قطرة روح
بيلساني سنة رابعة
- إنضم
- Jun 20, 2009
- المشاركات
- 729
- مستوى التفاعل
- 8
هاتف الحب.. أنقذني من الموت
ربما كنت مدينة للهاتف بوجودي بينكم على قيد الحياة. وعيت في ما بعد أنه كان يمكن لي أن أقضي في ذلك الحادث، الذي ذهب بحياة الفقيد الرئيس رفيق الحريري، وبعض مَن وضعتهم الْمُصادَفة يومها في طريقه، لولا أنني انشغلت ذلك الصباح بمكالمة طويلة وصلتني في "عيد العشّاق"، كسلَّة ورد صباحية، وحجزني شذاها في غرفتي ساعتين، ما جعلني أتأخر عن موعد نزولي من جبل برمّانا إلى بيروت. في الطريق، تذكّرت أنني، من سعادتي بذلك الصوت الذي يبتكر لي عيداً كلّ صباح، عابراً قارّات الاشتياق، نسيت سبب نزولي إلى بيروت. إذ كنت أقصد الغالية لطيفة لأُقدِّم لها هدية بمناسبة "عيد الحبّ". وعندما تنبّهت إلى نسياني الهدية التي قضيت يوماً قبل ذلك في اختيارها، واختيار طريقة لفّها والورود والفراشات التي تطوّعت البائعة بنثرها عليها عندما عرفت لِمَن سأُقدّمها، حزنت، وطلبت من ابني ونحن في الطريق، أن نعود إلى البيت لإحضارها، فراح، عن كسل، يقنعني بأن أُقدّمها لها في الغد. وعندما استسلمت لإرادته سلك طريقاً جبلياً آخر، بعدما لم يجد من ضرورة لسلوك الطريق البحريّ الذي نعبره كلّما نزلنا إلى بيروت، حيث منطقة الفنادق البحرية كانت ممرّاً حتمياً لنا. فجــأة، دقّ هاتفي الجوّال. كانت "مصاريت"، شغالتي الإثيوبية، تهمس لي مذعورة كَمَن استرق هاتفاً ليُكلّمني "مدام.. انتِ وين.. ما تروحي ع بيروت، في بومب.. ارجعي پليز حبيبتي". طبعاً، كانت أوّل مَن عرف بالخبر، بحُكم قضائها اليوم أمام التلفزيون، وصوتها كان يحادثني كما اعتاد مُحادثة صديقتها خلسة من هاتف البيت. ولم أفهم ماذا حدث، ولا كوني أخلفت طريق الموت المبكِّر، إلاّ عندما هاتفت لطيفة لأعتذر لها عن تأخري، وإذا بها تخبرني مذعورة أنّ الانفجار حدث مقابلاً لفندقها، وأن كل شيء اهتز وتطاير، والناس من حولها خرجوا بثياب النوم من غرفهم، وتجمعوا في بهو الفندق. وبعدما وجد نزلاء الفنادق الفخمة أنفسهم في ضيافة الموت، غادر بعضهم إلى بلده في أوّل طائرة، بينما توزّع آخرون على الفنادق الجبلية الفخمة. وهكذا، انطبقت علينا النكتة المصرية غداة حرب 67: "اللي كنّا رايحين لُـهُم.. جُونا". جاءت لطيفة لتقيم على بعد أمتار من بيتي. فقد كان عليها البقاء في بيروت لمواصلة تقديم دورها "ست الحُسن" في مسرحية "حُكم الرعيان" لمنصور الرحباني. كان القمر جاري لبعضة أيام، ووجدتني أنا التي كنت سأقضي معها صباح الحبّ، أقضي معها مساءه، فنتعشّى أنا وهي وأُختها منيرة عشاء "عيد العشّاق" على طاولة محاطة بباقات ورود، لم أفهم سرّها إلاّ عندما جاء قالب الحلوى الصغير ليشي لي بأنه "عيد ميلاد" لطيفة. ببساطتها، تقاسمت لطيفة قالبها الصغير، وقلبها الكبير، مع طاولة لسيدات خليجيات هربن معها من الفندق الآخر، قبّلت طويلاً أطفالهن، ورفضت أن تأخذ صورة مع معجب بها، ما كان مرفوقاً بزوجته. بعد ذلك رافقتُها حتى جناحها لأحمل معها باقات الورود، وبعض أحزانها في يوم غير عادي، ولم أقبل دعوتها إلى مزيد من السهر. في سهرات أُخرى بعد ذلك، كانت تُهاتفني مساء وأنا في ثياب النوم، فتصيح بي باللهجة التونسية "إبقاي كيما إنتِ.. إحنا وحدنا أنا ومنيرة وهديل.. قومي يامراة يزّيك من الكسل". وعندما تلحُّ ألبسُ أول شيء أعثر عليه وأقصدها. نتحدّث كثيراً، نضحك، نغني، نخطّط لمشروعات سينمائية ربما ننجزها معاً. تسألني فجأة: "كيف استطعت العيش في برمّانا؟ أنا لا أطمئن إلى مدينة لا يُرفع فيها الأذان". في لقاء سابق لنا، أُعجبتُ بمصحف إلكتروني، سمعيٍّ بصريٍّ، لا يفارقها جهازه الصغير، فأحضرته هديّة لي. لطيفة، الابنة الشرعية للحب، تُخفي امرأة مؤمنة تخاف اللّه وتذكره كلّ لحظة، إلى حدّ إرباكي. سخيّة معطاء، تشهر بهجة كاذبة، وغناءً يغطي أحياناً على نُواحها الداخلي. هاتفتني تطلب مني في الغد معطفاً أسود وشالاً تذهب بهما إلى عزاء عائلة الحريري. قالت إنها لا تملك شيئاً أسود في حقيبتها. سألتني أن أُرافقها. اعتذرت لأنني لا أحب زحمة التعازي، وواجبات الحزن، وأُفضِّل أن أُعزِّي صديقتي بهيّة الحريري لاحقاً، إنْ أنا صادفتها. أرسلت إلى لطيفة تشكيلة ما في خزانتي من سواد، واثقة بأنّ الأسود يليق بها. فـ"ست الحسن" التي تملأ مسرحية "حكم الرعيان" بهجة، وتملأ حقائبها، حيث حلّت، بالأوسمة، تحتاج إلى أن تكون "سيدة الحزن" كي تكون رائعة.
__________________
ربما كنت مدينة للهاتف بوجودي بينكم على قيد الحياة. وعيت في ما بعد أنه كان يمكن لي أن أقضي في ذلك الحادث، الذي ذهب بحياة الفقيد الرئيس رفيق الحريري، وبعض مَن وضعتهم الْمُصادَفة يومها في طريقه، لولا أنني انشغلت ذلك الصباح بمكالمة طويلة وصلتني في "عيد العشّاق"، كسلَّة ورد صباحية، وحجزني شذاها في غرفتي ساعتين، ما جعلني أتأخر عن موعد نزولي من جبل برمّانا إلى بيروت. في الطريق، تذكّرت أنني، من سعادتي بذلك الصوت الذي يبتكر لي عيداً كلّ صباح، عابراً قارّات الاشتياق، نسيت سبب نزولي إلى بيروت. إذ كنت أقصد الغالية لطيفة لأُقدِّم لها هدية بمناسبة "عيد الحبّ". وعندما تنبّهت إلى نسياني الهدية التي قضيت يوماً قبل ذلك في اختيارها، واختيار طريقة لفّها والورود والفراشات التي تطوّعت البائعة بنثرها عليها عندما عرفت لِمَن سأُقدّمها، حزنت، وطلبت من ابني ونحن في الطريق، أن نعود إلى البيت لإحضارها، فراح، عن كسل، يقنعني بأن أُقدّمها لها في الغد. وعندما استسلمت لإرادته سلك طريقاً جبلياً آخر، بعدما لم يجد من ضرورة لسلوك الطريق البحريّ الذي نعبره كلّما نزلنا إلى بيروت، حيث منطقة الفنادق البحرية كانت ممرّاً حتمياً لنا. فجــأة، دقّ هاتفي الجوّال. كانت "مصاريت"، شغالتي الإثيوبية، تهمس لي مذعورة كَمَن استرق هاتفاً ليُكلّمني "مدام.. انتِ وين.. ما تروحي ع بيروت، في بومب.. ارجعي پليز حبيبتي". طبعاً، كانت أوّل مَن عرف بالخبر، بحُكم قضائها اليوم أمام التلفزيون، وصوتها كان يحادثني كما اعتاد مُحادثة صديقتها خلسة من هاتف البيت. ولم أفهم ماذا حدث، ولا كوني أخلفت طريق الموت المبكِّر، إلاّ عندما هاتفت لطيفة لأعتذر لها عن تأخري، وإذا بها تخبرني مذعورة أنّ الانفجار حدث مقابلاً لفندقها، وأن كل شيء اهتز وتطاير، والناس من حولها خرجوا بثياب النوم من غرفهم، وتجمعوا في بهو الفندق. وبعدما وجد نزلاء الفنادق الفخمة أنفسهم في ضيافة الموت، غادر بعضهم إلى بلده في أوّل طائرة، بينما توزّع آخرون على الفنادق الجبلية الفخمة. وهكذا، انطبقت علينا النكتة المصرية غداة حرب 67: "اللي كنّا رايحين لُـهُم.. جُونا". جاءت لطيفة لتقيم على بعد أمتار من بيتي. فقد كان عليها البقاء في بيروت لمواصلة تقديم دورها "ست الحُسن" في مسرحية "حُكم الرعيان" لمنصور الرحباني. كان القمر جاري لبعضة أيام، ووجدتني أنا التي كنت سأقضي معها صباح الحبّ، أقضي معها مساءه، فنتعشّى أنا وهي وأُختها منيرة عشاء "عيد العشّاق" على طاولة محاطة بباقات ورود، لم أفهم سرّها إلاّ عندما جاء قالب الحلوى الصغير ليشي لي بأنه "عيد ميلاد" لطيفة. ببساطتها، تقاسمت لطيفة قالبها الصغير، وقلبها الكبير، مع طاولة لسيدات خليجيات هربن معها من الفندق الآخر، قبّلت طويلاً أطفالهن، ورفضت أن تأخذ صورة مع معجب بها، ما كان مرفوقاً بزوجته. بعد ذلك رافقتُها حتى جناحها لأحمل معها باقات الورود، وبعض أحزانها في يوم غير عادي، ولم أقبل دعوتها إلى مزيد من السهر. في سهرات أُخرى بعد ذلك، كانت تُهاتفني مساء وأنا في ثياب النوم، فتصيح بي باللهجة التونسية "إبقاي كيما إنتِ.. إحنا وحدنا أنا ومنيرة وهديل.. قومي يامراة يزّيك من الكسل". وعندما تلحُّ ألبسُ أول شيء أعثر عليه وأقصدها. نتحدّث كثيراً، نضحك، نغني، نخطّط لمشروعات سينمائية ربما ننجزها معاً. تسألني فجأة: "كيف استطعت العيش في برمّانا؟ أنا لا أطمئن إلى مدينة لا يُرفع فيها الأذان". في لقاء سابق لنا، أُعجبتُ بمصحف إلكتروني، سمعيٍّ بصريٍّ، لا يفارقها جهازه الصغير، فأحضرته هديّة لي. لطيفة، الابنة الشرعية للحب، تُخفي امرأة مؤمنة تخاف اللّه وتذكره كلّ لحظة، إلى حدّ إرباكي. سخيّة معطاء، تشهر بهجة كاذبة، وغناءً يغطي أحياناً على نُواحها الداخلي. هاتفتني تطلب مني في الغد معطفاً أسود وشالاً تذهب بهما إلى عزاء عائلة الحريري. قالت إنها لا تملك شيئاً أسود في حقيبتها. سألتني أن أُرافقها. اعتذرت لأنني لا أحب زحمة التعازي، وواجبات الحزن، وأُفضِّل أن أُعزِّي صديقتي بهيّة الحريري لاحقاً، إنْ أنا صادفتها. أرسلت إلى لطيفة تشكيلة ما في خزانتي من سواد، واثقة بأنّ الأسود يليق بها. فـ"ست الحسن" التي تملأ مسرحية "حكم الرعيان" بهجة، وتملأ حقائبها، حيث حلّت، بالأوسمة، تحتاج إلى أن تكون "سيدة الحزن" كي تكون رائعة.
__________________