رؤوس احلام ... تحية لأحلام مستغانمي

قطرة روح

بيلساني سنة رابعة

إنضم
Jun 20, 2009
المشاركات
729
مستوى التفاعل
8
كرامة الببغاء

كرامة الببغاء



أكنّ احتراماً خاصاً للببغاوات، التي عكس المشاع عنها، تكمن كرامتها في رفضها أن تكون "ببغاء"، تلقّنها ما تريد من كلام لتسلية صغارك أو إبهار ضيوفك أو إرضاء غرورك· فهي لن تصبّحك ولن تمسّيك إلاّ إن شاءت ذلك· ولا تتوقّع منها أن تناديك مثلاً "سيادة الرئيس القائد المفدّى "حفظه اللّه"، حتى وإن كنت تعلّق على صدرك سجّاداً من النياشين، لأنها لا تحفظ غير المختصر المفيد، الذي يقتصر غالباً على مفردات الشتائم·
وأثناء قيامه مؤخراً بجولة في الخليج، تسنَّى لقائد الأُسطول البريطاني أن يختبر على حسابه سلاطة لسان ببغاء كان من المفروض أن يكون أكثر تأدباً، بحكم وجوده على ظهر الأُسطول، لاعتباره رمز طاقم الفرقاطة· وكان البحّارة قد أخرجوه من القفص الذي يعيش داخله في جناح الضبّاط، وأغلقوا عليه في خزانة ريثما ينتهي الأميرال من إلقاء كلمته، لعلمهم بلائحة الشتائم والبذاءات التي يحفظها· غير أن الببغاء فاجأ الجميع بمقاطعته الأميرال بصوت خافت، آتياً من الخزانة يقول "سخيف"· وما إن يهمّ الأميرال بمعاودة الحديث حتى يعود الصوت قائلاً "تافــه" ثمّ "هــراء"·
فوجود الببغاء سجيناً في خزانة لم يمنعه من إيصال صوته لقائد الأُسطول· ذلك أن الببغاء الذي لم يتربَّ على ثقافتنا النضالية، لا يحتاج إلى شعار "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة" كي يكون "صوت مَن لا صوت لهم"· فهو ظاهرة صوتية في حد ذاته· وهو عكس الكثيرين من رافعي الشعارات، مستعد للموت من أجل أن يقول كلمته "أو من أجل ألاّ يُرغم على قولها"، حتى لكأنه القائل "ستموت إن قلتها وستموت إن لم تقل·· فقلها ومت"·
ولذا· فتاريخ الببغاوات مليء بالمظاليم والاضطهادات والجرائم المرتكبة في حق طائر مزاجي يتميّز بفلتان اللسان، ولم يعتد على طريقة مذيعي أخبارنا التدقيق والتمعُّن في ما لُقِّن له مسبقاً على ورق·
وقد دفع مؤخراً ببغاء في الصين حياته ثمن عدم امتثاله لأوامر صاحبه، الذي أمره بنطق عبارتي "صباح الخير" و"إلى اللقاء" كل يوم· وبعد ثمانية أشهر من المحاولة الفاشلة، لم يتماسك الشاب أمام عناد الببغاء، فأهانه ووصفه بالأحمق· فما كان من الببغاء إلا أن كرّر هذه الكلمة· فاستشاط الرجل غضباً وقتله·
وقد أعاد هذا الخبر إلى ذهني قصة مؤثرة وطريفة تعود لشبابي، يوم كنا نسكن فيللا ملاصقة حديقتها لحديقة جارٍ ضابط كان له ببغاء· ولأن الجميع كان لا ينفك يناديني، فقد حفظ الببغاء اسمي، وأصبح، ما إن يستيقظ فجراً على عادة الطيور، حتى يبدأ في التصفير منادياً "أحلام·· أحلام"، فتستيقظ جدتي غاضبة واثقة من أن ابن الجيران ينادي عليّ· وحدث أن ضربتني ووبّختني غير مصدّقة براءتي، حتى اليوم الذي فاجأنا الببغاء ونحن مجتمعون مصفّراً ومنادياً باسمي· و تحلّق حوله الكبار والصغار، وحاول كلّ واحد تلقينه اسمه، وكلّما ازداد الأطفال إلحاحاً ومُطاردة له ازداد الببغاء رفضاً لترديد ما يُطلب منه· وكانت الصدمة عندما استيقظنا بعد يومين لنجد الببغاء قد انتحر بغرس مخالبه في عنقه·
من يومها وأنا أتعاطف مع الببغاء، ليس فحسب لأنه أول كائن انتحر بسببي، بل لأنني مع العمر آمنت بكرامة الببغاء الذي لا يعرف "تبييض الكلام" و"لا غسل الأقوال" ولا يهتف "عاشت الأسامي"، ومن دون أن يدَّعي أنه مثقف أو مُناضل يموت بسبب كلمــة، تاركاً لنا دور الببغاء
 

قطرة روح

بيلساني سنة رابعة

إنضم
Jun 20, 2009
المشاركات
729
مستوى التفاعل
8
ها قد وهبته غزالة!

ها قد وهبته غزالة!

ألأنه مَن قال: "في محطات السفر والمطارات، مكبّرات الصوت تقول "على السادة المسافرين أن يتوجّهوا إلى. ."، ذلك أن السيدات لا يغادرن أبداً، كان أول من أخذ القطار وغادرنا؟
وكنت سأقيس لقائي به، ببضع ثوانٍ مرّت على عجل، لولا أنّه القائل "يجب ألاّ تضيع شيئاً. العشّاق بخلاء. . الثانية والثانية، لا تُساويان ثانيتين. . بل تساويان قبلتين". فصاحب "سأهبك غزالة" كان بخيلاً عن خجل، لكن كان في إمكانه أن يعطيك في كلمتين يلفظهما بلهجة قسنطينية. . ما يعادلهما من قُبل.
لا أظنّ مالك حدّاد، الذي لم ألتق به سوى مرتين لقاءً عابراً، توقّع أن تلك الفتاة التي تقاطعت خطاه معها في اتحاد الكتّاب الجزائريين، ستظلّ وفيّة لذكراه بعد ربع قرن من وفاته، أي زمناً أكبر من عمرها آنذاك. ولكن لا أظنّه سيعجب؛ بأنها هي التي اخذها مأخذ الشعر، والتي كانت أصغر من أن تهبه غزالة، ما انفكّت تهديه بعد موته قطيعاً من الغزلان، عساها كلّما باغتته سخاء تضاهيه شاعرية.
كلّ ذلك السخاء، لاقتناعها بأنّ مع الشعراء، أجمل من الوفاء لِعشرة، الوفاء للحظة، وأجمل من الوفاء لِمَا حدث، الوفاء لِمَا يحدث، وأنّ مالك حدّاد بالذات، سيفهم هذا. فمَن غيرُ الأموات في إمكانهم فهم ما نهديهم حق فهمه؟
يوم التقيته في السبعينات، عابراً في ذلك المقر، أذكر، كان أكبر حزناً من أن يكون في متناول فرحتي به، وكنتُ أنا أكثر خجلاً، وأقلّ خبرة من أرد على طلبه المتواضع بترجمة بعض قصائده للعربية، التي كان يتمنّى أن يسمعها بصوتي في ذلك البرنامج الليلي الذي كنت أُقدّمه، والذي كان يستمع له بشغف مَن يحبُّ موسيقى اللغة العربية التي حُرم من تعلُّمها.
كنت بالنسبة إليه رمزاً للجزائر الفتية، التي صمت ليستمع لصوتها العربي.
وكان بالنسبة إليًّ اسماً كبيرا لم أقرأ له شيئاً، ولكن أدري أن فيه الكثير من فجيعة أبي وحرقة حرمانه من تعلُّم اللغة العربية.
لم يبقَ من لقائي به شيئ، عدا ذكرى وسامته الأندلسية، وارتباكي في حضرة تواضعه. فقد كان شاعراً يتكلّم بصوت منخفض، كمَن يعتذر على وجوده خطأ في زمن تُهيمن عليه كلّ تلك الضوضاء، وتحكم ساحته ضفادع الشعر.
لقائي الحقيقي بمالك حدّاد، حدث بعد موته، عندما كنتُ أُعدّ أطروحة في الثمانينات، في السوربون، عن الأدب ألأنه مَن قال: "في محطات السفر والمطارات، مكبّرات الصوت تقول "على السادة المسافرين أن يتوجّهوا إلى. ."، ذلك أن السيدات لا يغادرن أبداً، كان أول من أخذ القطار وغادرنا؟
وكنت سأقيس لقائي به، ببضع ثوانٍ مرّت على عجل، لولا أنّه القائل "يجب ألاّ تضيع شيئاً. العشّاق بخلاء. . الثانية والثانية، لا تُساويان ثانيتين. . بل تساويان قبلتين". فصاحب "سأهبك غزالة" كان بخيلاً عن خجل، لكن كان في إمكانه أن يعطيك في كلمتين يلفظهما بلهجة قسنطينية. . ما يعادلهما من قُبل.
لا أظنّ مالك حدّاد، الذي لم ألتق به سوى مرتين لقاءً عابراً، توقّع أن تلك الفتاة التي تقاطعت خطاه معها في اتحاد الكتّاب الجزائريين، ستظلّ وفيّة لذكراه بعد ربع قرن من وفاته، أي زمناً أكبر من عمرها آنذاك. ولكن لا أظنّه سيعجب؛ بأنها هي التي اخذها مأخذ الشعر، والتي كانت أصغر من أن تهبه غزالة، ما انفكّت تهديه بعد موته قطيعاً من الغزلان، عساها كلّما باغتته سخاء تضاهيه شاعرية.
كلّ ذلك السخاء، لاقتناعها بأنّ مع الشعراء، أجمل من الوفاء لِعشرة، الوفاء للحظة، وأجمل من الوفاء لِمَا حدث، الوفاء لِمَا يحدث، وأنّ مالك حدّاد بالذات، سيفهم هذا. فمَن غيرُ الأموات في إمكانهم فهم ما نهديهم حق فهمه؟
يوم التقيته في السبعينات، عابراً في ذلك المقر، أذكر، كان أكبر حزناً من أن يكون في متناول فرحتي به، وكنتُ أنا أكثر خجلاً، وأقلّ خبرة من أرد على طلبه المتواضع بترجمة بعض قصائده للعربية، التي كان يتمنّى أن يسمعها بصوتي في ذلك البرنامج الليلي الذي كنت أُقدّمه، والذي كان يستمع له بشغف مَن يحبُّ موسيقى اللغة العربية التي حُرم من تعلُّمها.
كنت بالنسبة إليه رمزاً للجزائر الفتية، التي صمت ليستمع لصوتها العربي.
وكان بالنسبة إليًّ اسماً كبيرا لم أقرأ له شيئاً، ولكن أدري أن فيه الكثير من فجيعة أبي وحرقة حرمانه من تعلُّم اللغة العربية.
لم يبقَ من لقائي به شيئ، عدا ذكرى وسامته الأندلسية، وارتباكي في حضرة تواضعه. فقد كان شاعراً يتكلّم بصوت منخفض، كمَن يعتذر على وجوده خطأ في زمن تُهيمن عليه كلّ تلك الضوضاء، وتحكم ساحته ضفادع الشعر.
لقائي الحقيقي بمالك حدّاد، حدث بعد موته، عندما كنتُ أُعدّ أطروحة في الثمانينات، في السوربون، عن الأدب الجزائري. وصادفت كُتبه زمن غربتي، فأيقظت حنيني إلى قسنطينة، المدينة التي كان مالك مهووساً بها، والتي لم أكن قد عرفتها حقاً.
وبرغم هذا، ولعي بمالك حداد، هو إعجاب أيضاً بنصّه الأجمل. . حياته، التي كروائي كبير أبدع في كتابة خاتمتها، عندما قال: "أنا نقطة النهاية في رواية تبدأ"، وقرّر ان يتوقف عن الكتابة مصرّحاً بجملته الشهيرة "اللغة الفرنسية منفاي، ولذا قررت أن أصمت". وهكذا مات مالك حداد بسرطان صمته، ليكون أول شهيد يموت عشقاً للغة العربية. فهل عرف تاريخ العرب قبل مالك حداد. . كاتباً أقدم على عملية استشهادية كهذه؟
منذ اثنتي عشرة سنة بالضبط، وبمناسبة مرور 10 سنوات على وفاته، كتبت مقالاً آنذاك، عنوانه "سأهبه غزالة"، أُعلن فيه أنني سأكتب إكراماً لمالك حداد ولقسنطينة أول عمل. . روائي لي.
وإن كانت "ذاكرة الجسد" قد أخذت مني أربع سنوات من الكتابة، فجائزة مالك حداد التي ما فتئت أُطالب بإنشائها، انتظرت 12 سنة، حتى تكفلتُ بدوري بمبادرة إنشائها. . لا تكريماً لمالك حداد، الذي لا يُكرّم إلاّ بترجمة أعماله ووضعها في متناول قرائه العرب. إنما تكريماً للغة العربية ومساندة لكتّابها الصامدين في الجزائر، ولردّ الغُبن المادي والمعنوي عنهم. . بنشر أهم عمل روائي يُكتب بالعربية في كبرى دُور النشر في المشرق، ومنح صاحبه مبلغاً يحميه من الحاجة، ويمكّنه من التفرّغ للكتابة مدّة سنتين. في إمكاني بعد الآن أن أرتاح. كلّ عامين سيخرج إلى الوجود عمل إبداعي كبير، يثبت أن الجزائر ما زالت قادرة على إنجاب الغزلان العربية. . ذلك أنّ الغزلان كالأرض "بتتكلّم عربي"!


أحلام مستغانمي
(الجزائر)
19 01 2002​
 

قطرة روح

بيلساني سنة رابعة

إنضم
Jun 20, 2009
المشاركات
729
مستوى التفاعل
8
الأرض بتتكلم فرنسي

الأرض بتتكلم فرنسي


بعد شهرٍ قضيتُه في باريس لضرورة إعلامية، بمناسبة صدور روايتي "ذاكرة الجسد" باللغة الفرنسية، وجدتني أعود إلى بيروت على متن طائرة الفرنكوفونية، وفي توقيت انعقاد قمتها فقد أعلنت المضيفة، والطائرة تحطّ بنا في مطار بيروت، أنّ على ضيوف القمَّة الفرنكوفونيَّة أن يتفضّلوا بمغادرة الطائرة قبل بقيّة الركّاب لم يغظني أن تُهين المضيفة عروبتي، وأن تنحاز إلى اللّغة الفرنسية، فكرم الضيافة يقتضي ذلك، ولا أحزنني تذكُّـر التصريح الشهير لمالك حدَّاد "إنّ اللغة الفرنسية سجني ومنفاي"، وقد أصبح شعار معظم كتَّابنا الجزائريين اليوم "إنَّ اللغة الفرنسية ملاذي"، ولا فوجئت بأن يكون رئيسي عبدالعزيز بوتفليقة، مشاركاً في القمَّة الفرنكوفونية، برغم أن الجزائر غير عضو في هذه المنظمة.. فلقد تعامل الجزائريون دوماً مع الفرنسية كـ"غنيمة حرب"، حتى إن بوتفليقة ألقى، بشهادة الصحافة، الخطاب الأكثر فصاحة بلغة موليير، التي ما كان أحد من الرسميين يتجرأ على الحديث بها أيام بومديــن، بل لفصاحته في هذه اللغة حدث أن خطب بها في الشعب الجزائري مُحطِّماً "تابــــو" العدائية اللغوية، وذهب إلى حــدّ التوجّــه بها منذ سنة إلى العالم في مجلس الأُمم المتحدة، برغم اعتماد اللغة العربية لغة رسميـة.

ولا استفزّني مطار بيروت الْمُزدان بلافتات الترحاب المكتوبة باللغة الفرنسية، والْمُرفقة بأعلام عشرات الدول الفرنكوفونية.. فلا بأس أنّ الأرض "اللي كانت بتتكلّم عربي"، تتكلّم فرنسي، نكاية في اللغة الإنجليزية، بعد أن أصبحت حروب الكبار تُــــدار على ساحة اللغات.

فبينما تقوم فرنسا بتبييض وجهها بالسود والسُّمر من أتباع الفرنكوفونيَّة، غاسلــة بذلك ماضيها الاستعماري في هذه الدول بالذات، رافعــة شعار حـــوار الحضارات وأنسنة العالم، تترك الولايات المتحدة لترسانتها الحربية مهمّة التحاور مع البشرية، وتبدو في دور الإمبراطورية الاستعمارية القديمة فلا عجب أن ترتفع أسهم كل حاكم أو زعيم عبر العالم، يُشهر كراهيته لأميركا، حتى إن الرئيس جـــاك شيراك، الذي ما كانت هذه القمة لتلقى ترحابـــاً في الأوساط العربية، لولا تقدير العرب سياسته الديغوليَّـة ومواقفه الشجاعة والثابتة، في ما يخصُّ القضايا العربية، بلــغ أعلى نسبة في استفتاء لشعبيته في فرنسا، منذ أن أشهر استقلالية قراراته عن الولايات المتحدة، ومعارضته أيَّ حرب أميركية وقبله، ودون أن يُحطّم المستشار الألماني شريدر "الرقم الخُرافي"، الذي حطَّمه صدام حسين في انتخاباته الرئاسية الأخيرة، استطاع أن يضمن إعادة انتخابه من طرف الشعب الألماني، مــذ فضّل على "نعم" الاستكانة "لا" الكرامة، في رفض الانسياق لغطرسة السياسة الأميركية.

ولقد انعكست هذه الأجواء في فرنسا على البرامج التلفزيونية والإصدارات الجديدة، التي يعود رواجها إلى طرحها سؤالاً في شكل عنوان "لماذا يكره العالم أميركا؟".

غير أن انحيازنا العاطفي إلى هذه اللغة أو تلك، عليه ألاَّ يُنسينا نوايا الهيمنة التي تُخفيها المعارك اللغوية، التي تتناحـــر فيها ديناصورات العالم، مبتلعة خمساً وعشرين لغة سنوياً، وهو عدد اللغات التي تختفي كل عام من العالم، من جراء "التطهير اللغوي"، الذي تتعرّض له اللغات العاجزة عن الدفاع عن نفسها.
فهــل بعد القدس مُقابل السلام، سنقدّم اللغة العربية قُربانــاً للعولمــة؟
 

قطرة روح

بيلساني سنة رابعة

إنضم
Jun 20, 2009
المشاركات
729
مستوى التفاعل
8
لعنة الحقائب الفاخرة

لعنة الحقائب الفاخرة


يوم تلقّيت تلك الحقيبة الفاخرة هدية، ضمن طاقم من أربع حقائب مختلفة الأحجام والأشكال، استبشرت خيراً بها. فقد صادف وصولها رغبة لديَّ في التخلُّص من ذاكرة حقيبة أُخرى، حملت يوماً ثياب لهفتي إلى مطارات ما عادت وجهة قلبي. ثم أنا أثق بإمكانية كيد حقيبة لحقيبة أُخرى، كما تكيد زوجة جديدة لضرّتها. ولأنني كنت جاهزة في جميع الحالات لممارسة حقي في الخلع، فقد أحلت حقيبتي القديمة على أناقتها، إلى التقاعد العاطفي والوظيفي. وركنتها في اسطبل الحقائب الْمُنهَكَة، كما تنهي أعمارها أحصنة عجّل كُثر الترحال بشيخوختها. في أول رحلة لي منذ شهرين برفقة حقيبتي الجديدة، أسعدت رجال الجَمارك في مطار نيس. ما كادوا يرونني أدفع عربتي بحقيبتين فاخرتين وأرتدي بسبب البرد معطف فرو، اقتنيته منذ سنوات في موسم التنزيلات، حتى تركوا جميع الركاب يعبرون وتفرّغوا لي، خاصة بعدما لمحوني أبتسم وأنا أراهم يتبادلون النظرات استبشاراً بصيد ثمين، متوقعين أن تعود شباكهم، في أسوأ الحالات، ببضاعة مُقلّدة لإحدى أشهر الماركات العالمية التي يزدهر سوق تزويرها وتهريبها بين إيطاليا ولبنان، فيغرّمونني ثمنها الأصلي أضعاف المرات. لم أكن امرأة فوق الشبهات ولا تحتها، كنت الشبهة ذاتها، بسبب مظهر ثرائي فاضح الشبهة، المدعوم بجواز سفري الفرنسي ومسقط رأسي الجزائري، وإقامتي في لبنان وقدومي من ميلانو، وامتلاكي بيتين في جنوب فرنسا، حيث مربط خيل الأثرياء الجدد من مافيات روسيا وإيطاليا.. ولبنان. خيَّبت ظنّ الجمركي، وهو يفتح حقيبتي تلك، فلا يقع على غير ثيابي العادية وكثير من الكتب وسجادة صغيرة للصلاة أحضرتها معي احتياطاً لنوبة تقوى قد تُصيبني، بعدما أصبح عندي في بيروت سجادتان للصلاة أهدتني إحداهما صديقة إماراتية في رمضان الماضي، فقلت أحتفظ بواحدة في كل بيت. لم يفهم الجمركي نفع سجادة غير ثمينة "أُهرّبها" في حقيبتي، لكنّ صدمتَه كانت في الحقيبة الصغرى، التي كنت أجرّها لأوّل مرّة مستعرضة أناقتها، وإذا بها تخفي جنينة من الخُضار الطازجة التي اشتريتها من السوق الحرّة في مطار بيروت. من طماطم بلدية وخيار صغير، لا يوجد مثله في فرنسا، وربطة نعناع نضرة، وأجبان بلديّة وزيتون بزعتر وآخر حار بالجوز. ولو كنت في مطار في أميركا، لأفلتوا عليّ الكلاب لتشمشمني وفرضوا عليّ حَجْراً صحيّاً أيّاً كانت جنسية وديانة المواد الغذائية التي أحملها. غير أن الجمركي الفرنسي اكتفى بسؤالي عن مهنتي وعنوان إقامتي في فرنسا. وعندما أخبرته أنني كاتبة أقصد بيتي البحريّ للكتابة، أظنه تفهّم غرابة حمولتي واستلطفني. وكما ليعتذر عن سوء ظنه بي، سألني إن كنت قد تعرّفت إلى ذلك المطعم الجميل الموجود في منطقتي وإلاّ سكيون سعيداً بأن يدعوني إليه. في بيروت أيضاً، كثيراً ما يشتبه رجال الجمارك في حقائبي ولا تشفع لي سوى الكتابة. فعادة يسألني أحدهم "من أين أنتِ قادمة؟" وغالباً ما يتعرّف إليّ وهو يدقق في جواز سفري، فيرحّب بي بمودّة وأحياناً بحرارة، حدّ إرباكي وإبكائي، كذلك الجمركي الذي قال لي منذ سنوات عدة، وهو يعيد لي جوازي اللبناني "يُسعدني أن تحملي هذا الجواز.. نحنُ نحبّك في لبنان". فقد كنت وقتها يتيمة وطن، أرى رفاقي من الكتّاب يُذبحون في الجزائر كالنعاج. في مطار جنيف، حدث أن اشتبهت جمريكة في هيئتي، وفي ساعة في معصمي خالتْها من الألماس. سألتني لماذا لم أُعلن عنها. قلت إنّ ثمنها مئة فرنك سويسري. ثمّ سألتني ماذا جئت أفعل في جنيف؟ أجبتها بأنني كاتبة، وأنني أُحب بحيرة ليمان وأُحب الجلوس على مقعد لامارتين المقابل لها. لم تصدقني تماماً حتى فتحت حقيبتي. وعندما أطلعتها على كتاب لي بالفرنسية كان مصادفة في حوزتي، غدت لطيفة وشديدة التهذيب وراحت تسألني كيف السبيل إلى نشر أعمال أدبيّة. ذلك أن ابنتها موهوبة، لكنها لا تجد لروايتها ناشراً! أخذت عنوان كتابي لتشتريه، وأمدّتني بعنوانها وهاتفها لنتواصل. ولم نفعل. من كثرة ترحالي تعلّمت أن الحقائب الفاخرة تجعلك شبهة معلنة لدى رجال الجمارك حيثما حللت. والأسوأ أنها تجعلك فريسة اللصوص، حتى من عمّال المطارات.. وتلك قصّة أُخرى!
 

قطرة روح

بيلساني سنة رابعة

إنضم
Jun 20, 2009
المشاركات
729
مستوى التفاعل
8
العبيد لا يحررون أوطانا


في عروبة سابقة، خفت على نفسي من مصير صديقتي زينب، التي أوصلتها حماستها القومية المتطرفة، على الطريقة الجزائرية، إلى قسم علاج الأورام السرطانية في مستشفى باريسي، حتى إن الطبيب الذي شخّص مرضها، قال لها بكل جدية: "أنتِ يا سيدتي، مصابة بسرطان صدّام حسين". وذلك بعد أن رآها لا تفارق جهاز الراديو حتى في غرفة العمليات، وما تكاد تستيقظ حتى تطلبني لتسألني.. عمّا حدث أثناء غيبوبتها.. وهل قصف العراق إسرائيل بصواريخ "سكود".. أم أميركا هي التي ستقصف العراق؟

منذ أيام، التقيتها، مازالت تخفي جسداً شوهته المآسي العربية، وتاريخاً نضالياً ورثته عن والدها، مشتعلة بالقضايا نفسها، متذمّرة للأسباب نفسها. فما ظنت أننا بعد "أُمّ المعارك" سنُواجه بعد عشر سنوات جدّتها! كان حديثنا يومها عن مصير عُلماء العراق، ومَهانة أمة عاجزة حتى عن حماية عُلمائها، بعد أن وجدوا أنفسهم أوّل المستهدفين، وأول رمز عربي تصرُّ أميركا على إذلاله، حتى لتكاد تُصدر قراراً من مجلس الأمن يُجيز لها حقّ التفتيش، لا في بيوتهم فحسب، بل وفي رؤوسهم. فقد يكون في أحلام علماء العراق كوابيس تقضُّ مضاجع الإنسانية، النائمة على ملايين الرؤوس النووية الموزعة في إسرائيل وكوريا الشمالية وأكثر من دولة آسيوية.

الأكثر إيلامــــاً أن أميركا، التي تُباهي بعلمائها، وتنكّس الأعلام حداداً عليهم عند انفجار المكوك "كولومبيا"، لا تريدنا شركاء لها، حتى في الحزن، ليس فقط لأنها أعظم من أن يشاركها البشر فاجعتها، بل لأننا أكثر شرّاً ووحشية وتخلّفاً من أن نُقدِّر قيمة العلم، أو نُجلّ العلماء. إننا قوم لا يأتمن المرء علماءهم، حتى على فنجان قهوة يحتسيه في ضيافتهم، حتى إن كبير المفتشين الدوليين السابق في العراق، قال في تصريح له عن العالمة البيولوجية العراقية رحـــاب طــــه، المرأة المسؤولة عن البرنامج الجرثومي في مشروعات التسلّح العراقية المفترضة: "ليس من مصلحة المرء أن يُغضب مثل هذه المرأة، ولو كانت زوجتك لوجب عليك الحذر من قهوة الصبــــاح"!

ولا أدري، أيجــــب أن نفرح أم نحزن، لأن ريتشارد سيرتزل، الخبير السابق، طمأن البشرية مؤخراً بأن رحـــاب طـــه، هي الآن مجرّد ربّــة بيت بدوام كامل.. "وكأن لسان حالها، قول شكسبير على لسان ماكبث: اطرح العلم للكلاب، لم أعد أريده"!

صديقتـي التي تعمل باحثة في الأمم المتحدة، أخبرتني وهي تحتبس دمعة في عينيها، أن مليون عالم عربي يعيشون في المنافي الاختيارية أو القسرية، واضعين خبرتهم وأدمغتهم في خدمة الغرب، الذي أوصل أحدهم حتى جائزة نوبــــل للفيزيــاء.

غيــر أنَّ الذي أبكاني، هو مقــال مطوَّل لأحد علماء العراق، المقيم حالياً في كندا، بعد أن كان مسؤولاً خلال عشر سنوات، عن البرنامج النووي العراقي. وما كان حزنه على ما آلــــت إليه القُدرات النووية العراقية، التي أنفق عليها العراق مليارات الدولارات، وتلك الأبحاث التي أخذت أعواماً من عمر خيرة العلماء وأكثرهم نبوغاً، بل ما آلـــت إليه ألــوف الكوادر العلمية، التي بين الأسلحة المحظورة والكرامة المهدورة، وجدت نفسها مهددة، لا في لقمة عيشها فحسب، بل وفي حياتها وكرامة مكانتها، مرغمة على تسليم أبحاثها حتى يتمكّن سادة الحرب بعد ذلك من رفعها في آلاف الصفحات إلى أميركا، لتلمّع بها حذاءها في مجلس الأمن.

العلماء العراقيون مخيَّرون اليوم بين أن يكونوا عملاء، أو شهداء. فالذي نجا منهم من مكائد "الموســـاد"، ولم يتم اغتياله، ليس أمامه سوى أن ينتحر. وهو ما قد تطالب به أميركا العراق قريباً، كشرط تعجيزي آخر، إذ لم تعد التهمة وجود أسلحة نووية، بل علماء عراقيين قادرين على إنجازها.

قبل أن تطلق أميركا وابــــل قنابلها علينا، لقد أطلقت النـــار على رأس هذه الأمــة، في محاصرتها بيوت علمائنا، وانتهاكها حُـرمــة حياتهم، والتحقيق معهم كمجرمين، دون مراعاة لمكانتهم العلمية.

سقطــت آخــر قلاع كبريائنا، يوم أُهين علماؤنـا مرتين: مـرَّة بمذلّــة العــوز والحاجـــة، ومــرَّة بمذلَّــة عالِـم أُجبر على الاعتذار لعـدوِّه عن عُمــر قضــاه في البحث العلمي، خدمة لِمَا ظنَّـهُ مصلحة وطنيَّة.

وبالمناســة، في إمكـان جـــورج قـرداحـــي، أن يضيـف سؤالاً جديداً إلى برنامجه "مَــن سيربـح المليون"، هو: "كــم في اعتقادكم يُعــادل المبلغ التقاعدي، الذي يتقاضاه شهرياً عالــم عراقي اليوم؟: 2000 دولار/ 200 دولار/ 20 دولاراً/ أو.. دولاران؟".

لا حاجـــة إليكــم للاستعانـة بصديــق.. بــل بمنديـل للبكاء، لأنَّ الجــواب الصحيح هو دولاران.

أتحدَّاكــم ألاَّ تجهشــوا أمام هــذا الرقــم باكيــن!
 

قطرة روح

بيلساني سنة رابعة

إنضم
Jun 20, 2009
المشاركات
729
مستوى التفاعل
8
الانتفاضة .. ليست مهنة

الانتفاضة .. ليست مهنة

أذكر أن شارون، عند استقباله أول مرة كوندوليزة رايس، مستشارة بوش، صرح محاولا تجميل صورته وإثبات جانب "الجنتلمان" فيه : "لابد لي أن أعترف، لقد كان من الصعب علي أن أركز في التفكير أثناء كلامي معها، فقد كانت لديها ساقان في غاية الجمال" ما جعل صحافيا أمريكا يعلق "إذا كان جورج بوش يريد النجاح في عملية السلام، فعليه أن يرسل إلى إسرائيل كوندوليزة، مع قائمة طولية من الطلبات .. وتنورة قصيرة".
ربما كان البعض يعتقد مازحا آنذاك، أن ساقي كوندوليزة (التي ليست من "الموناليزا" في شيء) ستنجحان، حيث أخفقت في الماضي، الساقان الممتلئتان للسيدة أولبرايت.
أما اليوم فكل ما نخشاه، أن يتمكن "تايور" الحداد الأسود للسيدة كوندوليزة من إقناع عرفات بالتضحية
بالقائمة الطويلة لشهداء الانتفاضة، والجلوس للتفاوض، بعد كل هذه المآسي، على طاولة التنازلات والتنـزيلات الجديدة. وبرغم وعينا التام أن فرصة كهذه لا ينبغي لعرفات أن يفوتها، حتى يضع حدا لمبررات شارون لالتهام أبناء فلسطين، في كل وجبة غذاء، بذريعة أنه بذلك يخلص العالم من بذور الإرهاب، فإن شيئا شبيها بغصة البكاء يكمن في حلوقنا، لتصادف كل هذا بالذكرى الأولى لانطلاقة الانتفاضة "الثانية" في فلسطين.
وبرغم هذا، ليس من حقنا أبدا، أن نطالب شعبا يرزح وحدة تحت الاحتلال، ويرد بالصدور العارية، لأبنائه وبدموع ثكالاه وأيتامه، حرب إبادة وتطهير، أن يواصل الموت والقبول بكل أنواع الإذلال والتعذيب، ليمنحنا زهو الشعور بعروبتنا وقدرتنا على الصمود في وجه الأعداء، خاصة أن الانتفاضة لم تنفجر، حسب أحد المحللين، الا بعدما أصيب الفلسطينيون بالضجر من شدة تهذيب القرارات العربية، وبعدما تأكد لهم أن الدبلوماسية ليست أكثر من لجوء عربي للتمييز بين العار والشجاعة.
وعتاب فلسطيني الداخل لنا. وجهرهم بمرارة خيبتهم بنا، نسمعهما بعبارات واضحة كلما قصدتهم الكاميرا، أمام دمار بيوتهم، فتصيح النساء الثكالى باكيات "أين العرب ؟ أين هم ليرونا؟".
وحدهم هؤلاء الثكالى واليتامى والمشردون والتائهون بين القرى، المهانون أمام الحواجز الإسرائيلية كل يوم، من حقهم، أن يقرروا وقف الانتفاضة أو الاستمرار فيها.
أما نحن، "حزب المتفرجين العرب"، الذين نتابع مآسيهم كل مساء، في نشرات الأنباء فعلينا ألا نبدأ منذ الآن في سباق المزايدات والاستعدادات لعقد المهرجانات بمناسبة إتمام العام الأول للانتفاضة. فليس هذا ما ينتظره منا من يشاهدوننا في فلسطين، بعيون القلب، بينما نشاهدهم بعيون الكاميرا.
وقرأت أن الروائي الراحل إميل حبيبي، لاحظ الميل العربي إلى الاحتفال السنوي بالإنتفاضة الأولى، (التي انطلقت سنة 1987) فتساءل قائلا : "إن الانتفاضة هي فعل مقارعة للاحتلال، فهل تريدون عمرا طويلا للاحتلال نحتفل به كل سنة باستمرار الانتفاضة ؟".
ذلك أن الانتفاضة أصبحت وكأنها مبتغى في حد ذاتها، "والاحتفال بها" مساهمة فيها، بينما هي وسيلة نضال يراد منها الوصول إلى مكاسب وطنية. وهو ما يختصره قول محمود درويش في الماضي، " الانتفاضة ليست مهنة".
ولذا، على الذين يفكرون في امتهان "الانتفاضة" لبضعة أيام في السنة، أن يوفروا جهدهم وأموالهم، لمعالجةالمئات من جرحاها، والتكفل بإعالة الآلاف من ضحاياها. فبهذا وحده نختبر صدقهم، وبالإحسان لعائلات الشهداء. وليس بالكلام عن ضحاياهم ينالون ثوبا وأجرا عند الله.
 

قطرة روح

بيلساني سنة رابعة

إنضم
Jun 20, 2009
المشاركات
729
مستوى التفاعل
8
الجنة.. في متناول جيوبهم

الجنة.. في متناول جيوبهم


على الذين لا قدرة لهم على صيام أو قيام شهر رمضان، أو المشغولين في هذا الشهر الكريم عن شؤون الآخرة بشؤون دنياهم، ألا ييأسوا من رحمة اللَّه، ولا من بدع عباده، بعد أن قررت ربّـة بيت إيطالية، أن تدخل الحياة العملية بإنشاء "وكالة للتكفير عن الذنوب" اسمها "الجنة".

وهذه الممثلة السابقة، التي لم تتجاوز السادسة والعشرين من عمرها، تدير "الجنة" من منزلها، كما تدير إحدانا مطبخها، أو شؤون بيتها فإلى جانب تربيتها أولادها، فإنها تؤدي فريضة الصلاة نيابة عن كل الذين لا وقت لهم لذلك، بسبب الإيقاع السريع لحياتهم، فتصلي وتتضرّع إلى للَّه داعية لهم بالغفران، حسب طلبهم ومقدار دفعهم ولقد نجحت في إقناع بعض المشاهير بالتكفُّل بإنقاذ أرواحهم، التي لا وقت لهم للعناية بها، نظراً لانشغالهم بصقل أجسادهم واستثمارها.

وهذا ما يذكّرني بجاهلية ما قبل الإسلام، إذ جرت العادة أن يستأجر ذوو الفقيد ميسور الحال، ندّابات ونائحات ليبكين فقيدهم الغالي بمقدار الكراء وسخاء العائلة المفجوعة، وهي عادة ظلّت حتى زمن قريب، جارية في بعض البلاد العربية، حيث تتبارى الندّابات في المبالغة في تمزيق ثيابهن ونتف شعورهن، ولطم خدودهن على ميّت لا قرابة لهن به ومن هنا جاء المثل الجزائري القائل "على ريحة الريحة خلاَّت خدودها شريحة".

ولقد حدث لأخي مراد، المقيم في الجزائر، ونظراً لحالة الإحباط التي يعاني منها، لكونه الوحيد الذي تعذّر عليه الهروب خارج الجزائر وبقي رهينة وضعه، ورهينة أمي، أن أجابني مازحاً بتهكّم أسود يميّز الجزائريين، كلّما سألته عن أخباره، أنه مشغول بجمع مبلغ بالفرنك الفرنسي ليدفعه لمن هو جاهز ليبكيه بالعملة الصعبة، نظراً لأن دموع الجزائري كعملته فقدت من قيمتها، قبل أن يضيف ساخراً "المشكل.. أنَّ عليَّ أن أدفع لشخص ثانٍ، كي يتكفّل بالتأكد من أنه يبكيني حقاً.. وليس منهمكاً في الضحك عليّ" ولقد فكّرت في أن أطلبه لأُخبره بأمر هذه الوكالة، في حالة ما إذا أراد يوماً، أن يستأجر أحداً ينوب عنه في الصلاة والصوم، والفرائض التي تشغل نصف وقته.

وهذه السيدة الإيطالية ليست أول من ابتدع فكرة دفع المال، طلباً للمغفرة فلقد شاعت لدى مسيحيي القرون الوسطى، ظاهرة "صُكوك الغفران"، وشراء راحة الضمير بمبلغ من المال، لدى الذين نصّبوا أنفسهم وكلاء للَّه في الأرض، وراحوا باسم الكنيسة يبيعون للتائبين أسهماً في الجنة، حسب قدرتهم على الدفع.
وهو ما أوحى للمغني المشهور فرانك سيناترا، بأن يعرض قبل موته على البابا، مبلغ مئة مليون دولار، كي يغفر له ذنوبه ويسمع اعترافاته، برغم توسُّـل زوجته أن يعيد النظر في التخلِّي عن نصف ثروته لهذا المشروع، نظراً لمرضه وإدراكه عدم استطاعته أخذ هذا المال معه، هو الذي بحكم علاقته مع المافيا، خزّن من المال في حساباته، بقدر ما خزّن من خطايا في صدره والهوس بالآخرة والاستعداد لها بالهِبات والصلوات، مرض أميركي يزداد شيوعاً كلّما انهارت رهانات المجتمع الأميركي على المكاسب الدنيوية وفي استفتاء قامت به إحدى المؤسسات الجادة، ورد أن 9 أميركيين من 10 يعتقدون بوجود السماوات والحساب يوم القيامة، ويثق %47 من أصحاب الهررة والكلاب، بأن حيواناتهم المفضلة سترافقهم إلى الجنة، وهم يثقون تماماً بدخولها، ربما بسبب ما أغدقوه على هذه الحيوانات، نكاية في سكان ضواحي العالم، الذين شاء لهم سوء طالعهم أن يُولدوا في "معسكر الشرّ".
وعندما نقرأ التقرير الذي صدر في جنيف عن الأمم المتحدة، الذي جاء فيه أن ما ينفقه الأميركيون سنوياً، لإطعام حيواناتهم الأليفة يكفي لتزويد العالم بأسره بالمياه، وتأمين نظام صحي للجميع، نفهم انتشار وكالات التكفير عن الذنوب في أميركا، ونجد تفسيراً لاستفتاء آخر جاء فيه، أن خمسين مليون أميركي بالغ يعانون من الأرق والتوتر.. وقلّــة النــوم!
 

قطرة روح

بيلساني سنة رابعة

إنضم
Jun 20, 2009
المشاركات
729
مستوى التفاعل
8
عواطف "ثور..يّــة" لمحبِّي البقر

عواطف "ثور..يّــة" لمحبِّي البقر


لكأنّ تلك البقرة، التي بدت عليها أعراض الجنون، وقد تتسبّب للاقتصاد الأميركي، في خسارة تفوق الأربعين مليار دولار، كانت هديّة صدّام إلى بوش في أعياد الميلاد. وربما تكشف تحقيقات وكالة الاستخبارات الأميركية مستقبلاً، أنّها مُنخرطة في جيش فدائيّي صدّام، وكانت تنتظر الوقت المناسب لتُباشر مهمتها التاريخية، في إلحاق أكبر الخسائر بـمعسكر الشرّ، انتقاماً للقائد الراعي، الذي كان يسوق القطيع إلى المراعي، حين ساقه جنونه إلى تلك الحفرة. ونظراً إلى كون الرجل من برج الثور، أتوقّع أن يأتي من البيطريِّين الأميركيين، مَن يقول إن البقرة جنّت بصدّام.. أو جنّت بسببه. فلولا جنون البشر، ما كان لجنون البقر أن يوجد، بعد أن أراد البعض معاكسة الطبيعة، وإجبار المواشي على أكل اللحوم، تماشياً مع نزعاته الافتراسيّة.
وليس عجباً، أن تقع البقرة في حُبّ الرجل. وقد قرأت مرّة أنّ مُزارعاً من جنوب أفريقيا عانى الغيرة الشديدة، التي تتملَّك إحدى بقرات مزرعته، ما كاد يؤدي إلى انهيار حياته الزوجيّة، بسبب إعجاب البقرة به منذ أعوام، وتتبُّعها له كظلّه أينما ذهب. وعندما تزوَّج المسكين قبل عامين، ظلّت البقرة مُصرّة على إعجابها وتعلُّقها به، وكانت تستشيط غيظاً، كلّما رأته يُداعب زوجته أو يمسك بيدها. وقد حاولت البقرة مراراً قتل الزوجة، بأن تطاردها وتحاول نطحها، لتوقعها في بئر المزرعة. ومنذ سنتين والرجل حائر بين بقرته وزوجته، لا يطاوعه قلبه على بيع الأُولى، ولا على تطليق الثانية، ولسان حاله مع البقرة المخدوعة أخونك آه.. أبيعك لا.
ووقوع بقرة في حب رجل، ليس أعجب من وقوع ملكة في حُبّ ثور. ففي الجنون ما فيش حدّ أحسن من حدّ.. ولا بقرة أجنّ من مرا، كما جاء في فن الهوى لـأوفيد، الذي يحكي لنا أُسطورة الملكة باسيفاي، التي وقعت في حُبّ ثور، وراحت المسكينة تتجمَّل له كلّ يوم، وتأتيه في كلّ زينتها وهو غير آبه لها، مشغول عنها بمعاشرة البقرات، حتى تمنّت لو نبت لها قرنان فوق جبينها، عساها تلفت انتباهه.
ويبدو أنّ باسيفاي، كانت أوّل كائن أُصيب بجنون البقر. فما لبثت أن هجرت قصرها إلى الغابات والوديان، لتُحملق في كلّ بقرة، تقع عليها عيناها، مُشتبهةً في كلّ بقرة حلوبٍ لعوب، تتمرّغ على العشب الناعم، تحت بصر حبيبها الثور، عساها تسرق لبّه. وذهبت الغيرة بالملكة حدّ الفتك بغريماتها، بإرسالها إلى الحقول لإنهاكها بجرّ المحراث، أو إلى المذبح بذريعة نحرها قرباناً للآلهة.
لـــذا، أنصح النساء بأن يأخذن، بعد الآن، مأخذ الجد وجود البقرة كغريمة للمرأة، ومنافسة يُحسب لها ألف حساب، خاصة مذ نزلت الأبقار إلى ساحة الجَمَال وإعلان جائزة أفضل تسريحة شعر للبقر في ألمانيا، واستعانة أصحاب الأبقار المتسابقة، بكل عدّة التجميل النسائي، من سيشوارات وبودرة وجلاتين ومثبتات شعر. وإن كنت لا أذكر اسم البقرة الفائزة، فأتوقّع أن تكون بقرة رأسمالية شبعانة كسولاً ومغناجاً، لا تشبه في شيء بقرة حاحا النطّاحة، التي وصفها لنا أحمد فؤاد نجم، في إحدى قصائده الشهيرة، بعد حرب 67 وأُودع بسببها السجن.
والأمر على ما هو عليه من العجب، لا أرى سبباً بعد الآن لغضب امرأة، يناديها زوجها يا بقرة. خاصة بعدما كشف لنا رجال الفضاء الوجه البشع للقمر، وبعد إعلان النجم راسل كرو، أنه انفصل عن صديقته الفاتنة، ليستطيع تمضية وقتٍ أكبر مع الأبقار في مزرعته. وفي هذا السياق، يبدو اعتراف الرئيس بوش، في بداية حكمه، بالتواصُل مع الأبقار، اعترافاً يشهد بأخلاقيات الرجل، الذي يفضّل على مُعاشرة المتدرّبات في البيت الأيض، عِشرة الأبقار. وعندما لا يكون رئيس الولايات المتحدة مع زوجته، أو مع والدته بربارا، يكون مأخوذاً بالاستماع إلى كوندليزا رايس، أو إلى الأبقار. فقد قال في تصريح، مازلت أحتفظ به: أتطلّع إلى مشاهدة الأبقار، التي تتحدث معي، لأنني مُستمع جيّد.

ماذا لو كان بين الأبقار المتحدثة لبوش، تلك البقرة المجنونة؟
 

قطرة روح

بيلساني سنة رابعة

إنضم
Jun 20, 2009
المشاركات
729
مستوى التفاعل
8
عُذراً للغابات

عُذراً للغابات


أعرف عملاً أكثر جرأة، من إقدام المرء على نشر كتاب· فإذا كانت الكتابة في حدِّ ذاتها مجازفة، فإنّ السرعة في إصدار ما نعتقده أدباً أو شعراً، تهوُّر لا يُقدم عليه إلاّ مَن لا يعنيه أن يكون أديباً، بقدر ما يكفيه وضع تلك الصفة على كتاب·
أمّــا المبدع الحقيقي، فهو إنسان غير آبه بالألقاب المنهوبة· إنّه كائن مرعوب بحكم إحساسه الدائم بأنه عابرٌ، وبأن لا شيء سيخلد سوى كتاباته· فكلُّ ورقة يخطّها ويرضى أن يراها مطبوعة في كتاب، هي ورقة يلعب بها قدره الأدبيّ، وسيُحاسب عليها كأنه لم يكتب سواها·
ولذا كان فلوبير يقضي أياماً كاملة في صياغة، وإعادة صياغة صفحة واحدة، وكان بورخيس العظيم يزداد تواضعاً كلّما تقدّمت به الكتابة، حتى إنه صرّح في آخر حياته إني أفترض أنّ بلوغي سن الثمانية والثمانين، يؤهّلني لكتابة بضعة سطور جديرة بالذِّكر، أمّا البقيّة ففي الإمكان أن تذهب إلى القِدر كما اعتادت جدَّتي أن تقول·
وقد ذهب بعض كبار الكتاب حدّ إحراق مخطوطات، قضوا أعواماً في العمل عليها، وأمر البعض بإتلافها بعد موته، خشية أن تصدر في صيغة تسيء لمكانته الأدبية·
وفي زمن نشهد سقوط هيبة الفن، وسطوة النجوميّة، أصبح في إمكان أي شاب عربي، تؤهله جرأته وحباله الصوتية لاقتحام شاشتنا، أن يغدو سوبر ستار ولو برهة، ويختبر فينا قدرته على الزعيق وقدرتنا على الصبر، ليس عجباً أن نشهد استباحة هيبة الكتابة أيضاً، بعدما أصبح كلُّ مَن يُحسن القراءة مشروع كاتب، وكلّ مَن أُصيب بخيبة عاطفيّة شاعراً، ومن حقّه أن يُجرِّب نفسه في رواية أو في ديوان شعر· وهو، أيضـــــاً، لن يقبل بأقل من لقب سوبر ستار، ومن أوّل ديوان، يرفض أن يُشبَّه بغير نــــــزار! وهو، كالكثيرين الذين نُصادف كتبهم مهمَلة في المستودعات، لا يمنح موهبته ما يلزمها من وقت للنضوج·
ماذا نفعل بربِّكم مع كتّاب لا يتردد بعضهم في ارتكاب جرائم في حقّ الأشجار، مُستعدّاً، إنْ اقتضى الأمر، لإتلاف غابة من أجل إصدار كتاب لن يقرأه أحد، إلاَّ حفنة من المعارف الْمُرغَمين على مباركة جرائمه الأدبيّة؟
والعجيـــب إصــرار هؤلاء على المزيد من الإنتـــــاج، لا يثنيهم عن الإبـــداع أن يفوق عدد كتبهم عدد قرّائهم، ولهم في هذه النكبة فتــوى· فقلَّــة انتشارهم، وعدم فهم الناس أعمالهم أو تذوّقها هما نفسهما، دليل نبوغهم· ذلك أنه ما من موهبة تمرُّ بلا عِقاب·· وهم قد يردّون على قول هيمنغواي: الكاتب هو مَن له قرّاء، بأن رامبو، الذي غيَّـر لغة فرنسا وترك بصماته على الشِّعر العالمي، لم يطبع من كتابه فصل في الجحيم أكثر من خمسمئة نسخة، بينما اكتفى مالارميه بطباعة أربعين نسخة من أحد دواوينه، يوم أصدرها في طبعتها الأُولى·
ومثل هؤلاء النابغين لا جدوى من نُصحهم أو إقناعهم بتغيُّـر مهنتهم· فكلُّ واحد منهم واثق تماماً بأنه يفوقك موهبة وينقصك حظاً، وإلاّ لكان أكثر شهرة منك، مادام قد أصدر من الكتب في سنة، ما لا تصدره أنت في ربع قرن·
وأذكر أنني في الصيف الماضي، أثناء إقامتي في جنوب فرنسا، قرأت أنّ جمعاً من الشعراء قرروا أن يلتقوا جمهور الشِّعر في غابات الجنوب، ليس فقط بقصد توفير فضاء يليق بجَمَال الشعر، بل أيضاً امتنان منهم للغابات والأشجار، التي توفّر لهم الورق الذي يطبعون عليه أشعارهم·
وفكّرت يومها في أنَّ ثمَّة أكثر من فائدة في نقل مهرجاناتنا الشعرية، ومؤتمراتنا الأدبية إلى الغابات· فقد تُصلحُ الطبيعة ما أفسدته عادات الضيافة الباذخة، في ولائم شراء الذِّمم·
ثمّ، قد تكون فرصة للبعض، لتقديم اعتذارهم للغابات· على ما اقترفوا في حقها من جرائم أدبية·· من أجل كتب لن يقرأها أحد·
 

قطرة روح

بيلساني سنة رابعة

إنضم
Jun 20, 2009
المشاركات
729
مستوى التفاعل
8
على مرأى من ضمير العالم

على مرأى من ضمير العالم


لم أبكِ أمام جثمان أبي (نحن نبكي دائماً في ما بعد)، لكنني بكيت وأنا أُشاهد ذلك الرهــط الغريب من الرعاع واللصوص وهم يهجمون على متحف بغداد، فيستبيحون ذاكرة الإنسانية، ويعيثون فيه خراباً، ويدمِّرون كل ما لم تستطع أيديهم نهبه، ويتركونه وقد غــدَا مغارة مرَّت بها الوحوش البشرية.

هكــذا، "تحت وضح الضمير" العالمي، طــال النهب والتدمير 170 ألف قطعة آثار ونفائس تاريخية، لا يوجد مثيل لها في أي مكان في العالم.

حدث هذا على مرأى من جيوش جاءت تُبشِّرنا بالحضارة، مُفاخرة بمعدّاتها المتطوِّرة في الاستطلاع، والتقاط "الصور الحرارية"، والرؤية الليلية، لكنها لم تــرَ شيئاً، بينما أكبر مخازن التاريخ تُنهب كنوزه في عز النهار.

فهـي لــم تــأتِ أصلاً لحماية التاريخ، ولا لصيانة الذاكرة، إنما لإعادة صياغتها، بحيث نتساوى جميعاً في انعدامها، مُراعاة ومجاملة لتاريخها. عُذرها أنّ العالم بدأ بالنسبة إلى تقويمها، منذ خمسة قرون فقط، يوم نبتت أميركا على قارة كانت حتى ذلك الحين، مُلكاً للهنود الحمــر. ولــذا هي لم تتوقع أن يكون للعراق الصغير الذي استضعفته، وجــاءت تلتهمه كهامبرغر، وهي تتجرَّع الكولا على دبابة الحريَّة، تاريخ يفوق تاريخها بخمسة آلاف سنة. بل إنها لم تتوقع أن تجد فيه مؤسسات وجامعات ومتاحف ومكتبات وبيوتاً جميلة، وحدائق عامة وطرقات حديثة، وفنادق فخمة، وأُناساً مثقفين، جميليــن ومُكابريــن، ليســوا جميعهم قطَّاع طرق ومجرمين، ولا متسوِّلين يستجدون من جنودها الماء والرغيــف.

بوش نفسه لم يكن يعرف هذا، حتى إنَّ كاريكاتوراً فرنسياً، أظهره وهو يُوبّخ مستشاره قائلاً: "لماذا لم تقل لي إنَّ في العراق مدناً وليس صحارى فقط؟".

فهــل نعجب ألاَّ يعرف جنوده عن العراق سوى كونه بلداً يملك ثاني احتياطي بترول في العالم، فيُسارعوا حال سقوط تمثال صـدّام، إلى تطويق وزارة النفط، والتمركُز حولها، حرصاً على حماية وثائقها وعقودها من التلف، بينما يُسلِّمون بلداً بأكمله للسرَّاق واللصوص، ليُدمِّروا بمباركة منهم، السفارات الغربية، التي وقفت ضــد غزو العـراق، وينهبوا بكلِّ طمأنينة، بقيَّة الوزارات والمؤسسات والجامعات، فيحرقوا السجلات والأبحاث والشهادات ووثائق المكتبة والأوراق الثبوتية.. بــل يطــال نهبهم وتدميرهم حتى المستشفيات، وغرف العمليات وسيارات الإسعاف، في بلد يفترش جرحاه الأرض بعد كلِّ قصف أميركي، وتقــول القـوّات الغازيــة، إنها شنَّت عليه، الحرب لا لغايــة اقتصادية، بــل "لضرورة أخلاقية".
وهــو ما لم يدَّعه "هولاكــو" يوم غــزا بغداد، برغم أن الجرائـم نفسها حدثت يوم دخلها على ظهر بغلته. فقد جاء في كتب التاريخ، أنَّــه يومها نُهبت الأسواق والخانات، واستُبيحــت البيوت، وهُدِّمـت كنائس وجوامــع، وحُـوِّلـت المدارس لتغدو اسطبلات "لبغال" جيش هولاكــو، وزُينت "نعال" الجياد بالياقوت والزمرُّد، ممّا نُهب من بيت الخلافة، وصــار الـمـاء في دجلة أُرجوانياً لفرط ما انداح فيه من دم، وما ذاب فيه من حبـر المخطوطات، التي أُلقيـت فيه.
صــدّام الذي قال: "الذي يريد أن يأخذ العراق منَّا سيجده أرضاً بلا بشر"، لم يسعفه الوقت لالتهام أكثر من مليوني عراقي، فارتأى لمزيد من التنكيل بمن بقي حيّـاً من العراقيين أن يتركهم بشراً بلا وطن. فقد كان، ككل الطُّـغـاة، مقتنعاً بأنه هو العـراق، وبأنَّ التاريخ الذي بــدأ بــه، لابد أن ينتهي معه. ولــذا، حسب المثل اللبناني "جــاء بالدبّ إلى كرمه"، وسلَّمه العراق بلا جيش، ولا علماء، ولا تاريخ، ولا مؤسسات، ليعيث فيه فساداً، ويدوس عناقيده على مرأى ممَّـن قُـدِّر له منَّا أن يحضر هذه الفاجعة.
مأساتنا الآن تختصرها تلك العبارة التي ينهي بها منصور الرحباني مسرحيته "ملـوك الطوائـف". قائلاً: "إذا مَلِكٌ راح بيجي ملك غيره.. وإذا الوطن راح ما في وطن غيره".
 

قطرة روح

بيلساني سنة رابعة

إنضم
Jun 20, 2009
المشاركات
729
مستوى التفاعل
8
دموع لطيفة

دموع لطيفة


لا شيء كان يشي بالحزن، في ذلك اليوم الذي بدأ جميلاً، وأنا ألتقي المطربة لطيفة، لأوّل مرّة، في فندق فخم في بيروت، بعد أن نجحت في إلقاء القبض عليَّ، إثر مُطاردة هاتفيّة وعاطفيّة، جنّدت لها لطيفة لعدَّة أشهر، أصدقاء مشتركين لنا، بعد أن أصرّت على أن تكون أوَّل مَن يقرأ روايتي عابر سرير.

لطيفــة، ما كانت تشبه تلك النجمة التي اعتادت أن تعبُر شاشتي في مقابلة، أو في كليب. اكتشفتها. إنسانة تلقائية عُروبيّة، متواضعة، لم تغيّرها الشهرة ولا الأضواء، تُفاخــر بالمشي في أكبر الفنادق بجوار والدتها، السيّدة الطيِّبة الأُميَّة، ذات المظهر البسيط، لا تتوقف عن احتضانها وتقبيلها مراراً أمام النظرات الفضوليّة، مُردِّدة أنها تفاخر بهذه الأُم، التي أنجبت وربّت ثمانية أولاد. وكانت لطيفة تركض بين البوفيه وطاولة السفرة، لإغرائها بتناول شيء من الأكل، أو من الحلويات، تساعدها على الوقوف، ترافقها إلى الباب، ترتّب الشال على شعرها. تصرُّفٌ ترك في قلبي أجمل الأثر، لأنه لا يُشبه ما أراه في بيروت، من فتيات شهيرات (أو نكرات) أودى بإنسانيتهن فيروس التشاوف، المتفشّي هذه الأيام.
وكنتُ قد هاتفتها قبل ذلك مساءً، لنحدّد موعد لقائنا، غير أنها تركتني مذهولة، وهي تقول إنها ستُهاتفني حال انتهائها من أداء صلاة العشاء.

حين طلبتني بعد ذلك مطوّلاً، ووجدتْ خطّي مشغولاً، صاحت وأنا أُخبرها، أنني كنت أُحدّث الغالية جميلة بوحيرد، لأُعايدها: أرجــوك يا أحــلام، أُريـد أن أراها.. أنا جاهزة لأذهب إلى الجزائر، فقط لأُقبّلها.. عِديني أن تصطحبيني معكِ، حين تسافرين إلى الجزائر. قلت وأنا أستبعد المشروع: إنّ الأوضاع الجزائرية حالياً تعبانة، والناس بين منكوبي زلزال أو فيضان، أو ضحايا فقر أو إرهاب. ردَّت وقد عثرت على قضيّة جديدة: في إمكاني تقديم حفل كبير لمصلحة أي مشروع خيري تنصحينني به. أجبتها أيتها المجنونة، لقد صنع كثير من المطربين والمطربات ثرواتهم، بإقامة الحفلات في الجزائر، في صفقات البزنس النضالي، وأنتِ تُريدين الغناء مجاناً لدولة أثرى منكِ؟ نحن لسنا فقراء، نحن شعبٌ مُفقَّر.

وهكذا انقلب مسار حديثنا من اعترفات نسائية، كنا نتبادلها ضاحكتين، إلى الحديث عن مشروعات خيريّة، تتكفّل بها لطيفة في أوساط المغتربين في فرنسا، عارضة عليّ أن أُسهم فيها إن استطعت ذلك.

كنت بدأت أعتقد أنني أعرف عن لطيفة ما يكفي، لأُكوِّن فكرة عن اهتماماتها، وطيبتها، بعد أن أخبرتني بأنها تُقاوم الأرق بمطالعة وجهة نظر، وبعض الكتب السياسيّة، وعرضت عليّ الاستفادة من صور ستأخذها، عند أحد كبار المصوِّرين، لآخذ صورتين أو ثلاثاً، ضمن جلسة تصويرها، حتى أُغيِّر صورتي في زهرة الخليج، لأنها لا تُنصفني. غير أنّ هاتفاً تلقّته لطيفة يوم لقائنا، يخبرها بموت صديقتها، المطربة ذكـــرى، مقتولة على يــد زوجها، كشف لي جانباً آخــر فيها. فقد بــدت فتاة شعبيّة، قد تنتمي إلى أي بلد عربي كان، أُنثى باكيــة لا تتوقف عن النحيــب والدُّعــاء، متوسلة إلى اللّه أن يكون الخبر غير صحيح. لكن عشرات المكالمات، التي انهالت عليها، تؤكد صحّـة الخبر، وتمدُّها بالتفاصيل العنيفــــة للمـــوت، فأسمعها تنتحـب بلهجتها التونسية: يا ربّـي، ذاك الجَمَال ينتهي في مشرحة، ذاك الصوت، ذاك الشباب، يا نـــــاري عليكِ يا مسكينة يا ذكــرى.

ثمّ تعود لتسألني مذعـــورة: آش نعمل؟ قولي لي.. عندي غـدوة احتفال لتسلُّم أوسكار أحسن مغنية لهذا العام، وعندي الاثنين حفل في أبوظبي، بمناسبة عيد الإمارات، كيفاش نغني؟ أنا لازم نمشي غدوة لمصر نهزّ هاذ المغبونة، نروح ندفنها في تونس، يتيمة ذكرى ما عندها حتى حدّ إلاّ أنا.

لم أستطع تقديم أيّـة نصيحة إلى لطيفة. تركتها وأنا أُفكّـر في أنّ لكل امرئ من اسمه نصيب. فهل كان أهل ذكــــرى، يختارون قدرها، وهم يختارون لها اسماً؟
 

قطرة روح

بيلساني سنة رابعة

إنضم
Jun 20, 2009
المشاركات
729
مستوى التفاعل
8
محمد ديب... سيأتون حتماً لنقل رماد غربتك

محمد ديب... سيأتون حتماً لنقل رماد غربتك


أكره أن أكتب مثل هذه الشهادات. ربما لأنها اعتراف بأن من حسبنا الإبداع يمنحهم مناعة ضد الموت، يموتون أيضاً. وربما لأن في كل شهادة نكتبها عنهم، نحن، لا نرثي سوانا. أما هم، فما عادوا معنيين بما نقوله عنهم. لقد رحلوا صوب "الأزرق المستحيل" بحسب تعبير الصديق صالح القزاز، الذي لم أكتب شهادة فيه يوم باغتني خبر موته. ربما لأن وقع رحيله عليّ كان مختلفاً في فاجعته عن وقع كل الذين عرفوه، لكونه الصديق الذي لم ألتق به يوماً، والذي علقت رنة ضحكته بهاتفي، وبعدها بثلاث سنوات، علقت نبرة حزنه المكابر المودّع استشعاراً بساعة الرحيل. فهل الذين لم نلتق بهم من المبدعين يتركون فينا أثراً أكثر من الذين عرفناهم؟
بعض أصدقائي من الكتّاب الذين اغتيلوا في الجزائر مثل يوسف سبتي والطاهر جاعوط، وبعض الذين ماتوا في غيبتي، تقبلت موتهم بواقعية أكثر، ربما لأنهم جيل قابل للموت... بحكم أنهم من جيلي.
أما رموز الأدب الجزائري ومؤسسو المجد الأدبي للجزائر، فما زلت أتعامل معهم كما لو كانوا أحياء. لأنني أحتاجهم قدوة من أجل البقاء على قيد الكتابة، ولكي تبقى قامتي الأدبية منتصبة بفضلهم. مالك حداد... كاتب ياسين... مولود معمري... محمد ديب... جميلين كانوا في أنفتهم وعزة نفسهم وشجاعة رأيهم، جميلين في نبوغهم وبساطتهم. فهم من جيل علمته الثورة التواضع أمام الوطن، الوطن الذي علمته الثورة انه أكبر من أن يولي اهتماماً بأبنائه أو يدلل مبدعيه. آخر هؤلاء الكبار ذهب الى نومه الأخير.. سكت محمد ديب. فاجأه الصمت تحت "شجرة الكلام"، هو الذي أصبح حديثه إلينا حدثاً، كان مشغولاً عنا بغور بحر الأسئلة التي لم تزد كلماته إلا ملحاً.
"لولا البحر، ولولا النساء، لبقينا أبد الدهر يتامى. فقد غمرننا بملح ألسنتهن... وهذا، من حسن الحظ حفظ الكثير منا... ولا بد من أن نجاهر بذلك في يوم من الأيام...!".
هذا ما جاء في كتابه "من يذكر البحر؟". أما نحن فنسأل: من يذكر "الحريق"؟ ... و"ثلاثية" محمد ديب التي صنعت منه في البداية "بالزاك الجزائر"، وجعلت الجزائريين يعيشون في السبعينات حال انخطاف وهم يتابعون تحويل تلك الرواية الى مسلسل أشعل النار في التلفزة الجزائرية، لفرط صدقه في نقل الهوية الجزائرية ووصفها بحيث لم يضاهه جودة حتى اليوم أي عمل سينمائي جزائري. في ذلك المسلسل اكتشفت محمد ديب الذي علقت نيرانه بتلابيب ذاكرتي، وصنعت وهج اسمه في قلبي. وعندما، بعد ثلاثين سنة، أصبحت بدوري كاتبة جزائرية تصدر أعمالها مترجمة في إحدى كبرى دور النشر الفرنسية، كانت مفاجأتي ومفخرتي في كونها الدار التي تصدر عنها أعمال محمد ديب. فقد أمدني بها ناشري هدية ليقنعني بمكانة مؤلّفيه الجزائريين اللذين هما محمد ديب وآسيا جبار، من دون أن يدري انه رفعني بكتاب الى قامة كاتب كان يكفيني فخراً أن أجالسه يوماً.
أخيراً اكتشفت من مقال للكاتب جيلالي خلاص، ذلك النزاع الذي وقع بين محمد ديب وبين منشورات "سوي" الشهيرة التي طلبت من الكاتب تغيير طريقة كتاباته، والتخلي عن طروحاته الفلسفية كي يحظى بإقبال أكبر لدى القراء. غير أن محمد ديب الذي ما كان معنياً مثل بعض الكتّاب المغاربيين المقيمين في فرنسا، بكسب قلوب القراء الفرنسيين وجيوبهم، فضّل بدل تغيير مساره الفلسفي... تغيير دار نشره!
يبقى أن الجزائر التي كانت تستعد بمناسبة سنة الجزائر في فرنسا للاحتفاء بمحمد ديب بما يليق بمقامه، من خلال ملتقى دولي وتظاهرات متعددة على ضفتي البحر الأبيض المتوسط، جاء تكريمها له متأخراً، حتى لكأن محمد ديب أراد بموته أن يستبقه ترفعاً وقهراً. ذلك ان تكريم الكاتب بحسب جبران، ليس في أن تعطيه ما يستحق، بل في أن تأخذ منه ما يعطي. ومحمد ديب لم ينس أنه زار الجزائر سنة 1981 مريضاً منهكاً، وطلب من الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، التي كانت تنفرد وحدها آنذاك بسوق الكتاب، أن تشتري حق نشر كتبه من دار "سوي" وأن تنشر كتبه المقبلة في الجزائر. غير ان استقبالها الحار له، وتفهمها لطلبه، لم يؤديا الى نتيجة. ولم تشفع له الوثائق الطبيّة التي احضرها لإثبات حاجته الى العملة الصعبة لكي يعالج في باريس. فاستناداً الى قانون جزائري كان يمنع آنذاك تسديد حقوق التأليف بالعملة الصعبة لأي جزائري، رفض وزير الثقافة في تلك الحكومة (الفائقة الحرص على أموال الشعب) نجدة أحد أعلام الجزائر وكبار مبدعيها. وارتأت الدولة ان حقوق مؤلف قد تخرب ميزانية الجزائر، وان لا بأس لأسباب تتعلق بالمصلحة الوطنية من إعادته الى منفاه خائباً مجروح الكرامة.
من يومها ومحمد ديب يزداد توغلاً في منفى أراده وطناً لمرارة أسئلته، وقد أفضى به الى "شجرة الكلام" و"ثلوج الرخام".
مات صاحب "الحريق". واليوم سيأتون، حتماً سيأتون لنقل رماد غربته في صندوق محكم الإغلاق على مرارته، يغطيه علم الجزائر وسيمنحونه وساماً. ويكتبون مقالات كثيرة في جمالية عودة الابن الضال الى "وطنه". وسيكون لسان حاله، قول الأخطل الصغير: "أرجو أن يترك نعشي مفتوحاً عند قدمي، لأنهم سيمنحونني يومئذ وساماً... وسألبط بقدمي ذلك الوسام!"

أحلام مستغانمي
9/5/2003
(عن الحياة اللندنية).
 

قطرة روح

بيلساني سنة رابعة

إنضم
Jun 20, 2009
المشاركات
729
مستوى التفاعل
8
نحن في سجن عسقلان ... طمنينا عنك

نحن في سجن عسقلان ... طمنينا عنك


لم أدرك يوماً سر انجذاب الأسرى السياسيين إلى كتاباتي، حتى إنه في إمكاني أن أكتب كتاباً كاملاً (قد يكون كتابي الأجمل) عن تلك المصادفات العجيبة التي، على مدى ربع قرن، وضعت مراراً في طريقي أسرى من سجناء الرأي القابعين في المعتقلات العربية، قبل أن ينضم إليهم الأسرى الفلسطينيون الموزعون على السجون الإسرائيلية. بعض هذه القصص من الجمال، بحيث أرى في عدم كتابتها جريمة في حق الأدب، وأحياناً في حق الحب.
عاد موضوع الأسرى ليجتاح حياتي بعد مروري ببرنامج خليك بالبيت، وقبلها بيوم كان زاهي وهبي قد طلبني مساءً ليقول لي: أدري أن هذا الخبر سيسعدك.. لك سلام خاص من أسرى سجن عسقلان.. إنهم ينتظرون بلهفة حلقة الغد لمتابعة حوارك. وما كدت أضع السماعة حتى رحت أبكي للحظات، غير مصدقة معجزة الكتابة، التي تجعل كلماتك تخترق الحدود والحواجز، وبوابات السجون، وقضبان الزنازين، لتحط في أيدي أسرى محكوم على بعضهم بثلاثين سنة من السجن.
لكن معجزة أُخرى كانت في انتظاري غداة بث البرنامج، عندما رن هاتفي النقال، ووجدتني أتكلم مع الأسير محمود الصفدي، الذي أمده زاهي برقم جوالي، واستطاع بطريقة من الطرق أن يوصل إليّ صوته عبر الهاتف. وبقيت مذهولة أبحث عن كلمات أرد بها عليه. فقد كان يتكلم بجمالية وفصاحة صقلتهما العزلة والمطالعة.. والحب. وراح بحماس وشوق ينقل إليّ محبته ومحبة رفاقه الأسرى. قال: نحن أربعمئة معتقل هنا، نهديك وروداً أكثر من التي وصلتك، لأنك أهديتنا قارب نجاة لعالم الحرية والمعرفة. كتبك زادنا اليومي في رحلة الأسر الطويلة.
وأما تعجبي لاكتشافي أنه طالع رواياتي الثلاث، أخبرني محمود أنهم ناضلوا كثيراً ودخلوا في إضرابات جوع مفتوحة، قبل أن يحصلوا على حق القراءة وحق مشاهدة التلفزيون، وأنه قبل ذلك حدث لأحد الرفاق الأسرى أن قضى أياماً منكباً على نسخ ذاكرة الجسد بـ أحرف السمسمة، ليهربها إلى بقية المعتقلين. سألته عن هذه التسمية، قال إنها تطلق على أصغر حرف يكتب على ورق شفاف للمراسلات. لكنه طمأنني بشيء من الفرح قائلاً: الآن، جميعنا قرأناك، وأبطالك يقيمون معنا، برغم ضيق زنزاناتنا التي تضم ثمانية أسرى. لقد أفسحنا مكاناً بيننا لخالد وعبدالحق وحياة.. إنهم يعيشون معنا.. نتحدث إليهم ونتحدث عنهم في جلساتنا.
لم أفهم سر التوقد، الذي يشتعل به كلام محمود الصفدي، إلاّ عندما حدثني عن عاطف شاهين، الفتاة التي خطبها قبل خمسة عشر عاماً، أي قبل اعتقاله ببضعة شهور، لكنها يوم حكم عليه بالسجن لسبع وعشرين سنة، بسبب نشاطه في الانتفاضة الأولى، رفضت أن تضع حداً لعلاقتهما. قال محمود بسخرية: من الواضح أنها لم تأخذ بنصيحتك التي تقول من الأفضل أن تحب المرأة رجلاً في حياته امرأة على أن تحب رجلاً في حياته قضية. حاولت كثيراً إقناعها بالتخلي عني وتحريرها من أعباء رحلتي الطويلة، إلاّ أنها أبت وأصرت أن تتمسك بي وبحبنا وتسير معي في درب الآلام مجهولة النهاية. وكانت تردد دوماً أن من حقها أن تناضل كما ناضلت أنا، وأنها ستنتظرني إن اقتضى الأمر خمس عشرة سنة أُخرى إلى نهاية حكمي.
في عيد العشاق، سلام خاص إلى محمود وعاطف، التي يحدث أن تهاتفني من القدس، لتنقل إليّ تحيات خطيبها أو رسالة منه.
رائعان أنتما وجميلان، حتى لنكاد نحسدكما على أسطورة حب أنجبها الحرمان، وانتظار حبيب سنة.. مقابل كل يوم كان لكما فيه لقاء.
إن كان العشق يحتاج إلى سجن وسجّان.. خذوا بؤسنا العاطفي وسوقونا إلى سجن عسقلان.


أحلام مستغانمي
 

قطرة روح

بيلساني سنة رابعة

إنضم
Jun 20, 2009
المشاركات
729
مستوى التفاعل
8
ساعات.. ساعات".. يحلوّ الزواج

ساعات.. ساعات".. يحلوّ الزواج


كنا قد زهدنا في التلفزيون، هرباً من طبول حرب تتربّص بإخواننا، ومشاهد كوارث تحيط بنا، وبرامج ترفيهيّة تبيعنا مع كلّ مسابقة إفلاسنا الهاتفي.

بعضنا، لإحباطه، خَالَ نفسه قد بلغ سن الفاجعة، وهو يرى أُمّــة بأكملها تدخل سن اليأس، وراح يتأكّد أمام المرآة، من أنّ الشيب لم يتسلّل إلى شعره بعد، بقدر ما تسرّب همُّ وغمُّ العُروبــــــة إلى قلبه، مُدقّقاً بين الحين والآخر، في كونه مازال في كلّ قواه العقليّة في عالم فقد اتِّزانه وتوازنه.

وما كنا لنصدّق أنّ الدنيا مازالت بخير، وأنّ ثـمَّـة أُناســـاً أسويــــاء في هذا الزمن المجنون، قبل أن تتسابق الفضائيات إلى إهدائنا سهرات رمضان، واحتفاءً بالأعياد، لقاءات مع الصبُّـوحــة وخطيبها عـمــر محيـو، ملك جمال لبنان.

ولكوننا أُمّــة تنتظر منذ نصف قرن معجزة تنقذها ممّا هي فيه من مُصاب، دبَّ فينا الأمل ونحنُ نقرأ على غــــلاف إحدى المجلاَّت "هي نجمة منذ 60 سنة، وهو يبلغ من العمر 23 سنة.. لكن الحبّ يصنع المعجزات".

ولأن 60 سنة هو "العمر الفني"، وليس العمر الكامل للصبُّـوحـة، فقد بهرتنا المعجزة، وشخصيّاً، حسب أُغنية نــور دكّاش "آمنـت باللَّـه"، وأنا أرى الحُبّ يجمع بين قلبي امرأة وشاب، في عمر حفيدها.
"معجزات الحبّ"، خُرافــة يومية تُردِّد قصصها على مسامعنا مريـم نــور، وهي مُتربعة أرضاً وسط الشموع والبخور، تُذكّرنا بين وصفتين بمزايا الحبّ.. وحالاته الخارقــة, لكن شَعرها الرمادي، ونظّارتها الطبيّة، ما كانا ليُقنعانا كان يلزمنا في زمــن الفضائيات، والـ"مَن أنـا" القاطع للشكّ، معجزة عشقية نراها بأُمّ أعيننا، نهاتف بعضنا بعضاً، حتى لا نفوّت لحظة ظهورها.. معجزة ملموسة، مرئيّة، صارخة في إعجازها الأُسطوريّ، بين امرأة سبعينيّة شقراء، بمقاييس جمال دمية "باربـي"، وأزيــاء شـــاون ستـون، وغنــج مارليـن مونــرو، يوم غنت لعيد ميلاد حبيبها، الرئيس جــون كيندي، تغني بصوت متقطّع الأنفاس، نشرت على حباله غسيل عمر، من الآهات والحسرات: "ساعات.. ساعات.. بحبّ عمري وأعشق الحياة"، لشاب عشريني يتربّع على عرش الجمال "الطمــوح"، يُبادلها النظرات اللَّهفى العابرة للكاميرات، شاهراً خاتـم خطبته امرأة "أُسطــورة"، حفلت حياتها بما لا يُحصى من الأفلام والأغاني والزيجات آخـــر أزواجها الذين يزدادون صغراً، كلّما تقدّم بها العمر، كان "فدائي لبنان".. أقصد "فادي لبنان"، الذي أبلى بلاءً حسناً في معركة، حافظ فيها ما استطاع على مــاء وجه الحبّ وعلى خبز وملح عِشرة دامـت سنوات، وحافظ فيها على أُصول الفروسيّة، ولن ندري أخسِرها، لأنه كان "فارساً بلا جواد"، أم.. جواداً بلا فارس.
كيف كان له أن يكسب معركة ضد امرأة، ما استطاع الزمان نفسه أن ينال منها؟ حتى إنّ قول لورانس سترين، يكاد لا ينطبق سوى على مخلوقات عداهــا: "الوقت يذوي بسرعة، الوقت يهرب منا، الوقت لا يعفي أحداً، ولا يصفح عن شيء بينما تُسرِّحين شعرك الأشقر المتموّج.. انتبهي جيداً، فربما يصبح رمادياً بين أصابعك".
ذلك أن الصبُّـوحـة ليست مريـم نــور، وشعرها يزداد شقاراً بقدر ازديادها مع العمر رشاقة ونُحــــولاً، حتى إنه في إمكانها انتعال "بوتين" مشدود بخيوط كثيرة، يصل إلى نصف فخذيها، قد يأخذ ربط خيوطه وفكّها ساعة من وقتها لكن لا يهمّ، فالعمر أمامها.. وعُـمَـر بجوارها، ونحـنُ الأغبيــــاء الذين لا نجـرؤ على التخطيط لأبعــد من يومنــا، تحسباً للآخـــرة، نستمع لها تتحدّث عن خطبتها لـ"عُـمَـرْ" متمنية أن تطـــول، "لأنو ما في أحلى من الرجال قبل الجواز", وإذا قالـت حذامِ فصدّقوها، فثماني زيجات تؤهلها لتكون أدرى بشعاب الزواج منا، خاصة أنها في زمــن الانهيارات القيميّة، تستميت في الدفاع عن الأُصول والتقاليد، بإعلانها أنها فقط "مخطوبة".
ثــمّ إنّ للخِطبة فوائــد في هذا العمـر، إحداها كشف أكاذيب الرجـال فلقد اكتشفت مثلاً الممثلة جــوان كولينــز (64 سنة)، أثناء خطبتها مؤخراً لشاب، أنه كذب عليها، وأنّ عمره ما كان (33 سنة)، بل (35 سنة)، وقد أعلنت تخلِّيها عنه لأنها لا تغفر كذبة كهذه! ولا أظــنّ أنّ عُـمَـر الذي يستعدّ لأداء مناسك العمرة، تحسباً لاختبارات "الخطبة"، يتجرّأ على إخفاء عام أو عامين على صباح.. فيُجازف بمجده متشاطراً عليها.
صدق بــو مارشيه إذ قال: "من بين كلّ الأُمور الجدِّية، يبقى الزواج أكثرها دعابة!".
 

قطرة روح

بيلساني سنة رابعة

إنضم
Jun 20, 2009
المشاركات
729
مستوى التفاعل
8
معسكرات الاعتقال العاطفي

معسكرات الاعتقال العاطفي


من أجمل أقوال الإمام علي (كرَّم اللَّه وجهه)، قوله: "أحبَّ مَن شئت فأنتَ فاقده", وهو يُذكِّرنا بقول آخر له: "لكلٍّ مُقبل إدبار وكلُّ مُدبرٍ كأن لم يكن", لكأنَّ علينا أن نعيش السعادة كلحظة مهدّدة، ونتهيّأ مع كل امتلاك.. لحتميّة الفقدان.. وكما يقوم نزار قبّاني بـ"تمارين" يوميّة في الحبّ، علينا أن نقوم يومياً بالتمرُّن على فاجعة فِراق أقرب الناس إلينا، كي نُحافظ على لياقتنا العشقيّة.. ونقوّي عضلة القلب، بالانقطاع فترة عن الذين نحبّهم.

وما أعنيه هنا، هو فراق الْمُحبين، وما يليه من آلام النهايات ذلك أن الأجمل كان لو استطعنا الاحتفاظ بجمالية البدايات.. لو أن الحب لم يمضِ بنا صوب خلافات وشجارات، واكتشافات تشوّه الحلم فينا، وتجعل الحُبّ الكبير يموت صغيراً.

وبرغم هذا، لا أُوافق محمود درويش، حين يقول "لا أُحبُّ مِنَ الحب سوى البدايات", فليست البدايات هي التي تصنع الحبّ، إنها ذلك الذهاب والإياب العشقي نحو الحب وداخله.. ذلك الكوكتيل العجيب من العواطف الْمُتداخلة الْمُتدافعة الْمُتناقضة، مدّاً وجزراً، صدّاً ووصلاً.. حبّاً وكراهية، التي تصنع أُسطورة الحب، وتُحبّب للمحبِّين عذابه وتقلّباته فـ"من ده وده.. الحبّ كده"، ولا مجال لقطف وروده من دون أن تُدمي يدك بل ثمَّة مَنْ عَلَشان الشوك اللِّي في الورد يحبّ الورد"، وهو نفسه الذي غنّى "مضناك جفاه مرقده وبكاهُ ورُحّم عوّده"، حتى جاء مَنْ يُزايد عليه في المازوشيّة العاطفية، مُعلناً من غرفة العناية الفائقة للعشَّاق "عش أنتَ إنِّي متُّ بعدك"، وقد كان موته السريريُّ متوقّعاً لدى كلّ محبِّي أغانيه، مذ أعلن في أغنية شهيرة أن "الحب من غير أمل أسمى معاني الحياة"، ما جعل من الموت حبّاً.. أجمل أنواع الميتات! وهـي طريقة شاذَّة في الحب، لا أتباع لها إلاَّ في العالم العربي، حيث لتشوّهات عاطفية يطول شرحها، عندما لا يجد الإنسان العربي حاكماً يتكفل بتنغيص حياته، وخنق أنفاسه، ورميه في غياهب السجون، يتولّى بنفسه أمر البحث عن حبيب طاغية جبّار، يُسلّمه روحه كي يفتك بها.. حُبّاً، بعد إدخاله إلى معسكرات الاعتقال العاطفي، وتعذيبه عشقاً حدّ الموت.

وبسبب هذا الواقع الذي انعكس على أغانينا، يصعب إحصاء الجرائم العاطفية في الأغاني العربية، التي كثيراً ما يُضاف إليها جريمة هتك المغني ذوق المستمعين، وثقب مسامعهم بعويله وفي حمّى تكاثُر الجمعيّات التي تظهر كل يوم باسم ضحايا الإرهاب، وضحايا الفيضانات، وضحايا البنايات المهدّدة بالانهيار، اقترح أحد القرّاء الجزائريين تشكيل جمعية ضحايا الحب من طرف واحد وأظن أن الموسيقار فريد الأطرش، كان يصلُح رئيساً شرفياً لها، لو أنه لم يكن ضحية فعلية من ضحاياها!

وخَطَــر لي أن أزيــد على اقتراح هذا القارئ، أن يكون لهذه الجمعيّة فرع في كلّ دولة عربية، وألاَّ يقتصر الانخراط فيها على العشَّاق وحدهم، بل يشمل أيضاً المواطنين العرب، الذين يعانون من أوطان لا تُبادلهم الحبّ، ولا يعنيها أن تسحق الحاجة هامتهم، أو تتقاذف المنافي أقدارهم.. في المقابل، أُطالب بإغلاق معسكرات الاعتقال العاطفيِّ، التي يقبع في زنزاناتها عشاق سُّذج، تصوّروا الحياة العاطفية بثوابت أزلية، وذهبوا ضحية هَوسهم بعبارة "إلى الأبد"، معتقدين أن كلَّ حبّ هو الحبُّ الكبير والأخير، فوقعوا في براثن حب مُسيَّج بالغيرة وأسلاك الشكوك الشائكة، ومُفخّخ بأجهزة الإنذار ونقاط التفتيش، غير مدركين أن الحب، رغم كونه امتهاناً للعبودية، هو تمرين يومي على الحرية أي على قدرتنا على الاستغناء عن الآخر، حتى لو اقتضى الأمر بقاءنا أحياناً عاطلين عن الحب.

نــــزار يرى عكس هذا حين يقول "أُريد أن أظلّ دائماً نحلة تلحس العسل عن أصابع قدميك.. حتى لا أبقى عاطلاً عن العمل!".

الْمُشكِل في كون العشاق يسعدون بعذابهم، ولا أمل في إنقاذهم من استعباد الحبّ لهم!
 

قطرة روح

بيلساني سنة رابعة

إنضم
Jun 20, 2009
المشاركات
729
مستوى التفاعل
8
الطاغية ضاحكاً في زنزانته

الطاغية ضاحكاً في زنزانته


إن لم تكن هذه إهانة للعرب جميعاً، واستخفافاً بهم، فما الذي يمكن أن يكون هذا الذي يحدث في العراق، على مرأى من عروبتنا المذهولة؟
وإن لم تكن هذه جرائم حرب، تُرتكب باسم السلام، على أيدي مَن جاؤوا بذريعة إحلاله، فأحلّوا دمنا، واستباحوا حرماتنا، وقتلوا مَن لم يجد صدّام الوقت للفتك به، وعاثوا خراباً وفساداً وقصفاً ودماراً في وطن ادَّعوا نجدته، فما اسم هذا الموت إذن؟ ولِمَ كلّ هذا الدمار؟
لا تسأل· لا يليق بك أن تسأل· فأنت في كرنفال الحرية، وأنت تلميذ عربي مبتدئ، يدخل روضة الديمقراطية، تنتمي إلى شعوب قاصرة، اعتادت بذل الدم والحياة، ونحر خيرة أبنائها قرباناً للنزوات الثورية للحاكم، ودرجت على تقديم خيراتها للأغراب·
مَن يأتي لنجدتك؟ وإلى مَن تشكو مَظلَمتك؟
الشعوب التي لا قيمة للإنسان فيها، التي تفتدي بالروح وبالدم جلاَّديها، لن يرحمها الآخرون·
والشعوب التي لا تُحاسب حاكمها على تبذيره ثروتها، وعلى استحواذه هو وأولاده على دخلها، تُجيز للغرباء نهبها·
والأُمم التي ليست ضدّ مبدأ القتل، وإنما ضدّ هويّة القاتل، يحقّ للغزاة الذين استنجدت بهم، أن يواصلوا مهمة الطُّغاة في التنكيل بها، والتحاور معها بالذخيرة الحيَّة·
هي ذي دولة تبدأ أولاً باحتلالك، لتتكرَّم عليك، إن شاءت، بالحريّة، وتُباشر تجويعك وتسريحك من عملك، لتمنّ عليك بعد ذلك بالرغيف والوظيفة· لايمكن أن تُشكك في نواياها الخيرية· لقد باعت ثرواتك من قبل أن تستولي عليها، وتقاسمت عقود المنشآت حتى قبل أن تُدمّرها·
أنت مازلت تحبو في روضة الحرية، تعيش مباهج نجاتك من بين فكّي جلادك، لا تدري أنّ فرحتك لن تدوم أكثر من لحظة مشاهدتك سقوط صنمه ذاك، وأنّ عليك الآن أن تدفع ثمن سقوط الطاغية، بعد أن دفعت مدّة ثلاثين سنة ثمن صعوده إلى الحكم·
وهكــذا يكون طُغاتنا، وقد أهدروا ماضينا، نجحوا في ضمان كوارثنا المستقبلية، وجعلونا نتحسّر عليهم ونحنُّ إلى قبضتهم الحديدية، ونشتاق إلى قبوِ مُعتقلاتهم وبطش جلاّديهم، ونُقبِّل صورهم المهرَّبة على الأوراق النقدية، نكاية في صورة جلاَّدنا الجديد·· وأعلامه المرفوعة على دبابات تقصف بيوتنا·
منذ الأزل، لننجو من عدو، اعتدنا أن نتكئ على عدو آخر، فنستبدل بالطغاة الغزاة، وبالاستبداد الإذلال الأبشع من الموت·
ذلك أنّ الغزاة، كما الطُّغاة، لا يأتون إلاّ إلى مَن يُنادي عليهم، ويهتف باسمهم، ويحبو عند أقدام عرشهم، مُستجدياً أُبوّتهم وحمايتهم·
بعضنا صدّق دعابة السيد بــاول، وهو يُصرِّح ليتامى صدّام، يوم سقوط الصنم: حياة أجمل تنتظر العراقيين·· نحنُ هنا جئنا بالحرب لنهيئ السلام·
وهي نكتة زاد من سخريتها السوداء، تصريح بوش، رئيس معسكر الخير، ونائب السيد المسيح على الأرض، حين بشَّر سكَّان الكرة الأرضية، بلهجة تهديدية، قائلاً، وهو واثق الخطوة يمشي ملكاً: نحنُ مَن يقود العالم إلى مصير أفضل·
في الواقع، كان صدّام أكثر منه ثقة ومصداقية، حين قال وهو يلهو بإطلاق رصاص بندقيته في الهواء: مَن يريد العراق سيأخذه منا أرضاً بلا بشر،
إنه الآن في معتقله كأسير حرب (لا كمجرمها أو مُدبّرها) العراقي الأكثر أماناً وتدليلاً·
في إمكانه أن يضحك مــلء شاربيه، على شعب تمرَّد على أُبوّته، ويتخبّط الآن في وحول الحرية ومذابح الديمقراطية، يترك أبناؤه دمهم عالقاً بشاشاتنا في كل نشرة أخبار، وتبقى عيون موتاه مفتوحة، حتى بعدما نطفئ التلفاز، تنظر إلينا سائلة لماذا؟·


أحلام مستغانمي
 

قطرة روح

بيلساني سنة رابعة

إنضم
Jun 20, 2009
المشاركات
729
مستوى التفاعل
8
اللاهثون خلف الترجمة

اللاهثون خلف الترجمة


أُشفق على كتّاب عرب، عاشوا لاهثين خلف وهـــــم الترجمة، معتقدين أن صدور أعمالهم بأية لغة أجنبية كافٍ لبلوغهم العالمية تماماً، كاعتقاد مطربينا هذه الأيام، أنه يكفي أن يضيفوا إلى "طراطيقهم" الغنائية جملة أو جملتين بلغة أجنبية، حتى وإن كانت هندية أو سريلانكية، ليصبحوا من النجوم العالميين للأغنية.

حين فاز نجيب محفوظ منذ إحدى عشرة سنة بجائزة نوبل للآداب، أربك النقّاد والقرّاء الغربيين، الذين ما عثروا له في المكتبات على كتب مترجمة، تمكّنهم من التعرّف إلى أدبه أما بعض ما توافر منها، فما كانت ترجمتها تضاهي قلمه أو تليق به فما كان همُّ نجيب محفوظ مطاردة المترجمين أو الانشغال عن هموم قارئه العربي، بالكتابة لقارئ عالمي مفترض كان كاتباً لم يحضر يوماً مؤتمراً "عالمياً" للأدب، ولا غادر يوماً القاهرة حتى إلى استوكهولم، لتسلُّم جائزة نوبل للآداب، ولذا أصبح نجيب محفوظ الروائي العربي الأول.

شخصياً، ما كان يوماً من هواجسي صدور أعمالي مترجمة إلى لغات أجنبية، لعلمي أن "بضاعتي" لا سوق لها خارج الأُمة العربية فبحكم إقامتي 15 سنة في فرنسا، أعرف تماماً الوصفة السحرية التي تجعل كاتباً عربياً ينجح ولكن ذلك النجاح لا يعنيني، ولن يعوّض ما بَلَغْته من نجاح، بسبب كتب صنع نجاحها الوفاء للمشاعر القومية، والاحتفاء بشاعرية اللغة العربية ولأن الشعر هو أوّل ما يضيع في الترجمة، فقد اعتقدت دوماً، أن أيَّـة ترجمة لأيَّـة لغة كانت، ستطفئ وهج أعمالي وتحوّلها إلى عمل إنشائي، حال تجريدها من سحر لغتها العربية، وهو بالمناسبة، أمر يعاني منه كل الشعراء، الذين تقوم قصيدتهم على الشاعرية اللغوية، أكثر من استنادها إلى فكر تأمُّلي فبينما تبدو قصائد أدونيس أجمل مما هي، عندما تُترجم إلى لغات أجنبية، تصبح أشعار نـــزار بعد الترجمة نصوصاً ساذجة، فاقدة اشتعالها وإعجازها اللغوي ونــزار، الذي كان يدرك هذا، لإتقانه أكثر من لغة، قال لي مرّة إنه يكره الاطِّلاع على أعماله المترجمة، ويكاد ينتف شعره عندما يستمع لمترجم أجنبي يُلقي أشعاره مترجمة في حضرته والطريف أن الصديق، الدكتور غازي القصيبي، علّق بالطريقة نفسها عندما، منذ سنة، أرسلت له إلى لندن مسوَّدة ترجمة "فوضى الحواس" إلى الإنجليزية، بعدما طلبت مني الجامعة الأميركية في القاهرة، مراجعتها قبل صدورها وقد قال لي بعد الاطِّلاع عليها، وتكليف زوجته مشكورة بقراءتها، وتسجيل ملاحظاتها حولها (وهي سيدة ألمانية تتقن العربية والإنجليزية بامتياز، واطَّلعت على الكتاب باللغتين)، قال لي مازحاً، أو بالأحرى، مواسياً: "من حُسن حظك أنك لا تتقنين الإنجليزية.. فأنا لا أطّلع على أي عمل يُترجم لي.. حتى لا أنتف شعري!".


خارق، ولم أُفاخـر أو أُراهن إلاَّ على ترجمتها إلى اللغة الكردية، التي ستصدر بها قريباً، لإدراكي أن القارئ الكرديّ، بعظمة نضاله وما عرف من مآسٍ عبر التاريخ، هو أقرب لي ولأعمالي من أي قارئ أوروبي أو أميركي.

غير أن مفاجأتي كانت، النجاح الذي حظيت به هذه الرواية عند صدورها مؤخراً باللغة الفرنسية وهو نجاح لا يعود إلى شهرة دار النشر التي صدرت عنها، وإنما للقارئ الفرنسي، الذي قرّر أن يحمي نفسه كمستهلك للكتب، بابتكار نادٍ للقرّاء يضمّ ثلاثمئة قارئ، يتطوعون خلال الصيف بقراءة الروايات قبل صدورها، وتقديم تقرير مكتوب عـمّـا يفضلونه من بينها، قبل الموسم الأدبي الفرنسي الذي يبدأ في شهر أيلول.
فنظراً لغزارة الإنتاج الأدبي، وتدفُّق عشرات الروايات التي لا تجد جميعها مكاناً في المكتبات، استلزم الأمر استحداث حكم لا علاقة له بمصالح دُور النشر الكبرى، ولعبة الجوائز الأدبية، مهمَّته توجيه القارئ نحــو الكتاب الأفضل وجاءت سلطة هذه اللجنة من انخراط أعضائها في نوادي القراءة لسلسلة مكتبات "fnac"، وهي إمبراطورية تسيطر على توزيع الكتب في أكثر من دولة فرنكوفونية، ما يجعل الكتب المختارة تحظى بتوزيع جيّد مدعوم بالإعلان.
وما كنت لأسمع بهذه اللجنة، لولا أنها اختارت روايتي من بين سبعمئة رواية، لتكون من بين الثلاثين رواية الأفضل في الموسم الأدبي الفرنسي.
غير أنّ تلك الفرحة ذكّرتني بمحنة الكتاب العربي، الذي لن ينجح طالما لم يتولَّ القارئ مهمّة الترويج للجيد منه.
لماذا لا نمنح الكاتب العربي فرصة أن ينال "جائزة القرّاء"، عن نادٍ يمثل قرّاء من مجمل الدول العربية، بدل الاكتفاء بجوائز إشهاريّة يموّلها الأثرياء، قد تملأ جيب الكاتب.. لكنها لا تملأه زهواً.
 

قطرة روح

بيلساني سنة رابعة

إنضم
Jun 20, 2009
المشاركات
729
مستوى التفاعل
8
كمين الورد

كمين الورد


هذا العام أيضاً، لن أُرسل بطاقات معايدة إلى أحد. كلُّ مَن أحببتهم سقطوا من القطار، حسب قول أنسي الحاج، وما عاد لهم في القلب من عنوان أُراسلهم عليه. وذاك الذي أُحبّه، أقرب من أن أكتب إليه بطاقة، هو يكتبني على مدار العام.
وحدهم قرائي يزيدون، في كل عيد، من إحساسي بالذنب، بعدما فاضت بحبّهم رفوف مكتبتي، ووجدتني عاجزة عن الرد على اجتياحهم العاطفي، بما يُضاهيه سخاء، يشفع لي أنني وقد أضعت الكثير من كتاباتي (حتى أصبح البعض يتطوّع لجمعها)، لم يحدث أن أهملت يوماً رسالة لقارئ. ومازلت منذ ثلاثين سنة أُواظب على ترتيب بريد قرائي، وأُرقّمه في ملفّات ضخمة، ذات أوراق داخلية شفافة، تسع كل واحدة منها، ما يُقارب الثمانين رسالة، مرئية من الوجهين، مرفوقة أسفل الورقة بمغلّفها. ذلك أنني أُقيم مع مغلّفات الرسائل وطوابعها علاقة عاطفية، وأحزن عندما يحاول أحدهم أن يُجرِّد مغلفاتي من طوابع بريدها، أو يفتحها ممزِّقاً أطرافها كيفما اتفق. المغلّف قميص حبيب أُريد أن أفك أزراره وحدي، بسرعة أو بتأنٍّ، حسب ما يشي به مزاج المغلف من لهفة.

مؤخراً، اكتشفت أنّ أجمل الرسائل، قد تأتيك من دون مغلفات، وأحياناً من دون طوابع بريدية. لكأن أصحابها ألصقوا قلوبهم طوابع بريد عليها، أو كأنها، لفرط حمولتها العاطفية، غدت مُعفاة من رسوم النقل البريدي، كتلك التي احتفظتُ بها منذ شهر على مكتبي، كما سلّمني إيّاها العزيز زاهي وهبي، في مغلّف كبير، يضم كلّ الفاكسات التي وصلتني، يوم استضافتِه لي في برنامج خليك بالبيت. ومعها تلك البطاقات التي وصلت، مرفوقة بثماني باقات وسلال ورد، بعضها لم يكن لأصحابها حق اختيار ورودها، ولا حتى فرحة رؤيتها على الشاشة في لقطة منفردة، بعد أن قضى، مثل الصديقة القارئة جليلة الجشي، من رام اللّه، أياماً في الاتصال بالأقارب في لبنان، لتأمين سلّة ورد أصرّت على أن تكون كبيرة، ومن أشهر محال الورود، لا لتليق بي وحسب، وإنما لتليق بعامّة الشعب الفلسطيني، وامتنان العائلات الفلسطينية التي أتكفّل بها.

على أي عنوان، غير هذه الصفحة، أردُّ لجليلة جميلها وثناءها؟ وكيف أُعايدها في بداية هذه السنة، و لا بريد يصل إليها، ولا هاتف غير هاتف القلب، يمكنه عبور الخطوط الحمراء، التي تمنع البريد من اجتياز الحدود بين البلدين؟
ومن أين لي بمئة رسالة، لأشكر أعضاء هيئة مكتب الجالية الجزائرية في لبنان، الذين أرسلوا إلـيَّ سلّة من مئة وردة، أصرّ الأعضاء الخمسة على المشاركة الرمزية في تأمين ثمنها، ووضع شريط من الساتان الأبيض عليها، يحمل اسم الجزائر؟ ثمّ هناك سلَّة ورد من رابطة خرِّيجي الجامعات والمعاهد الجزائرية في لبنان، وهم أكثر من ثلاثة آلاف لبناني، جُلّهم من الأطباء الذين درسوا في الجزائر وعلى حسابها، أيام الحرب اللبنانية، ومازالوا يكنون للجزائر كل الحب. وهؤلاء وحدهم لا أشعر تجاههم بالذنب، لا لأنهم كانوا مواطنين جزائريين، بحقوق كاملة في الجزائر فحسب، وإنما لأن معظمهم عاد إلى لبنان بـوردة من بستان الجزائر.

وهناك ماري عيراني، القارئة الصديقة، المقيمة في أفريقيا، التي لا أنسى أنها كانت الوحيدة، التي أرسلت إلـيَّ باقة ورد في أول لقاء لي مع زاهي وهبي، وعادت بعدما ضيَّعتُها خمس سنوات، لتُرسل إلـيَّ باقة على البرنامج نفسه، مرفوقة بهاتف غربتها الجديدة. والصغيرة رندا شهاب (15 سنة)، التي أهدتني مع باقة ورد صغيرة، شهادة فوزها في مباراة القصة الوطنية القصيرة.
وصديق الكلمات الجميلة ربيع فرّان، الذي صادفته، قبل ذهابي إلى الاستديو، وأخفى عني سرَّ باقة الورد، التي كان قد أرسلها إلـيَّ.
والممثل القدير شوقي متّى، الذي أضعت أخباره منذ سنوات طويلة، وفُوجئت بوروده وببطاقة مؤثرة، ربما تكون تشي بأسباب غيابه.

ولا أنسى العزيز طــــلال طعمـــة، الذي جاءت سلَّـة وروده، لتُذكّرني بأنَّ ثمَّة زهوراً لا تذبل، لأنها تتفتّح أُسبوعياً في زهرة الخليج.
ولأنّ قَدَر الورود الذبول، لم يبقَ من كمائن الورد، التي نصبها لي الأحبَّة في ذلك البرنامج، سوى شمسيّة مُغطاة بشلاّل من الورود الزاهية، أرسلها إلـيَّ مشكوراً، القارئ رضوان غندور، تحسُّباً لأُمسية ممطــــرة.
بقـي أيضاً بطاقات وفاكسات على مكتبي، وسلال ورد فارغة، في رُكن من شرفتي، أُحاول في هذه الصفحة أن أملأها بـورد الامتنــان الأبــدي، الذي لا تنقذه من الذبول... إلاَّ الكتابة.
 

قطرة روح

بيلساني سنة رابعة

إنضم
Jun 20, 2009
المشاركات
729
مستوى التفاعل
8
حقيبتي.. مصيبتي

حقيبتي.. مصيبتي


لأنّ زمن الحمير قد ولّى، وجاءنا زمن الطائرات، والأسفار عابرة القارات، والمطارات التي تتقاطع فيها كل لحظة عشرات الرحلات، وتُلقي فيها حاملات الأمتعة بآلاف الحقائب من جوف طائرة إلى جوف أُخرى، فقد غدا ضرورياً استبدال ذلك القول الساخر: "إذا أراد اللّه إسعاد فقير جعله يُضيع حماره ثمّ يعثر عليه"، بقول آخر: "إذا أراد اللّه إسعاد مسافر جعله يُضيع حقيبته ثمّ يعثر عليها". فوحده مَن ذهب مثلي يحضر معرض الكتاب في نابولي، بما يليق بالمدينة من أناقة إيطالية، وإذا به يقضي إقامته مهموماً مغموماً، محروماً من حاجاته ولوازمه الخاصة، يُقدِّر حرقة اشتياق المرء إلى حقيبته... اشتياقه إلى حبيبته. إحدى الوصفات المثالية لضمان صاعقة فرحتك باستعادة حقيبتك المصون، ذات الشرف الرفيع، التي جاءتك من كبار القوم، وإذا بها مصيبة في شكل حقيبة، ما رآها جمركي إلاّ واستوقفك، وما لمحها لصٌّ إلاّ وغرّرته بك، حقيبة تكيد لك، خلتها غنيمة، وإذا بها جريمة في حقّ أعصابك، يمكنك اختبارها في مطار كمطار ميلانو.. دائم الحركة وقليل البركة، الداخل إليه كما الخارج منه من.. متاع مفقود. فصيت سرقاته يسبقه، حتى إنّ الإيطاليين أنفسهم يبتسمون عندما تشكو إليهم ضياع أمتعتك فيه، ويواسونك بأخبار من فُجع قبلك في حقيبته، وعجز الشرطة نفسها عن تفكيك شبكات سرقة الأمتعة وسط عمّال المطار، على الرغم من عيون الكاميرات المزروعة لمراقبتهم، تماماً كما يُعْجَب الإيطاليون من عجبك ألاّ تصل طائرتهم على الوقت، أو تلغي "أليطاليا" رحلة من دون سابق إبلاغ. فهي لها من صفاتهم نصيب، وهي ذائعة الصيت في احترام مواعيدها.. لكن بفرق أربع وعشرين ساعة عن رحلتها، وبإيصالها أمتعتك، لكن وأنت تغادر المطار عائداً من حيث جئت. وستنسى من فرحتك أن تُطالب حتى بحقوقك المشروعة والمدفوعة مسبقاً، حسب ضمانات بطاقتك المصرفية، لو لم تكن ضيفاً على مدينة نابولي التي تكفّلت مؤسساتها الثقافية بدفع تذكرتك، واختيار مسارك وشركة طيرانك. وعلى الرغم من ذلك، ستحمد اللّه كثيراً، وتفتح مجلساً لتقبُّل التهاني بسلامتك، لأنّ الطائرة المروحية الصغيرة ذات المحرّكين كثيري الضجيج، لم تقع بك وأنت قادم من ميلانو إلى نابولي، ربما لأنك قرأت يومها كل ما حفظت من قرآن، وهو ما فعله أيضاً إبراهيم نصراللّه، الذي جاء من عمّان، واستنفد ذخيرته من الإيمان على طائرة مروحيّة أُخرى. وبينما افتتح هو محاضرته بالتضامن مع الصحافية الإيطالية، المفقودة آنذاك في العراق، أضفت إلى أُمنيته، تعاطفي مع كلّ الذين فقدوا أمتعتهم في مطار ميلانو. ووجدت بين الحضور مَن تفهّم فاجعتي وعذر هيأتي وواساني بالتصفيق. ولو كنت أعرف خاتمتي، حسب أغنية عبدالحليم، لتضامنت مسبقاً مع عشرات الركاب مثل حالتي، الذين كانت ميلانو مطار ترانزيت نحو وجهات أُخرى يقصدونها، لكن انتهى بهم الأمر مثلي بعد أسبوع، تائهين في مطار نيس، بعد أن فقدوا رحلتهم على متن شركة الطيران إيّاها، لأسباب "تقنيّة" مفهومة. ولم يُطلب منهم سوى العودة في الغد على الساعة نفسها. وعلى الرغم من ذلك، ستنسى مصابك وعذابك ذات يوم أحد، وأنت عائد إلى بيت نظّفته وأغلقته وأفرغت برّاده من كلِّ شيء، وتهون عليك المئتا يورو، التي ستدفعها ذهاباً وعودة في الغد، كلفة سيارة الأُجرة من مطار نيس إلى كان.. والعكس، وستهاتف العائلة في بيروت لتنقل إليهم بُشرى عثورك على حقيبتك، وبُشرى إلغاء رحلتك. فقد كان يمكن أن تخسر حياتك أثناء عودتك فرحاً باستعادة حقيبتك. واسيتُ نفسي بقصّة صديقتي الغالية أسماء غانم الصديق، التي اعتادت أن تُسرَق منها جهودها التطوعيّة ومبادراتها الإنسانية، حتى غَدَتْ مكاسبها سقط متاع. رَوَتْ لي كيف سُرقت حقيبتها الفاخرة منذ سنتين، أثناء سفرها إلى أميركا لحضور مناسبة تخرُّج ابنها، وكانت مليئة بأغلى الثياب وأرقاها. وعندما تذمّر من احتجاجها المسؤولون، وصاحوا بها: "كيف تقولين إننا سرقنا حقيبتك؟". أجابتهم بشجاعتها الإماراتية: "أَولَم تسرقوا العراق؟". مازلت أسمعها تقول: "ضاعت الأوطان.. فليأخذوا الحقيبة!".

أحلام مستغانمي
 

قطرة روح

بيلساني سنة رابعة

إنضم
Jun 20, 2009
المشاركات
729
مستوى التفاعل
8
مطالب عاشقة عربية في عيد الحب

مطالب عاشقة عربية في عيد الحب


لابدّ أن أعثر على طريقة، أرشو بها سكرتيرتك الفرنسية شديدة التكتُّم، كي تبوح لي بقائمة مواعيدك، بأسرار رزنامتك وتواريخ أسفارك. لابدّ أن أغوي يوماً بوابك البرتغالي دائم الفضول، عساه يشي لي بأيام قدومك، بوضعك الصحي، وبهيأة مَن يأتون لزيارتك.
لابد أن أشتري ثرثرة شغالتك الفلبينية، لتشكو لي عاداتك في غيابي.. كم استهلكت من مناشف؟ وهل عن ابتهاج عاطفي، كعادتك، اقتنيت طقماً جديداً من أفخم الشراشف؟ وهل تشي بك صباحاً مباهج السهر، وبقايا نبيذ فرنسيٍّ فاخر على طاولة صالونك؟


***

لابد أن أُبرم صفقة تجسُّس مع ساعتك السويسرية، المفرطة في الدقة، عساها تقدم لي تقريراً عن عدد الدقائق، التي تنشغل فيها عني، والمرّات التي تلقي نظرة عليها، متسعجلاً موعداً مع غيري. لابد أن استجوب أحذيتك الإيطالية فائقة الاستعلاء، كي تعترف لي تحت التهديد بالعناوين التي تقصدها، عندما لا أكون معك، والمشاوير التي تأخذك إليها لتلتقي سواي.
لابد لهاتفك الياباني، أن ينضم إلى فريق جواسيسي، أن يغدو عميلاً لي، يختبئ في جيبك، أن يرنَّ لي كلما طلبت رقماً غير رقمي، أن يزوّدني بصور يلتقطها، حيث تتوقف نظراتك. ثمّ.. لو فشلتُ في شراء ذمّة حاجاتك، وطاقم خدَمك.. وسائقيك.. وسكرتيراتك.. ولم أجد، من بين مَن سبق أن اشتريتهم قبلي، مَن يقبل أن يبيعني أسرارك، سأشي بك إلى وكالة الاستخبارات الأميركية، لكونك رجلاً طاعناً في الإرهاب العاطفي، لم يحِد يوماً عن القاعدة، التي تُجيز للعاشق خطف طائرة، للوصول في الوقت إلى موعد.
سأُلفّق لك ما يكفي من التُّهم، إلى حدّ إقناعهم بإلغاء جميع رحلاتك، وتصوير مفكرة تليفوناتك، وحجز مفاتيح بيوتك، وجواز سفرك الأخضر.
عندها فقط، يمكنني اقتيادك إلى أحد معسكرات الاعتقال العاطفي، وعقد جلسة لفضّ النزاع مع قلبك العربي، الذي عند كلّ نقطة تفتيش عاطفي، يمتطي صهوة غضبه، ويشهر سيف غيرته، ويهمُّ بقتلي... قبل أن يُحاكمني.

خاص:

أيُّها القديس فالنتاين.. يا شفيع المحبين والعشاق.. تجد هنا نسخة عن قائمة بطلبات عاشقة عربية، لا حول ولا قوة لها، في مواجهة العولمة العاطفية.
كلِّي ثقة بمعجزاتك.



أحلام مستغانمي
 
أعلى