الشخصية العملية في تركيب شخصيتها ..
وبعد أسبوع ..
أنهت همسة كل شيء بسرعة فائقة على غير المألوف ..
إنها تريد أن تذهب في أقرب فرصة ..
ورتبت كل حاجياتها للسفر ..
وقامت والدتها بحفلة كبيرة ..
دعت فيها كل الأقارب وكل الأهل ..
والحق يقال .. إن همسة كانت سعيدة ..
نعم فهذا ما كانت تحلم فيه ..
وكلما جاءت صورة بشار في مخيلتها حاولت التشاغل بأي شيء ..
حاولت المستحيل ..
ونجحت كثيراً ولكنها أخفقت أكثر ..
وكانت كل مرة تقول في نفسها :
البعد سوف ينسيني ..
ذلك هو حلمي ..
إنه لا يفكر في حتى ..
وبالطبع في هذه الأيام أخذت إجازة حتى تستعد لسفرها ..
وفرحت كثيراً بتلك الحفلة ..
قامت والدتها بإعداد طعام شهي للغاية حفاوة بابنتها الدكتورة .. على الرغم من أن الأستاذ سعود رجل أسهم وعقارات ذا وزن وإمكانيات مادية .. تجعله ببساطة يستطيع أن يوفر لها أرقى حفلة في أرقى فندق ..
ولكن الوالدان .. أحبا أن يكون الوضع عائلياً دافئاً ..
وقابلت همسة الجميع بابتسامة كانت لا تنغصها إلا سهام الذكرى التي كانت تطلقها ذاكرتها على قلبها متمثلة في بشار ..
وقابلت همسة قريباتها اللواتي لم تقابلهن منذ زمن بعيد للغاية ..
وتعمدت همسة أن تكون لطيفة أكثر من اللازم .. بل صارت تلاعب بعضاً من الأطفال ..
إنها تريد بحق أن يذكرها الناس بالخير ..
أحست كم كانت حمقاء ..
حين فضلت الطب على حياة عائلية كهذه ..
إنها في بعض الأحيان كانت تنسى اسم بنت عمتها الصغيرة ..
فتخجل من نفسها ولكنها في النهاية تناديها بكلمات عذبة حتى تتحاشى الإحراج : يا عسل .. يا حلوة .. يا قمر ..
وجاء يوم السفر المنتظر ..
إن رحلتها الساعة الواحدة بعد منتصف الليل ..
كانت تعد حقيبتها الأخيرة ..
لتحمل فيها بعض مستلزماتها الخاصة ..
وبينما هي كذلك ..
وقع يدها على الملف الأزرق ..
إنه ملف تجربة بشار ..
راحت تنظر إليه ..
وللحظات تاهت ..
وكأنما راحت في رحلة عميقة ..
وهي تتذكر بشار ..
بجلسته تلك على السرير ..
أخذت تمسح على الغلاف بيديها وتمسح على أجزاءه ..
لسوف ترجع الملف .. هذا أمر مؤكد ..
حتى ينتهي كل شيء يربطها ببشار ..
ولم ينقذها من هذا إلا صوت والدها وهو يطل برأسه من الباب قائلاً : حبيبتي همسة .. كل شيء على ما يرام ؟
نظرت له وأزالت خصل شعرها البنية المذهبة الأطراف وقالت :
أجل يا بابا .. لا عليك ..
أطال فيها النظر لبرهة ثم قال :
متأكدة أنك لا تحتاجينني كي آتي معك ؟
على الأقل في أول شهر حتى تتأقلمي مع الحياة هناك ؟
فقالت همسة وهي تبتسم بصدق :
لا .. شكراً يا بابا ..
هناك شخص مسئول من وزارة التعليم العالي سوف يستقبلني في المطار .. لا عليك ..
فقال الأب : على كل .. إن احتجت أي شيء ..
هناك ابن خال والدتك في Tampa
كلها ساعتين ويكون لديك ..
وإن احتجت بصدق لشيء هام .. لا عليك ..
أستطيع أن أحضر في أي لحظة ..
قامت همسة لا إراديا ..
واحتضنت والدها بحب حقيقي الذي تلقاها في صدره ..
وراح يحتضنها بقوة وهو يهمس في أذنيها : سوف أشتاق إليك يا حبيبتي كثيراً ..
ابتسمت همسة وتركت نفسها في حضن أبيها للحظات ..
أحست بالدفء .. بالأمان ..
التي لا يمكن أن تشعر به حتى في أحضان من تحب ..
كانت الساعة الثانية عشرة والنصف ..
حين كانت همسة تودع والدتها ووالدها في المطار ..
لحظات من التأثر ..
وعناق بدموع ..
ووصايا متعددة ..
وأحست همسة أنها تحلم ..
كانت رائحة المطار تلك تبعث في نفسها شعوراً عجيباً ..
والأصوات والهمهمات ..
كلها تلك بروتوكولات للمسافرين ..
كانت همسة لأول مرة تختبرها ..
ودخلت همسة إلى صالة المغادرين ..
وبعد دقائق دخلت من تلك الممرات البلاستيكية العجيبة ..
حتى وصلت إلى الطيارة ..
كانت المضيفة المغربية تحييها بتلك الابتسامة الأنيقة ..
وبعد لحظات كانت في مقعدها في الدرجة الأفق ..
ربطت حزامها ..
كانت تلبس معطفاً سكري اللون ذو أكمام طويل ..
على غير العادة ..
حين كانت تسافر فتكتفي ببنطلون واسع وفضفاض ..
وقميص طويل ..
وهذه المرة كانت تلبس حجاباً بنياً مزين بنقوش إكليلية ..
في هذه الفترة من حياتها ..
صارت همسة تنظر للإحتشام والأدب ..
بشيء من نظرة المهابة ..
بشيء من الأهمية في حياتها .. وصارت تعطي لها وزناً مختلفاً ..
ربما ما كان يقوله بشار هو السبب ..
وربما إحساسها الذي بدأ ينظر لهذه الأشياء بنظرة أكثر واقعية ..
ربما هي رغبتها في التغير نحو الأفضل وإلى الأبد ..
وربما كل هذه الأمور مجتمعة ..
استغرقت الطائرة اثنتي عشرة ساعة حتى وصلت إلى مطار أورلاندو
وعندما وصلت ..
استغرقت ساعتين أخريين ..
في التفتيش والجوازات ..
كان كل شيء يسير بنظام الساعة ..
لم تستغرق كثيراً حتى انتهت ..
أحست بإحساس عجيب ..
أحست أنها مسؤولة عن نفسها بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى ..
أحست من أنها لا بد أن تفعل كل شيء بنفسها ..
وأنها لا بد أن تبدأ من جديد ..
وأن تصهر حياتها بالقالب الذي تريده ..
وما هي إلا لحظات ..
حتى كان مبعوث وزارة التعليم موجوداً ..
كان رجلاً باكستانياً ذو ابتسامة عريضة ووجه حليق ..
أخذها من المطار ..
حتى يصل بها إلى : Gainesville
المدينة الجامعية التي تبعد حوالي ساعة ونصف عن أورلاندو
مدينة الترفيه العظيمة في ولاية فلوريدا ..
والتي تحوي ديزني لاند .. ويونيفيرسال ستديو
وغيرها من الأماكن .. التي يحلم بعض الأمريكان أنفسهم بالذهاب إليها ..
كان الطريق بديعاً بطبيعته الخلابة الرائعة ..
بل ببساطة استطاعت همسة أن تشاهد جميع أنواع الطقس التي يمكن أن تراها في رحلة واحدة ..
فالجو كان مشمساً للحظات .. وما لبث أن أصبح غائماً ..
ثم أمطر لحوالي ثلاث دقائق ..
ثم توقف المطر ..
شيء عجيب ..
وعلى الطريق تستطيع أن تشاهد المساحات الخضراء الواسعة للغاية ..
حتى إنها لتشبه كثيراً الجبل الذي كانت تسكن به هايدي في المسلسل الكرتوني الشهير ..
حتى الخيول .. والبقر والبيوت الخشبية العتيقة ..
وصلت السيارة إلى السكن الذي اختارته لها البعثة بعد اتفاق مسبق ..
Melrose compound
كان مجمعاً سكنياً مؤلف من وحدات سكنية متعددة ..
ولما وصلت شقتها التي كانت في الدور الأرضي .. شكرت الرجل ..
الذي كان في غاية التهذيب ..
وأعطاها كرته وقال لها في حال احتاجت إلى أي شيء ..
فإنها تستطيع أن تتصل عليه في أي وقت ..
وسوف يقدم لها الخدمة المطلوبة ..
كان الباب يفتح بواسطة البطاقة ..
وعندما نظرت إلى الباب ..
كان رقم شقتها : 642
توقفت برهة ..
تباً .. لم يحصل هذا لي ..
ولكنها تجاهلت كل هذا ..
ودخلت إلى شقتها .. التي طلبت أن يكون السكن فيها منفرداً ..
كانت الشرفة تطل على مساحة خضراء تخص كل وحدة سكنية ..
وقد بدأت بعض الأشجار تسقط أوراقها معلنة بداية الخريف ..
كانت جائعة للغاية ..
اتصلت على الدليل .. وطلبت رقم أي مطعم يوصل مجاناً ..
وما هي إلا ثلث ساعة بالضبط وكانت البيتزا تدق على بابها ..
جلست تأكل ..
وتركت أشياءها متناثرة ..
إنها بحاجة إلى الراحة ..
دخلت إلى غرفة النوم .. وتركت بقية الأغراض في الصالة ..
ونامت بملابسها ..
بعد أسبوع من وصول همسة ..
كانت قد بدأت تألف المكان شيئاً فشيئاً ..
ولكنها كانت تحس بوحدة كبيرة للغاية ..
كانت كل يوم تتصل بوالدتها ووالدها ما يقارب ساعة أو أكثر ..
أو تكلمهم عن طريق الماسنجر ..
ولكن أحياناً يكون فارق التوقيت عائقاً لكل منهم ..
ولكن المشكلة ..
أن هذه الوحدة لم تساعدها على نسيان بشار أبداً ..
بل زادت من التفكير به ..
حتى إنها أحيانا تغلق أذنيها .. حتى لا تحس بطنين اسمه ..
أو تفتح التلفزيون .. حتى تشغل نفسها ..
لم تكن دراستها قد بدأت ..
وإنما في بداية الأمر ..
لا بد من سنة كاملة .. إعدادية ..
تأخذ فيها بعض المواد الأساسية ..
قبل أن تشرع في برنامج الزمالة ..
في University of Florida
وطبعاً كانت الدراسة في البداية خفيفة ..
حيث إن الجد لم يبدأ بعد ..
ومضى أسبوع آخر ..
ولكن حالة همسة لم تتحسن بل زادت سوءاً ..
صارت تفكر في بشار بطريقة غير عادية أبداً ..
وانتهى بها الأمر أن صارت ..
تبكي ..
وتقول : أريد أن أنساك ..
أرجوك .. أريد أن أنساك ..
بل إن همسة فكرت كثيراً في أن تشتري بيرة أو أي شيء قد ينسيها ..
ذهبت وفتحت حقيبة ملأتها بالكتب العربية ..
وراحت تبحث عن واحد منها حتى تنشغل بالقراءة ..
ووجدته ..
وجدت الدب الأبيض في ركن الحقيبة الكبيرة ..
أخذت تنظر إليه للحظات ..
ما الذي أتى بك إلى هنا ؟
لا بد أنها أمي .. لا بد أنها هي التي فعلت ذلك ..
تباً !
لذلك لا أحب أن يرتب لي أغراضي أحد ..
ظلت تنظر فيه لبضع ثواني ..
ثم مددت يدها بأصابع مرتجفة ..
أمسكته ..
وراحت تتأمل في عينيه البنيتين ..
وأخذت تمسح على قبعته ..
ضحكت .. والدموع في عينيها ..
قبلت الدب ..
ثم وضعته مكانه ..
وراحت إلى الشارع تمشي غير عابئة بأي شيء ..
محاولة النسيان
كانت حالتها تزداد سوءاً ..
ووجودها وحدها لا يخفف عنها الأمر أبداً ..
بل إنه يزيده مشقة ..
حتى إن ذلك أثر في دراستها بشكل واضح ..
كانت كثيراً ما تسرح في الجامعة ..
بل إنها أصبحت قليلة الإهتمام ..
إنها لا تستطيع أن تحتمل كل هذه الأمور دفعة واحدة ..
أما كشكول همسة ..
فعانى من اسم بشار بكل الطرق والأحرف ..
في الركن .. في الطرف العلوي من الصفحة ..
بالعربي والإنجليزي ..
الأسبوع الرابع :
لم تستطع همسة أن تنام منذ أكثر من يومين ..
شعرها أصبح منكوشاً ..
ساءت حالتها الصحية بشدة ..
اتصلت أكثر من مرة على السعودية ..
ولكنها لم تكلم والدها ..
بل اتصلت على المستشفى ..
وصارت تسمع صوت بشار في كل مرة ..
معاناة حقيقية لمن يحب أن يتعذب بمن يحب ..
معاناة .. أن لا نستطيع النسيان ..
معاناة قد توصلنا إلى أشد الحالات كآبة في الدنيا ..
في لحظة واحدة .. نظن أننا قد سيطرنا على أنفسها ..
وفي اللحظة التالية .. نتراجع وننكمش وترانا نهوي في جنون الحب ..
كذب من قال إن كل الذين قرروا أن يتخلوا عن محبيهم استطاعوا ..
أو أن ذلك البطل الذي ترك حبيبته لأي سبب كان ورحل استطاع أن يمضي سنيناً من النسيان ..
لا إن المعادلة ليست بهذه البساطة أبداً ..
بل إن الموت والله يكاد يكون أقرب للإنسان من أن يستمر في هذا التعذيب النفسي الذي لا ينتهي أبداً ..
حتى لا أنزلق في علاقات غرامية لا ترضى بها مبادئي التي تربيت عليها ..
وحتى أستطيع أن أحصل على الفتاة التي أريد ..
أوهمت جميع من أعرف بالإنسانة التي أحب ..
بل إني كنت أصنع لها الهدايا التي قد تكلفني جزءاً كبيراً من مدخراتي ..
ثم ألقيها بجوار البحر ..
أو حتى في حاوية للنفايات ..
شيء في منتهى الجنون ..
ولكنه حصل ..
وصفت كيف تقابلنا ..
وصفت كيف قلت لها لأول مرة في حياتي أحبك ..
وصفت المحادثة التلفونية التي كنت أتخيلها بمنتهى الدقة ..
أدخلت عليها كل تفاصيل حياتي ..
وأشركتها في كل صغيرة وكبيرة في عمري بلا استثناء ..
واستمرت معي طوال دراستي في كلية الطب ..
بل إني أحيانا أوكلها لتتخذ عني قراراتي ..
لا أدري .. لم سيطرت على حياتي ..
وصدقتها ..
ربما لأني أريد أن أصدق أني شخص يستحق أن يُحب ..
ربما لأني أود أن أصدق أني أحب هذه الفتاة الخالية من كل العيوب ..
هذه الفتاة المفصلة على مقاسي أنا ..
هذه الفتاة التي جعلتها تمدح من أحب ..
وتلعن من أكره ..وتدعو عليه بالموت ..
كانت مرآتي أنا في أحيان كثيرة ..
كانت صوت الحق تارة في نفسي ..
وصوت الشيطان مرة أخرى ..
وظللت اكتب فيها مئات كلمات الحب والغزل ..
كانت تشاطرني الفرحة ..
وأيضاً الدمعة ..
قبلت أن أعيش بها إلى نهاية العمر ..
وأن أتزوج أوراقي وشخصيتي الوهمية ..
مايا ..
كتبت اسمها بالدم في دفاتري ..
وفي كل يوم كنت أراها أنثى أخرى ..
مرة تشبه تلك الممثلة ..
ومرة أجمل من تلك المغنية ..
ومرة في طهارة تلك الفتاة المحشمة ..
صدقيني إن قلت لك ..
أنها في نظري قد وصلت الكمال ..
من جمال وحشمة وأدب وتربية وعائلة وتواضع وأخلاق ورومانسية وحب وولاء وإخلاص ورضى وقناعة ..
كل المواصفات التي تستحيل أن تجدينها في بشر ..
صنعتها أنا في مايا ..
وبعد أن تخرجت ..
استمرت مايا معي .. لسنة واحدة تقريباً ..
فكرت في الزواج الحقيقي ..
ولكن مايا ..
كانت العقدة أمامي ..
صرت أقارن كل فتاة بمايا ..
إلى أن قالت لي جدتي :
اختر أنت الفتاة التي تناسبك ..
لم أستطع أن أجد فتاة تروق لك ..
طلباتك صعبة جداً ..
ولكن مايا بدأ وجودها يضعف في حياتي ..
كنت لتوي طبيباً متخرجاً من الجامعة ..
إلى أن جاء ذلك اليوم ..
حين رأيت مايا الحقيقية !
قالت همسة : مايا الحقيقية !
أتريد أن تجعلني معتوهة بهذا التعقيد ..
قال بشار :
ليس تعقيداً أبداً ..
وإنما ببساطة ..
كانت هناك مريضة يابانية اسمها مايا ..
جاءت لتعالج في المستشفى التي كنت أعمل بها ..
كانت جميلة ..
ولكنها ليست كصورة مايا التي رسمت .. والتي كانت شرقية الملامح جداً ..
ربما كان الاسم له طنين خاص للغاية ..
فقط أحببتها لاسمها ..
كان لديها ورم خبيث ..
كانت ابنة لأحد أعضاء الملحقية الثقافية اليابانية بالسعودية ..
أما أنا فجن جنوني ..
أحسست أن هذه هي مايا ..
صرت أغير في شخصية مايا الخيالية ..
وألائم عليها الصفات التي أعرفها ..
أو حتى اضطر إلى تغيير شخصية مايا الخيالية ..
قالت همسة وهي تحس بعسر في الفهم : لم أفهم ..
تنهد بشار وقال :
هناك مايا الخيالية التي اخترعتها أنا ..
وهناك مايا الحقيقية المريضة .. التي رأيتها في عالم الواقع عندما تخرجت ..
حاولت ببساطة أن أدمج الخيالية في الحقيقية ..
حتى أتوهم أن هذه الفتاة هي التي أحببت منذ زمن بعيد ..
وبدأت رحلة حب غريبة ..
حب فتاة لا أعرف عنها إلا اسمها ..
كنت أحس بمهابة رهيبة في أن أتحدث معها ..
فقط كنت أمر كل يوم على غرفتها ..
حتى أراها وأذهب ..
كانت ترسم ..
ولذلك كانت مايا التي حكيت لك رسامة ..
قالت همسة :
ولم كانت مايا التي أخبرتني عنها قصة مختلفة ؟
نظر بشار فيها .. وقال :
لأن مايا الحقيقية ..
لم يمضي على وجودها أيام قلائل إلا وسافرت وعادت إلى اليابان .. بعد أن تأكدوا من أن لديها ورما خبيثاً في الكبد ..
وعندما ذهبت ..
أحسست أن الدنيا كلها تتهاوى من حولي ..
فقررت إنشاء مشروع محاكاة جديد ..
مايا 2
6 مجلدات أخرى ..
وكيف أني ذهبت إلى اليابان ورأيتها ..
ألم تلاحظي أن قصتي مليئة بالمفارقات اللامعقولة ..
هل تتوقعي أن طبيباً يابانياً يتبنى طفلاً سعودياً ..
لا وبل يُمنح بعثة على حساب الجامعة؟
هل رأيتني يوماً أتحدث شيئاً من اليابانية ؟
حتى البحث الموجود على النت alphaGp53
موجود باسم الدكتور ميان ..
لم يكن من تأليفي ولا شاركت فيه أبداً ..
قفزت هنا مايا وقالت :
إذا كيف كنت تعرف كل شيء فيه ..
ورحت تشرحه لي بمهارة ؟
ابتسم بشار بحزن وقال :
ذلك كان منتهى الجنون مني ..
في تلك الأثناء كنت قد قررت أن أتخصص في علم السرطانات ..
لأن مايا مريضة بهذا الشيء ..
وكان هذا البحث في تلك الأيام مثار العاصفة الكبرى في ميدان الطب ..
قرأته بل فصصته من اهتمامي به ..
كان عندي هوس شديد ..
بأن أذهب لليابان وأجرب هذا العلاج على مايا ..
كنت أريد أن أنقذها بكل ما أستطيع ..
على الأقل حتى لو كان ذلك في خيالي .. لكي أرضي جنون قصتي المُختلقة ..
صدقيني كنت أعيش الدور بقدر ما أستطيع ..
إنك لن تستطيعي .. أن تفهمي حياة إنسان ..
تربى يتيماً .. محروماً من العاطفة ..
ليس في حياته الكثير من الأصحاب ..
ليس إلا ابن عمته الوحيد وسام وابنته الصغيرة منى ..
إنه حتى ليس أخي ..
تربى وأعرضت عنه أول فتاة في حياته بلا سبب مقنع ..
لن تستطيعي أن تفهمي الصراع النفسي في إنسان خيالي حاول أن يكون إنساناً مثالياً ..
أن يكون صادقاً ومحباً ..
وأن يعطي الناس الأمل والحب كلهم ..
وأن يعاملهم بطريقة أصفى من السماء الزرقاء ..
أن يكون مرهفاً حساساً حالماً وشاعراً كما تقتضي طبيعته ..
له كل الحق أن يُحِب أو يُحَب ..
دون أن يعاني من السخرية ..
أو الرفض والاستهجان من الناس ..
أو حتى الاستغلال من المقربين ..
والتعامل بتلك اللزوجة والنفاق ..
هذا ما يستحقه أمثالي من الذين كانوا ينظرون للحياة بمنظار وردي ..
قررت أن أتغير وأن أعيش مثاليتي التي أنا عليها مع ذاتي ..
من حبيبتي التي اخترعتها والتي تقدر وتفهم كل هذا ..
مع إنسانة تشعر في كل شيء أفعله ..
قد لا تستطيعين الفهم يا همسة ..
قد لا تستطيعين أن تقدري كل هذا ..
أنت معذورة ..
لن يستطيع أحد في الدنيا أن يفهم جنوني هذا إلا أنا ..
التفت إلى همسة التي كانت دموعها خط رفيع على وجنتيها ..
وأنفها قد صار أحمراً .. قالت له بأكبر خيبة أمل في حياتها :
لم فعلت كل هذا يا بشار بي ؟
ما الذي فعلته أنا بك ؟
لم دمرت حياتي كلها؟
دمرت حياتي العلمية .. وجعلتني أعود من أجل ماذا ؟
حتى إنك لا تحس بي ..
والله هذا حرام ..
هذا ليس إنصافاً ..
قال لها بشار :
ما فائدة الحب إن كان محكوماً عليه بالإعدام ؟
بالله عليك كيف تريدينني أن أجعلك تستمرين في حبي وأنا أموت ؟
هل هذا هو الفعل الصائب؟
أن أجعلك تتعلقين بي ..
ثم أتركك تعانين الأمرين ؟
نظرت فيه همسة مستفهمة .. إن كلامه هذا يعني شيئاً ما ..
قال لها وهو ينظر لعينيها بقوة:
همسة .. والله الذي لا إله إلا هو ..
ما كذبت عليك في كلمة قلتها لك الآن ..
ولن أكذب حين أقول لك بأني :
أحبك
لم تحتمل همسة كل هذا ..
جلست تبكي ..
وراح جسمها ينتفض ..
لم كل هذا الجنون يلاحقها ؟ لم ؟
وجدت يداً دافئة تمس كتفها في شيء من الحنان ..
بقيت على حالها دون أن يتوقف بكاؤها ..
قال لها : أنا آسف .. والله ما قصدت أن أجرحك بكلمة ..
صدقيني أنا آسف ..
رفعت رأسها إليه وراحت تتأمل في وجهه ..
والدموع تغرق وجهها وعينيها الزواقاوين ..
فقال لها بصدق وبنظرة ما رأتها قبلاً في عيني بشار ..
نظرة حالمة .. نظرة دافئة ..
نظرة فيها الدنيا كلها ناعمة :
والله العظيم .. أحبك ..
ثم مد يده بتلك الوردة الحمراء ..
نفس الوردة التي كانت تصل إليها منذ زمن بعيد ..
نفس طريقة التغليف ..
لقد كان هو حتماً ..
لم يكن فراس كما ظنت
إنه بحق كان يحبها منذ طول أمد ..
فضحكت همسة من بين كل الدموع .. ولازالت دموعها تقطر من وجهها ..
الفصل ما بعد الأخير
لم تنتهي الحقائق عند هذا الحد ..
إلا أن همسة في تلك اللحظات لم تهتم إلا بالنقاط الرئيسية ..
مايا الحقيقية اليابانية ..
فتاة تعتنق النصرانية ..
وهي ليست حتى من الريف الياباني ..
أحب بشار أن يجعلها في خياله تسلم حتى يجعلها في النهاية في قمة الكمال ..
وكتب بشار موت مايا التي تخيلها في النهاية .. لأن مايا الحقيقية قد توفيت فعلاً من مرضها بالسرطان ..
فعاش بشار دور الحزن على طريقته الخاصة ..
لم تكن هناك صلة كبيرة بين مواصفات مايا الحقيقية ومايا الخيال ..
ربما الشكل الذي عمد بشار إلى أخفاء عيوبه ..
وإظهاره بمنظار الجمال ..
البحث حقيقي .. يقوم الدكتور ميان ناريتا حقيقية بالعمل عليه ..
وقد أثبت نجاحاً باهراً ..
مما دعا الجمعية السعودية للأورام السرطانية في السعودية ..
إلى البدء بتجربته ..
وكانت تحتاج إلى متطوعين ..
وكان أول من تطوع بهذا الشيء هو بشار ..
فقد كان يعرف الكثير عن هذا البحث وآمن به ..
وبالطبع الدكتور أسامة .. قريب بشار ..
هو المسئول عن هذا الموضوع ..
وأما إصابة بشار بالسرطان ..
فليس له أي ارتباط بمايا من قريب أو بعيد ..
وإنما كانت سقطة له قبل سنة حين كان يسبح على حافة المسبح ..
أدت إلى نمو ورم سرطاني خبيث ..
البحث الذي أعطاه بشار لهمسة ..
كان خلاصة لأفكار بشار على البحث الأصلي Gp53 alpha
وتجاربه الخاصة التي عملها على أرانب اختبار ..
وكانت ثمرة جهد قيمة ..
صاغها في بحث طبي عن مايا ..
ولذلك لم يستطع أن يقدمها للدكتور أسامة ..
لأنها تفتقر إلى الثقة العلمية ..
ونتائجها غير المضمونة ..
بدأ العلاج الفعلي بالعقار الجديد على بشار بعد أسبوعين من رحيل همسة إلى أمريكا ..
والعلاج استمر إلى لحظة لقاء همسة ببشار ..
قررت همسة .. أنها لن تتخلى عن بشار تحت أي ظرف كان ..
وبالفعل كان لها ما تريد ..
ذهبت إلى الدكتور ياسر .. الذي ساعدها تلك المرة ..
طلبت منه أن تزور المستشفى للتابع حالة بشار ..
وعللت ذلك بأنه خطيبها ..
كانت حجة قوية جداً ..
لقد راهنت بكل شيء من أجل بشار ..
كيف وقد تخلت عن حلم حياتها من قبل من أجله ..
لا يهم الآن إلا أن تراه سليماً ..
وافق الدكتور ياسر في البداية على مساعدتها ..
وسمح لها بالبقاء ..
بل استطاع أن يتدبر لها العمل كطبيبة عامة في المستشفى في آخر الليل .. على أن تكون طبيبة مناوبة ..
لكن همسة لن تنسى ذلك اليوم أبداً ..
عندما كانت همسة في غرفة الدكتور ياسر ..
ثم لا تدري لم .. أخبرته بأن بشار ليس خطيبها ..
ولكنه سيكون كذلك ..
وكانت هذه غلطة همسة التي ستظل تحقد على نفسها فيها طالما تذكرتها ..
حين بدأ ينظر لها الدكتور ياسر نظرة أفعوانية خبيثة ..
وهو يقول مبتسماً ابتسامة ماكرة بصوت أشبه بالفحيح بنصف عين:
ألم تقولي أنه خطيبك .. وأنك ..
لقد كان الموضوع غير ذلك إذن؟!
همسة استحملت كل هذه الإيحاءات اللزجة .. وقالت :
دكتور ياسر .. إنه يحتاجني .. وأنا لا أريد أن أتخلى عنه أبداً ..
نظر فيها بسخرية وقال :
قولي لي على الأقل من البداية ..
حاولت همسة قدر ما تستطيع أن تضبط أعصابها وهي تقول:
أنا آسفة يا دكتور .. لم أقصد صدقني ..
ضحك الدكتور ياسر ثم قال :
دكتورة .. إننا لن نسمح بأي مشاكل هنا ..
ابتلعت همسة كلماته كالجمر في حشاها ..
إنه يتعامل معها بفظاعة ..
ولكنه قال : على كل .. ستستفيدي من متابعة حالته ..
لا ينبغي أن أذكرك ..
إن احتجت أي شيء .. رقمي موجود لديك ..
أم أنك حذفته ؟
قالت همسة بابتسامة متصنعة :
شكراً يا دكتور .. إنها موجودة لدي ..
خرجت همسة من الغرفة وهي تكاد تموت غيظاً ..
" د. همسة ؟ "
ردت على الصوت بعنف : ماذا تريد ؟
ولما نظرت في وجه محدثها ..
صُدمت ..
كان الدكتور فراس ..
كان يقف منذهلاً ..
استدركت بسرعة وقالت : آسفة لم أكن أقصد ..
ابتسم لها وقال بصوت منخفض :
كيف حالك يا همسة ؟
ابتسمت همسة بصدق في وجهه وقال : بخير ..
كيف حالك أنت ؟
قال لها : بخير ..
قالت : تزوجت ؟
تنهد وقال : ليس هناك شيء أجمل من الحرية ..
نظرت فيه مستفهمة .. فقال :
لم نتفق للأسف ..
كان بيننا اختلاف كبير جداً ..
ابتسمت همسة ..
قال لها فراس : هل أستطيع أن أدعوك إلى فنجان قهوة ؟
لم أرك منذ زمن طويل ..
قالت همسة : لا بأس ..
جلست همسة مع فراس ..
يتناولان قدحاً من القهوة ..
دار الكثير من الحديث ..
قال لها فراس بعد فترة من الكلام :
همسة .. ببساطة شديدة ..
ما رأيك في كإنسان ؟
نظرت فيه همسة للحظة وقالت وهي تعدل منظارها الطبي :
ما شاء الله عليك .. إنسان أخلاق ومحترم ..
ولا يعلى عليك ..
فقال لها : ما رأيك لو تقدمت لك ؟
كان هذا السؤال مفاجئاً لهمسة جداً ..
ارتبكت..
ولكنها قالت :
فراس .. ألف فتاة تتمناك لها زوجاً ..
ولكن .. لا أستطيع ..
لست أنا التي أستطيع أن أفعل هذا الأمر ..
قال لها : لم ؟
همسة لا أخفيك .. واحد من أسباب انفصالي عن نور خطيبتي السابقة= أنت ..
نظرت فيه همسة وهي تبتسم بخجل وتقول متفاجئة : أنا ؟
قال لها : همسة .. أنت ما شاء الله عليك ..
إنسانة أخلاق ..
وفيك كل المواصفات التي يتمناها الإنسان للزواج ..
وأنا بصراحة أرغب في الارتباط بفتاة تفهم معنى أن أكون طبيباً ..
تحب مهنة الطب هذه بحق ..
كما تحبينها أنت ..
إنسانة لديها طموح ..
أعترف .. لقد كنت معجباً بك منذ البداية ..
ولكنني لم أقدم على شيء ..
اعتبر هذه حماقة مني ..
كان من المفترض أن أتقدم لك بشكل رسمي على الأقل ..
ولكني فضلت أن أخطب أخرى .. لا أدري لماذا ؟!
تنهدت همسة .. وقالت : إنك لا تفهم ..
فقال لها : اشرحي لي .. جربيني ..
شرحت له همسة باختصار شديد الموضوع ..
وأنها متعلقة بشخص آخر ..
تفهم فراس الوضع .. بطريقة دبلوماسية ..
كان شاباً رائعاً متفهما بحق ..
تمنى لها السعادة ..
ثم قال لها : إن كان بوسعي أن أفعل لك أي شيء يا همسة ..
فثقي بأني لن أتأخر عليك أبداً ..
ابتسمت همسة .. ثم افترقا..
ومضى على هذه الحوادث سنة كاملة ..
وهمسة تكاد تعتكف على حالة بشار ..
والدكتور أسامة يشرف على العلاج ..
بشار بدا في حالة الإعياء التي تصيب مرضى السرطان في حالتهم المتأخرة ..
وصدقوا ..
بأنه ما من ألم في الأرض أجمع ..
مثل ذلك الذي تحسه وأنت ترى أحب مخلوق لك في الأرض يتلوى من الألم ..
ولا تستطيع أن تفعل له شيئاً ..
ليس هناك أبشع من أن تراه في أبشع صورة ..
وأنت لا تستطيع أن تقدم له حتى روحك ولا كيانك لتساعده ..
بكت همسة كثيراً على حال بشار ..
الذي بدا أن صحته تتدهور تدريجياً ..
وبتسارع مخيف ..
يبدو أن العلاج لم يجدي هذه المرة ..
كما لو أن قصة مايا تكتب هذه المرة بحبر الواقع لا الخيال ..
وعلى الرغم من هذا ..
كان بشار كما هو ..
تلك الشخصية التي نعرفها ..
ما زال يعيّر همسة بالنظارة أم خمسة ريال ..
وهمسة أحياناً تبتسم من خلف الدموع ..
وأحيانا تبتسم وهي تدعو الله ألا يفارقها بشار ..
سنة من المعاناة النفسية والبدنية ..
سنة من حروق الحب التي لا يتحملها البشر ..
وتتحملها رغماً عنها طبيبة مثل همسة ..
ليس إلا لأنها طبيبة ..
مهمتها مداوة المرضى مهما كان شعورها ..
مهما كان إحساسها ..
ومهما كان الثمن ..
كانت تحب بشار .. بشيء من الجنون ..
إنها لا تتخيل أن تمضي يوماً دون أن تراه ..
قررت أن تبقى طبيبة عادية على الرغم من أن الفرصة أتيحت لها أن تكمل دراستها في الخارج ..
لأنها تحبه ..
إلى أن أتى ذلك اليوم ..
بشار بحاجة إلى عملية عاجلة ..
يحتاج إلى تغير دم جسمه بالكامل ..
لقد انتشر السرطان إلى أماكن أخرى ..
وأصيب بسرطان الدم ..
وإلى انتزاع ورم وصل إلى القلب يسد الشرايين التاجية التي تغذي القلب ..
مشكلة الأورام الخبيثة .. أنها تنشئ أوراماً أخرى في الجسم ..
ولذلك يصعب التحكم فيها ..
كانت العملية خطيرة ..
وكانت ستتم في تمام الساعة العاشرة صباحاً..
دخلت همسة على بشار في التاسعة .. قبل العملية بساعة ..
قلبها لا يكاد يحتويها من الخوف ..
تحس أنها سوف تفقده ..
لا يا بشار أرجوك ..
حاولت أن تتصنع القوة بقدر ما تستطيع ..
حاولت أن تكون همسة القوية التي لا تكسرها مثل هذه الأمور ..
دخلت الغرفة ..
كان بشار موجوداً ..
على وجهه بعض سمات الألم والاصفرار واضح عليه ..
ورأسه على المخدة وقد تغطى بالملاءة ..
رغم ذلك تبسم لها وقال : أهلا بسيدتي الجميلة ..
ابتسمت همسة ..
كانت رائحة العطر التي يضعها في غاية الروعة ..
نظر لها وإلى نظارتها الشمسية ثم قالت : لازلت تشترين نظارة بخمسة ريالات ؟
نظرت همسة وقالت له في غيظ مبتسمة :
حرام عليك ..
لقد اشتريت هذه النظارة ب600 ريال مخصوص حتى لا تقول لي هذه الكلمة ..
فقال بشار وهو يحامل على نفسه بقدر ما يستطيع حتى يخفي آلامه الواضحة :
لقد كذبوا عليك ..
ثم أخرج لها من تحت وسادته كيساً صغيراً وقال :
هذه لك حتى لا أسخر منك مرة أخرى ..
وقدم لها الكيس فتحته وفيها فضول عجيب ..
أخرجت منه ميدالية على شكل نظارة صغيرة ..
ضحكت همسة وقالت: ما هذا ؟
قال لها بشار : هذه هي النظارة الحقيقية ..
ليست كالتي تملكين ..
ثم مد لها يده من تحت الفراش بمفتاح صغير وقال علقي هذا المفتاح فيه ..
علقته همسة وهي تنظر له تسأله ما الخبر ؟
فقال لها بعد أن انتهت من وضعه في الميدالية :
هذا مفتاح هذه الحقيبة التي أمامك ..
وأشار لها على حقيبة متوسطة الحجم .. زرقاء اللون ..
فقالت : ما بها ؟
قال لها :افتحيها
فتحت همسة الحقيبة :
ولما رأت ما رأت ..
وضعت كفيها على فمها .. حتى تخفي شهقة كادت تخرج من حلقها ..
كانت هناك دفاتر كبيرة الحجم .. مرتبة باهتمام بالغ ..
وبعض الأوراق الأخرى الصغيرة ..وشهادة لكلية الطب فيها اسم بشار ..
والورود الحمراء من نوع الروز تملأ ما بين الأشياء ..
ورواية صغيرة ..
وقرآن ..
وقميص أبيض ..
وCDs
وظروف ورسائل .. وبعض الشموع الصغيرة ..
والكثير من الميداليات والمعدنيات ..
نظرت فيه وهي تقول مشيرة نحو الدفاتر ..
هذه الدفاتر هي .......... ؟
قال لها : نعم هي ..
ثم تنهد وقال : همسة ..
أريدك أن تأخذي هذه الحقيبة الآن ..
هذه الحقيبة ..
فيها كل شيء في حياتي ..
أهم الأشياء في حياتي كلها ..
أستطيع أن أذهب إلى آخر العالم ولا آخذ منها سوى هذه الحقيبة فقط ..
صدقيني فيها أغلى أشيائي في الدنيا كلها ..
أريد أن أعطيك إياها ..
فقالت : ولكن ..
قاطعها : أرجوك ..
ثم قال في خفوت : إن كنت تحبينني أرجوك افعلي من أجلي ..
أحست همسة بما يدور في رأس بشار ..
أحست أنها تقاوم نفسها ..
دموعها تخونها ..
سوف تبكي بالتأكيد ..
قعد بشار على الفراش .. ورفع الملاءة من على صدره ..
فقالت همسة : وااااااااو ..
وابتسمت بفرح ..
كان بشار يلبس القميص الأزرق الذي اشترته همسة له قبل أن تسافر ..
ابتسم بشار وقال : يبدو أنك لم تلاحظي العطر أيضاً ..
إنه عطرك الذي جلبت ..
لم تعرف همسة ما تقول ..
أحست أنها تدوخ ..
وأنها لا تمشي على الأرض بل إنها تطير فوق السحاب ..
مد بشار يده لها ..
فوضعت أناملها بحياء في يده ..
فأمسكها وقربها من شفتيه .. وقبلها بحب بالغ ..
أحست همسة بقشعريرة في جسمها كلها ..
وسحبت يدها ..
فقال لها مبتسماً :
ما فعلت هذا الأمر في حياتي أبداً ..
كنت أتمنى أن أقوم به لمرة واحدة فقط في هذه الدنيا ..
ابتسمت همسة من شدة الخجل ..
تلاقت العيون ..
وهذه المرة دار حديث عيون طويل ..
حديث حب ..
قال بشار : كم أنت حلوة ..
ابتسمت همسة بخجل وأشاحت بوجهها ولكنه قال : أرجوك .. دعيني أنظر إليك .. أرجوك ..
رفعت همسة عينيها إليه للحظات
ولكنها لم تتحمل نظراته ..
فأشاحت مرة أخرى .. وهي تبتسم ..
صمت بشار لثوان ثم قال :
همسة ..
إن مت .. أرج
قاطعته همسة وقالت وهي تحس أن قلبها يهوي بين يديها :
أرجوك يا بشار لا تقل هذه الكلمات يا حبيبي ..
أرجوك .. سألتك بالله ..
فقال لها وهو يضم شفتيه :
همسة الموت حق ..
أريد أن أخبرك بعدة أمور ..
صمتت همسة وهي تحس بغصة خانقة ..
قال بشار :
الحياة لا تتوقف عندي يا همسة ..
الحياة طويلة .. وتستمر ..
إن كرهت نفسك .. وجلست في حالة الحزن التي تملأ كيانك ..
صدقيني لن تستفيدي شيئاً ..
قالت له : ولكن يا بش ..
قاطعها وقال : هل تحبيني ؟
صمتت وقالت بصوت مختنق : أجل .. أ .. أحبك ..
فقال لها : والله لن أكون سعيداً إن لم تكوني سعيدة ..
صدقيني إن أعظم هدية تهدينها لي أن تكوني سعيدة ..
وأن تتذكرينني بكل خير ..
ابتسمت همسة وطرفت من عيناها دمعة وقالت :
وكأني أشاهد يوم وفاة مايا ونفس الوصايا ..
فقال لها بشار : ولكن هذه المرة سيكون حقيقياً ..
ولن تكون مجرد قصة ..
سأموت يا همسة ..
نظرت له همسة ولم تحتمل ..
وضاقت عيناها وصارت تبكي ..
وهي تنظر فيه بحزن يقطع القلوب إرباً ..
فقال لها بنظرات قوية :
همسة ..
هكذا الحياة .. يوم سعيد وآخر حزين ..
لا نحتاج أن نمضي نجتر آلامنا وذكرى أحزاننا ..
لا بد أن نمضي وإلا جلسنا نتحسر على كل لحظة من عمرنا ..
همسة ..
كما كنت أتخيل أن مايا ستقول لي ..
اهتمي بالصلاة ..
دينك يا همسة ..
هو أهم شيء في الوجود
والله لن يفيدك حبي هذا بشيء ..
أقول لك هذه الكلمات ..
وأنا على عتبات الموت ..
ما ينفعني الآن من شهادتي ؟
ومن خيالي ..
لن يبقى لي إلا عملي .. وما فعلت من شيء طيب في الدنيا ..
همسة ..
أريدك أن تعيشي الحياة وأن تفرحي فيها ..
صدقيني فيها الكثير من الأشياء الحلوة..
وفي نفس الوقت لا تنسي الله أبداً ..
هو من سيوفقك في حياتك ..
همسة انفجرت وصارت تقول في صوت يصعب تفسيره من اختلاطه بالبكاء :
ولما تتصرف كأنك ستموت حرام عليك؟
وجلست في المقعد وصارت تبكي ..
بحرقة ..
وتضع وجهها على يد المقعد ..
وهي تنتحب ..
فقال بشار وصوته واضح فيه التأثر :
المفروض أنك أنت التي تمنحينني القوة ..
وأن تعطيني الأمل .. لا أنا ..
مسحت همسة دموعها مستحضرة قوة جبارة ..
قوة الحب وسط الألم وحاولت أن تبدو بقدر ما تستطيع مبتسمة وهي تقول :
احم .. نظارتك أرخص من نظارتي ..
إنها بريالين ..
ه
فضحك بشار على همسة ..
نظرا إلى بعض قليلاً ..
لم تستطع همسة أن تمسك دموعها قالت : لا أقدر على هذا لا أقدر ..
وخرجت من الغرفة ..
وحانت ساعة الصفر ..
الساعة الآن العاشرة صباحاً ..
لم تستطع همسة أن تدخل غرفة العمليات ..
لم تستطع أن تتحمل أن تفقد بشار ..
كانت في الخارج ..
وعيونها محمرة من البكاء ..
كانت تنتظر ..
وتطالع الساعة ..
مضت إلى الآن ساعتين ..
ولم يخرج أحد ..
وراحت تدعو الله أن ينهض بالسلامة ..
كانت في حالة يرثى لها ..
إنما لم تنم من يومين ..
إنها مرهقة جداااااااااااااااااااااااااااااااااا ..
كم كانت تتمنى في تلك اللحظات ..
أنها لو لم تولد أصلاً ..
الكثير من المشاعر المختلطة في عقلها ..
كيف مرت أحداث حياتها الأخيرة سريعة بهذه الطريقة ..
راحت تتذكر كل حياتها مع بشار ..
كل اللحظات التي قضتها سعيدة معه ..
كانت تمسك في يديها الدب الأبيض ..
أول هدية أهداها إياها بشار ..
وتستند بيدها الأخرى على حقيبته ..
بشار الذي باح لها بسره الأعظم ..
بشار .. الذي أخفى الحب في كيانه من أجل ألا ترتبط بمن حُكم عليه بالموت ..
بشار الذي أعطاها بصدق .. لمسة من الحب ..
قد تمر أجيال دون أن تكون خلاصة الحب فيها كذلك الحب الذي منحها إياها بشار ..
ليس من السهل والله ..
أن تجد شخصاً تحبه وتراه يقول لك : أحبك ..
ثم تقف مكتوف الأيدي ..
لأنك لست أهلا لهذا الحب ..
لن يستطيع أن يعمل ذلك إلا إنسان يحب من قلبه ..
خرج الدكتور علي من غرفة العمليات .. والدكتور ياسر .. ومعهم الدكتور أسامة ..
نظرات الدكتور علي كعادتها قوية قاسية تطل من تحت القناع الطبي ..
نظرت فيه همسة مستفهمة ..
خلع القناع ..
وظهر من تحته وجه محمر من طول استخدامه القناع ..
وقال لها بلهجة قاطعة وبلكنة مصرية :
إنا لله وإنا إليه راجعون ..
لم نستطع إنقاذه ..
تجمدت همسة في مكانها ..
ثم راحت تصرخ بعلو صوتها في المستشفى ..
لم تعد تستطيع أن ترتدي قناع القوة ..
لقد انهارت بكل وحشية ..
وكأنما تندفع بسرعة الصاروخ نحو منابت الألم ..
جرت نحو الدكتور علي وراحت تطالع فيه بعيون تفجرت منها الدموع حمماً وصارت تصرخ في وجهه وهي تقول :
كذاب ..
أنت كذاب .. بشار لم يمت ..
بشار كان يمزح معي كعادته ..
نظر لها الدكتور علي وهو مشفق على حالتها ..
صارت تضرب على صدره بيديها وهي تقول :
قل الحقيقية ..
قل إنه بخير ..
أمسك الدكتور علي بيديها ..
ونظر في عينيها بأسى .. وكأنما يقول لها :
حقاً يا همسة لم نستطع أن نعمل له شيئاً ..
راحت الدموع تنزل أكثر فأكثر ..
تركته وتملصت من يديه وهي تذهب للدكتور ياسر وتقول :
دكتور ياسر ..
أرجوك قل شيئاً ..
أرجوك ..
قل بأنكم استطعتم إنقاذه ..
لم يتكلم الدكتور ياسر بأي كلمة ..
كانت في عينيه نظرات حزينة ..
قالت له : أنا سأعطيه من دمي ..
أرجوك اجعلني أجرب ..
قد ينفع ..
دكتور ياسر لم لا ترد علي ..
الله يخليك ..
لا تتركه هكذا ..
هنا جاء الدكتور أسامة ..
والدموع في عينيه قليلة .. وهو يمسكها من كتفها وهو يقول :
همسة تعالي معي ..
صارت تبكي بين يديه .. وهي في حالة لا يفرح لها بها حتى من يكرهونها ..
ولكنها فتحت عينيها المحمرة وقالت وهي تصرخ: أنتم لا تعرفون ..
أقول لكم بأنه لم يمت ..
كان الناس ينظرون لها بإشفاق ..
وحزن ..
دفعت الدكتور أسامة بقامته الفارعة ..
ودخلت غرفة العمليات ..
كان وجه بشار مغطىً بالملاءات البيضاء ..
اقتربت منه وهي تقول بصوت مرتجف :
حبيبي .. بشار ..
بشار .. رد علي ..
لا أنت لست بشار صحيح ؟
ثم فتحت الملاءة ..
وجدت وجه بشار جامداً ..
بارداً ..
خالياً من كل معاني الحياة ..
صارت تمرر يدها على وجهه بارتجاف .. وهي تقول :
حبيبي بشار .. رد علي أرجوك ..
هيا .. سوف أعوضك عن مايا ..
والله سوف أعوضك ..
بشار ..
الله يخليك قل كلمة ..
بشار ..
سوف نذهب إلى اليابان ..
ونبحث عن مايا ..
خذ مايا ..
كن معها ..
لا مشكلة ..
ولكن فقط قل كلمة ..
أي كلمة ..
بشااااااااااااااار ..
رد يا بشار ..
ثم راحت تضرب في صدره ..
وتضرب وتضرب ..
اقتربت منها ندى من الخلف ..
وراحت تحتضنها ..
مايا سقطت على الأرض ..
وراحت ندى تحتضنها وهي تقول لها :
حبيبي همسة ..
قولي لا إله إلا الله ..
قولي إنا لله وإنا إليه راجعون ..
أما همسة .. فكانت لا تريد أن تسمع ..
طالعت فيها وصارت تقول :
ألا تفهمين أيتها الغبية .. إنه لم يمت بعد ..
إنه حي ..
نهضت وتوجهت نحو بشار ..
وصارت تعمل له تنفس اصطناعي ..
وهي تلهث ..
وفتحت طرحتها ..
وطار شعرها وتناثر على وجهها ..
وراحت توصل الأجهزة باليدين ..
وتحاول تشغليها ..
أمسكتها ندى مرة أخرى ..
ومعها ممرضتان ..
وهي ثائرة .. تقول لهم : دعوني ..
اتركوني ..
بشار ..
لن أتركك ..
بشار ..
أنت حي .. أنت حي ..
بشار لا تتركني وحدي ..
بشااااااااااااااااااااااااااااار ..
ثم عادت إلى نوبة البكاء من جديد ..
كانوا يخرجونها من الغرفة ..
وفي لحظة .. أحست أنها ضائعة ..
لا تعرف شيئاً ..
صمت مدوي في كيان همسة ..
وكأنها ترى نفسها من الخارج ..
وهي تصرخ ..
وتسقط على الأرض ..
هذه ندى .. تلك التي تكرهها .. تمسك بها وتحتضنها .. وتربت على رأسها ..
ما هذه السخافة ؟
إنها تبكي بدموع غزيرة ..
والناس يتحركون ببطيء شديد ..
والصورة باهتة ..
وكلام الناس له صوت ضخم ..
الدكتور ياسر ما زال واقفاً ينظر مشفقاً ..
الدكتور علي والدكتور أسامة غير موجودين ..
رجل يقف هناك ..
وتمسك في ثوبه بشدة فتاة صغيرة ..
وتختبئ خلفه ..
ذات ضفائر مجدولة ..
وعيونها مملؤة بالدموع ..
ما هذا الشعور الغريب؟
إنها لا تريد أن تعي أو تدرك شيئاً ..
لا إنها لا تريد أن تحس بشيء ..
أحست بنفسها فوق السرير ..
وأحدهم يدفع سائلاً شفافاً في وريدها ..
إنهم يريدون أن يقتلوها مثلما قتلوا بشار ..
لا بد أنهم قتلوه ..
لا بشار لم يمت بعد ..
لم يمت حبيبي بعد ..
بشار حي ..
إنه نائم ..
لم يفق من المخدر بعد ..
الصورة راحت تضيع حدودها ..
إنها لا تحس بالناس ..
لم أصبحت الدنيا مظلمة ؟
بعد خمس سنوات :
دخلت الدكتور همسة جامعة الملك عبد العزيز ..
مرقت بالسيارة نحو المستشفى ..
نزلت منها .. وترجل من نفس السيارة ..
شاب وسيم ..
أنيق ..
قالت له همسة : فراس .. لا تتأخر علي .. سوف أنتهي من محاضراتي الساعة الواحدة اليوم ..
التفت لها فراس وقال : لا عليك .. إن انتهيت .. اتصلي علي يا حبيبتي .. ok ?
ابتسمت همسة ..
وهي تعبر المستشفى .. من بين الممرات حتى تصل إلى المباني الأكاديمية لكلية الطب ..
وصلت إلى قاعة محاضرة البنات للمستوى الثالث من الطب البشري ..
دخلت القاعة التي كان يسودها شيء من الهمهمات والأصوات المكتومة .. والضحكات القصيرة ..
دخلت همسة .. بكل هدوء ..
وقالت : السلام عليكم ..
رد البعض والبعض تجاهل ..
قالت : أنا الدكتورة : همسة سعود ..
سوف أقوم بتدريسكم الفصل الخاص بالدورة الدموية من الناحية الفسيولوجية ..
تحت مسمى مادتنا
hysiology
ثم قالت للفتيات : ما كان آخر فصل درستموه مع الدكتورة فاطمة ؟
فقالت فتاة في الصف الأول :
الأورام السرطانية ..
صمتت همسة قليلاً ..
ثم عقدت ساعديها وقالت :
من منكم يود أن يتخصص في الأورام السرطانية ؟
رفعت عدة بنات أيديهن ..
ابتسمت همسة ..
ثم نظرت على الأرض وعضت على شفاهها وقالت بأسى:
أتمنى أن تستمروا في رغبتكم هذه ..
وبدأت الشرح ..
قد يظن البعض أن الطب هي تلك المهنة الخالصة التي توصل الإنسان إلى السعادة والراحة الأبدية ..
وقد يظنها البعض أنها الوظيفة التي تضمن لك مكاناً مرموقاً في الحياة .. ودخلاً يكفي أن تعيش في بذخ .. واحتراماً عالياً في الأوساط الاجتماعية .. وراحة في البال ..
ولكن من ظن ذلك أخطأ ..
الطب هي أصعب مهنة في هذه الدنيا بدون مبالغة ..
إنك تحتاج أن تكون بارد القلب ..
ترى كل يوم مريضاً لك يموت بين يديك .. وأنت لا تستطيع إلا أن تنظر له بإشفاق العاجز ..
رغم أنك الوحيد القادر على إنقاذه .. بعد الله ..
تحتاج إلى أن تقتل نفسك بالعلم .. حتى تلم بالأمراض التي لا حصر لها والتي تصيب مختلف الناس ..
تحتاج إلى دبلوماسية ولباقة كافية ..
حتى تواجه آلاف الناس كل يوم بابتسامة عذبة وتمنحهم الأمل ..
تحتاج إلى قدرة على أن تستيقظ من أحلى نوم .. لأن شاباً متهوراً غبياً كان يسير بسيارته الجديدة السريعة .. واصطدم بعائلة فمات الأطفال ..
وبقي هو ممن بقي على قيد الحياة يصارع الموت ..
ولا بد أنت أن تكون أنت من ينقذ هذا المتهور ..
تحتاج إلى أن تكون ملماً بكل جديد ..
تحتاج أن تحتمل عصبية الكبار ..
وسخافة وصراخ الصغار ..
تحتاج إلى أن يشيب شعرك .. وأن تبقى في المستشفى لأيام لا ترى فيها أبناءك ..
حتى تحصل في النهاية على مقدار من المال ..
يستطيع بعض التجار أن يتحصلوا عليه بطرق أبسط بكثير ..
هذا هو الطب ..
وهؤلاء هم الأطباء ..
هذه القصة ما هي إلا لمحة من جحيم حقيقي لهؤلاء الناس ..
هذا الموقع يستخدم ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز ) للمساعدة في تخصيص المحتوى وتخصيص تجربتك والحفاظ على تسجيل دخولك إذا قمت بالتسجيل.
من خلال الاستمرار في استخدام هذا الموقع، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط.