الطفل الضحية
القصة الأولى
الطفل الضحية
أمام قسم الإسعاف
وصلت سيارة أجرة إلى أمام باب الإسعاف و توقفت فجأة و فتحت أبوابها و اندفع منها رجل اسمر اللون متوسط القامة و بدأ يحاول اخراج طفله من السيارة و في نفس اللحظة اندفع عدد من الممرضين يدفعون أمامهم عربة الاسعاف باتجاه السيارة و تساعدوا جميعاً لحمل الطفل و وضعه على عربة الاسعاف و دفعها باتجاه غرفة الانعاش فقد بدا جسمه مليئاً بالكدمات و الرضوض و النزوف و بعد لحظات تبين ان الطفل قد فارق الحياة و بناء على اقوال الاب فقد اعلمت شرطة المشفى القاضي المناوب بأن سيارة مجهولة قد دهست الطفل أمجد وهو يلعب أمام المنزل وهرب الفاعل دون ان يتمكنوا من معرفة اوصافها او رقمها و ذلك بعد ان اعدوا محضراً رسمياً بذلك
هيئة الكشف القضائية
حضرت هيئة الكشف القضائية المؤلفة من القاضي و الطب الشرعي و الكاتب و بدأت عملها حيث قام القاضي بتوصيف الجثة و ثيابها بشكل جيد ثم قام د.هشام الطبيب الشرعي بتأمل الجثة بشكل سريع و حذر و طلب الإذن بنقل الجثة إلى مركز الطب الشرعي حتى يتمكن من تصوير الجثة بالأشعة و تشريحها بعد ذلك فوافق القاضي و أمر له بذلك ثم بعد ذلك علق القاضي قائلاً : والد أمجد يقول إن الأذية كانت بسبب حادث سير فهل هناك من داع لتشريح الجثة
د.هشام : هذا يعتمد على الموجودات السريرية التي سأجدها بعد فحص الجثة في مركز الطب الشرعي و لكن من المهم جداً أن نعرف تفاصيل الحادث المفترض كساعة وقوعه وكيفية وقوعه و بشكل عام أن نعرف ما هي الآلية التي وقع بها حادث السير حتى نستطيع أن نفسر كيف حدثت تلك الإصابات إن كانت ناجمة عن حادث سير أم لا
التحقيق الأولي
كل التحقيقات التي اجراها القاضي مع الاهل تشير إلى أن الطفل تعرض للدهس بحادث سير من قبل سيارة يجهلون مواصفاتها ورقمها و انهم يدعون على السائق في حال معرفته و على ذلك طلب القاضي من عناصر شرطة الحي التوسع بالتحقيق و البحث السري و العلني لمحاولة معرفة السيارة الصادمة و تقديم المتسبب موجوداً إلى السيد المحامي العام
تقرير الطبيب الشرعي د.هشام
عندما انتهى د.هشام من اعداد التقرير الطبي الشرعي و تسليمه إلى القاضي كانت المفاجأة ، فقد كان التقرير على الشكل التالي :
بعد الفحص الطبي الشرعي الخارجي و بعد تشريح الجثة تبين ان الجثة تعود لطفل بعمر 5 سنوات على جثته كدمات رضيّة انطباعية واسعة منتشرة على نواح مختلفة من الجسم معظمها حديث أي يعود عمره ليوم واحد مع وجود كدمات يعود عمرها لأزمنة مختلفة تتراوح ما بين يومين و 15 يوم و أظهرت الاشعة وجود كسور متعددة في الاضلاع و عظام الطرفين السفليين و الجمجمة بعضها حديث و قسم منها يعود لحوالي أكثر من أسبوعين و أن توزع هذه الكدمات على الجسم يدل على انها لا يمكن ان تنجم عن حادث سير و انها تعود الى فعل الاعتداء
بمعنى أن أمجد كان يتعرض للضرب و التعذيب المتكرر من قبل أهله أو أحد القائمين على تربيته و هذا ما يعرف بالطب الشرعي باسم ( متلازمة الطفل المضطهد ) و يبدو أن العنف الواقع على أمجد هذه المرة كان شديداً لدرجة أدت إلى موته و أن زمن الوفاة يعود لحوالي ساعتين من تاريخ وصول الجثة إلى قسم الإسعاف
سأل القاضي : أتقصد أن الحادث لم يكن بسبب حادث سير و أن أحداً من أهله هو الذي قتله ؟؟
د.هشام : نعم فكل المؤشرات تدل على ذلك
القاضي : و لكن هل من المعقول أن يفعل أهل بولدهم ذلك ؟!!
د.هشام : يمكن ... و للأسف هذه الظاهرة و إن كانت محدودة الانتشار و لكنها موجودة في كل المجتمعات و منها مجتمعنا
و ما السبب ؟؟
الاسباب كثيرة جداً بحسب الباحثين فقد تكون نفسية أو اقتصادية أو اجتماعية تدفع الاهل او القائمين على تربيته لاتباع أساليب العنف في تربية أولادهم مما يؤدي لأذيتهم و لكنها نادراً ما تؤدي للموت و لكن عندما يحدث الموت كما في هذه الحالة تكون النتيجة مأساوية
و على الفور أمر القاضي إحضار والد أمجد موجوداً إليه .
أصل الحكاية
إن سعيد والد أمجد كان الصبي الوحيد لوالديه فقد رزقا به بعد ابنتين فكانت سعادة الأسرة به كبيرة و تربى سعيد كطفل مدلل جداً و كما يقال ( إذا طلب لبن العصفور بيحضر )
فوالده شاب قوي البنية و اعتاد والده اصطحابه معه الى الورشة فهي بالنهاية له و فعلاً تعلم الصنعة بشكل جيد و بدا أن مستقبلاً باهراً ينتظره في هذه المهنة و في أحد الأيام دعاه أحد الزبائن الهامين لدى الورشة إلى الغداء عنده في المنزل فلبى سعيد الدعوة وقد أكرمه الزبون و أقام له مأدبة كبيرة فيها كل ما تشتهي النفس وكان الكحول موجوداً على المائدة في البداية رفض سعيد تعاطيه ولكن أصر الزبون على أن يتذوقه بدافع الفضول ، بداية لم يستلذ بطعمه و مع تكرار لقاءاته مع الزبون بهدف توطيد العلاقة معه و كثرة العزائم و السهرات المتبادلة التي كان الكحول حاضراً فيها كلما أصبح سعيد معتاد على تناول الكحول حيث يخفيه في غرفته ليشربه ليلاً و وصل إدمانه لدرجة أنه لم يعد يستطيع الانقطاع عنه و قد أصبح تعاطيه له يفوق تعاطي من علمه ذلك
أهل سعيد
في البداية لم يكن أهل سعيد يعلمون أي شيء عن إدمان ابنهم على الكحول و ليس هناك أية دلالات على تراجعه في أي جانب من جوانب حياته سواء عمله أو حياته البيتية لكن والدته كلما دخلت غرفته لترتبها كانت تشم رائحة غريبة فيها تعتقد أنها تسربت من عند الجيران لأنه لم يخطر ببالها أن الكحول قد يدخل بيتهم يوماً ما فكانت ترتب الغرفة و تمضي دون أن تعلم أن ولدها يقضي الليل و هو يشرب الكحول حتى جاء ذلك اليوم الذي انزرع الشك في قلبها و خطر لها أن تفتش غرفته فقد تساءلت لم تنبعث رائحة الكحول فقط من غرفة سعيد ؟! فبحثت تحت السرير و في الخزانة و أخيراً وجدت زجاجة كحول مغلقة بإحكام و موضوعة بكيس أسود و مخفية بين ثيابه و كم كانت صدمتها كبيرة بولدها الوحيد و قررت أن تخبر والده بذلك لكنها تراجعت عن هذه الفكرة و قررت أن تواجهه لوحدها و تلومه فور قدومه للمنزل في محاولة لتصحيح سلوكه و اعتقاداً منها بقدرتها على ذلك نتيجة لمكانتها عنده وعندما حضر سعيد إلى المنزل وفتحت معه الموضوع تلعثم في البداية و ارتبك ثم قال ضاحكاً : صدقيني يا أمي لا أشرب إلا كمية قليلة و في فترات متباعدة
الأم : يا بني المشروب حرام إدخاله إلى المنزل و هو يضعف العصب و يجعلك عبداً له و أنت شاب في بداية عمرك و أمامك طريق لا تدعه يهدك و اسحقه فكل شيء في بدايته سهل
سعيد : كما تريدين يا أمي
الأم : وعد يا بني ؟؟
سعيد : وعد يا أمي
لم يكلف الموضوع أكثر من وعد قطعه سعيد أمام أمه و هو غير قادر على أن يفي به لأنه أصبح مدمناً على الكحول و صار الأمر أكبر من مجرد الوعد و صار سعيد يعمد إلى فتح شبابيك غرفته ليلاً حتى يبعد عنه الرائحة و لا تشك أمه فيه فهو لا يحب أن يغضبها
زفاف سعيد
مثل أي أب و أم يتمنيان ألا تطبق أجفانهما قبل أن يفرحا برؤية أحفادهم يملؤون البيت سعادةً و صخباً ، بدوا بالبحث عن زوجة لولدهم الوحيد و قد حالفهم الحظ بالتعرف على وفاء التي تنحدر من أسرة ذات أخلاق حسنة و سيرة طيبة و تسكن في نفس المنطقة و بعد أن تزوج سعيد سكن مع زوجته في الشقة التي تعلو شقة والده . لقد كان سعيد قادراً على إخفاء تعاطيه الكحول عن والده ولكنه الآن لم يعد قادراً على إخفائه عن زوجته لذلك أخذ يشربه على طريقته و على مرأى منها وهذا ما كان يزعجها كثيراً وقد عجز لسانها و هي تحاول إقناعه أن الشراب حرام و أن الكحول سيقضي على صحته فقد أصبح سعيد مدمناً لدرجة المرض وصار بحاجة إلى معالجة طبية حتى يتمكن من الإقلاع عن الكحول فلم يعد موضوع الإرادة و الوعد يكفي لوحده و عندما عجزت زوجته عن إقناعه بترك الكحول أخبرت والده بذلك فكانت صدمته كبيرة فهو لم يعتد ولداً يشرب الكحول و عندما علم أن أمه كانت تعرف ذلك و أخفت الموضوع عنه ، لامها أشد اللوم ولكن ما الفائدة الآن فالأمر أصبح واقعاً ، حاولت الأم تبرير موقفها بأن ابنها وعدها بأن يقلع عن تعاطي الكحول و لكن ثقتها به لم تكن في محلها ، و بعد ذلك اندفع أبو سعيد مسرعاً إلى الورشة ليواجه ولده بسلوكه المشين و عندما وصل إلى الورشة و فتح الموضوع مع ولده كان الهم الوحيد لسعيد أن يعرف من أخبره أهي أمه أم زوجته ثم قال في نفسه بسيطة و لما ألح عليه الأب بالسؤال
قال : نعم أشرب الكحول و لكن من فترة لأخرى و بكميات قليلة
صمت سعيد و تابع الأب حديثه ... الكحول يا ولدي سم يذهب نضارة ابن آدم و يضعفه و يدنيه من الموت ببطء و أنت شاب و الطريق أمامك طويلة و مسؤولياتك كبيرة
سعيد : معك حق
الأب : أريدك ان تقلع عن هذه العادة و تعتني بابنك و زوجتك
سعيد : حاضر يا أبي
ومرة أخرى اعتقد الأب أن الوعد و الحوار سيجعلان ولده يتوقف عن شرب الكحول و لم يعلم أن ولده وصل إدمانه لدرجة أصبح فيها بحاجة إلى علاج فلا يمكن لسلطان إرادته وحده أن يساعده على ذلك بل لابد من إرادة قوية و معالجة طبية مرافقة وبعد أن رجع سعيد إلى بيته قام بضرب زوجته لأنها أخبرت والده بالأمر و هددها بالمزيد من الضرب إن هي أخبرتهم أو اشتكت لهم مرة ثانيةً
واقع جديد
عجز أهل سعيد بشتى الوسائل عن إقناع سعيد بالابتعاد عن الكحول و عرفوا أخيراً أن وعوده لم تكن صادقة و أخذت تزداد مشاجراته مع زوجته يوماً بعد يوم و قد اشتد حزن والديه كثيراً و خاصة والده الذي قطع عهداً على نفسه بعدم الحديث مع ولده حتى يترك هذه العادة وشاء القدر أن يجدوه متوفياً في فراشه قهراً على ولده الذي تغيرت أحواله و سلوكه بسبب الإدمان فقد أصبح مهملاً لعمله و بيته و واجباته الأسرية بسبب إدمانه و هكذا أصبح سعيد بعد وفاة والده معيلاً لأسرته بالإضافة إلى أمه و لكن شرب الكحول أغل جسده و أفتر همته و أقعسه عن كسب قوت يومه فأخذت ورشة النجارة بالتدهور بسبب إهماله حتى يوفي ديونه و يسكت الناس و لم يعد لديه عمل خاص يرتزق منه و أخذ يبحث عن عمل آخر و لكن كان دائماً لا يثبت على عمل فسرعان ما يطرد أو يستغنون عن خدماته بسبب إهماله و ضعفه فكان في كل مرة يفشل بإيجاد عمل يعود إلى المنزل و ينعزل في غرفته و يبدأ بشرب الكحول حتى يغيب عقله فينسى مشاكله كالنعامة التي تخفي رأسها تحت جناحيها عند إحساسها بالخطر القادم
الكارثة
بينما كان في أحد الأيام جالساً في غرفته كعادته يتناول الكحول دخل عليه طفله الصغير أمجد و هو يلعب بكرته التي قذفها بقدمه فاندفعت و كسرت زجاجة الخمر التي كانت في تلك اللحظة مصدر نشوته و فرحته و لكثرة حزنه عليها تخيل أن الذي قذف الكرة لم يكن ولده و لكن كان وحشاً أراد أن يخطف منه روحه فانقض عليه انقضاض من لا عقل له و أبرحه ضرباً حتى جاءت أمه و عندما رأت المنظر الأليم طار عقلها و لم تصدق ما رأت و بصعوبة خلصت الولد الصغير من بين يدي والده ولم تعرف ماذا تفعل فالدماء كانت تغمر جسد ولدها الصغير و خلال تلك اللحظات التي قضتها الأم بالبكاء و الصياح استعاد الأب وعيه و لم يدر ماذا يفعل فقد كان عديم الإرادة و على الفور اتفقا على نقله إلى المشفى و الادعاء بأن سيارة صدمته
الخاتمة
أمر القاضي بتوقيف سعيد تمهيداً لمحاكمته على جريمته و أثناء وجوده في السجن شكا ليلاً من ألم شديد في بطنه مع فقدان شهية للطعام فتم استدعاء طبيب السجن الذي قام بنقله إلى المشفى و بعد إجراء الدراسة الطبية عليه تبين أن لديه تشمع كبد متقدماً فقد قتل سعيد جسده قبل أن يقتل طفله فكان أتعس المخلوقات على الأرض
مـنـقـــــول
مجلة عالم الصحة
بقلم الدكتور بسام يونس المحمد
اختصاصي طب شرعي - حمص