قطرة روح
بيلساني سنة رابعة
- إنضم
- Jun 20, 2009
- المشاركات
- 729
- مستوى التفاعل
- 8
رسالة إلى فلورانس
رسالة إلى فلورانس: الرهينة لدى بلد رهين
أحلام مستغانمي
يحدثُ أن أذكركِ، على الرغم من أني هنا لا أرى صورتكِ تلك يومياً على شاشة تلفازِ أو صحيفة. ولا أُتابع عدَّادَ غيابكِ.
أُقيم في بيــــروت، وأنــتِ في بغـــداد، مُدناً نسكنها وأُخرى تسكننا، نحنُ القادِمَتَان، إحدانا من الجزائر وأُخرى من باريس، بيننا مُدن الباء، بكلّ ما كان لها من بهاء، بكلّ ما غدا فيها من بـــلاء.
بيننا تواطؤ الأبجدية الفرنسية، جسور تاريخية، وهموم صغيرة نسائية، كان يمكن أن نتقاسم بَوْحها لو أننا التقينا كامرأتين خارج زمن الموت العَبَثيّ، والأقدار الْمُفجعَة.
فلورانس.. إنّــه الصيــف.
تشتاقُـكِ الثياب الخفيفةُ الصيفيّة، أحذيتُكِ المفتوحة الفارغة من خطاكِ.. تشتاقك الأرصفةُ والْمَقَاهي الباريسية، وزحمة الميترو.. وتلك المحال التي أظنّك كنتِ ترتادينها كما كنتُ أرتادُها لسنوات في مواسم التنزيلات.
هل تغيَّـرَ مَقَاسُـكِ.. مُــذ أصبحتِ تقيسين وزنكِ بحميّة الوحشة.. وعدَّاد الغياب؟ وهل أنقذتِ ابتسامتكِ تلك من عدوى الكراهية، ومازلتِ ترتدينها ثوبــاً يليق بكلِّ المناسبات؟ أيتُّها الغريبة التي رفعها الخاطفون إلى مرتبة صديقة، كبُر نادي الأصدقاء. لنا صديقةٌ جديدة لم تسمعي من قبلُ بها: كليمنتينا كانتوني. اسم كأُغنيّة إيطالية تُشَمُّ منه رائحةُ زهر البرتقال. كليمنتينا رهينة في أفغانستان. تصوّري، ثمّة مَن يُلقي القبض على شجرة برتقال بتهمة العطاء، ومَن يُهدِّد بإعدام معزوفة لـفيفالدي، إنْ هم لم يمنعوا بث برنامج موسيقي يُعرَضُ أُسبوعياً في التلفزيون الأفغاني.
النساءُ الأفغانيات اللائي كانت كليمنتينا تساعدهنّ ضمن منظمة إنسانية للإغاثة، مُعتصمات في انتظار إطلاق سراح ابتسامتها. ففي ديننا، الابتسامة أيضاً صَدَقَة يُجازي اللَّه خيراً صاحبها.. ديننا الذي لا يَدين به رجال الكهوف وقطّاع طُرق الأديان.
اعذُريني فلورانس إنْ نسيتكِ أحياناً. أُشاهد فضائيات عربيّة، لا وقت لها حتى لتعداد موتانا. لماذا جئتنا في زمن التصفيات والتنزيلات البشرية والموت على قارعة الديمقراطية؟ نحــنُ نُعاني فائض الموت العربيّ. لا رقم لموتانا، ولا نملكُ تقويماً زمنياً لا ينتظرنا في أجندة مولانا كاوبوي العالم.
نكاد نحسدكِ على دقّة مفكّرة مُحبِّيكِ في عدِّ أيام اختطافك. نحسدكِ على صورتكِ التي تغطِّي المباني والساحات والجرائد والشاشات، مُطالِبة بإطلاق سراحكِ. الذي يختطف شخصاً يُسمَّى إرهابياً، والذي يختطف شعباً يُسمَّى قائداً أو مُصلحاً كونياً. نحنُ شعوب بأكملها مخطوفة لتاريخ غير مُسمَّى. بـــاع الطُّغـاة أقدارنَا للغزاة، فلماذا أيتها المرأة التي نصف اسمها وردة.. ونصفه الآخر فرنسا، جئت تتفتّحين هنا كـوردة مائية في بركة دمنا؟
يا امرأة الغياب.. انقضى زمن ألف ليلة وليلة، ما عادت بغداد توافق وهَمَكِ بها. ماذا في إمكان شهرزاد أن تقول لإنقاذ شرف الحقيقة الْمَهدُور حبرها في سرير القَتَلَة؟
أضمّك.. سامحينا فلورانس * أُذيعت هذه الرسالة الصوتية في إذاعة مونتي كارلو التي دَرَجَت يومياً قبل نشرات الأخبار، على بَــث رسالة من أحد المثقفين، تضامناً مع الصحافية الفرنسية فلورانس أوبينا، المخطوفة سابقاً في بغداد.
وَصَــادَفَ أنْ كانت هذه آخر رسالة موجّهة إلى فلورانس في اليوم المئة والسابع والخمسين من احتجازها، قبل إطلاق سراحها بيوم، ويوم إطلاق سراح الرهينة الإيطالية كليمنتينا كانتوني.
__________________
رسالة إلى فلورانس: الرهينة لدى بلد رهين
أحلام مستغانمي
يحدثُ أن أذكركِ، على الرغم من أني هنا لا أرى صورتكِ تلك يومياً على شاشة تلفازِ أو صحيفة. ولا أُتابع عدَّادَ غيابكِ.
أُقيم في بيــــروت، وأنــتِ في بغـــداد، مُدناً نسكنها وأُخرى تسكننا، نحنُ القادِمَتَان، إحدانا من الجزائر وأُخرى من باريس، بيننا مُدن الباء، بكلّ ما كان لها من بهاء، بكلّ ما غدا فيها من بـــلاء.
بيننا تواطؤ الأبجدية الفرنسية، جسور تاريخية، وهموم صغيرة نسائية، كان يمكن أن نتقاسم بَوْحها لو أننا التقينا كامرأتين خارج زمن الموت العَبَثيّ، والأقدار الْمُفجعَة.
فلورانس.. إنّــه الصيــف.
تشتاقُـكِ الثياب الخفيفةُ الصيفيّة، أحذيتُكِ المفتوحة الفارغة من خطاكِ.. تشتاقك الأرصفةُ والْمَقَاهي الباريسية، وزحمة الميترو.. وتلك المحال التي أظنّك كنتِ ترتادينها كما كنتُ أرتادُها لسنوات في مواسم التنزيلات.
هل تغيَّـرَ مَقَاسُـكِ.. مُــذ أصبحتِ تقيسين وزنكِ بحميّة الوحشة.. وعدَّاد الغياب؟ وهل أنقذتِ ابتسامتكِ تلك من عدوى الكراهية، ومازلتِ ترتدينها ثوبــاً يليق بكلِّ المناسبات؟ أيتُّها الغريبة التي رفعها الخاطفون إلى مرتبة صديقة، كبُر نادي الأصدقاء. لنا صديقةٌ جديدة لم تسمعي من قبلُ بها: كليمنتينا كانتوني. اسم كأُغنيّة إيطالية تُشَمُّ منه رائحةُ زهر البرتقال. كليمنتينا رهينة في أفغانستان. تصوّري، ثمّة مَن يُلقي القبض على شجرة برتقال بتهمة العطاء، ومَن يُهدِّد بإعدام معزوفة لـفيفالدي، إنْ هم لم يمنعوا بث برنامج موسيقي يُعرَضُ أُسبوعياً في التلفزيون الأفغاني.
النساءُ الأفغانيات اللائي كانت كليمنتينا تساعدهنّ ضمن منظمة إنسانية للإغاثة، مُعتصمات في انتظار إطلاق سراح ابتسامتها. ففي ديننا، الابتسامة أيضاً صَدَقَة يُجازي اللَّه خيراً صاحبها.. ديننا الذي لا يَدين به رجال الكهوف وقطّاع طُرق الأديان.
اعذُريني فلورانس إنْ نسيتكِ أحياناً. أُشاهد فضائيات عربيّة، لا وقت لها حتى لتعداد موتانا. لماذا جئتنا في زمن التصفيات والتنزيلات البشرية والموت على قارعة الديمقراطية؟ نحــنُ نُعاني فائض الموت العربيّ. لا رقم لموتانا، ولا نملكُ تقويماً زمنياً لا ينتظرنا في أجندة مولانا كاوبوي العالم.
نكاد نحسدكِ على دقّة مفكّرة مُحبِّيكِ في عدِّ أيام اختطافك. نحسدكِ على صورتكِ التي تغطِّي المباني والساحات والجرائد والشاشات، مُطالِبة بإطلاق سراحكِ. الذي يختطف شخصاً يُسمَّى إرهابياً، والذي يختطف شعباً يُسمَّى قائداً أو مُصلحاً كونياً. نحنُ شعوب بأكملها مخطوفة لتاريخ غير مُسمَّى. بـــاع الطُّغـاة أقدارنَا للغزاة، فلماذا أيتها المرأة التي نصف اسمها وردة.. ونصفه الآخر فرنسا، جئت تتفتّحين هنا كـوردة مائية في بركة دمنا؟
يا امرأة الغياب.. انقضى زمن ألف ليلة وليلة، ما عادت بغداد توافق وهَمَكِ بها. ماذا في إمكان شهرزاد أن تقول لإنقاذ شرف الحقيقة الْمَهدُور حبرها في سرير القَتَلَة؟
أضمّك.. سامحينا فلورانس * أُذيعت هذه الرسالة الصوتية في إذاعة مونتي كارلو التي دَرَجَت يومياً قبل نشرات الأخبار، على بَــث رسالة من أحد المثقفين، تضامناً مع الصحافية الفرنسية فلورانس أوبينا، المخطوفة سابقاً في بغداد.
وَصَــادَفَ أنْ كانت هذه آخر رسالة موجّهة إلى فلورانس في اليوم المئة والسابع والخمسين من احتجازها، قبل إطلاق سراحها بيوم، ويوم إطلاق سراح الرهينة الإيطالية كليمنتينا كانتوني.
__________________