قطرة روح
بيلساني سنة رابعة
- إنضم
- Jun 20, 2009
- المشاركات
- 729
- مستوى التفاعل
- 8
يا لغنى رجل ثروته الاستغناء
يا لغنى رجل ثروته الاستغناء
في محاضرة ألقاها الدكتور نصر حامد أبو زيد، مؤخراً في القاهرة، ونقلت أخبار الأدب بعض نقاشاتها، استوقفني قوله: أنا متصوّف، ثروتي الاستغناء. موضحاً أنّ تصوّفه، هو بالمعنى الحياتي وليس بالمعنى العرفاني. فهو يؤمن بأنه كلّما استغنى اغتنى. لــذا هو يقلّل دائماً من احتياجاته، فتقلُّ بذلك قدرة الآخرين على التحكّم فيه، حتى إنه لا يحتاج في النهاية سوى حجرةٍ وكتابٍ ومكتب وقلم. فالتصوّف بالنسبة إليه منهج للحياة، يضمن استقلالية الإنسان. أُصدّق تماماً الدكتور حامد أبو زيد في قوله هذا. وقد سبق أن جمعني به في غرناطة، منذ خمس سنوات، مؤتمر عربي كبير، حول مستقبل العالم العربي على مشارف القرن الحادي والعشرين، ومازلت أذكر أوّل مُداخلة، قام بها حال افتتاح المؤتمر، محتجاً على إخفاء أسماء الجهات المموّلة هذا المؤتمر عن المشاركين، على الرغم من النوايا الحسنة لبعضهم. فقد كان حامد أبو زيد مُصرّاً على حماية اسمه وسمعته، من أيّ تلوّث مادي، هو الذي دفع ثمن أفكاره ومواقفه، غربةً إجباريّة، إثر فتوى صدرت بتكفيره، والحُكم بفصله عن زوجته، الدكتورة ابتهال يونس، ما أرغمه على الهجرة إلى هولندا، لمواصلة أبحاثه في تاريخيّة الظاهرة الدينية. ذهبت بعيداً في تأمل زاهد مثقفٍ، أدرك أنّ حرّيته تكمن في استغنائه، لا في رخائه، وأن لا قوّة لمبدعٍ ترتهنه مؤسسات، باختلاق مزيد من احتياجاته وامتيازاته، بذريعة تكريمه والاعتراف بمكانته، بينما، ما التكريم الرسمي سوى نوعٍ مُهذّبٍ من أنواع التدجين، واستعباد الضمائر بالإغداق.
وقَبْلَ نصر حامد أبو زيد، كان فولتير قد اكتشف أنّ المال والتكريم، هما أكبر خطرٍ على المبدع. أمّا ألبيرتو مورافيا، فأذكر له نصيحة جميلة، تصلح أيضاً لغير المبدعين. فهو يرى أنّ على الإنسان، أن لا يكسب من المال أكثر مما يلزمه لحياة كريمة وميسورة. ذلك أنّ المال، إذا زاد على حدّة أنفق المرء عمره في إدارته، وإن قلّ عن الحاجة، أنفق عمره في السعي إلى كسبه. وهو في الحالتين خاسر.
وفي ما يخصُّ المبدع، فإنّ القرش الزائد، هو ذلك الشيء المهلِك، الذي كلّما زاد، انخفض منسوب الحريّة لدى مُكتسبه، وتضاعفت قيود تبعيّته. وربما مأساة المبدع، كما مأساة الإنسان، تكمن في عجزه عن احترام أي سقفٍ يضعه لاحتياجاته.
فالإنسان بطبعه يتمنى الحصول على ألف، وعندما يحصل عليها يتمنى المليون، وعندما يكسب المليون يصبح هدفه الملايين، بحيث يتحوّل إلى مدمن مالٍ، في حاجة دائمة إلى المزيد منه برفع سقف أُمنياته. وهي مأساة تزداد فجعةً، عندما يتعلّق الأمر بالمثقف. ذلك أنّ مَن يؤمن بأنّ المال، هو كل شيء يفعل كلّ شيء للحصول عليه. والذي ليس له سقف قناعة يحميه، هو معروض للبيع والشراء في سوق النخاسة. لذا، يحار مقاولو الضمائر المفروشة للإيجار، والأقلام الجاهزة للاستثمار، عندما يقعون على مثقف لا ثمن له، ولا يمكن اختراق سقف قناعاته بأي مبلغ كان. فبالنسبة إليهم لا أحد إلا وله ثمنٌ.
ذلك أنه ليس بالإمكانات يتعفّف الإنسان، بل بالقناعة، وبسقف قِيَمٍ يحميه من الزلل، فوحده الزاهد في مكسب زائل، يُفضّل مثلاً بساطة بيته، على الإقامة في فندق من خمسة نجوم يُدعى إليه في مهرجانات، نهب وسلب الشعوب، ليُبارك بحضوره قراصنة الأوطان.
في الواقع، كما أنه لا يوجد إنسان مثقف، بل إنسان يتثقّف، حسب قول يونيسكو، فلا وجود أيضاً للتعفّف المطلق، بل لإنسان يتمرّن يومياً على التعفُّف، وعلى تقوية مناعته الخُلقية، لمواجهة هجمة وباء قلّة الحياء، المتفشي لدى رهطٍ من البشر، ما تسبّب في إتلاف كريات الأَنفة وعزة النفس، وإضعاف الجسم العربي، بمزيد من المذلّة، التي ليست الحاجة دوماً من أسبابها. وإذا كان الرئيس سليم الحصّ يقول: يبقى المسؤول قويّــاً إلى أن يطلب شيئاً لنفسه، ففي إمكاننا أن نقول: يبقى المثقف كبيراً، حتى يُفرِّط في عزة نفسه.
أحلام مستغانمي
يا لغنى رجل ثروته الاستغناء
في محاضرة ألقاها الدكتور نصر حامد أبو زيد، مؤخراً في القاهرة، ونقلت أخبار الأدب بعض نقاشاتها، استوقفني قوله: أنا متصوّف، ثروتي الاستغناء. موضحاً أنّ تصوّفه، هو بالمعنى الحياتي وليس بالمعنى العرفاني. فهو يؤمن بأنه كلّما استغنى اغتنى. لــذا هو يقلّل دائماً من احتياجاته، فتقلُّ بذلك قدرة الآخرين على التحكّم فيه، حتى إنه لا يحتاج في النهاية سوى حجرةٍ وكتابٍ ومكتب وقلم. فالتصوّف بالنسبة إليه منهج للحياة، يضمن استقلالية الإنسان. أُصدّق تماماً الدكتور حامد أبو زيد في قوله هذا. وقد سبق أن جمعني به في غرناطة، منذ خمس سنوات، مؤتمر عربي كبير، حول مستقبل العالم العربي على مشارف القرن الحادي والعشرين، ومازلت أذكر أوّل مُداخلة، قام بها حال افتتاح المؤتمر، محتجاً على إخفاء أسماء الجهات المموّلة هذا المؤتمر عن المشاركين، على الرغم من النوايا الحسنة لبعضهم. فقد كان حامد أبو زيد مُصرّاً على حماية اسمه وسمعته، من أيّ تلوّث مادي، هو الذي دفع ثمن أفكاره ومواقفه، غربةً إجباريّة، إثر فتوى صدرت بتكفيره، والحُكم بفصله عن زوجته، الدكتورة ابتهال يونس، ما أرغمه على الهجرة إلى هولندا، لمواصلة أبحاثه في تاريخيّة الظاهرة الدينية. ذهبت بعيداً في تأمل زاهد مثقفٍ، أدرك أنّ حرّيته تكمن في استغنائه، لا في رخائه، وأن لا قوّة لمبدعٍ ترتهنه مؤسسات، باختلاق مزيد من احتياجاته وامتيازاته، بذريعة تكريمه والاعتراف بمكانته، بينما، ما التكريم الرسمي سوى نوعٍ مُهذّبٍ من أنواع التدجين، واستعباد الضمائر بالإغداق.
وقَبْلَ نصر حامد أبو زيد، كان فولتير قد اكتشف أنّ المال والتكريم، هما أكبر خطرٍ على المبدع. أمّا ألبيرتو مورافيا، فأذكر له نصيحة جميلة، تصلح أيضاً لغير المبدعين. فهو يرى أنّ على الإنسان، أن لا يكسب من المال أكثر مما يلزمه لحياة كريمة وميسورة. ذلك أنّ المال، إذا زاد على حدّة أنفق المرء عمره في إدارته، وإن قلّ عن الحاجة، أنفق عمره في السعي إلى كسبه. وهو في الحالتين خاسر.
وفي ما يخصُّ المبدع، فإنّ القرش الزائد، هو ذلك الشيء المهلِك، الذي كلّما زاد، انخفض منسوب الحريّة لدى مُكتسبه، وتضاعفت قيود تبعيّته. وربما مأساة المبدع، كما مأساة الإنسان، تكمن في عجزه عن احترام أي سقفٍ يضعه لاحتياجاته.
فالإنسان بطبعه يتمنى الحصول على ألف، وعندما يحصل عليها يتمنى المليون، وعندما يكسب المليون يصبح هدفه الملايين، بحيث يتحوّل إلى مدمن مالٍ، في حاجة دائمة إلى المزيد منه برفع سقف أُمنياته. وهي مأساة تزداد فجعةً، عندما يتعلّق الأمر بالمثقف. ذلك أنّ مَن يؤمن بأنّ المال، هو كل شيء يفعل كلّ شيء للحصول عليه. والذي ليس له سقف قناعة يحميه، هو معروض للبيع والشراء في سوق النخاسة. لذا، يحار مقاولو الضمائر المفروشة للإيجار، والأقلام الجاهزة للاستثمار، عندما يقعون على مثقف لا ثمن له، ولا يمكن اختراق سقف قناعاته بأي مبلغ كان. فبالنسبة إليهم لا أحد إلا وله ثمنٌ.
ذلك أنه ليس بالإمكانات يتعفّف الإنسان، بل بالقناعة، وبسقف قِيَمٍ يحميه من الزلل، فوحده الزاهد في مكسب زائل، يُفضّل مثلاً بساطة بيته، على الإقامة في فندق من خمسة نجوم يُدعى إليه في مهرجانات، نهب وسلب الشعوب، ليُبارك بحضوره قراصنة الأوطان.
في الواقع، كما أنه لا يوجد إنسان مثقف، بل إنسان يتثقّف، حسب قول يونيسكو، فلا وجود أيضاً للتعفّف المطلق، بل لإنسان يتمرّن يومياً على التعفُّف، وعلى تقوية مناعته الخُلقية، لمواجهة هجمة وباء قلّة الحياء، المتفشي لدى رهطٍ من البشر، ما تسبّب في إتلاف كريات الأَنفة وعزة النفس، وإضعاف الجسم العربي، بمزيد من المذلّة، التي ليست الحاجة دوماً من أسبابها. وإذا كان الرئيس سليم الحصّ يقول: يبقى المسؤول قويّــاً إلى أن يطلب شيئاً لنفسه، ففي إمكاننا أن نقول: يبقى المثقف كبيراً، حتى يُفرِّط في عزة نفسه.
أحلام مستغانمي