قطرة روح
بيلساني سنة رابعة
- إنضم
- Jun 20, 2009
- المشاركات
- 729
- مستوى التفاعل
- 8
كرامة الببغاء
كرامة الببغاء
أكنّ احتراماً خاصاً للببغاوات، التي عكس المشاع عنها، تكمن كرامتها في رفضها أن تكون "ببغاء"، تلقّنها ما تريد من كلام لتسلية صغارك أو إبهار ضيوفك أو إرضاء غرورك· فهي لن تصبّحك ولن تمسّيك إلاّ إن شاءت ذلك· ولا تتوقّع منها أن تناديك مثلاً "سيادة الرئيس القائد المفدّى "حفظه اللّه"، حتى وإن كنت تعلّق على صدرك سجّاداً من النياشين، لأنها لا تحفظ غير المختصر المفيد، الذي يقتصر غالباً على مفردات الشتائم·
وأثناء قيامه مؤخراً بجولة في الخليج، تسنَّى لقائد الأُسطول البريطاني أن يختبر على حسابه سلاطة لسان ببغاء كان من المفروض أن يكون أكثر تأدباً، بحكم وجوده على ظهر الأُسطول، لاعتباره رمز طاقم الفرقاطة· وكان البحّارة قد أخرجوه من القفص الذي يعيش داخله في جناح الضبّاط، وأغلقوا عليه في خزانة ريثما ينتهي الأميرال من إلقاء كلمته، لعلمهم بلائحة الشتائم والبذاءات التي يحفظها· غير أن الببغاء فاجأ الجميع بمقاطعته الأميرال بصوت خافت، آتياً من الخزانة يقول "سخيف"· وما إن يهمّ الأميرال بمعاودة الحديث حتى يعود الصوت قائلاً "تافــه" ثمّ "هــراء"·
فوجود الببغاء سجيناً في خزانة لم يمنعه من إيصال صوته لقائد الأُسطول· ذلك أن الببغاء الذي لم يتربَّ على ثقافتنا النضالية، لا يحتاج إلى شعار "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة" كي يكون "صوت مَن لا صوت لهم"· فهو ظاهرة صوتية في حد ذاته· وهو عكس الكثيرين من رافعي الشعارات، مستعد للموت من أجل أن يقول كلمته "أو من أجل ألاّ يُرغم على قولها"، حتى لكأنه القائل "ستموت إن قلتها وستموت إن لم تقل·· فقلها ومت"·
ولذا· فتاريخ الببغاوات مليء بالمظاليم والاضطهادات والجرائم المرتكبة في حق طائر مزاجي يتميّز بفلتان اللسان، ولم يعتد على طريقة مذيعي أخبارنا التدقيق والتمعُّن في ما لُقِّن له مسبقاً على ورق·
وقد دفع مؤخراً ببغاء في الصين حياته ثمن عدم امتثاله لأوامر صاحبه، الذي أمره بنطق عبارتي "صباح الخير" و"إلى اللقاء" كل يوم· وبعد ثمانية أشهر من المحاولة الفاشلة، لم يتماسك الشاب أمام عناد الببغاء، فأهانه ووصفه بالأحمق· فما كان من الببغاء إلا أن كرّر هذه الكلمة· فاستشاط الرجل غضباً وقتله·
وقد أعاد هذا الخبر إلى ذهني قصة مؤثرة وطريفة تعود لشبابي، يوم كنا نسكن فيللا ملاصقة حديقتها لحديقة جارٍ ضابط كان له ببغاء· ولأن الجميع كان لا ينفك يناديني، فقد حفظ الببغاء اسمي، وأصبح، ما إن يستيقظ فجراً على عادة الطيور، حتى يبدأ في التصفير منادياً "أحلام·· أحلام"، فتستيقظ جدتي غاضبة واثقة من أن ابن الجيران ينادي عليّ· وحدث أن ضربتني ووبّختني غير مصدّقة براءتي، حتى اليوم الذي فاجأنا الببغاء ونحن مجتمعون مصفّراً ومنادياً باسمي· و تحلّق حوله الكبار والصغار، وحاول كلّ واحد تلقينه اسمه، وكلّما ازداد الأطفال إلحاحاً ومُطاردة له ازداد الببغاء رفضاً لترديد ما يُطلب منه· وكانت الصدمة عندما استيقظنا بعد يومين لنجد الببغاء قد انتحر بغرس مخالبه في عنقه·
من يومها وأنا أتعاطف مع الببغاء، ليس فحسب لأنه أول كائن انتحر بسببي، بل لأنني مع العمر آمنت بكرامة الببغاء الذي لا يعرف "تبييض الكلام" و"لا غسل الأقوال" ولا يهتف "عاشت الأسامي"، ومن دون أن يدَّعي أنه مثقف أو مُناضل يموت بسبب كلمــة، تاركاً لنا دور الببغاء
كرامة الببغاء
أكنّ احتراماً خاصاً للببغاوات، التي عكس المشاع عنها، تكمن كرامتها في رفضها أن تكون "ببغاء"، تلقّنها ما تريد من كلام لتسلية صغارك أو إبهار ضيوفك أو إرضاء غرورك· فهي لن تصبّحك ولن تمسّيك إلاّ إن شاءت ذلك· ولا تتوقّع منها أن تناديك مثلاً "سيادة الرئيس القائد المفدّى "حفظه اللّه"، حتى وإن كنت تعلّق على صدرك سجّاداً من النياشين، لأنها لا تحفظ غير المختصر المفيد، الذي يقتصر غالباً على مفردات الشتائم·
وأثناء قيامه مؤخراً بجولة في الخليج، تسنَّى لقائد الأُسطول البريطاني أن يختبر على حسابه سلاطة لسان ببغاء كان من المفروض أن يكون أكثر تأدباً، بحكم وجوده على ظهر الأُسطول، لاعتباره رمز طاقم الفرقاطة· وكان البحّارة قد أخرجوه من القفص الذي يعيش داخله في جناح الضبّاط، وأغلقوا عليه في خزانة ريثما ينتهي الأميرال من إلقاء كلمته، لعلمهم بلائحة الشتائم والبذاءات التي يحفظها· غير أن الببغاء فاجأ الجميع بمقاطعته الأميرال بصوت خافت، آتياً من الخزانة يقول "سخيف"· وما إن يهمّ الأميرال بمعاودة الحديث حتى يعود الصوت قائلاً "تافــه" ثمّ "هــراء"·
فوجود الببغاء سجيناً في خزانة لم يمنعه من إيصال صوته لقائد الأُسطول· ذلك أن الببغاء الذي لم يتربَّ على ثقافتنا النضالية، لا يحتاج إلى شعار "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة" كي يكون "صوت مَن لا صوت لهم"· فهو ظاهرة صوتية في حد ذاته· وهو عكس الكثيرين من رافعي الشعارات، مستعد للموت من أجل أن يقول كلمته "أو من أجل ألاّ يُرغم على قولها"، حتى لكأنه القائل "ستموت إن قلتها وستموت إن لم تقل·· فقلها ومت"·
ولذا· فتاريخ الببغاوات مليء بالمظاليم والاضطهادات والجرائم المرتكبة في حق طائر مزاجي يتميّز بفلتان اللسان، ولم يعتد على طريقة مذيعي أخبارنا التدقيق والتمعُّن في ما لُقِّن له مسبقاً على ورق·
وقد دفع مؤخراً ببغاء في الصين حياته ثمن عدم امتثاله لأوامر صاحبه، الذي أمره بنطق عبارتي "صباح الخير" و"إلى اللقاء" كل يوم· وبعد ثمانية أشهر من المحاولة الفاشلة، لم يتماسك الشاب أمام عناد الببغاء، فأهانه ووصفه بالأحمق· فما كان من الببغاء إلا أن كرّر هذه الكلمة· فاستشاط الرجل غضباً وقتله·
وقد أعاد هذا الخبر إلى ذهني قصة مؤثرة وطريفة تعود لشبابي، يوم كنا نسكن فيللا ملاصقة حديقتها لحديقة جارٍ ضابط كان له ببغاء· ولأن الجميع كان لا ينفك يناديني، فقد حفظ الببغاء اسمي، وأصبح، ما إن يستيقظ فجراً على عادة الطيور، حتى يبدأ في التصفير منادياً "أحلام·· أحلام"، فتستيقظ جدتي غاضبة واثقة من أن ابن الجيران ينادي عليّ· وحدث أن ضربتني ووبّختني غير مصدّقة براءتي، حتى اليوم الذي فاجأنا الببغاء ونحن مجتمعون مصفّراً ومنادياً باسمي· و تحلّق حوله الكبار والصغار، وحاول كلّ واحد تلقينه اسمه، وكلّما ازداد الأطفال إلحاحاً ومُطاردة له ازداد الببغاء رفضاً لترديد ما يُطلب منه· وكانت الصدمة عندما استيقظنا بعد يومين لنجد الببغاء قد انتحر بغرس مخالبه في عنقه·
من يومها وأنا أتعاطف مع الببغاء، ليس فحسب لأنه أول كائن انتحر بسببي، بل لأنني مع العمر آمنت بكرامة الببغاء الذي لا يعرف "تبييض الكلام" و"لا غسل الأقوال" ولا يهتف "عاشت الأسامي"، ومن دون أن يدَّعي أنه مثقف أو مُناضل يموت بسبب كلمــة، تاركاً لنا دور الببغاء